الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «المزّمّل» (١)

١ ـ وقال تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦).

وقوله تعالى : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هي النفس ، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض وترتفع.

أقول : ودلالة (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) على النفس ، من باب الصّفة التي حلّت محل الموصوف ، فصارت نفسه.

٢ ـ وقال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) ، أي : تصرّفا وتقلّبا في مهمّاتك وشواغلك ، ولا تفرغ إلّا بالليل ، فعليك بمناجاة الله سبحانه ، التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل.

٣ ـ وقال تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨).

أقول : كان ينبغي ، لو كان الكلام في غير القرآن ، أن يكون المصدر «تبتّلا» ، ولكن عدل عنه إلى غيره ، بسبب من مراعاة تناسب الفواصل.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٢١
٢٢٢

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «المزّمّل» (١)

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) والأصل : المتزمّل ، ولكن أدغمت التاء في الزاي و (الْمُدَّثِّرُ) مثلها.

وقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) فقال السائل عن هذا : قد قال تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) فلم قال ، سبحانه : (نِصْفَهُ)؟ إنّما المعنى «أو نصفه أو زد عليه» لأن ما يكون في معنى تكلم به العرب بغير : «أو» ، تقول : «أعطه درهما درهمين ثلاثة» تريد : «أو درهمين أو ثلاثة» (٢).

وقال تعالى : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) ومصدر تبتّل «التبتّل» كما قال سبحانه (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) [نوح] ، وقال الشاعر [من الوافر وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائتين] :

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبّعه اتّباعا

وقال [من الرجز وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين] :

يجري عليها أيّما إجراء

وذلك أنّها إنّما جرت لأنّها أجريت.

وقال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ) [الآية ٩]

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجّاج ٢ : ٧٠٥ ؛ والجامع ١٩ : ٣٥.

٢٢٣

بالرفع على الابتداء (١) والجرّ على البدل (٢).

وقال تعالى : (مَهِيلاً) (١٤) تقول : «هلته» ف «هو مهيل».

وقال تعالى : (كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١٧) بجعل (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ) من صفة اليوم ، من غير إضافة ، لعلّة الإضمار.

وقال تعالى : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) [الآية ٢٠] (٣) وقد قرئت بالجر (٤) وهو كثير ، وليس المعنى عليه ، فيما بلغنا ، لأنّ ذلك يكون على «أدنى من نصفه» ، و «أدنى من ثلثه» ؛ وكان الذي افترض الثلث ، أو أكثر من الثلث ، لأنه قرأ : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) (٣). وأمّا الذي قرأ بالجرّ ، فقراءته جائزة ، على أن يكون ذلك ، والله أعلم ، أي أنكم لم تؤدّوا ما افترض عليكم ، فقمتم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ومن ثلثه.

وقال تعالى : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [الآية ٢٠] ف «هو» و «أنتم» و «أنتما» وأشباه ذلك صفات للأسماء مضمرة كما (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٧٦) [الزّخرف]. وأمّا من قرأ : (تجدوه عند الله خير) (٥) فقد جعلها اسما مبتدأ كما تقول «رأيت عبد الله أبوه خير منه»

__________________

(١). في معاني القرآن ٢ : ١٩٨ نسبت إلى أهل الحجاز ؛ وفي الجامع ١٩ : ٤٥ إلى أهل الحرمين ، وابن محيصن ، ومجاهد ، وأبي عمرو ، وابن إسحاق ، وحفص ؛ وفي السبعة ٦٥٨ إلى ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحفص ، عن عاصم ؛ وفي التيسير ٢١٦ إلى غير من أخذ بالأخرى.

(٢). في معاني القرآن ٣ : ١٩٨ إلى عاصم ، والأعمش ؛ وفي الجامع ١٩ : ٤٥ إلى غير من أخذ بالأخرى ؛ وفي السبعة ٦٥٨ إلى عاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ؛ وفي التيسير ٢١٦ إلى أبي بكر ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي.

(٣). القراءة بالنصب في معاني القرآن ٣ : ١٩٩ ، نسبت إلى عاصم والأعمش ؛ وفي الطبري ٢٩ : ١٤٠ إلى بعض قرّاء مكة ، وعامة قراء الكوفة ؛ وفي السبعة ٦٥٧ إلى غير نافع ، وأبي عمرو ، وابن عامر ، وفي البحر ٨ : ٣٦٦ إلى زيد بن علي ، وإلى السبعة عدا العربيين ، ونافع ؛ وفي الكشف ٢ : ٣٤٥ ، والتيسير ٢١٦ ، والجامع ١٩ : ٥٢ ، إلى ابن كثير والكوفيين.

(٤). في معاني القرآن ٣ : ١٩٩ إلى أهل المدينة ، والحسن البصري ؛ وفي الطبري ٢٩ : ١٣٩ إلى عامة قرّاء المدينة والبصرة ؛ وفي السبعة ٦٥٧ إلى نافع ، وأبي عمرو ، وابن عامر ؛ وفي الكشف ٢ : ٣٤٥ ، والتيسير ٢١٦ ، إلى غير الكوفيين وابن كثير ؛ وفي البحر ٨ : ٣٦٦ إلى العربيين ونافع ؛ وفي الجامع ١٩ : ٥٢ إلى العامة ، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم.

(٥). القراءة بالرفع هي في الشواذ ١٦٤ إلى أبي السمال وفي البحر ٨ : ٣٦٧ زاد ابن السميفع. أمّا القراءة بالنصب فنسبت في البحر ٨ : ٣٦٧ إلى الجمهور.

٢٢٤

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «المزّمّل» (١)

إن قيل : ما معنى وصف القرآن بالثّقل في قوله تعالى (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها أنه كان يثقل نزول الوحي على النبي (ص) ، حتّى يعرق عرقا شديدا في اليوم الشاتي. الثاني : أن العمل بما فيه من التكاليف ، ثقيل شاق. الثالث : ثقيل في الميزان يوم القيامة. الرابع : أنّه ثقيل على المنافقين. الخامس : أنه كلام له وزن ورجحان ، كما يقال للرجل العاقل : رزين راجح. السادس : أنه ليس بسفساف ، لأن السفساف من الكلام يكون خفيفا.

فإن قيل : لم قال تعالى (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [الآية ١٨] ولم يقل سبحانه منفطرة به ، والسماء مؤنثة؟

قلنا : هو على النسبة : أي ذات انفطار. وقيل ذكّرت السماء على معنى السقف. وقيل معناه السماء شيء منفطر به. وقيل السماء تذكر وتؤنث.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [الآية ٢٠] ولم يقل تعالى أن لن تحصوهما : أي لن تعرفوا تحقيق مقادير ساعات الليل والنهار؟

قلنا : الضمير عائد إلى مصدر ، يقدّر معناه : لن تحصوا تقديرهما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٢٥
٢٢٦

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «المزّمّل» (١)

في قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) استعارة : لأن القرآن كلام ، وهو عرض من الأعراض ، والثقل والخفّة من صفات الأجسام ، والمراد بها صفة القرآن بعظم القدر ، ورجاحة الفضل ، كما يقول القائل : فلان رصين رزين. وفلان راجح ركين ، إذا أراد صفته بالفضل الراجح ، والقدر الوازن.

وفي قوله سبحانه في (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦) وقرئ : (وطاء) (٢) استعارة. والمراد بناشئة الليل هاهنا ، ما ينشأ فعله ، أي يبتدأ به من عمل الليل ، كالتهجّد في أثنائه ، والتلاوة في آنائه.

من قرأ وطئا بالقصر فالمعنى فيه أن قيام الليل أشد وطأ عليك أي أصعب وأشق ، كما يقول القائل : هذا الأمر شديد الوطأة علي. إذا وصف بلوغه منه وصعوبته عليه ومع أن عمل الليل أشد كلفة ومشقة فهو أقوم صلاة وقراءة ، للمعنى الذي قدمنا ذكره.

ومن جعل «وطاء» هاهنا اسما لما يستوطأ ويفترش ، كالمهاد وما يجري مجراه ، فقد ذهب إلى أن عمل الليل أوعث مقاما ، وأصعب مراما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). قرأ أبو العالية ، وأبو عمرو ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق ، وحميد ، وابن عامر ، والمغيرة ، وأبو حياة «وطاء» بالمد ؛ وقرأ الباقون (وَطْئاً) بفتح الواو ، وسكون الطاء ، على وزن بحر ؛ انظر «القرطبي» ج ١٩ ص ٣٩. [والقراءة المثبتة في المصحف الشريف ، هي قراءة القصر].

٢٢٧

وعندهم ، أنّ كل ما ينشأ بالليل من قراءة ، أو تهجّد ، أو طروق ، أو ترحّل أشقّ على فاعله ، وأصعب على مستعمله ، لأنّ الليل موحش هائل ، ومخوف محاذر. فكل ما وقع فيه مما أومأنا إليه ، كان كالنسيب له ، والشبيه به.

وفي قوله سبحانه : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) استعارة. والمراد بها المضطرب الواسع ، والمجال الفاسح. وذلك مأخوذ من السباحة في الماء ، وهي الاضطراب في غمراته ، والتقلّب في جهاته. فكأنه سبحانه قال : إن لك في النهار متصرّفا ومتّسعا ، ومذهبا منفسحا ، تقضي فيه أوطارك ، وتبلغ آرابك.

وفي قوله سبحانه : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) (١٧) استعارة. والمراد بها : أن الولدان الذين هم الأطفال ، لو جاز أن يشيبوا لرائع خطب ، أو طارق كرب ، لشابوا في ذلك اليوم ؛ لعظيم أهواله ، وفظاعة أحواله. وذلك كقول القائل : قد لقيت ، من هذا الأمر ، ما تشيب منه النواصي ، كناية عن فظيع ما لاقى ، وعظيم ما قاسى.

٢٢٨

سورة المدّثّر

٧٤

٢٢٩
٢٣٠

المبحث الأول

أهداف سورة «المدّثّر» (١)

سورة المدّثّر سورة مكية ، آياتها ٥٦ آية ، نزلت بعد سورة المزّمّل.

وينطبق على سورة المدّثّر ، من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها ، ما ينطبق على سورة المزّمّل ؛ فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وإيذاء المشركين للنبي (ص).

ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأنّ صدر سورة المدّثّر أول ما نزل من القرآن الكريم بعد سورة العلق ، وهو من أوّل السورة إلى قوله تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧).

وأنّ الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرة (٢).

وأيّا مّا كان السبب والمناسبة ، فقد تضمّنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلويّ ، بانتداب النبي (ص) لهذا الأمر الجلل ، وانتزاعه من النوم والتدثّر والدفء ، إلى الجهاد والكفاح والمشقة [الآيات من ١ ـ ٧].

ثم تضمّنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذّبين بالآخرة ، وبحرب الله المباشرة ، كما تضمّنت ذلك سورة المزّمّل سواء بسواء ، [الآيات من ٨ ـ ١٧].

وتعيّن سورة المدثر أحد المكذّبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده ، على نحو ما ورد في سورة

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

(٢). في ظلال القرآن ٢٩ : ١٨٠

٢٣١

القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، وقد قيل إنّه الوليد بن المغيرة [الآيات ١٨ ـ ٣٠].

ثمّ تتحدّث السورة عن عالم الغيب ، ووصف سقر ، والملائكة القائمين عليها ، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد ، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية ٣١.

ثمّ تتحدث عن مشاهد الكون ، وأدلّتها على وجود الله [الآيات ٣٢ ـ ٣٧].

كما تعرض مقام المجرمين ، ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذّبون اعترافا طويلا ، بأسباب استحقاقهم للارتهان ، والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم ، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع [الآيات ٣٨ ـ ٤٨].

وفي ظلّ هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يفضي السّياق إلى استنكارا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا ، يثير الضحك والزراية ، من نفارهم الحيواني الشّموس [الآيات ٤٩ ـ ٥١].

ويكشف السّياق عن حقيقة الغرور ، الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح ، ويبيّن أنّه الحسد للنبي (ص) ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ، والسبب الاخر هو قلّة التقوى [الآيتان ٥٢ ـ ٥٣].

وفي الختام يجيء التقرير الجازم الذي لا مجاملة فيه ، وردّ الأمر كلّه إلى مشيئة الله سبحانه وقدره [الآيات ٥٤ ـ ٥٦].

وهكذا تمثّل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي ، الذي واجه به القرآن الجاهلية وتصوّراتها ، في قلوب قريش ، كما كافح العناد والكيد ، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد ، بشتّى الأساليب. والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة ، واتجاهات سورة المزّمّل ، وسورة القلم ، ممّا يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة.

وسورة المدّثّر قصيرة الآيات ، سريعة الجريان ، منوّعة الفواصل والقوافي ، يتّئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ، وبخاصّة عند تصوير مشهد هذا المكذّب ، وهو يفكّر ويقدّر ويعبس

٢٣٢

ويبسر .. وتصوير مشهد سقر ، لا تبقي ولا تذر ، لوّاحة للبشر.

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٧] : بدأت السورة بنداء النبي الكريم (ص) ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية ، وتخليصها من الشرّ في الدنيا ، ومن النار في الاخرة.

ثم يوجه الله سبحانه رسوله الأكرم في خاصة نفسه ، بأن يكبّر ربه وحده ، فهو سبحانه الكبير المتعالي ، وهو القوي المتين ، وهو على كل شيء قدير. ويوجّهه إلى التطهير بأنواعه ، ويشمل طهارة الثوب ، وطهارة البدن ، وطهارة القلب ، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى ، ويوجهه إلى هجران الشرك ، وموجبات العذاب والتحرّز ، والتطهر من مس هذا الدّنس.

ويوجهه إلى إنكار ذاته ، وعدم المن بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه ، فكلّ ما يقدّمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه ، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار.

ويوجهه سبحانه أخيرا إلى الصبر على الطاعة ، والصبر على الأذى والتكذيب ، وعدم الجزع من أذى المخالفين.

[الآيات ٨ ـ ٣٠] : حينما ينفخ إسرافيل في الصّور ، يواجه الكافرين يوم عسير ، لا يسر فيه ولا هوادة ، بل يجدون الحساب السريع والجزاء العادل والعقاب الرادع.

وقد روى ابن جرير الطبري أنّ الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، حينما فكّر في تهمة يلصقها بالنبي (ص) ثم ادّعى أن النبي (ص) ساحر ؛ وقد كان الوليد يسمّى الوحيد ، لأنه وحيد في قومه ، فماله كثير ، فيه الزرع والضّرع والتجارة ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام وعمارة ، وقد بسط الله له الرزق ، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان يسمّى ريحانة قريش.

ويتّجه السياق إلى تهديد هذا المشرك ، فيقول تعالى ما معناه : خلّ بيني وبين هذا المشرك ، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا ، لا مال له ولا ولد ، ثمّ بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم الله عليه.

لقد أعطيته المال الكثير ، ورزقته بنين

٢٣٣

من حوله حاضرين شهودا ، فهو منهم في أنس وعزوة ، ومهّدت له الحياة ويسّرتها له تيسيرا ؛ ثمّ هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه. كلا لن نزيده من نعمنا ، بل سنذهب عنه كلّ ما أنعمنا به عليه ، لأنّه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم ؛ سأكلّفه ما لا يطيق من كربة وضيق ، كأنما يصعد في السماء ، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة.

إنّه فكّر وتروّى : ما ذا يقول في القرآن ، وبما ذا يصفه حينما سئل عن ذلك ، ثمّ لعن كيف قدّر ، ثم نظر إلى قومه في جدّ مصطنع ، وقطّب وجهه عابسا ، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره ، فقال : ما هذا القرآن إلّا سحر ، ينقله محمّد عن السحرة ، كمسيلمة وأهل بابل ، وليس هذا من كلام الله ، وإنّما هو من كلام البشر.

سأدخله سقر ، وما ذا تعلم عنها ، إنّها شيء أعظم وأهول من الإدراك ، (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) (٢٨) فهي تكنس كنسا ، وتبلغ بلعا وتمحو محوا ، فلا يقف لها شيء ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء ، وهي (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) (٢٩) تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه ، على النار تسعة عشر ، لا ندري : أأفراد من الملائكة الغلاظ الشداد هم ، أم صفوف ، أم أنواع من الملائكة وصنوف.

[الآية ٣١] : ولم نجعل المدّبرين لأمر النار إلّا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم.

وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلّا امتحانا للذين كفروا ، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحّة القرآن ، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم. ويزداد الذين آمنوا ايمانا ، وذلك بتصديق أهل الكتاب له. وتستشعر قلوب المؤمنين بحكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق. وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب ، وقلوب المؤمنين ، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله.

وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق ، والكافرون : ما ذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟

كذلك يضلّ الله من يشاء من المنافقين والمشركين ، لسوء استعدادهم ، ويهدي من يشاء من المؤمنين ، لتزكية نفوسهم ، وتوجيه استعدادهم للخير ، وما يعلم جموع

٢٣٤

خلق الله إلّا هو. وإنّ خزنة النار ، وإن كانوا تسعة عشر ، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة ، ما لا يعلمه إلّا الله سبحانه ، وما هذه السورة إلّا تذكرة للبشر.

[الآيات ٣٢ ـ ٣٨] : كلا وحقّ القمر ، والليل إذا تولّى ، والصبح إذا تجلّى ، إنّ الاخرة وما فيها ، أو سقر والجنود التي عليها ، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة ، المنذرة للبشر ، بما وراءهم من الخطر ؛ ولكلّ نفس أن تختار طريقها ، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلّف عنه.

[الآيات ٣٩ ـ ٤٨] : تعرض هذه الآيات مقام أصحاب اليمين ، فهم في جنّات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين.

ويقال لهم : أيّها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنّم؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصّلا ، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر.

قالوا دخلنا جهنّم ، لأننا لم نك من المؤمنين ، ولم نك نطعم المساكين ، وكنّا نخوض في الباطل مع الخائضين ، وكنّا نكذّب بيوم الجزاء والحساب ، حتّى جاءنا الموت الذي يقطع كلّ شكّ ، وينهي كلّ ريب ، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين ، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال.

[الآيات ٤٩ ـ ٥٦] : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) : إذا كان الحال في الاخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة ، فما بالهم معرضين عن القرآن؟ كأنهم ، في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه ، حمير نافرة ، فرّت من أسد تطلب النجاة من بطشه. تلك هيئتهم الظاهرة.

ثمّ يرسم القرآن نفوسهم من الداخل ، وما يعتلج فيها من المشاعر ؛ فيبين أنّ الحسد هو الذي منعهم من الإيمان ، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول (ص) ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن ، وإنّما حملهم على ذلك أنّهم لا يصدّقون بالآخرة ، ولا يخافون أهوالها ، وأن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر ، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به.

وما يهتدون إلّا بمشيئة الله ، هو سبحانه أهل بأن يتّقى عذابه ، وترجّى مغفرته ، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضّل بها على عباده وفق مشيئته.

٢٣٥

مقاصد السورة إجمالا

أمر النبي (ص) بدعوة الخلق إلى الإيمان ، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان ، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا ، وعشرة من البنين ، وبسط له في العيش ؛ لكنّه قابل هذه النعم بالجحود والعناد.

وذكر (جل شأنه) كيف استهزأ الوليد برسول الله (ص) ، وكيف اتّهمه بالسحر ، فأنذره تعالى بسقر ؛ ثمّ وصفها ووصف زبانية الجحيم ، وعذاب أهل النار ؛ ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم ، والمجرمين وصفاتهم ، وهي البعد عن الصلاة والإيمان ، والبخل بالمال ، والخوض في إيذاء المؤمنين. لقد سلبوا هداية السماء ، ففروا من سماع القرآن ، فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا. وحرمت قلوبهم بركة التقوى. والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.

٢٣٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المدّثّر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة المدّثّر بعد سورة المزّمّل ؛ وكان الوحي قد انقطع بعد بدء نزوله مدّة ، لم يتفق المؤرّخون عليها ؛ وأرجح أقوالهم أنها كانت أربعين يوما. وقد نزلت سورة المدّثّر بعد انقضاء هذه المدة. فيكون نزولها ، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) وتبلغ آياتها ستا وخمسين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : استنهاض النبي (ص) للدعوة ، وقد اقتضى هذا أيضا إنذار المشركين بما ينتظرهم من العذاب ، إذا لم يجيبوا ما يدعون إليه ؛ فكانت في هذا مثل السورة السابقة ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.

استنهاض النبي (ص) للدعوة

الآيات [١ ـ ٥٦]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ) (٢) فأمره أن ينهض للقيام بإنذارهم ، ويكبّره ، ويطهّر ثيابه ، ويهجر الرجز ، والمنّ على من يحسن

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣٧

إليه ، ويصبر لما أمره بتبليغه. ثم ذكر سبحانه أنه إذا نقر في الناقور ، كان يوم عسير عليهم ؛ وأمره أن يتركه ومن خلقه وحيدا ، وجعل له مالا ممدودا ؛ وذكر أنه سيرهقه صعودا ، لأنه زعم أن ما ينذر به سحر يؤثر ؛ وقد فصّل ما فصل في وعيده ، إلى أن قال تعالى فيما أوعده به من سقر : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) ؛ ثم أنكر أن تكون لهم ذكرى ، فأقسم بالقمر وما ذكر معه ، أنها لهم إحدى الكبر ، من دركات جهنم السبع ، وأنها نذير للبشر ؛ فمن شاء أن يتقدّم إلى الخير فليتقدّم ، ومن شاء أن يتأخّر عنه فليتأخّر ؛ فكل نفس مأخوذة بما كسبت إلا أصحاب اليمين ، فهم في جنّات يتساءلون عمّا سلك المجرمين في سقر ؛ فيجيبونهم بأنهم لم يكونوا من المصلّين ، إلى غير هذا مما يذكرونه من أفعالهم ؛ ثم أنكر عليهم (سبحانه) أن يعرضوا بعد هذا عن التذكرة ، (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (٥١). وذكر أن كل واحد منهم يريد أن تنزل عليه صحيفة من السماء ، تأمره باتّباع ما يدعى إليه ؛ ثم ردعهم عن هذه الإرادة ، وذكر سبحانه أن عدم خوفهم من الاخرة هو السبب في إعراضهم عن الإيمان به ، وردعهم أيضا عن هذا الإعراض ، وذكر أنه تذكرة بليغة كافية فمن شاء ذكّره بها : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦).

٢٣٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المدّثّر» (١)

أقول : هذه السورة متاخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وصدر كليهما نازل في قصة واحدة. وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السّور : أن المدّثّر نزلت عقب المزّمّل. أخرجه ابن الضريس. وأخرجه غيره عن جابر بن زيد (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وفيها كذلك زيادة : إعلام بالساعة وأهوالها في قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٨) إلى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨).

٢٣٩
٢٤٠