الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

تعالى قال : والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت ، من جهة أنه مضمّن به.

وفي قوله سبحانه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) استعارة. والمراد بالبساط هاهنا : المكان الواسع المستوي. مشبّه بالبساط ، وهو النمط الذي يمدّ على الاستواء ، فيجلس عليه.

وقال الأصمعي (٥) : وبنو تميم خاصة يقولون بساط ، بفتح الباء. وقال الشاعر (٦) :

ودون يد الحجّاج من أن ينالني بساط لأيدي الناعجات (٧) عريض وتصيير الأرض بساطا ، كتصييرها فراشا ومهادا.

وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد.

__________________

(٥). هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب ، الراوية المشهور ، وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده «أصمع» ؛ وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي ، ويتحف بها الخلفاء ، فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش : ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت ، وتوفي بالبصرة سنة ٢١٦.

(٦). هو العديل بن الفرج ، ولقبه العباب : والعباب اسم كلب له ، فلقّب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج بن يوسف ، فطلبه ، فهرب منه إلى قيصر ملك الروم ، فقال أبياتا منها هذا البيت وأخباره في «الشعر والشعراء» ص ٣٧٥ ، و «الأغاني» ج ٢٠ ، و «الخزانة» ج ٢.

(٧). في «الشعر والشعراء «اليعملات» والناعجات هي النياق البيض. واليعملات : جمع يعملة ، وهي الناقة المطبوعة على العمل.

١٨١
١٨٢

سورة الجنّ

٧٢

١٨٣
١٨٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الجنّ» (١)

سورة الجن سورة مكية ، آياتها ٢٨ آية ، نزلت بعد سورة الأعراف.

وهي سورة تصحّح كثيرا من المعلومات الخاطئة لأهل الجاهلية عن الجن ، فقد كانوا يزعمون أن محمّدا (ص) ، يتلقّى من الجن ما يقوله لهم عنها ، فتجيء الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها ، وبتكذيب دعواهم في استمداد محمّد (ص) من الجن شيئا.

والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلّا حينما سمعوه من محمّد (ص) ، فهالهم وراعهم ومسّهم منه ما يدهش ويذهل ، فانطلقوا يحدّثون عن هذا الحدث العظيم ، الذي شغل السماء والأرض ، والإنس والجن والملائكة والكواكب ، وترك آثاره ونتائجه في الكون كلّه ، وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشريّة حتما.

أوهام عن الجن

كان العرب يبالغون في أهمّية الجن ، ويعتقدون أنّ لهم سلطانا في الأرض ، فكان الواحد منهم ، إذا أمسى بواد أو قعر ، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض ، فقال أعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه ، ثم بات آمنا.

كذلك كانوا يعتقدون أنّ الجنّ تعلم الغيب ، وتخبر به الكهّان ، فينبئون بما يتنبّأون ؛ وفيهم من عبد الجنّ ، وجعل بينهم وبين الله نسبا ؛ وزعم أن له

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٨٥

سبحانه وتعالى زوجة منهم ، تلد له الملائكة. وهكذا نجد كثيرا من الأوهام والأساطير ، تغمر قلوب الناس ومشاعرهم ، وتصوّراتهم عن الجن في القديم ، ولا تزال هذه الأوهام ، تسود بعض البيئات إلى يومنا هذا.

ونجد في الصف الاخر ، منكرين لوجود الجنّ أصلا ، يصفون أيّ حديث عن هذا الخلق المغيّب ، بأنه حديث خرافة ...

وبين الإغراق في الوهم ، والإغراق في الإنكار ، يقرّر الإسلام حقيقة الجن ، ويصحّح التصوّرات العامة عنهم ، ويحرّر القلوب من خوفها ، وخضوعها لسلطانهم الموهوم.

الجن في القرآن

تحدث القرآن الكريم عن الجن في عدد من السور ، وعالج الأخطاء الشائعة عن الجن ، وأثبت الحقيقة المتعلقة بالجن ، وقدّم للإنسان صورة واضحة دقيقة متحرّرة من الوهم والخرافة ، ومن التعسّف في الإنكار الجامح ؛ فالجنّ عالم نؤمن به ، وبخصائصه ، كما وردت في القرآن الكريم ؛ ولا يظهرون للعين ، ولا يراهم الإنسان بحاسّة البصر.

والجنّ منهم الضّالّون المضلّون ، ومنهم السذّج الأبرياء ، الذين ينخدعون ، ومنهم المستقيمون على الطريق القويم والمنهج السليم. وليس للجن معرفة بالغيب ، وليس لهم قوة ولا حيلة مع قوة الله ، وليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب. وقد كان إبليس من الجن ، ثم فسق عن أمر ربه ، وتمحّض بالشرّ والفساد والإغراء. وقد خلق الجن من النار ، كما خلق الإنسان من الطين. وقد سخّرت الجن لسليمان (ع) ، فمنهم من كان يبني له المساجد والمنازل والأبنية المختلفة ، ومنهم من كان يغوص في البحر يستخرج له اللؤلؤ والياقوت والأحجار الكريمة ، وسلّطه الله على المردة والخارجين على القانون ، فكان يقيّدهم في السلاسل والأغلال ، ويسخّرهم في الأعمال ، ويرهقهم بألوان العذاب.

وقد جعل الله سبحانه السيطرة على الجن منحة خاصة لسليمان (ع) ، فقد سأل ربه ملكا لا يتهيّأ لأحد من بعده ،

١٨٦

فأعطاه الله ملك الريح والجن والشياطين والمردة :

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠) [ص].

«إن الكون من حولنا حافل بالأسرار ، عامر بالأرواح ، حاشد بالقوى ، وهذه السورة من القرآن ، كغيرها من السّور ، تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود ، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود ، وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعجّ من حولنا ، وتتفاعل مع حياتنا. وهذا التصوّر هو الذي يميّز المسلم ، ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة ، وبين الادّعاء والتطاول ، ومصدره هو القرآن والسنة ، وإليهما يحاكم المسلم كلّ تصوّر آخر ، وكلّ قول ، وكلّ تفسير» (١).

استماع الجن للقرآن

في كتب السنّة ، ما يفيد أن الجن قد استمعت للقرآن عرضا دون قصد ، فأسلمت وآمنت ، وانطلقت تدعو قومها إلى الإسلام.

وفي روايات أخرى ، أن النبي (ص) انطلق متعمّدا ليبلّغ دعوته إلى الجن. وقد افتقده أصحابه ذات ليلة ، فاشتدّ بهم القلق ، وباتوا بشرّ ليلة بات بها قوم ؛ فلمّا أصبحوا جاءهم النبي (ص) من قبل حراء فقال : «أتاني داعي الجنّ فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». والروايتان السابقتان واردتان في الصحيح ؛ إحداهما عن ابن عبّاس ، يقول : إنّ النبي (ص) لم يعرف بحضور النفر من الجن ، والرواية الثانية عن ابن مسعود ، تقول إنهم استدعوه (ص) ، ويوفّق البيهقي بين الروايتين ، بأنهما حادثان لا حادث واحد.

وفي رواية ثالثة لابن إسحاق : أنّ الجن استمعت إلى النبي (ص) ، ليلة عودته من الطائف قبل الهجرة.

ولعلّ الجنّ قد استمعت للنبي (ص)

__________________

(١). في ظلال القرآن ٢٩ : ١٥١.

١٨٧

غير مرة ، وكان في استماع الجن للنبي (ص) ، بمكّة قبل الهجرة ، تطييبا لخاطره ، وتصديقا لدعوته ، وتحقيقا للحق بشأن الجن ، وتصحيحا لمفاهيم الجاهلية عن الجن ، وترشيدا للمسلمين ليكون إيمانهم عن بينة. وقد ساقت سورة الجنّ كثيرا من الحقائق عن الألوهيّة والعقيدة والوحدانية ، وإخلاص العبادة لله سبحانه ؛ فهي سورة الجنّ ، ولكنها توجيه وإرشاد وتعليم للخلق أجمعين.

أسماء السورة

نلاحظ أنّ السورة في القرآن ، تسمّى بأغرب شيء فيها ، أو أهمّ شيء فيها ، فسورة البقرة اشتملت على قصة قتيل ضرب بقطعة من البقرة ، فردّت إليه الحياة. وسورة آل عمران اشتملت على قصة مريم ابنة عمران ، وسورة النساء اشتملت على ذكر أحكام النساء. وسورة المائدة اشتملت على قصة المائدة التي نزلت من السماء استجابة لدعاء عيسى (ع).

كما سمى الله سبحانه سور كتابه الكريم ، بأسماء تبعث على النظر والاعتبار ، وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت ، وبما هو ألطف من ذلك كالنور ؛ كما سمى ببعض الأنبياء ، كيوسف ويونس وهود عليهم‌السلام ؛ وببعض الأخلاق كالتوبة ؛ وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم ؛ وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ؛ وببعض المعادن كالحديد وببعض الأماكن كالبلد ؛ وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.

وهنا ، سمّى هذه السورة بعالم لا نراه ، وهو عالم الجن ، وهو عالم لم يعرف في الإسلام إلّا من طريق الوحي ، وليس للعقل دليل عليه ؛ فالمؤمن يؤمن بالغيب ، ويؤمن بالملائكة وبالجن ، على نحو ما ورد في القرآن.

وسمّيت السورة سورة الجن ، لأنّها تحدّثت عنهم ، وبدأت بذكرهم ، فقالت : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) (١).

مع آيات السورة

[الآيتان ١ ـ ٢] : تطالعنا السورة ، بأنّ الجنّ فوجئت باستماع القرآن

١٨٨

الكريم ، فقالوا لقومهم إنّا سمعنا كتابا بديعا يهدي إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم ، فصدّقنا به ، ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك بالله.

[الآية ٣] : ثم نزّهوا ربّهم عن الزوجة والولد ، فقالوا : علا ملك ربنا وسلطانه ، أن يكون ضعيفا ضعف خلقه ، الذين تضطرّهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة ، أو ملامسة يكون منها الولد ؛ وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، جاءته من صهر مع الجن ؛ فجاءت الجنّ ، تكذّب هذه الخرافة الأسطورية ، في تسبيح لله وتنزيه.

[الآية ٤] : وأنّ الجهّال من الجن ، كانوا يقولون قولا شططا بعيدا عن الصواب ، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.

[الآية ٥] : وأنّهم ، كانوا يستعظمون أن يجرأ أحد على الكذب على الله ؛ فلمّا قال لهم سفهاؤهم : إن لله صاحبة وولدا ، صدّقوهم ، لأنهم لم يتصوّروا أنهم يكذبون على الله.

[الآية ٦] : وأنّ رجالا من الإنس ، كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن ، فزادوا الجنّ بذلك طغيانا وغيّا ؛ وأنّهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ، ولم يستعيذوا بالله ، استذّلوهم واجترءوا عليهم.

[الآية ٧] : ظنّت الطائفة الظالمة من الجن ، أنّ الله لن يبعث رسولا إلى خلقه ، يدعوهم إلى توحيده ، والإيمان برسله ، واليوم الاخر.

أو ظنّوا أن لن يبعث الله أحدا بعد الموت ، وهذا الظنّ مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله. وهؤلاء النفر من الجنّ المؤمن ، يصحّحون لقومهم ظنّهم ؛ والقرآن ، في حكايته عنهم ، يصحّح للمشركين أوهامهم.

[الآيتان ٨ ـ ٩] : كان الجن يحاولون الاتصال بالملإ الأعلى ، واستراق شيء ممّا يدور فيه بين الملائكة ، عن شؤون الخلائق في الأرض ، ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرّافين ، الذين يستغلّون الكثير من الحق ، فيمزجونه بالكثير من الباطل ، ويروّجونه بين جماهير الناس.

وبعد رسالة النبي محمد (ص) ؛

١٨٩

حاول الجن استراق السمع من السماء ، فلم يتمكّنوا ، لأنّ الحراسة شدّدت على السماء ، ومن حاول استراق السمع ومعرفة الغيب ، رجم بالشهب فقتلته ، أو خبلته.

[الآية ١٠] : إن الجن لا تعلم شيئا عن الغيب المقدّر للبشر ، ولا يدرون الحكمة من حراسة السماء بالشهب ، ولا ما ذا قدّر الله لعباده في الأرض ، أعذابا أراد الله أن ينزله بهم ، أم أراد بهم ربهم الهدى ، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا ، يهديهم إلى الحق ، والى طريق مستقيم.

[الآية ١١] : من الجن الصالح والطالح ، ومنهم المسلم والجائر ، فهم مثلهم مثل الإنسان في طبيعته ، لديهم استعداد للخير والشرّ ، إلّا من تمحّض منهم للشر ، وهو إبليس وقبيله.

[الآية ١٢] : إن الله قادر علينا حيث كنا ، فلا نفوته هربا ؛ فهم يقررون ضعف المخلوق أمام الخالق ، ويشعرون بسلطان الله القاهر الغالب.

[الآية ١٣] : لمّا سمعنا القرآن صدّقنا به ، وأقررنا بأنه من عند الله. ومن يصدق بالله وبما أنزله على رسله ، فلا يخاف نقصا من حسناته ، ولا هوانا ولا جورا ؛ لأنّ المؤمن في حماية الله وعونه ورعايته ، وسينال جزاءه وافرا كاملا.

[الآية ١٤] : من الجن فريق مؤمن ، أطاع الله واستقام على الهدى ، وفريق قاسط جائر مائل عن الصواب. وقد وصل الفريق المؤمن إلى الصواب ، حينما اختار الإسلام ، وحرص على الرشد والاهتداء.

[الآية ١٥] : أمّا الجائرون عن سنن الإسلام ، فشأنهم أن يكونوا حطبا لجهنّم ، تتلظّى بهم وتزداد اشتعالا ، كما تتلظّى النار بالحطب.

[الآية ١٦] : يلتفت القرآن في الخطاب ، وينتقل من الحديث على لسان الجن ، إلى مخاطبة الرسول (ص) والخلق أجمعين فيقول ما معناه : لو استقام الإنس والجن على ملّة الإسلام ، لوسّعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم خيرات الحياة.

[الآية ١٧] : وهذه النعم للاختبار والابتلاء ، فمن شكر النعمة وأحسن

١٩٠

التصرّف فيها استحق بقاءها ؛ ومن أعرض عن منهج الله ، دخل في العذاب الشاقّ الذي يعلوه ، ويغلبه ولا يطيق له حملا.

[الآية ١٨] : إنّ السجود ، أو مواضع السجود ، وهي المساجد ، لا تكون إلا لله ؛ فهناك يكون التوحيد الخالص ، ويتوارى كلّ ظلّ لأيّ كائن ، ولكل قيمة ، ولكل اعتبار ؛ وينفرد الجو للعبودية الخالصة لله.

[الآية ١٩] : لمّا قام محمد (ص) يعبد الله ، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض ، تعجّبا مما شاهدوا من عبادته ، وسمعوا من قراءته ، واقتداء أصحابه ، قياما وركوعا وسجودا. وأخذوا ودهشوا من جلال ما سمعوا ، وروعة ما شاهدوا ؛ وهو دليل على انشغال السماء والأرض والملائكة والجنّ بهذا الوحي ، وعلى الجد الذي يتضمّنه : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) [الطارق].

[الآية ٢٠] : قل يا محمّد للناس : إنما أعبد الله وحده ، ولا أشرك بعبادته صنما ، ولا وثنا ، ولا مخلوقا.

[الآية ٢١] : قل إني لا أملك لكم نفعا ولا ضرّا ؛ فالله وحده هو الذي يملك الضرّ ، ويملك الخير.

[الآيتان ٢٢ ـ ٢٣] : إنّي لا أجد ملجأ أو حماية من دون الله ، إلّا أن أبلّغ هذا الأمر ، وأؤدّي هذه الأمانة ؛ فهذا الأمر ليس أمري ، وليس لي فيه إلّا التبليغ ، ولا مفرّ لي من هذا التبليغ ؛ والرسالة ليست تطوّعا ، وإنّما هي تكليف صارم جازم ، لا مفرّ من أدائه ، فالله من ورائه ؛ يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧].

ومن يكذّب برسالات الله ، فإن له نارا يصلاها ، خالدا فيها إلى غير نهاية.

[الآية ٢٤] : وإذا كان المشركون ، يركنون إلى القوة والعدد ، ويقيسون قوّتهم بقوة محمد (ص) والمؤمنين القلائل الذين معه ؛ فسيعلمون حينما يرون ما يوعدون : أيّ الفريقين هو الضعيف المخذول ، والقليل المهزول.

[الآية ٢٥] : ويتجرّد الرسول (ص) وينفض يده من أمر الغيب ، فالعذاب

١٩١

الذي يتوعّد به الكافرين ليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا ، ولا يدري : أقريب هو أم بعيد ، يجعل الله له أمدا ممتدّا ، سواء عذاب الدنيا أو عذاب الاخرة ، فكلّه غيب في علم الله.

[الآية ٢٦] : والله سبحانه هو المختصّ بالغيب ، دون العالمين.

[الآية ٢٧] : والرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه وطريقته والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ ... إلى آخر ما يتعلّق بموضوع رسالتهم ، ممّا كان في ضمير الغيب ، لا يعلمه أحد منهم.

وفي الوقت عينه ، يحيط هؤلاء الرسل الكرام ، بالأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ وللرقابة ، يحمونه من وسوسة النفس وتمنّياتها ؛ ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف ، ومن سائر ما يعترض البشر من النقص والضعف.

والخلاصة : أنّه يدخل حفظة من الملائكة ، يحفظون قوى الرسول الظاهرة والباطنة ، من الشياطين ؛ ويعصمونه من وساوسهم.

[الآية ٢٨] : وهذه الحراسة الشديدة ليظهر الله للناس ، أجمعين ، أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم ، غير مشوبة بتخليط من الجن أو من الجنون. وهو ، سبحانه ، محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط ، وهو ، سبحانه ، قد أحصى كل شيء عددا ، فلا تقتصر إحاطته على ما لدى الرسل ، بل يحيط بكل شيء إحصاء وعدّا ، وهو أدق أنواع الإحاطة والعلم.

وبهذا الإيقاع الهائل الرهيب ، تختم السورة التي بدئت بروعة الجن من سماع القرآن ، وختمت بإحاطة الله الشاملة لمن يؤدون رسالته ، وحمايته سبحانه لمن يبلغون دعوته ؛ وقد وسع علمه تعالى السماوات والأرض ، وكل ما في الوجود.

المقصد الإجمالي للسورة

اشتملت سورة الجن على مقصدين :

١ ـ حكاية أقوال صدرت عن الجن حينما سمعوا القرآن ، كوصفهم له بأنه كتاب يهدي إلى الرشد ، وأن الله

١٩٢

سبحانه تنزّه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أنّ أحدا يكذب على الله ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون في القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأنهم لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.

٢ ـ ما أمر النبي (ص) بتبليغه إلى الخلق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، وأنّه لا يمنعه أحد من الله إن عصاه ، وأنه (ص) لا يدري متى يكون وقت تعذيبهم ، فالعلم لله وحده.

١٩٣
١٩٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الجن» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الجنّ بعد سورة الأعراف ، وكان نزولها في رجوع النبي (ص) من الطائف ؛ وكان قد سافر إليها ، ليدعو أهلها في السنة العاشرة من البعثة ، فيكون نزول سورة الجن ، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) (١) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : ذكر قصة إيمان الجن ، لما فيها من العظة والإنذار للمشركين ؛ وكذلك كان الغرض من ذكر قصة نوح (ع) في السورة السابقة ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.

قصة إيمان بعض الجن

الآيات [١ ـ ٢٨]

قال الله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) ، فذكر قصة إيمان بعض الجن في خمس عشرة آية منها ؛ ثم ذكر سبحانه أنه لو استقام المشركون على طريقة الإيمان ، كما استقام من آمن من الجن لأسقاهم ماء غدقا ؛ وأن من يكفر به يسلكه عذابا صعدا ؛ (وَأَنَّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩٥

الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) ؛ وأن النبي (ص) ، لمّا قام يدعوه تظاهروا عليه ، وقد أمره أن يخبرهم بأنه إنما يدعو إلى ربّه ويقوم بما يجب له عليه ، وهو لا يملك شيئا من كفرهم أو إيمانهم ؛ وبأنه لن يجيره منه ، إلّا أن يبلّغهم ما أرسله به إليهم ؛ ثم ذكر أن من يعصيه سبحانه ويعصي رسوله ، يخلّده في نار جهنم ؛ فإذا رأوا ما يوعدون منها ، يعلمون أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا. ثم أمره أن يخبرهم ، بأنه لا يدري متى يكون ما يوعدون به من ذلك ، لأنه من علم الغيب الذي اختص به الله سبحانه ، ولا يطلع عليه الا من يرتضيه من رسله ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨).

١٩٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الجن» (١)

أقول : قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها ، فلم يظهر لي سوى أنه قال تعالى في سورة نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) (١١). وقال في هذه السورة : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١٦). وهذا وجه بيّن في الارتباط (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). ومن المناسبة بين السورتين : أنه تعالى ذكر في نوح : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) (٢١) ومضى في بيان كفرهم وضلالهم ، حتّى دعا عليهم نوح : ثم بيّن في أوّل الجن : أنهم كالإنس في الإيمان والكفر ، وأن لكفّار الجن اتصالا بكفّار الإنس ، فقال تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٦). (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١). (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [الآية ١٤]. فكانت هذه السورة لبيان الصلة بين الجن والإنس ، وبيان المقارنة بينهما.

١٩٧
١٩٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الجن» (١)

١ ـ (سَفِيهُنا) [الآية ٤].

قال مجاهد : هو إبليس. أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). والطبري في «تفسيره» ٢٩ : ٦٧.

١٩٩
٢٠٠