الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الإنسان» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن ، وكان نزول سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة الإنسان في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) ، وتبلغ آياتها إحدى وثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة بيان أثر الشرائع في رفعة الإنسان. وقد اقتضى هذا أن يجري سياقها في شيء من الترغيب والترهيب ، فأشبه سياقها بهذا سياق السورة المذكورة قبلها ، ولهذا ذكرت بعدها.

أثر الشرائع في رفعة الإنسان

الآيات [١ ـ ٣١]

قال الله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١) ، فذكر أن الإنسان لم يكن شيئا مذكورا قبل أن يرفع شأنه بما أنزله من شرائعه ، وأنه ، سبحانه ، خلقه من نطفة مختلطة بالدم وغيره ، ولم يزل ينقله من حال إلى حال حتى جعله سميعا بصيرا ، وأنه ، جلّ وعلا ، هداه السبيل ، فمنهم من اهتدى به ومنهم من كفر به ؛ فمن كفر به أعدّ له سلاسل وأغلالا وسعيرا ، ومن آمن به يشرب

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٨١

من كأس كان مزاجها كافورا إلخ. ثم ذكر ، تعالى ، أنه نزّل القرآن بهذا على النبي (ص) ، وأمره أن يصبر لحكمه ، ونهاه أن يطيع منهم آثما أو كفورا ؛ ثم أمره أن يذكره بكرة وأصيلا ، وأن يسجد له جزءا من أول الليل ، ويسبّح بعد هذا ليلا طويلا ؛ ثم ذكر له أن من نهاه عن طاعتهم يحبون العاجلة وينسون يوما ثقيلا ؛ ، وأنه هو الذي خلقهم وشدّ أسرهم وإذا شاء بدّل أمثالهم تبديلا ؛ ثم ذكر أن هذه السورة تذكرة ، فمن شاء اهتدى بها ؛ وأنهم لا يشاءون شيئا إلّا أن يشاءه ، سبحانه ، إنه كان عليما حكيما : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١).

٢٨٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الإنسان» (١)

أقول : وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح : فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة ، ثمّ ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة ، مفتتحا بخلق آدم أبي البشر.

ولمّا ذكر هناك خلقه منهما ، قال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩). ولما ذكر هناك خلقه منهما ، قال هنا : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢) ، فعلّق به غير ما علق بالأول ، ثمّ رتب عليه هداية السبيل ، وتقسيمه إلى شاكر وكفور ، ثمّ أخذ في جزاء كلّ.

ووجه آخر : أنّه ، لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة ، ولم يصف فيها حال النّار والجنّة ، بل ذكرهما على سبيل الإجمال ، فصّلهما في هذه السورة ، وأطنب في وصف الجنّة (٢) ، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢). وقوله هنا : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) : شرح لقوله هناك : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥).

وقد ذكر هناك : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) (٢١) وذكر هنا في هذه السورة : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وصف أحوال المؤمنين في الجنّة فصل هنا من قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) الى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢).

٢٨٣

الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) وهذا من وجوه المناسبة (٢).

__________________

(٢). ومن وجوه المناسبة بين سورة الإنسان وسورة القيامة : أنه تعالى فصّل في «القيامة» أحوال الكافرين عند الموت ، وما يعانون من قهر وندم ، في قوله عزوجل : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (٢٧) إلى : (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) وفي هذه السورة فصّل أحوال المؤمنين في حياتهم ، والتي استوجبوا بها النعيم الموصوف في السورة. وذلك من قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٧) ، إلى (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) (١١).

٢٨٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الإنسان» (١)

١ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الآية ١].

قال قتادة : هو آدم (ع). أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). والطبري في «تفسيره» ٢٩ : ١٢٥.

٢٨٥
٢٨٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الإنسان» (١)

١ ـ وقال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الآية ٢].

ونمط التركيب في قوله تعالى : (نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) كنمط التركيب في قولهم : برمة أعشار ، وبرد أكياش فقد وصف المفرد بهذه الصفات على «أفعال» ، فقالوا : هي ألفاظ مفردة غير جموع. على أنه سمع «مشج» مفرد أمشاج.

٢ ـ (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الآية ٦].

أقول : والمعنى يشرب منها ، ولا عبرة لما قيل ب «التضمين» أي : إن الباء تضمنت معنى «من» ، وذلك لأن كلام الله جرى على لغة العرب ، والعرب قد تصرفت بلغتها تصرفا واسعا. ولله حكمة بالغة في وضع كلامه على هيئة لم يدركها البشر.

٣ ـ وقال تعالى : (وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) (١٦).

أقول : من أجل حسن الأداء وتناسب الفواصل جاءت (قَوارِيرَا) (١٥) بالمد الناجم عن سقوط التنوين المفترض ، فإذا ذهب السبب عادت «قوارير» غير ممدودة.

ومن أجل شيء آخر وردت (سلاسلا) على الصورة التي جاءت عليها «قواريرا» في قوله تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٨٧

وذلك ليتناسب قوله سبحانه (سَلاسِلَ) (٤) مع قوله : (وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) (٤) فالتناسب مقصود يقتضيه تجويد الأداء.

٢٨٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الإنسان» (١)

قال تعالى : (أَمْشاجٍ) [الآية ٢] واحدها : «المشج».

وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) كذلك (إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) [مريم : ٧٥] بالنصب ، كأن السياق لم يذكر «إمّا». وإن شئت ابتدأت ما بعدها فرفعته.

وقال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الآية ٦] بالنصب من ثلاثة أوجه ، إن شئت فعلى قوله (يَشْرَبُونَ) [الآية ٥](عَيْناً) وإن شئت ، فعلى (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٥) (عَيْناً) [الآية ٦] وإن شئت فعلى وجه المدح ، كما يذكر لك الرجل فتقول أنت : «العاقل اللبيب» أي : ذكرت العاقل اللبيب. على «أعني عينا».

وقال تعالى : (وَلا شُكُوراً) ، إن شئت جعلته جماعة «الشكر» وجعلت «الكفور» جماعة «الكفر» مثل «الفلس» و «الفلوس». وإن شئت جعلته مصدرا واحدا في معنى جميع مثل : «قعد قعودا» و «خرج خروجا».

وقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ) [الآية ١٣] على المدح ، أو على : «جزاهم جنّة متّكئين فيها» على الحال ؛ وقد تقول «جزاهم ذلك قياما ؛ وكذلك (وَدانِيَةً) [الآية ١٤] على الحال أو على المدح ، إنّما انتصابه بفعل مضمر. وقد يجوز في قوله تعالى (وَدانِيَةً أن يكون على وجهين على «وجزاهم دانية ظلالها»

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٨٩

تقول : «أعطيتك جيدا طرفاه» و «رأينا حسنا وجهه».

وقال : (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) (١٧) ، بنصب العين على أربعة أوجه على «يسقون عينا» أو على الحال ، أو بدلا من الكأس ، أو على المدح والفعل مضمر. وقال بعضهم إن «سلسبيل» صفة للعين بالسلسبيل. وقال بعضهم : إنّما المراد : «عينا تسمّى سلسبيلا» أي : تسمى من طيبها ، أي : توصف للناس كما تقول : الأعوجيّ» و «الأرحبيّ» و «المهريّ من الإبل». وكما تنسب الخيل إذا وصفت إلى هذه الخيل المعروفة والمنسوبة ، كذلك تنسب العين إلى أنها تسمّى (سَلْسَبِيلاً) (١٨) لأنّ القرآن يدل على كلام العرب. قال الشاعر وأنشدناه يونس (١) هكذا من الكامل وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائتين :

صفراء من نبع يسمّى سهمها من طول ما صرع الصّيود الصّيّب فرفع «الصيّب لأنه لم يرد «يسمى سهمها بالصيّب» إنما «الصيّب» من صفة الاسم والسهم. وقوله «يسمى سهمها» : يذكر سهمها. وقال بعضهم : لا بل هو اسم العين ، وهو معرفة ؛ ولكن لما كان رأس آية ، وكان مفتوحا ، زيدت فيه الالف كما كانت (قَوارِيرَا) (١٥).

وفي قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً) [الآية ٢٠](رَأَيْتَ) لا تتعدى كما يقول : «ظننت في الدار خير» لمكان ظنّه ، وأخبر بمكان رؤيته.

__________________

(١). هو يونس بن حبيب البصري ، وقد مرت ترجمته.

٢٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الإنسان» (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الآية ٢] فوصف المفرد وهي النطفة بالجمع وهو الأمشاج جمع مشج ، والأمشاج الأخلاط ، والمراد أنه مخلوق من نطفة مختلطة من ماء الرجل والمرأة؟

قلنا : قال الزمخشري رحمة الله تعالى عليه : أمشاج لفظ مفرد لا جمع كقولهم : برمة أعشار ، وبيت أكباش ، وبر أهدام. وقال غيره الموصوف به أجزاء النطفة وأبعاضها.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الآية ٢١] مع أن ذلك في الدنيا إنما هو عادة الإماء ، ومن في مرتبتهنّ؟

قلنا : القرآن أول من خوطب به العرب ، وكان من عادة رجالهم ونسائهم التحلي بالذهب والفضة منفردين ومجتمعين. الثاني : أنّ الاسم ، وإن كان مشتركا بين فضة الدنيا والاخرة ، ولكن شتان ما بينهما. قال النبي (ص) «المثقال من فضة الاخرة خير من الدنيا وما فيها». وكذا الكلام في السندس والإستبرق وغيرهما مما أعده الله تعالى في الجنّة.

فإن قيل : أيّ شرف لتلك الدار يسقي الله تعالى عباده الشراب الطهور فيها ، مع أنه تعالى في الدنيا سقاهم ذلك ، بدليل قوله تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) [المرسلات] وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٩١

ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢) [الحجر].

قلنا : المراد به في الاخرة سقيهم بغير واسطة ، وشتان ما بين الشرابين والآنيتين أيضا والمنزلتين.

فإن قيل : في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٢٤) الضمير لمشركي مكة بلا خلاف ، فما معنى تقسيمهم إلى الإثم والكفور ، وكلّهم آثم وكلّهم كفور؟

قلنا : المراد بالإثم عتبة بن ربيعة ، فإنه كان ركّابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق ؛ والمراد بالكفور الوليد بن المغيرة ، فإنه كان مغاليا في الكفر ، شديد الشكيمة فيه ؛ مع أن كليهما آثم وكافر ، والمراد به نهيه عن طاعتهم فيما كانوا يدعونه إليه من ترك الدعوة ، وموافقتهم فيما كانوا عليه من الكفر والضلال.

فإن قيل : ما معنى النهي عن طاعة أحدهما ، ولما ذا لم ينه عن طاعتهما؟

قلنا : قال بعضهم : إن «أو» هنا بمعنى الواو ، كما في قوله تعالى : (أَوِ الْحَوايا) [الأنعام : ١٤٦]. الثاني : أنه لو قال تعالى : ولا تطعهما ، جاز له أن يطيع أحدهما ، وأما إذا قيل له ولا تطع أحدهما كان منهيّا عن طاعتهما بالضرورة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٢). والابتلاء متأخّر عن جعله سميعا بصيرا؟

قلنا : قال الفرّاء : فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه. وقال غيره : معناه ناقلين له من حال إلى حال : نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ، فسمى ذلك ابتلاء من باب الاستعارة.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) والقوارير اسم لما يتخذ من الزجاج؟

قلنا : معناه أن تلك الأكواب مخلوقة من فضة ، وهي مع بياض الفضّة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو ضربت فضّة الدنيا حتى جعلتها جناح الذباب ، لم ير الماء من ورائها. وقوارير الجنّة من فضّة ويرى ما فيها من ورائها.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (كانَتْ قَوارِيرَا) (١٥)؟

قلنا : معناه تكوّنت ، فهي من قوله

٢٩٢

تعالى : (كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس] وكذا قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٥).

فإن قيل : لم شبه الله تعالى الولدان باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟

قلنا : إنما شبّههم سبحانه وتعالى باللؤلؤ المنثور لأنه أراد تشبيههم باللؤلؤ الذي لم يثقب بعد ، لأنه إذا ثقب نقصت مائيّته وصفاؤه ، واللؤلؤ الذي لم يثقب لا يكون إلّا منثورا. وقيل : إنّما شبههم الله تعالى باللؤلؤ المنثور ، لأنّ اللؤلؤ المنثور على البساط أحسن منظرا من المنظوم. وقيل إنما شبههم باللؤلؤ المنثور ، لانتشارهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وتفريقهم في الخدمة ، بدليل قوله تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) [الآية ١٩] ولو كانوا وقوفا صفّا لشبهوا بالمنظوم.

فإن : قيل لم قال الله تعالى هنا : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) [الآية ٢٨] أي خلقهم ، وقال تعالى في موضع آخر : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨]؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون : المراد به أنه ضعيف عن الصبر عن النساء ، فلذلك أباح الله تعالى له نكاح الأمة كما سبق قبل هذه الآية. وقال الزجّاج : معناه أنه يغلبه هواه وشهوته ، فلذلك وصف بالضعف. وأمّا قوله تعالى : (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ [الآية ٢٨] فمعناه ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض ، بالعروق والأعصاب. وقيل المراد بالأسر العصعص ، فإنّ الإنسان في القبر يصير رفاتا إلا عصعصه فإنه لا يتفتّت. وقال مجاهد : المراد بالأسر مخرج البول والغائط ، فإنه يسترخي حتى يخرج منه الأذى ، ثم ينقبض ويجتمع ويشتدّ بقدرة الله تعالى.

٢٩٣

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الإنسان» (١)

في قوله سبحانه : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (٧) استعارة. وحقيقة الاستطارة من صفات ذوات الأجنحة. يقال : طار الطّائر ، واستطرته أنا إذا بعثته على الطّيران. ويقولون أيضا من ذلك على طريق المجاز : استطار لهيب النّار ، إذا انتشر وعلا ، وظهر وفشا. فكأنه سبحانه قال : يخافون يوما كان شرّه فاشيا ظاهرا ، وعاليا منتشرا.

وفي قوله سبحانه : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١٠) استعارة. لأن «العبوس» من صفة الإنسان القاطب المعبّس. فشبّه سبحانه ذلك اليوم لقوّة دلائله على عظيم عقابه ، وأليم عذابه ، بالرجل العبوس الذي يستدلّ بعبوسه وقطوبه على إرصاده بالمكروه ، وعزمه على إيقاع الأمر المخوف. وأصل العبوس تقبيض الوجه ، وهو دليل السخط ، وضده الاستبشار والتطلّق وهما دليلا الرضا والخير.

وكما سمّت العرب اليوم المحمود طلقا ، فكذلك سمّت اليوم المذموم عبوسا. ويقال : يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا ضرّه ، طويلا شرّه.

وفي قوله سبحانه : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) استعارة. والمراد بتذليل القطوف ، وهي عناقيد الأعناب وواحدها قطف (٢) أنها جعلت قريبة من أيديهم ، غير ممتنعة على مجانيهم ، لا يحتاجون إلى معاناة في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). القطف بكسر القاف : العنقود ساعة يقطف ، أو اسم للثمار المقطوفة. والجمع قطوف ، وقطاف.

٢٩٤

اجتنائها ، ولا مشقّة في اهتصار أفنانها ، فهي كالظّهر الذلول الذي يوافق صاحبه ، ويواتي راكبه.

والتذليل هاهنا مأخوذ من الذّلّ بكسر الذال ، وهو ضد الصعوبة. والذّل ، بضم الذال ، ضدّ العز والحميّة.

وقوله سبحانه : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها فيما تقدّم. والمراد باليوم الثقيل هاهنا : استثقاله من طريق الشدّة والمشقّة ، لا من طريق الاعتماد بالأجزاء الثقيلة. وقد يوصف الكلام بالثقيل على هذا الوجه ، وهو عرض من الأعراض ، فيقول القائل : قد ثقل عليّ خطاب فلان ، وما أثقل كلام فلان.

٢٩٥
٢٩٦

الفهرس

سورة «التغابن»

المبحث الأول

أهداف سورة «التغابن»........................................................... ٣

مع السورة....................................................................... ٤

روابط الأسرة.................................................................... ٥

المعنى الإجمالي للسورة............................................................. ٧

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «التغابن»................................................... ٩

تاريخ نزولها ووجه تسميتها......................................................... ٩

الغرض منها وترتيبها.............................................................. ٩

الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة....................................................... ٩

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «التغابن»..................................................... ١١

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «التغابن».................................................. ١٣

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «التغابن»............................................. ١٥

٢٩٧

المبحث السادس

المعاني المجازية في سورة «التغابن».................................................. ١٧

سورة «الطلاق»

المبحث الأول

أهداف سورة «الطلاق»........................................................ ٢١

العناية بالأسرة.................................................................. ٢١

الطلاق....................................................................... ٢٢

مع السورة..................................................................... ٢٤

المعنى الإجمالي للسورة............................................................ ٢٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الطلاق»................................................. ٢٩

تاريخ نزولها ووجه تسميتها....................................................... ٢٩

الغرض منها وترتيبها............................................................. ٢٩

حكم الطلاق والعدة............................................................ ٢٩

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الطلاق».................................................... ٣١

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «الطلاق»................................................. ٣٣

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق»............................................. ٣٥

٢٩٨

سورة «التحريم»

المبحث الأول

أهداف سورة «التحريم»......................................................... ٤١

قصة التحريم................................................................... ٤٢

تحريم مارية..................................................................... ٤٤

تحريم العسل................................................................... ٤٤

النبيّ (ص) يهجر نساءه......................................................... ٤٥

اصطفاء الرسول (ص)........................................................... ٤٦

مع السورة..................................................................... ٤٧

المعنى الإجمالي للسورة............................................................ ٤٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «التحريم»................................................. ٥١

تاريخ نزولها ووجه تسميتها....................................................... ٥١

الغرض منها وترتيبها............................................................. ٥١

قصّة التحريم................................................................... ٥١

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «التحريم».................................................... ٥٣

المبحث الرابع

مكنونات سورة «التحريم»....................................................... ٥٥

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «التحريم».................................................... ٥٧

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «التحريم»................................................. ٥٩

٢٩٩

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «التحريم»............................................. ٦١

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «التحريم».................................................. ٦٥

سورة «الملك»

المبحث الأول

أهداف سورة «الملك».......................................................... ٧١

مطلع السورة................................................................... ٧١

مع آيات السورة................................................................ ٧٢

المعنى الإجمالي للسورة............................................................ ٧٦

أسماء السورة................................................................... ٧٧

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الملك»................................................... ٧٩

تاريخ نزولها ووجه تسميتها....................................................... ٧٩

الغرض منها وترتيبها............................................................. ٧٩

الدعوة الى الإيمان بالله تعالى...................................................... ٧٩

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الملك»...................................................... ٨١

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الملك»..................................................... ٨٣

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الملك»................................................... ٨٥

٣٠٠