الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الجن» (١)

١ ـ وقال تعالى : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١).

أي : ذوي مذاهب مختلفة ، والقدد جمع قدّة من القدّ ، كالقطعة من «قطع».

أقول : والوصف ب (قِدَداً) (١١) ، أريد به البيان والتوكيد.

٢ ـ وقال تعالى : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) (١٢).

أقول : الهرب معروف ، وهو مصدر هرب يهرب.

غير أن العربية المعاصرة عرفت «الهروب» ، الذي لم يؤثر في نص قديم.

٣ ـ وقال تعالى : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (١٧).

أقول : وقوله تعالى (يَسْلُكْهُ عَذاباً) أي : يدخله ، وسلكه وأسلكه.

وأصل الفعل يتعدى إلى مفعول واحد ، فلمّا تضمّن معنى «يدخل» تجاوزه إلى المفعول الثاني.

وأصل الفعل : من قولنا سلك الخيط في الإبرة.

٤ ـ وقال تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (١٤).

والقاسطون هم الكافرون الجائرون عن طريق الحق.

والقسط هو العدل ، والفعل أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار وظلم. وهذا من غرائب الأفعال في الدلالة بين المجرّد والمزيد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّاني ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠١
٢٠٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الجن» (١)

قال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) [الآية ١]. فتحت ألف (أنه) لاعتبار الاسميّة.

وقال تعالى : (وَشُهُباً) [الآية ٨] وواحدها : الشّهاب.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٣
٢٠٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الجن» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) ولم يقل سبحانه رسول الله أو نبي الله ، والمراد به النبي محمّد (ص)؟

قلنا : لأنه (ص) ، لم يكن في ذلك المقام مرسلا إليهم ، بل اتفق مرورهم به وجوازهم عليه ؛ فلو قال تعالى رسول الله ، أو نبي الله ، لأوهم ذلك قصد أداء الرسالة إليهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) (٢٥) مع أن الأمد اسم للغاية ، والغاية تكون زمانا قريبا وزمانا بعيدا ، ويؤيده قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) [آل عمران]؟

قلنا : أراد بالقريب الحال ، وبالمجعول له الأمد المؤجّل ، سواء أكان الأجل قريبا أم بعيدا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٥
٢٠٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الجن» (١)

في قوله سبحانه : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١) استعارة. والمراد بذلك ، والله أعلم ، كنا ضروبا مختلفة ، وأجناسا مفترقة.

والطرائق : جمع طريقة. وهي ، في هذا الموضع ، المذهب والنحلة. والقدد : جمع قدّة ، وهي القطعة من الشيء المقدود طولا ، مثل فلذة وفلذ ، وقربة وقرب. وقد غلب على ما كان من القطع طولا لفظ القدّ ، وعلى ما كان من القطع عرضا لفظ القطّ. فكأنه سبحانه شبّه اختلافهم في الأحوال ، وافتراقهم في الآراء بالسّيور المقدودة ، التي تتفرّق عن أصلها ، وتتشعّب بعد ائتلافها.

وفي قوله سبحانه : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥) استعارة. والمراد أنّ نار جهنّم ، ونعوذ بالله منها ، يستدام وقودها بهم ، كما يستدام وقود النار بالحطب ، لأنّ كلّ نار لا بدّ لها من حشاش يحشّها ، ووقود يمدّها.

وفي قوله سبحانه : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) استعارة. واللّبد هاهنا ، كناية عن الجماعات المتكاثرة ، التي تظاهرت من الكفّار على النبي (ص) ، أي اجتمعوا عليه متألّبين ، وركبوه مترادفين.

فكانوا كلبد الشّعر ، وهي طرائقه وقطعه التي يركب بعضها بعضا. وواحدتها لبدة. ومنه قيل : لبدة الأسد ، وهي الشعر المتراكب على مناكبه. وذلك أبلغ ما شبّهت به

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٧

الجموع المتعاظلة ، والأحزاب المتآلفة.

وقال بعض أهل التأويل : المراد بذلك أن النبي (ص) ، لمّا صلّى الصبح ببطن نخلة منصرفا من حنين ، وقد حضره الوفد من الجن ، وخبرهم مشهور ، كادوا يركبون منكبه ، ويطئون أثوابه ، لمّا سمعوا قراءته ، استحسانا لها ، وارتياحا إليها ، وتعجّبا منها.

روي عن ابن عباس في هذا المعنى ، وهو أغرب الأقوال ، أنّ هذا الكلام من صلة كلام الجن لقومهم ، لما رجعوا إليهم ؛ (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) كما ورد في التنزيل ؛ وذلك أن النبي (ص) ، لما قام ببطن نخلة يصلي بأصحابه ، عجب الجن الحاضرون من طواعيتهم له ، في الركوع والسجود والقيام والقعود ؛ فلما رجعوا إلى قومهم ، قالوا في جملة ما قصّوه عليهم : وأنّه لما قام عبد الله يدعوه ، أي يصلي له ، كادوا يكونون عليه لبدا. أي كاد أصحابه يركبونه تزاحما عليه ، وتدانيا إليه ، واحتذاء لمثاله ، واستماعا لمقاله.

٢٠٨

سورة المزّمّل

٧٣

٢٠٩
٢١٠

المبحث الأول

أهداف سورة «المزّمّل» (١)

سورة المزّمّل سورة مكية ، آياتها ٢٠ آية ، نزلت بعد سورة القلم.

إنها تحمل النداء الإلهيّ ، للنبيّ الكريم ، بقيام الليل ، وقد جعله الله فريضة في حقّه ، نافلة في حق أمته ، قال تعالى :

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء].

وفي كتب السنّة ، ما يفيد أن السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ؛ فقد كان (ص) يعيش بين قومه في الجاهلية ، ثم حبّب الله اليه الخلوة ، ليتأمّل في ملكوت السماوات والأرض ، وليعدّ الله هذه النفس الطيّبة لتحمّل أعباء الرسالة. ثم فجأه الوحي وهو في غار حراء ، قال له جبريل : اقرأ ، قال النبي (ص) ما أنا بقارئ ، ثلاث مرات ، فقال جبريل ، كما ورد في التنزيل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) [العلق].

وقد عاد النبي (ص) إلى خديجة رضي الله عنها وأخبرها الخبر ، فقالت له : «أبشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة».

ثم فتر الوحي مدة عن النبي (ص) ، إلى أن كان بالجبل مرة أخرى ، فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثا وهوى إلى الأرض ؛ وانطلق إلى

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢١١

أهله وهو يرتجف ويقول : «زمّلوني ، دثّروني» ففعلوا ، وظل يرتجف ممّا به من الرّوع ، وإذا جبريل يناديه ، كما ورد في التنزيل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١).

وسورة «المزّمّل» تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية. إنّها تنادي النبيّ الكريم ، وتأمره بقيام الليل ، والصلاة وترتيل القرآن ، والذكر والخاشع المتبتّل ، والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذّبين ، والتخلية بينهم وبين الجبّار القهّار.

وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة ، والتخفيف والتيسير ، والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠).

والسورة ٢ مثّل صفحة من جهاد النبي الكريم ، وآله وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه ، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة. فقد قام النبي (ص) في مكة والمدينة ، داعيا إلى الله صابرا محتسبا ، مهاجرا ، مجاهدا ، مربّيا ، ناشرا لدعوة الله بكل ما يملك ، منذ خاطبه تعالى بالقرآن : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢).

وكان قيام الليل هو الزاد الروحيّ ، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم ، حتى يصدع بالدّعوة ، ويتحمّل في سبيلها كل بلاء ، وليصبر ويصابر ، وليحتسب كل جهد في سبيل الله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠).

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٤] : أمر الله تعالى رسوله الأكرم أن يقوم ، من الليل ، ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ؛ فهو مخيّر في ذلك ، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة ، مع حضور القلب ، لتدبّر معانيه ، وفهم مقاصده.

[الآية ٥] : والقرآن الكريم يسّره الله تعالى للقراءة ، ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل بأثره في القلوب ، ثقيل بقيمته الراجحة ، ومعانيه الراقية وما فيه من تكاليف وأعباء.

[الآية ٦] : إنّ قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان ، وأعدل قولا.

[الآية ٧] : وفي النهار متّسع لشئوون المعاش ، ولك فيه تصرف في مهام أمورك ، واشتغال بمشاغلك.

٢١٢

[الآيتان ٨ ـ ٩] : واتّجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب ، واذكره ، وتضرّع إليه ، في إنابة وطاعة وإخلاص ؛ سبحانه ، ربّ الكون كلّه ؛ والتوكّل عليه هو التوكل الواجب في هذا الوجود.

[الآية ١٠] : واصبر على ما يقولون في حقّك وحقّ ربك ، واهجرهم هجرا جميلا ، بأن تجانبهم وتغضي عن زلّاتهم ولا تعاتبهم.

[الآية ١١] : ثم توعّد المشركين وتهدّدهم ، وقال لنبيه : اترك عقابهم لي وحدي ، فأنا كفيل بهم ، هؤلاء الذين تنعّموا في نعمائي ، أمهلهم وقتا قليلا ، وسترى ما يحلّ بهم.

[الآية ١٢] : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم ، كلّما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل ، ثم هناك الجحيم.

[الآية ١٣] : والطعام ذو الغصّة ، الذي يمزّق الحلوق ؛ والعذاب الأليم ، جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله.

[الآية ١٤] : ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض ، فتضطرب وتهتزّ ؛ وإلى الجبال فتتمزّق أجزاؤها ، وتصير كالصوف المنفوش ، أو كومة الرمل المهيلة ، بعد أن كانت حجارة صمّاء متماسكة.

[الآيتان ١٥ ـ ١٦] : ويلتفت القرآن الكريم إلى أهل مكة فيخاطبهم ، ويهزّ قلوبهم هزّا ، ويخلعها خلعا ؛ بعد مشهد الأرض والجبال ، وهي ترتجف وتنهار ، فيحذّرهم ممّا أصاب فرعون الجبّار ، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ؛ ومضمون القول : لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصاه ، فأخذناه أخذا وبيلا ؛ وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، فاحذروا أن تعصوه ، فيصيبكم مثل ما أصاب فرعون.

[الآيتان ١٧ ـ ١٨] : وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا ، كما أخذ فرعون ؛ فكيف تتّقون عذاب يوم القيامة ؛ وهو هول يشيّب الولدان ، وتنشق السماء من شدّته ؛ وكان وعد الله ثابتا مؤكّدا لا خلف فيه ، وهو سبحانه فعّال لما يريد.

[الآية ١٩] : وأمام هول الاخرة يقول لهم ما معناه : إن هذه الآيات تذكرة وعبرة ، فمن شاء اعتبر بها ، واتّخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم ، قبل مجيء هذا الهول العصيب.

٢١٣

وفي الآية الأخيرة من السورة ، نجد لمسة التخفيف النديّة ، ودعوة التيسير الإلهي ؛ فقد لبّى النبيّ (ص) الدعوة إلى قيام الليل ، ولبّى المسلمون الدعوة ، وتجافت جنوبهم عن المضاجع ، وقاموا الليل حتّى تورّمت أقدامهم من طول القيام ؛ وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله ، سبحانه ، يعلم أنّ الرسول (ص) يقوم الليل ؛ وأنّه سبحانه يرى تقلّبه (ص) في الساجدين ؛ وأنّه سبحانه يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما ، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض ؛ وإن نقصتم شقّ هذا عليكم ، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر ؛ وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسّر من الليل ، على قدر طاقتكم.

وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى ، وهي أنه سبحانه علم أن سيكون منكم مرضى ، وآخرون يسيحون في الأرض ، يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم ، وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، فقد علم الله تعالى أن سيأذن لكم في الانتصار ممّن ظلمكم بالقتال ، فصلّوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل ، بدون تقيّد بقدر محدّد ، وأقيموا الصلاة المفروضة ، وآتوا الزكاة الواجبة ، وتصدّقوا بعد ذلك قرضا لله ، يبق لكم خيره ، ويردّه الله إليكم أضعافا مضاعفة. وما تقدّموا لأنفسكم من صدقة ، أو عمل صالح في الدنيا ، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة ، خيرا ممّا أوتيتم في دار الدنيا ، وأعظم منه أجرا ؛ واتّجهوا إلى الله مستغفرين ، إن الله غفور رحيم.

إنّها لمسة الرحمة والتخفيف ، بعد عام من الدعوة إلى القيام ؛ وقد خفّف الله سبحانه عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوّعا لا فريضة.

أمّا رسول الله (ص) فقد مضى على نهجه مع ربّه ، لا يقلّ قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربّه ويستمدّ منه العون والتوفيق ، في أداء رسالته. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) [هود].

خلاصة أحكام السورة

أمر الله عزوجل رسوله (ص) بما يأتي :

١ ـ قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه.

٢١٤

٢ ـ قراءة القرآن بتؤدة وتمهّل.

٣ ـ ذكر ربه ليلا ونهارا ، بالتحميد والتسبيح والصلاة.

٤ ـ التوكّل على الله سبحانه ، والاعتماد عليه.

٥ ـ الصبر على ما يقول الكفّار فيه ، من أنّه ساحر أو شاعر ؛ وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ؛ وأن يكل أمرهم إلى ربّهم فهو الذي يكافئهم ، وسيرى عاقبة أمرهم.

٦ ـ التخفيف من صلاة الليل ، بعد أن شقّ ذلك عليهم لأعذار كثيرة ؛ والاكتفاء بما تيسّر من صلاة الليل ؛ ففي الصلاة المفروضة غنية للأمّة ، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.

٢١٥
٢١٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المزّمّل» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة المزمّل بعد سورة القلم ، وكان نزول سورة القلم فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة المزمّل في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) وتبلغ آياتها عشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة تهيئة النبي (ص) للدعوة ، وقد اقتضى هذا أمره بالصبر عليهم وإنذاره لهم. وقد ناسبت ، بهذا الإنذار ، سياق السورة السابقة في إنذارها ، ولهذا ذكرت بعدها.

تهيئة النبي (ص) للدعوة

الآيات [١ ـ ٢٠]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) (٢) فأمره بقيام الليل ، وترتيل القرآن ؛ ليستعين بهذا على ما سيلقي إليه من القول الثقيل ، والتكليف الشاق ؛ وينشئ نفسا أشدّ موافقة لدعوته وأقوم قيلا ؛ ثم أمره سبحانه أن يداوم على ذكره ، ويصبر على ما يقولون في حقه ، وأن يتركه ، ومن أبطرتهم النعمة منهم ، فإنّه سيمهلهم ثمّ يذيقهم من عذابه أنكالا وجحيما ؛ وسيهلكهم ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٧

كما أهلك فرعون حينما عصى رسوله ، فأخذه أخذا وبيلا ؛ وهذه عظة لهم ، ليدركوا أنفسهم قبل أن يحيق العذاب بهم ؛ ثم خفّف عليه وعلى أتباعه ما فرضه من قيام معظم الليل ، ومداومة ترتيل القرآن ، فكلّفهم من هذا بما يطيقون ، ووعدهم عليه عظيم الأجر فقال سبحانه : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠).

٢١٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المزّمّل» (١)

أقول : لا يخفى وجه اتّصال أوّلها : (قُمِ اللَّيْلَ) [الآية ٢]. بقوله تعالى في آخر تلك : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) [الجن : ١٩]. وبقوله سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). من المناسبة أنه تعالى لمّا قال في نهاية الجن : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن]. افتتح المزمّل بذكر بداية إرسال النبي (ص) ، وما كلّف به من شعائر العبودية والعبادة والدعوة. وذلك لأنّ النبيّ (ص) بعث بين يدي الساعة ، كما جاء في السنّة ؛ وقد قال تعالى في الجن : (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) [الآية ٢٥]. فكأنه قال : هذه المزمّل علم من أعلامها ، فهو الذي اصطفاه سبحانه ، ليظهره على غيبه ، وأنه بين يدي الساعة.

٢١٩
٢٢٠