الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الثالث

مكنونات سورة «القيامة» (١)

١ ـ (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٣١).

قال مجاهد ، وغيره : نزلت في أبي جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦١
٢٦٢

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «القيامة» (١)

١ ـ قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧).

والمراد : «قراءته».

٢ ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (٢٦).

والفاعل مضمر يراد به النفس ، ولم تذكر للعلم بها ، وهي نظير قوله تعالى :

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣) [الواقعة].

٣ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) (٣٣).

وقوله تعالى : (يَتَمَطَّى) (٣٣) ، أي : يتبختر ، وأصله : يتمطّط أي يتمدّد ، لأن المتبختر يمدّ خطاه ، وقيل : هو من المطا ، أي : الظهر لأنه يلويه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٣
٢٦٤

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «القيامة» (١)

قال تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) أي : على أن نجمع بنانه.

أي : بلى نجمعها قادرين. وواحد «البنان» : بنانة.

وقال : (أَيْنَ الْمَفَرُّ) (١٠) أي : أين الفرار. وقال الشاعر [من المديد وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائتين] :

يا لبكر أنشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار؟

لأنّ كلّ مصدر يبنى هذا البناء فإنما يجعل «مفعلا». وإذا أراد المكان قال (المفرّ) : وقد قرئت (أين المفرّ) لأنّ كلّ ما كان فعله على «يفعل» كان «المفعل» منه مكسورا نحو «المضرب» ، إذا أردت المكان الذي يضرب فيه.

قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢) أي : حسنة : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) يعني ، والله أعلم ، بالنظر إلى الله إلى ما يأتيهم من نعمه ورزقه. وقد تقول : «والله ما أنظر إلّا إلى الله وإليك» أي : أنتظر ما عند الله وما عندك.

وقال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤) فجعله هو البصيرة كما تقول للرجل : «أنت حجّة على نفسك».

وقال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) (٣١) أي : فلم يصدّق ولم يصلّ. كما تقول «ذهب فلا جاءني ولا جاءك».

وقال تعالى : (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) وقرأ بعضهم (يحي الموتى) فأخفى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٥

وجعله بين الإدغام وغير الإدغام ، ولا يستقيم أن يكون هاهنا مدغما لأنّ الياء الاخرة ليست تثبت على حال واحد ، إذ تصير ألفا في قولك «يحيا» وتحذف في الجزم ، فهذا لا يلزمه الإدغام ، ولا يكون فيه إلّا الإخفاء ، وهو بين الإدغام وبين البيان.

٢٦٦

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «القيامة» (١)

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (١٨) والقارئ على النبي (ص) إنّما هو جبرائيل (ع)؟

قلنا : معناه فإذا جمعناه في صدرك ، ويؤيّده قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١٧) أي : إن علينا جمعه وضمّه في صدرك فلا تعجل بقراءته قبل أن يتمّ حفظه. وقيل إنما أضيفت القراءة إلى الله تعالى ، لأن جبريل (ع) يقرأه بأمره كما تضاف الأفعال إلى الملوك والأمراء بمجرد الأمر ، مع أن المباشر لها أعوانهم أو أتباعهم.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) والذي يوصف بالنظر الذي هو الإبصار والإدراك ، إنما هو العين دون الوجه؟

قلنا : قيل إن المراد بالوجوه هنا السعداء وأهل الوجاهة يوم القيامة لا الوجه الذي هو العضو ؛ ولا أرى هذا الجواب مطابقا لقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢٤) لأن العبوس والقطوب إنما يوصف به الوجه الذي هو العضو ، ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢) الأعضاء المعروفة قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) [المطففين].

فإن قيل : النطفة المنيّ ، فما الحكمة في قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧)؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٦٧

قلنا : النطفة استعملت هنا بمعنى القطرة ، لأن النطفة تطلق على الماء القليل والكثير ؛ ومنه الحديث «حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى جوازا» أراد : بحر المشرق والمغرب.

٢٦٨

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «القيامة» (١)

في قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) ، استعارة. والمراد ، والله أعلم ، أن الإنسان حجة على نفسه في يوم القيامة ، وشاهد عليها بما اقترفت من ذنب ، واحتملت من وزر. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥) (وإن ألقى معاذيره). أي هو ، وإن تعلّق بالمعاذير ، ولفّق الأقاويل ، شاهد على نفسه بما يوجب العقاب ، ويجرّ النكال.

وقال الكسائي : المعنى : بل على نفس الإنسان بصيرة. فجاء على التقديم والتأخير. أي عليه من الملائكة رقيب يرقبه ، وحافظ يحفظ عمله. وقال أبو عبيدة : جاءت هذه الهاء في بصيرة ، والموصوف بها مذكّر ، كما جاءت في علّامة ، ونسّابة ، ورواية ، وطاغية. والمراد بها المبالغة في المعنى الذي وقع الوصف به.

ووجه المبالغة في صفة الملك المحصي لأعمال المكلّف بأنه بصيرة ، أنّ ذلك الملك يتجاوز علم الظواهر إلى علم السرائر ، بما جعل الله تعالى له على ذلك من الأدلة ، وأعطاه من أسباب المعرفة. فهو ، للعلة التي ذكرناها ، يوفي على كل رقيب حافظ ، ومراع ملاحظ.

والتأويل الاخر يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة. وهو أن تكون المعاذير هاهنا من أسماء السّتور ، لأن أهل اليمن يسمّون السّتر بالمعذار ، فكأن المراد أن الإنسان رقيب على نفسه ، وعالم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٩

بمستسرّ غيبه ، في ما يقارفه من معصية ، أو يقاربه من ريبة ، وإن ألقى ستوره مستخفيا ، وأغلق أبوابه متواريا.

وفي قوله سبحانه : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠) استعارة على أكثر الأقوال. والمراد بها ، والله أعلم ، صفة الشّدّتين المجتمعتين على المرء من فراق الدنيا ، ولقاء أسباب الاخرة. وقد ذكرنا فيما تقدم مذهب العرب في العبارة عن الأمر الشديد ، والخطب الفظيع ، بذكر الكشف عن الساق ، والقيام عن ساق. فلا فائدة في تكرير ذلك وإعادته.

وقد يجوز أن يكون السّاق هاهنا جمع ساقة كما قالوا : حاجة وحاج. وغاية وغاي وآية وآي. والساقة : هم الذين يكونون في أعقاب الناس يحفّزونهم على السير ، وهذا في صفة أحوال الاخرة وسوق الملائكة السابقين بالكثرة ، حتى يلتفّ بعضهم ببعض من شديد الحفز ، وعنيف السير والسّوق. ومما يقوّي ذلك قوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠).

والوجه الأول أقرب ، وهذا الوجه أغرب.

٢٧٠

سورة الإنسان

٧٦

٢٧١
٢٧٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الإنسان» (١)

سورة الإنسان سورة مكيّة ، وقيل مدنية ، آياتها ٣١ ، نزلت بعد سورة الرحمن.

وقد اختلف في مكّيتها ومدنيّتها. وفي المصحف المتداول أنها مدنية ، ولكن آيات السورة وسياقها وموضوعاتها تحمل الطابع المكّي ، وهي أقرب إلى أن تكون مكّية.

والمكّي من القرآن هو ما نزل بمكّة قبل الهجرة ، والمدنيّ هو ما نزل بالمدينة بعد الهجرة.

وهناك سور متفق على مكّيتها ، وسور متفق على مدنيّتها ، وسور مختلف فيها : من العلماء من يرى أنها مدنيّة ، ومنهم من يرى أنها مكّية. ومن هذه السور سورة الإنسان.

وقد غلب على السور المكّية الحديث عن الألوهيّة ، والتحذير من عبادة الأصنام ، والتذكير بالبعث والجزاء ، ولفت الانظار إلى مشاهد الكون ونواميسه ، وآيات الله في الآفاق ، ودلائل القدرة الإلهية في الخلق والنفس.

وغلب على السور المدنيّة وصف غزوات الرسول (ص) ، وحالات المجتمع المدنيّ ، والحديث عن المنافقين واليهود ، والعناية بتشريع الأحكام ، ونظام المجتمع ودعائم الحكم السليم.

والقرآن ، في مجموعه ، كتاب هداية ، ودعوة إلى القيم ، ومكارم الأخلاق ، وحثّ على الإيمان بالله

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٧٣

وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر ، ودعوة إلى تهذيب النفس ، وحث على الفضيلة والاستقامة ، وتقوى الله ومراقبته.

وهذه المعاني نجدها في السور المكّية والمدنيّة ، وفي السور المختلف في مكّيتها ومدنيّتها ، كسورة الإنسان.

ولا نملك نحن إلّا أن نقول : سورة الإنسان سورة من القرآن الكريم ، يختلف الترجيح في مكّيتها ومدنيّتها ، ونرى أنّ أسلوبها أقرب إلى أسلوب القرآن المكّي ، وبذلك تكون جميع سور جزء (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) سورا مكّية.

تسلسل أفكار السورة

سورة الإنسان نداء رخيّ نديّ للإنسان أن يتذكّر أصله الذي خلق منه ، ويتذكّر فضل الله عليه ، إذ خلقه بشرا سويا ، ويسّر له طريق الخير والشر ، ليختار بإرادته وكسبه ، وعقله وطاقاته ومداركه.

وبذلك تذكر السورة أصل الخلق ، والمدارك والطاقات التي منحها الله للإنسان ، وميّزه بهذا على جميع المخلوقات ، فمنحه الإرادة والاختيار ، والسمع والبصر ، ليسمع ويرى ويفكّر ويتدبّر ، ثمّ يختار بإرادته وكسبه ؛ وهذه ميزة خاصة بالإنسان وحده في هذا الكون.

فالملاك مطيع طاعة مطلقة ، والحيوان مزوّد بالإدراك من دون الاختيار ، والكون كله مسخر بمشيئة الله ، وخاضع لنواميسه خضوع القهر والغلبة.

والإنسان زوّد بالعقل ليختار الطاعة لله أو المعصية ، وهذا هو أساس الابتلاء والاختبار ، فإن أطاع صار أهلا لرضوان الله وجنّته ، وإن عصى صار أهلا لغضبه وناره.

وقد ذكرت السورة عذاب أهل النار في آية واحدة ، هي الآية الرابعة.

واستسرسالات في وصف نعيم أهل الجنة وثوابهم ، في الآيات [٥ ـ ٢٢] ، أي في جزء كبير من السورة.

ثمّ يتجه الخطاب إلى الرسول الأمين ، لتثبيته على الدعوة ، وتوجيهه إلى الصبر ، وانتظار حكم الله في الأمر ، والاتّصال بربّه ، والاستمداد منه كلما طال الطريق ، وذلك في الآيات [٢٣ ـ ٢٦].

٢٧٤

وفي الجزء الأخير من السورة ، تذكير للكافرين باليوم الثقيل ، الذي لا يحسبون حسابه ، والذي يخافه الأبرار ويتّقونه ، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله الذي خلقهم ، ومنحهم ما هم فيه من القوّة ، وهو قادر على الذهاب بهم ، والإتيان بقوم آخرين ، لولا تفضّله عليهم بالبقاء ، لتمضي مشيئته في الابتلاء ؛ ويلوّح السياق في ختام السورة بعاقبة هذا الابتلاء ، وذلك في الآيات [٢٧ ـ ٣١].

مع آيات السورة

[الآية الأولى] : قد أتى على هذا النوع ، نوع الإنسان ، زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.

والحين طائفة من الزمان غير محدودة. وعن ابن عبّاس وابن مسعود : أنّ الإنسان هاهنا آدم ، والحين المحدود ، وذلك أنه مكث أربعين سنة طينا ، إلى أن نفخ فيه الروح فصار شيئا مذكورا ، بعد كونه كالمنسي (١).

[الآية ٢] : إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة ، مريدين ابتلاءه واختباره ، بالتكليف فيما بعد ، إذا شبّ وبلغ الحلم ، فجعلناه سميعا بصيرا ، ليتمكّن من استماع الآيات ، ومشاهدة الدلائل والتعقّل والتفكّر.

ومقصود الآية : نحن نعامل الإنسان معاملة المختبر له : أيميل إلى أصله الأرضي فيكون حيوانا نباتيّا معدنيّا شهوانيّا ، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر؟

[الآية ٣] : بيّن الله للإنسان الطريق السوي ، بإرسال الرسل وإنزال الكتاب ، وهو بالخيار : إما أن يكون شاكرا لنعماء الله ، فيسير في الطريق الواضح المرسوم ، وإمّا أن يكون كافرا فيعرض ويكفر ، ويختار الضلال على الهدى.

[الآية ٤] : إنّا هيّأنا لمن كفروا بنعمتنا ، سلاسل للأقدام ، وأغلالا تشدّ بها أيديهم إلى أعناقهم ، كما يفعل بالمجرمين في الدنيا ، ونارا تتسعّر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين.

ثمّ تصف الآيات بعد ذلك نعيم المتّقين ، وصفا طويلا لم نجد مثله في سورة سابقة ؛ ويستمر هذا الوصف من

__________________

(١). تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ٢٩ : ١٠٩.

٢٧٥

الآية الخامسة إلى الآية الثانية والعشرين ، أي ١٨ آية من مجموع آيات السورة وهي ٣١ ، أي أن أكثر من نصف السورة ، يصف نعيم المتقين ، وحليّهم وملابسهم وخدمهم ، وما هم فيه من نعمة ورضوان وملك كبير. ولنسر مع هذه الآيات التي تصف نعيم المتقين.

[الآيتان ٥ ـ ٦] : إنّ شراب الأبرار في الجنّة ممزوج بالكافور ، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجّر لهم تفجيرا في كثرة ووفرة ، وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان ، يحبون وصولها إليه.

قال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا ، وتتبعهم حيث مالوا (١).

[الآية ٧] : كانوا يوفون بالنذر فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات ، وما التزموا من الواجبات ، أي أنهم يؤدون ما أوجبه الله عليهم بأصل الشرع ، وما أوجبوه على أنفسهم بالنذر. وهم يستشعرون الخشية من يوم القيامة ، ذلك يوم شديد عذابه ، عظيم خطره ، كالنار يتطاير شررها فيعمّ شرّها.

[الآية ٨] : وكانوا يطعمون الطعام ، ويقدّمون المعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب ، ولكل يتيم مات كاسبه ، ولكل أسير لا يملك لنفسه قوّة ولا حيلة.

[الآية ٩] : وحين يقدّمون الطعام والمعونة النافعة لكلّ مساكين عاجز عن الاكتساب ، ولكلّ يتيم مات كاسبه ، لا يترفّعون على عباد الله ، ولا يشعرون بالاستعلاء والعظمة ، بل يقدّمون المعونة في إخلاص وتجرّد لوجه الله ، ولا ينتظرون شكرا ولا إعلانا.

قال مجاهد وسعيد بن جبير : أمّا والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب (٢).

[الآية ١٠] : لقد أخرجوا الصدقة لوجه الله ، ولسان حالهم يقول : إنّا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ، ويتلقّانا بلطفه في يوم عبوس تعبس فيه الوجوه ، قمطرير شديد العبوس.

قال النسفي : «وصف اليوم بصفة

__________________

(١). تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ٢٩ /. ١٦٤ وانظر تفسير النسفي ٤ : ٣٣٨.

(٢). تفسير المراغي ٢٩ : ١٦٦.

٢٧٦

أهله من الأشقياء ، نحو نهارك صائم ، والقمطرير شديد العبوس ، الذي يجمع ما بين عينيه» (١).

[الآية ١١] : فحفظهم الله من شر ذلك اليوم ، وكسا وجوههم نضرة ونضارة ، وتنعّما ، وفرحا ، وسرورا.

[الآية ١٢] : وجزاهم بصبرهم على الإيثار ، والتزامهم بأمر الله جنّة يسكنونها ، وحريرا يلبسونه.

ثمّ تصف الآيات مساكن أهل الجنة ، وشرابهم وأوانيه وسقاته ، وما تفضّل به عليهم ربهم ، من فاخر اللباس والحلي ، وأصناف النعيم فتقول :

[الآية ١٣] : هم في جلسة مريحة مطمئنة ، الجو حولهم رخاء ناعم ، دافئ في غير حر ، نديّ في غير برد ، فلا شمس تلهب النسائم ، ولا زمهرير ، أي : لا برد قارس.

[الآية ١٤] : ظلال الجنة قريبة من الأبرار مظلّلة عليهم ، وقطوفها وثمارها قريبة دانية في متناول أيديهم ، ينالها القائم والقاعد والمتكئ.

[الآيات ١٥ ـ ١٩] : يطاف عليهم بانية من فضة بيضاء ، في صفاء الزجاج ، فيرى ما في باطنها من ظاهرها ، ممّا لم تعهده الأرض في آنية الفضة ، وهي بأحجام مقدّرة تقديرا ، يحقّق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزّنجبيل كما مزجت مرّة بالكافور ، وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلا ، لشدة عذوبتها واستساغتها للشاربين. وزيادة في المتاع ، فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب ، هم غلمان صباح الوجوه ، لا يفعل فيهم الزمن ، ولا تدركهم السن ، فهم مخلّدون في سن الصّباحة والصّبا والوضاءة ، وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور.

[الآية ٢٠] : تحمل هذه الآية خطوط هذا النعيم ، وتلقي عليه نظرة كاملة فاحصة ، تلخّص وقعه في القلب والنظر. فإذا نظرت في الجنة رأيت نعيما عظيما ، وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.

[الآية ٢١] : ثم تخصص هذه الآية مظهرا من مظاهر النعيم ، والملك الكبير فتقول : إن لباس أهل الجنة السّندس ، وهو الحرير الرقيق ،

__________________

(١). تفسير النسفي ٤ : ٣٣٨.

٢٧٧

والإستبرق وهو الحرير السميك المبطن ، وقد حلّوا أساور من فضّة ؛ وتدرج نعيمهم في الارتقاء إلى مدارج الكمال ، حتى (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) [الآية ٢١] وأضاف السقي إلى ذاته للتشريف والتخصيص ، (شَراباً طَهُوراً) (٢١) مبالغة في طهارته ونظافته بخلاف خمر الدنيا. فهو عطاء كريم من معط كريم ، وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم.

[الآية ٢٢] : ثم ختم وعدهم بالود والتكريم ، فقال جلّ وعلا : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢). أي يقال لهؤلاء الأبرار هذا القول ، زيادة في سرورهم ، إنّ هذا الذي أعطيناكم من الكرامة ، كان ثوابا على أعمالكم الصالحة ، وكان عملكم في الدنيا مشكورا ، حمدكم عليه ربّكم ورضيه لكم ، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.

وهذا النطق من الملأ الأعلى ، يعدل هذه المناعم كلّها ، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها ، لأنّها جزاء على عمل ، وثواب لإنسان اختار الهدى والطريق المستقيم والعمل الصالح ، فاستحقّ النعيم والتكريم.

[الآية ٢٣] : وبعد أن بيّن الله سبحانه ما في الجنّة من نعيم ، ذكّر نبيّه بنعمة الرسالة تسلية لفؤاده ، وحثّا له على الصبر والثبات ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) : إنّ القرآن من عند الله أنزله منجّما مفصلا ، في ثلاث وعشرين سنة ، ليكون أسهل لحفظه وتفهمه ودراسته ، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجد في الكون ، فتكون تثبيتا لإيمان المؤمنين وزيادة في تقوى المتقين.

[الآية ٢٤] : اصبر على أمر الله واثبت على الحق ، ولا تتبّع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم ، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر ؛ إنّ الأمور مرهونة بقدر الله ، وهو يمهل الباطل ويملي للشر ، كلّ أولئك لحكمة يعلمها ، يجري بها قدره ، وينفذ بها حكمه. (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٢٤). ونهيه (ص) عن طاعة الإثم والكفور ، وهو لا يطيع واحدا منهما ، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد ، لما ركّب في طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيّئات ، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإرشاده لكان

٢٧٨

أحقّ الناس بذلك هو الرسول المعصوم (ص).

[الآيتان ٢٥ ـ ٢٦] : ودم على ذكره في الصباح والمساء ، والخلوة والجلوة ، وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء ، واسجد له بالليل وسبّحه طويلا ، لأنه مصدر القوة والعناية ، وينبوع العون والهداية ؛ ومن وجد الله وجد كلّ شيء ، فالصلة به سبحانه هي السعادة الكبرى ، والعناية العظمى ، والزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في طريق الحياة.

[الآية ٢٧] : إنّ هؤلاء المشركين بالله يحبّون الدنيا ، وتعجبهم زينتها ، وينهمكون في لذّتها الفانية ، ويتركون اليوم الثقيل ، الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير ، بعد الحساب العسير.

والآية تثبيت للنبي (ص) والمؤمنين في مواجهة المشركين ، إلى جانب أنّها تهديد ملفوف ، لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل.

[الآية ٢٨] : يتلو ذلك التهديد التهوين من أمرهم عند الله جلّ جلاله ، الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس ، وهو قادر على الذهاب بهم فهم لا يعجزونه بقوتهم ، وهو الذي خلقهم وأعطاهم إيّاها ، وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم ، فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنّته ، وهو قضاؤه وحكمته.

[الآية ٢٩] : إنّ هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع ، ونسق عجيب ، ووعد ووعيد ، وترغيب وترهيب ، تذكرة وتبصرة لكل ذي عقل وبصيرة. فمن شاء الخير والنجاة لنفسه في الدنيا والاخرة ، فليتقرّب إلى ربّه بالطاعة ، وليصدّق بالقرآن والرسول الكريم فذلك هو الطريق إلى الله.

[الآية ٣٠] : ويعقب على ذلك بإطلاق المشيئة ، وردّ كل شيء إليها ، ليكون الاتّجاه الأخير إليها ، والاستسلام الأخير لحكمها.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠) أي وما تشاؤون اتّخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ، ولا تقدرون على تحصيلها ، إلّا إذا وفّقكم الله لاكتسابها ، وأعدكم لنيلها.

ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار ، المتصرّف القهّار : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) (٣٠) بما يصلح العباد ، (حَكِيماً) (٣٠) وضع كل انسان

٢٧٩

في موضعه من الهداية والضلال ، فهو يعين المتقين على القيام بواجبهم ، ويسلب عونه عن المشركين ، فيتيهون في بيداء الضلال.

[الآية ٣١] : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفّقه للطاعة بحسب استعداده ، (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) وقد أملى لهم وأمهلهم ، لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم.

وهذا الختام يلتئم مع المطلع ، ويصور نهاية الابتلاء ، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج ، ووهبه السمع والأبصار ، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار.

مجمل ما تضمنته السورة

اشتملت سورة الإنسان على خمسة مقاصد :

١ ـ خلق الإنسان.

٢ ـ جزاء الشاكرين والجاحدين.

٣ ـ وصف النار وصفا قصيرا في آية واحدة ، ووصف الجنّة وصفا مسهبا في ما يقرب من ١٨ آية.

٤ ـ ذكر المنّة على رسول الله (ص) ، وأمره بالصبر وقيام الليل.

٥ ـ المنّة على الخلق بإحكام خلقهم ، وإضافة كلّيّة المشيئة إلى الله تعالى.

أسماء السورة

لهذه السورة ثلاثة أسماء :

١ ـ سورة (هَلْ أَتى) لمفتتحها.

٢ ـ سورة الإنسان لقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) (١).

٣ ـ سورة الدهر لقوله تعالى : (حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ).

٢٨٠