الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الرابع

مكنونات سورة «المدّثّر» (١)

١ ـ (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١).

أخرج الحاكم (٢) عن ابن عبّاس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة.

٢ ـ (وَبَنِينَ شُهُوداً) (١٣).

قال أبو مالك ، وسعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ابنا. أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في «المستدرك» ٢ : ٥٠٦ قال الحاكم : «هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه» ، وأقرّه الذهبي. والأثر أيضا في «تفسير الطبري» ٢٩ /. ٩٦

(٣). وأخرج الطبري في «تفسيره» ٢٩ : ٩٧ عن مجاهد ، أنهم كانوا عشرة.

٢٤١
٢٤٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «المدّثّر» (١)

١ ـ وقال تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨).

أقول : وقوله تعالى : (نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨) بيان عن حلول يوم القيامة.

(الناقور) : ما ينفخ فيه من أسماء الأدوات ، وكثير من هذه الأسماء جاء على «فاعول».

٢ ـ وقال تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (١٧).

أي : سأغشيه عقبة شاقّة المصعد.

أقول : وبناء فعول للأسماء معروف في العربية ، فمنه الصّعود والهبوط والحدور ؛ وغير ذلك.

٣ ـ وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨).

أقول : وقد جاء قوله أيضا : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١) [الطور].

وهذا يعني : أن «فعيل» بمعنى «مفعول» لا يستوي فيه المذكر والمؤنث دائما ، فقد تلحقه الهاء ، والآيتان شاهدان على ذلك. وليس من ذهب إلى أن «رهين» في الآيتين اسم وليس صفة بحجة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٤٣
٢٤٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «المدّثّر» (١)

قرأ بعضهم قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) بالجزم (٢) على أنّها جواب النهي. والقراءة المثبتة في المصحف بالرفع ، أي : ولا تمنن مستكثرا ؛ وهو أجود المعنيين.

قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) (١٦) أي : معاندا.

وقال سبحانه : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) (٣٣). و «دبر» في معنى «أدبر». يقولون : «قبّح الله ما قبل منه وما دبر» (٣) وقالوا «عام قابل» ، ولم يقولوا «مقبل».

وقال تعالى : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ) (٣٦). فانتصب (نَذِيراً لأنه خبر ل (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) (٣٥) ، أي لأنه خبر للمعرفة ، وقد حسن عليه السكوت ، فصار حالا ، وهي «النذير» كما تقول «إنّه لعبد الله قائما» ، وقال بعضهم إنّما هو : «قم نذيرا فأنذر».

وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) (٥٤) أي : إنّ القرآن تذكرة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في الشواذ ١٦٤ ، والمحتسب ٢ : ٣٣٧ ، إلى الحسن ، وزاد في الجامع ١٩ : ٦٩ و ٦٧ ابن مسعود. أما في البحر ٨ : ٣٧٢ ، فابدل ، بابن مسعود ، ابن أبي عبلة.

(٣). في مجاز القرآن ٢ : ٢٧٥ و ٢٧٦ ، جاء بأمثلة ، تدل على قوله : بتساوي الفعلين المزيد والمجرد في المعنى. ورآهما الفراء في معاني القرآن ٣ : ٢٠٤ ، لغتين.

٢٤٥
٢٤٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «المدّثّر» (١)

إن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى : (غَيْرُ يَسِيرٍ) (١٠) بعد قوله سبحانه : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ).

قلنا : قيل معناه : أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا ، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. وقيل إنه تأكيد.

فإن قيل : ما فائدة التكرار في قوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) ومعناهما واحد؟

قلنا : معناه لا تبقي للكفّار لحما ، ولا تذر لهم عظما. وقيل معناه لا تبقيهم أحياء ، ولا تذرهم أمواتا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) [الآية ٣١] وما سبق من وصفهم ، بالاستيقان وازدياد الإيمان ، دلّ على انتفاء الارتياب ؛ والجمل كلّها متعلّقة بعدد خزنة النار. والمعنى يستيقن الذين أوتوا الكتاب أن ما جاء به محمّد (ص) حق ، حيث أخبر عن عدد خزنة النار بمثل ما في التوراة ، ويزداد الذين آمنوا من أهل الكتاب إيمانا بالنبي (ص) والقرآن ، حيث وجدوا ما أخبرهم به مطابقا لما في كتابهم؟

قلنا فائدته التأكيد ، والتعريض أيضا بحال من عداهم من الشاكّين ، وهم الكفّار والمنافقون ؛ فمعناه : ولا يرتاب هؤلاء كما ارتاب أولئك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [الآية ٣١] يعني حصر

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٤٧

عدد الخزنة في تسعة عشر ، وذلك ليس بمثل.

قلنا : هو استعارة ، من المثل المضروب ، ممّا وقع غريبا وبديعا في الكلام ، استغرابا منهم لهذا العدد ، واستبداعا له ؛ والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأيّ حكمة قصد في جعل الخزنة تسعة عشر لا عشرين. الثاني : أنّ المثل هنا بمعنى الصفة ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] ما ذا أراد الله بهذا العدد ، صفة للخزنة.

فإن قيل : لم طابق قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) ، وهو سؤال للمجرمين ، قوله تعالى : (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (٤١) وهو سؤال عنهم ، وإنما المطابق : يسألون المجرمين أو يتساءلون عن المجرمين ما سلكهم في سقر : أي يسأل أهل الجنة بعضهم بعضا عن أهل النار؟

قلنا. قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ) [الآية ٤٢] ليس بيانا للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عن المجرمين ؛ فالمسؤولون من أهل الجنّة ألقوا إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ؛ وذلك أنّ المؤمنين إذا أخرجهم الله تعالى من النار ، بعد ما عذّبهم بقدر ذنوبهم ، وأدخلهم الجنّة ، يسألهم بعض أصحاب اليمين عن حال المجرمين ، وسبب تخليدهم ، فيقول المسؤولون : قلنا لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) وهؤلاء المؤمنون بعد إخراجهم من النار وإدخالهم الجنّة ، صاروا من أصحاب اليمين. وقيل المراد بأصحاب اليمين ، الملائكة عليهم‌السلام. وقيل الأطفال ، لأنهم لا يرتهنون بذنوب ، إذ لا ذنوب لهم.

٢٤٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «المدّثّر» (١)

في قوله سبحانه : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) استعارة على بعض التأويلات : وهو أن تكون الثياب هاهنا كناية عن النفس ، أو عن الأفعال والأعمال الراجعة إلى النفس. قال الشاعر (٢) :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا

فدى لك من أخي ثقة إزاري

 قيل : أراد فدى لك نفسي. وكذلك قول الفرزدق :

سكّنت جروتها (٣) وقلت لها اصبري

وشددت في ضيق المقام إزاري

أي شددت نفسي ، وذمرت قلبي. والإزار والثياب يتقارب معناهما. وعلى هذا فسّروا قول امرئ القيس :

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٤)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو بقيلة الأكبر الأشجعي ، وكنيته أبو المنهال. شاعر إسلامي. وله خبر مع عمر بن الخطاب (رض) ، بشأن رجل كان واليا على مدينتهم اسمه جعدة بن عبد الله ، وكان له شأن غير مرضي مع النساء. فأرسل الشاعر بقيلة أبياتا إلى عمر يستعديه على هذا الوالي. والقصة كاملة في «لسان العرب». وذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» الأبيات في ص ٨٠ ج ٢ ، ولم ينسبها لقائلها ، واكتفى بقوله : روي في بعض الحديث ، أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب. وفي مادة أزد في «لسان العرب» أن اسمه نفيلة ، والتصويب عن «المؤتلف والمختلف» ص ٦٢ ، حيث ورد في باب الباء لا النون.

(٣). في ديوان الفرزدق ص ٣٢٢.

فضربت جروتها وقلت لها اصبري

وشددت في ضيق المقام إزاري

وضرب الجروة : كناية عن العزم والتصميم على الأمر.

(٤). البيت بكماله هو :

وإن تك قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

٢٤٩

أي نفسي من نفسك ، أو قلبي من قلبك.

ويقولون : فلان طاهر الثياب ، أي طاهر النفس ، أو طاهر الأفعال. فكأنّه سبحانه قال : ونفسك فطهّر ، أو أفعالك فطهّر.

وقد يجوز أن يكون للثياب هاهنا معنى آخر ، وهو أن الله سبحانه سمّى الأزواج لباسا ، فقال تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] واللّباس والثّياب بمعنى واحد. فكأنّه سبحانه أمره أن يستطهر النساء. أي يختارهن طاهرات من دنس الكفر ، ودرن العيب ، لأنهن مظانّ الاستيلاد ، ومضامّ الأولاد.

وفي قوله سبحانه : (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (٣٤) استعارة ، والمراد بها انكشاف الصبح بعد استتاره ، ووضوحه بعد التباسه ، تشبيها بالرجل المسفر الذي قد حطّ لثامه ، فظهرت مجالي وجهه ، ومعالم صورته.

٢٥٠

سورة القيامة

٧٥

٢٥١
٢٥٢

المبحث الأول

أهداف سورة «القيامة» (١)

سورة القيامة سورة مكية ، آياتها ٤٠ آية ، نزلت بعد سورة القارعة.

هي سورة تتحدث عن القيامة ، وعن النفس اللوّامة ؛ وتحشد على القلب البشري ، من الحقائق والمؤثّرات ، والصور والمشاهد ، ما لا قبل له بمواجهته ولا التفلّت منه.

ومن تلك الحقائق الكبيرة ، التي تحشدها السورة في مواجهة القلب البشري ، حقيقة الموت القاسية الرهيبة ، التي تواجه كلّ حي ، وتتكرّر كلّ لحظة ، ويواجهها الكبار والصغار ، والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعاف ، ويقف الجميع منها موقفا واحدا ، هو الاستسلام والخضوع لقدرة العلي القدير (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠).

ومن تلك الحقائق ، التي تعرضها السورة ، حقيقة النشأة الأولى ؛ وأن من خلق الإنسان ، من نطفة ، قادر على أن يعيده مرة أخرى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) (٣٧).

ومن المشاهد المؤثرة ، في السورة ، مشهد القيامة ، وقد وقف الجميع للحساب ، وزاغت الأبصار ، واشتدّ الهول ، ولقي كل إنسان جزاءه : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (٧) ... إلخ.

ومن هذه المشاهد : مشهد المؤمنين المطمئنين إلى ربّهم ، المتطلعين إلى وجهه الكريم ، ومشهد الآخرين المقطوعي الصلة بالله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٥٣

ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (٢٤).

وهكذا يشعر القلب ، وهو يواجه هذه السورة ، أنه محاصر لا يستطيع الهروب ، مأخوذ بعمله لا يستطيع الإفلات ، لا ملجأ له من الله ولا عاصم. وهكذا تعالج السورة عناد المشركين وإصرارهم ، وتشعر الإنسان بالجدّ الصارم الجازم ، في شأن القيامة ، وشأن النفس ، وشأن الحياة المقدّرة بحساب دقيق. وقد لوّنت السورة وزاوجت بين حقائق الاخرة ، وحقائق الخلق والإبداع ، ومشاهد الموت والحساب ، وتكفّل الله بشأن القرآن وحفظه. وتلك خصيصة من خصائص الأسلوب القرآني ، حيث يخاطب القلب البشري بشتّى الأساليب والمؤثّرات والحقائق والمشاهد ، ممّا يأخذ عليه كل طريق ، ويقوده إلى الإذعان والتسليم.

مع آيات السورة

[الآيتان ١ ـ ٢] : يقسم الله تعالى بيوم القيامة وعظمة هوله ، وبالنفس التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات ؛ يقسم أن البعث حق.

[الآيتان ٣ ـ ٤] : يردّ سبحانه على بعض المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث ، وقد كانت المشكلة الشعورية عند المشركين ، صعوبة تصورهم لجمع العظام البالية ، الذاهبة في التراب ، المتفرّقة في الثرى ، وإعادة بعث الإنسان حيا.

والنّص يؤكّد عملية جمع العظام ، بما هو أرقى من مجرد جمعها ، وهو تسوية البنان ، وتركيبه في موضعه كما كان ؛ وهي كناية عن إعادة التكوين البشري بأدق ما فيه ، حتّى يتمثل الإنسان بشرا سويّا ، لا ينقصه حتّى تسوية أصابعه ، وما حملت من خاصّيّات مميزة.

[الآيتان ٥ ـ ٦] : لا يجهل ابن آدم أنّ ربه قادر على أن يجمع عظامه ، ولكنه يريد أن يداوم على فجوره ، ولا يتخلى عنه ؛ ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث ، ويستبعد مجيء القيامة.

[الآيات ٧ ـ ٩] : ذكر سبحانه ، من علامات يوم القيامة ، أمورا ثلاثة :

٢٥٤

١ ـ فالبصر يخطف ويتقلّب سريعا سريعا ، تقلّب البرق وخطفه.

٢ ـ والقمر يخسف ويطمس نوره.

٣ ـ والشمس تقترن بالقمر بعد افتراق ، ويختل نظامها الفلكي المعهود ، حيث ينفرط ذلك النظام الكوني الدقيق.

[الآيات ١٠ ـ ١٢] : يتساءل الإنسان المرعوب ، أين المفرّ من جهنّم؟ وهل من ملجأ منها؟

لا ملجأ ولا وقاية ولا مفر من قهر الله وأخذه ؛ فالرجعة إليه والمستقرّ عنده ، لا مستقر عند سواه.

قال السّدّيّ : كانوا إذا فزعوا في الدّنيا تحصّنوا بالجبال ، فقال الله لهم لا وزر يعصمكم مني.

[الآية ١٣] : يخبر الإنسان حين العرض والحساب بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أوّلها وآخرها ، صغيرها وكبيرها.

وفي الحديث : «سبع يجري أجرها للعبد بعد موته وهو في قبره : من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس ظلّا ، أو بنى مسجدا ، أو ورّق مصحفا ، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته».

[الآيتان ١٤ ـ ١٥] : بل الإنسان على نفسه بصيرة ، بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه ، وفي ذلك اليوم تنطق جوارحه بما فعل ؛ فسمعه وبصره ويداه ورجلاه ، وجميع أعضائه تشهد عليه ، ويتضح الحق ، ولو جاء بالأعذار كلها.

[الآية ١٦] : تكفّل الله بالقرآن ، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا ، وليس للرسول (ص) من أمره إلّا حمله وتبليغه.

وقد كان الرسول الأمين شديد اللهفة والحرص على استيعاب القرآن وحفظه ، ممّا كان يدعوه إلى متابعة جبريل (ع) في التلاوة آية آية ، وكلمة كلمة.

فلمّا نزلت هذه الآية ، كان رسول الله (ص) إذا أتاه جبريل ، أطرق وسكت ، فإذا ذهب قرأه كما أمره الله.

[الآيات ١٧ ـ ١٩] : إن علينا جمعه في صدرك الشريف ، وقراءته على لسانك ، فلن تنساه أبدا ، بل نحن سنجمعه في صدور المؤمنين ، ونحفظ قراءته. فإذا تلاه عليك الملك فاستمع

٢٥٥

له ، ثم اقرأه كما أقرأك ؛ ثم إنّا بعد حفظه وتلاوته ، نبينه لك ونلهمك معناه.

[الآيتان ٢٠ ـ ٢١] : إنكم يا بني آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه ، فتعجلون في كلّ شيء ؛ ومن ثمّ تحبون العاجلة ، وتذرون الاخرة.

[الآيتان ٢٢ ـ ٢٣] : في ذلك اليوم ، يوم القيامة ، ستكون هناك وجوه حسنة ناعمة ، تنظر إلى جلال الله ، وتتمتّع برضوانه ، وهي متعة دونها كل متعة.

إن روح الإنسان لتستمتاع أحيانا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون أو النفس ، تراها في الليلة القمراء ، أو الليل الساجي ، أو الفجر الوليد ، أو الظل المديد ، أو البحر العباب ، أو الصحراء المنسابة ، أو الروض البهيج ، أو الطلعة البهية ، أو القلب النبيل ، أو الإيمان الواثق ، أو الصبر الجميل ... إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود ، فتغمرها النشوة ، وتفيض بها السعادة. فكيف بها وهي تنظر إلى جمال ذات الله؟ وتستمتع بهذه السعادة الغامرة ، التي لا يحيط بها وصف ، ولا يتصوّر حقيقتها إدراك؟

[الآيتان ٢٤ ـ ٢٥] : ووجوه الفجّار تكون يوم القيامة عابسة كالحة ، مستيقنة أنّها ستصاب بداهية عظيمة تقصم ظهرها وتهلكها.

[الآيات ٢٦ ـ ٣٠] : تعرض الآيات مشهد الاحتضار ، حينما تبلغ الروح أعالي الصدر ، وتشرف النفس على الموت ، ويقول أهل المحتضر : من يرقيه للشفاء ممّا نزل به؟ والتمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء الله شيئا ؛ وأيقن المحتضر أنّ ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد. وبطلت كل حيلة ، وعجزت كل وسيلة ، والتوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما. ويتبيّن الطريق الواحد ، الذي يساق إليه كلّ حي في نهاية المطاف : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) (٣٠).

إن المشهد يكاد يتحرّك وينطق ، وكل آية ترسم حركة ، إنه مشهد الموت الذي ينتهي إليه كلّ حي ، الموت الذي يصرع الجبابرة ، بالسهولة نفسها التي يصرع بها الأقزام ، ويقهر المتسلّطين ، كما يقهر المستضعفين ، الموت الذي لا حيلة للبشر فيه ، وهم مع هذا لا يتدبرون القوة القاهرة التي تجريه.

٢٥٦

[الآيات ٣١ ـ ٣٣] : ورد أن هذه الآيات تعني شخصا معيّنا بالذات ، قيل هو أبو جهل : (عمرو بن هشام) ، وكان يجيء أحيانا إلى رسول الله (ص) ، يسمع منه القرآن ، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع ، ولا يتأدّب ولا يخشى. ويؤذي رسول الله (ص) بالقول ، ويصدّ عن سبيل الله ؛ ثم يذهب مختالا بما فعل ، فخورا بما ارتكب من الشر ، كأنه لم يفعل شيئا يذكر ، و (يتمطّى) أي يمط في ظهره ويتعاجب تعاجبا ثقيلا كريها.

وكم من أبي جهل في تاريخ الدعوة إلى الله ، يسمع ويعرض ، ويتفنّن في الصّدّ عن سبيل الله ، والأذى للدعاة.

[الآيتان ٣٤ ـ ٣٥] : ويل لك مرة بعد أخرى ، وأهلكك الله هلاكا أقرب لك من كلّ شر وهلاك ؛ وهو تعبير اصطلاحي يتضمن التهديد والوعيد ، (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) ، أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة أخرى.

روى قتادة «أن النبي (ص) أخذ بيد أبي جهل ، فقال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣٥) ، فقال عدو الله : أتوعدني يا محمّد ، والله لا تستطيع أنت وربّك شيئا ، وإنّي لأعزّ من مشى بين جبليها». فأخذه الله يوم بدر بيد المؤمنين.

[الآية ٣٦] : أيحسب الكافر أن يترك مهملا ، لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ لقد كانت الحياة في نظر القوم حركة لا علّة لها ولا هدف ولا غاية : أرحام تدفع ، وقبور تبلع ، وبين هاتين لهو ولعب ، وزينة وتفاخر ؛ فلفتت الآية نظر الإنسان إلى التقدير والتدبير في حياته ؛ وأنّه لا بدّ من البعث والجزاء ، ليتميّز الصالح من الطالح ، والمؤمن من الكافر ؛ ثمّ يأتي ما بعدها بالدلائل الواقعية على هذا القول.

[الآيات ٣٧ ـ ٣٩] : فما هذا الإنسان؟ مم خلق؟ وكيف كان؟

ألم يك نطفة صغيرة من الماء من منيّ يراق؟ ألم تتحول هذه النطفة إلى علقة ذات وضع خاص في الرحم ، تعلق بجدرانه لتعيش وتستمدّ الغذاء؟ فمن ذا الذي ألهمها هذه الحركة؟ ومن ذا الذي وجّهها هذا الاتجاه؟

ثم من ذا الذي خلقها بعد ذلك الحين جنينا معتدلا منسق الأعضاء؟ مؤلّفا جسمه من ملايين الملايين من الخلايا الحيّة ، وهو في الأصل خليّة

٢٥٧

واحدة مع بويضة؟

ومن ذا الذي قاد هذه الخلية ، وهي خليقة صغيرة ضعيفة ، لا عقل لها ولا مدارك ولا تجارب؟

ثمّ في النهاية : من ذا الذي جعل من الخلية الواحدة الذّكر والأنثى؟.

إنّه لا مفر من الإحساس باليد اللطيفة المدبّرة ، التي قادت النطفة المراقة في طريقها الطويل ، حتى انتهت بها إلى ذلك المصير : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩).

[الآية ٤٠] : وفي ختام السورة يجيء هذا الاستفهام القوي الحاسم : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠)؟ : أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السويّ ، من هذه النطفة المراقة ، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟

أليس الفعّال ، للتدبير والتقدير والنشأة الأولى ، بقادر على البعث والإحياء مرة أخرى؟.

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

وإذا سمع المؤمن هذه الآية الأخيرة من سورة القيامة فليقل : بلى قادر.

أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم ، وصحّحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله (ص) من قرأ منكم : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (١) وانتهى إلى آخرها : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨) ، فليقل بلى ، وأنا على ذلكم من الشاهدين. ومن قرأ : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) ، فانتهى إلى آخرها : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠) ، فليقل بلى ، ومن قرأ المرسلات فبلغ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ، فليقل آمنا بالله».

مقصود السورة

بيان هول القيامة ، وهيبتها ، وبيان إثبات البعث وتأثير القيامة في أعيان العالم ، حيث يزوغ البصر ، ويظلم القمر ، وتتكدّر الشمس ، ويفزع الإنسان ويقول أين المفر؟

وفي ذلك اليوم سينال كل إنسان جزاء عمله.

وبيّنت السورة آداب سماع الوحي ، والوعد باللقاء والرؤية ؛ وبيّنت هول الاحتضار ، وقدرة الله تعالى على البدء والإعادة ، وبعث الموتى وحسابهم وجزائهم ، في قوله سبحانه : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠).

٢٥٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «القيامة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة القيامة بعد سبع سور من سورة النجم ، وكان نزول سورة النجم فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة القيامة في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١). وتبلغ آياتها أربعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات البعث وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب أيضا ، ويكون ذكرها مناسبا للسورة المذكورة قبلها.

إثبات البعث الآيات

[١ ـ ٤٠]

قال الله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) ، فذكر سبحانه أنه لا يقسم بهذا على بعثهم لأنه أظهر من أن يحتاج إلى قسم ، وأنكر ما يستبعدون من جمع العظام بعد تفريقها ؛ ثم ذكر جلّ وعلا ، أنه قادر على جمع العظام وتسوية البنان كما كان قبل الموت ؛ وأبطل ما يريدونه من مضيهم في فجورهم ؛ ثم ذكر ، جلّت قدرته ، أنهم يسألون مستبعدين : أيّان يوم القيامة؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٥٩

وأجاب عن هذا بأنه إذا جاءت علامات هذا اليوم يتمنّون أن يفرّوا منه ولا مفرّ ، وبأنه لا بد من مصيرهم إليه ، لينبئ كل واحد بما قدّم وأخّر ؛ وتبصر كل نفس عملها في كتابها ، فلا تقبل معذرة عنه. ثم ذكر ، سبحانه ، ما يكون من نهي الإنسان عن التعجل في قراءة كتابه قبل أن تجمع فيه أعماله ؛ وأمره أن ينتظر حتى يقرأ عليه ، ثم يتبعه بالإقرار به. وذكر أن هذا التعجّل ناشئ من حبهم العاجلة ونسيانهم الاخرة ؛ وأنه ، بعد عرض الأعمال ، تكون وجوه أصحاب الحسنات ناضرة ، وتكون وجوه أصحاب السّيئات باسرة. ثم ختم السورة بأنه لا بدّ ، بعد موتهم ، من أن يساقوا إليه وليس معهم صدقة ولا صلاة ، ولكن تكذيب وإعراض وكبر ؛ وذكر ، جلّ وعلا ، أن من هذا شأنه أولى له فأولى ، ثم أولى له فأولى ، وأنه يحسب أن يترك من غير بعث وحساب ، وقد كان نطفة ثم علقة ، فخلقه فسوّاه ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٤٠).

٢٦٠