الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

سورة نوح

٧١

١٦١
١٦٢

المبحث الأول

أهداف سورة «نوح» (١)

سورة نوح سورة مكية ، آياتها ٢٨ ، نزلت بعد سورة النحل.

فكرة السورة

السورة قصة نبيّ من أولي العزم من الرسل ، أرسله الله تعالى إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان ، فقاوموا دعوته ، وأنكروا رسالته ، فلفت نوح (ع) نظرهم إلى التأمّل في خلق السماء والشمس والقمر ، والأرض والنبات وسائر المخلوقات ، ولكنّهم صمّوا آذانهم عن سماع الحق ، وحجبوا عيونهم عن النظر في الأدلّة الواضحة والحجّة الدامغة ، فاستحقّوا عقاب الله وأغرقوا بالطوفان في الدنيا ، ولهم في الاخرة عذاب شديد.

أهداف الرسالات

السورة نموذج حيّ لمعاناة الرسل مع قومهم ، وجهادهم في سبيل الدعوة ، لقد مكث نوح (ع) مع قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما ، وما آمن معه إلّا قليل ؛ ولقد كان عناد قومه سببا في هلاكهم. وكأن الله سبحانه أراد أن يحذّر أهل مكة من العناد ، وأن يذكّرهم بمن أهلك من الكافرين ؛ قال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧) [الإسراء].

يعني لقد أهلك الله قوم نوح ، وأهلك من بعده عددا كبيرا كعاد وثمود وفرعون ؛ وكان هلاكهم جزاء عادلا ، وعقابا مناسبا ، لقوم يعلم الله إصرارهم

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٦٣

على الكفر ، وبعدهم عن قبول الحق.

لقد صبر الرسل ، وصابروا ، من أجل إبلاغ الدعوة إلى قومهم ، وحملوا كلمة الله ناصعة نقية واضحة سليمة ، وعرضوها أمام العيون والقلوب لتبصر وترى آثار قدرة الله وعظيم خلقه ، وليكون إيمانها عن بيّنة ويقين ، ولئلا يحتجّ إنسان يوم القيامة بأن الرسالة لم تبلغه ؛ قال تعالى :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].

ومن هؤلاء الرسل ، خمسة كانوا أكثر معاناة مع قومهم ، وهم سيدنا نوح ، وسيدنا ابراهيم ، وسيدنا موسى ، وسيدنا عيسى ، وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام.

وقد كان جهادهم مع قومهم ، آية في تحمّل البلاء والصبر على الإيذاء والعناد ، قال تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥].

لقد صبر نوح (ع) دهرا طويلا على قومه ، وألقي ابراهيم (ع) في النار ، وأوذي موسى (ع) أبلغ الأذى فصبر ، وحاول اليهود الإيقاع بالمسيح (ع) والإغراء بقتله فرفعه الله تعالى اليه ، وكان خاتم الرسل محمد (ص) يتحمّل صنوف الأذى وألوان الاضطهاد في مكّة ، ويتحمل نفاق المنافقين وكيد اليهود في المدينة. ولكنّ العاقبة كانت للمتقين. لقد أدّى الرسل واجبهم ، وبلّغوا رسالتهم ، ونجّاهم الله مع المؤمنين ، ثم عاقب الجاحدين.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) [الصافات].

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٤] : أرسل الله نوحا (ع) ، ليدعو قومه إلى عبادة الله سبحانه وطاعته ، وقد بلّغ نوح دعوة ربه إلى قومه ، ولخّص دعوته في ثلاث كلمات : اعبدوا الله وحده ؛ واتقوه وآمنوا به عن يقين ؛ وأطيعوا رسولكم فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه.

وبهذا الإيمان تستحقّون مغفرة الله لكم ، والبركة في أعماركم ، ولا شكّ أنّ للطاعات مدخلا في راحة البال واستقرار العيش ، وهدوء النفس ، وهذا بلا ريب ، يطيل هناءة العمر ، ويجعله مباركا حافلا بالأعمال النافعة.

١٦٤

[الآيات ٥ ـ ٩] : تعبّر الآيات عن جهود نبيّ كريم ، في دعوة قومه إلى الإيمان ، فهو يؤدّي رسالته ، وينهض بدعوة قومه ويناجي ربّه قائلا ما معناه :

لقد دعوت قومي إلى عبادتك والإيمان بك في الليل والنهار ، وانتهزت كلّ فرصة مناسبة ، لدعوتهم وإرشادهم ؛ ولكنّهم لم يستجيبوا لدعوة الله ، وقابلوها بالجحود والعناد ، وأغلقوا في وجه الدعوة قلوبهم ، وسدّوا منافذ العلم إلى نفوسهم ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم ، ليمنعوها من السمع ، وغطّوا عيونهم بثيابهم ليمنعوها من الإبصار ؛ واستمروا في عنادهم وكفرهم.

وقد لوّن نوح (ع) في أساليب الدعوة ، فدعاهم علنا في أماكن التجمّع فلم يستجيبوا ، فدعا كل فرد على حدة ، وحاول استمالة الأشخاص واقناعهم ، فلم يلق قبولا.

[الآيات ١٠ ـ ١٢] : وقد دعاهم إلى التوبة والإنابة ، وطلب المغفرة من الله فإذا صدقوا في توبتهم غمرهم الله بالنعم ، وأنزل عليهم المطر ، ورزقهم الأموال والذّريّة ، والبساتين النضرة والمياه الجارية.

[الآيات ١٣ ـ ٢٠] : لم لا تعظّمون الله وهو خالق الأوّلين والآخرين في أطوار وجودهم ، وجميع ما في الكون يدلّ على الله؟ فالسماوات السبع المتطابقة بعضها فوق بعض ، والشمس والقمر ، وخلق الإنسان ونموّه كما ينمو النبات ، ثم عودته إلى الأرض بعد الموت ، والأرض الممهّدة ، المهيّأة للانتفاع بما في باطنها من كنوز ومعادن ، وما في ظاهرها من زراعة وصناعة وتجارة ، هذه المخلوقات كلّها تدلّ على الإله الخالق.

[الآيات ٢١ ـ ٢٥] : في هذا المقطع نسمع آلام نبيّ كريم ، قدم لقومه مختلف الحجج والبراهين ، ولكنّ قومه قابلوا دعوته بالتكذيب والعصيان ، واتّبعوا الخاسرين الهالكين ، والزعماء المضللين ، وبيّتوا أمرهم بالكيد لنوح ودعوته ، وتواصوا بالبقاء على كفرهم ومألوفهم وعبادة أصنامهم ، وخصّوا بالذكر الأصنام الخمس الكبار وهي : ودّ ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وهي أصنام كان قوم نوح يعبدونها ، ثم عبدتها العرب. وهنا ضاق نوح بقومه ، وضلالهم الكثير ، فدعا الله أن يزيدهم ضلالا جزاء

١٦٥

عنادهم : لقد ارتكبوا كثيرا من الأخطاء ، ولذلك أغرقهم الله بالطوفان ، ثم أدخلوا في عذاب القبر ، وعذاب النار ، ولم يجدوا أحدا ينصرهم وينقذهم من عذاب الله. وهكذا يكون جزاء كلّ كافر معاند ، أن يحلّ به بطش الله القويّ الغالب : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤) [الفجر].

[الآيتان ٢٦ ـ ٢٧] : وفي آخر السورة زفرات نبي مكلوم ؛ مكث ألف سنة ، ثم قوبل بالجحود ، فسأل ربّه أن يهلك جميع الكافرين ، وألّا يترك منهم أحدا ، وليس ذلك حبّا في الانتقام ، ولكن رغبة في نظافة الأرض منهم ، لأنّ بقاءهم كفّارا ، يخشى منه أن يفتنوا المؤمنين ، ويضلّوهم بالرغبة أو الرهبة ؛ ولا يخرج من أصلاب هؤلاء الكافرين إلّا فاجر كافر ، فالإناء ينضح بما فيه.

[الآية ٢٨] : وفي آخر آية تبتّل نبي كريم بدعاء نديّ رضيّ ، يطلب فيه مغفرة الله له ولوالديه ، ولمن دخل في دعوته وآمن به ، ولسائر المؤمنين والمؤمنات ؛ أمّا الظالمون فلا يستحقّون الهداية ، التي أعرضوا عنها ، بل يستحقون أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم ؛ فمن أعرض عن الله سبحانه ، سلب عنه تعالى الهدى والتوفيق ، وتركه يتخبط في دياجير الظلام : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

المعنى الإجمالي للسورة

الهدف الرئيس للسورة ، بيان دعوة نوح (ع) وحرصه على إيمان قومه ، وقد حوت هذه الدعوة ما يأتي :

(أ) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك ، أكثر الله لهم المال والبنين.

(ب) النظر في خلق السماوات والأرض ، والأنهار والبحار.

(ج) النظر في خلق الإنسان ، وأنه سبحانه يخلق في الأرض كما يخلق النبات ، وأنّ الأرض مسخّرة له ، يتصرّف فيها ، جلت قدرته ، كما يشاء.

وبيّنت السورة ، كفر قوم نوح وعنادهم ، وعقابهم في الدنيا والاخرة.

١٦٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «نوح» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة نوح بعد سورة النحل ، ونزلت سورة النحل بعد الإسراء وقبيل الهجرة ؛ فيكون نزول سورة نوح ، في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) وتبلغ آياتها ثماني وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : إنذار المشركين بما حصل لقوم نوح (ع) حينما عصوه. وبهذا تكون موافقة للسّور المذكورة قبلها في سياق الإنذار ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.

قصة نوح

الآيات [١ ـ ٢٨]

قال الله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) ، فذكر تعالى أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه ، لينذرهم قبل أن يعذّبهم على كفرهم ؛ وأن نوحا (ع) دعاهم إلى عبادة الله جل جلاله ، ليغفر لهم ذنوبهم ؛ وكان كلّما دعاهم أصرّوا واستكبروا ؛ وأنه كان يكرر الدعوة ، ويقيم لهم الأدلة على ألوهيّة الله

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعالي الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٦٧

سبحانه ، إلى أن يئس نوح (ع) منهم ودعا ربه أن يهلكهم ؛ لأنه إن تركهم ، يضلّوا عباده ، ولا يلدوا إلا فاجرا كافرا. (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٢٨).

١٦٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «نوح» (١)

أقول : أكثر ما ظهر في وجه اتصالها بما قبلها ، بعد طول الفكر ، أنه سبحانه لمّا قال في (سأل) : (إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) [المعارج]. عقّبه بقصة قوم نوح (ع) المشتملة على إبادتهم عن آخرهم ، بحيث لم يبق منهم ديّار ، وبدّل خيرا منهم ، فوقع الاستدلال لما ختم به تبارك.

هذا مع تاخي مطلع السورتين في ذكر العذاب التي يوعد به الكافرين (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). العذاب في مطلع سأل من أول السورة : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) (٢) [المعارج] وفي سورة نوح : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

١٦٩
١٧٠

المبحث الرابع

مكنونات سورة «نوح» (١)

١ ـ (اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [الآية ٢٨].

قال سعيد بن جبير : يعني والده وجدّه. أخرجه أبن أبي حاتم.

واسم أبيه : لمك ؛ بوزن ضرب.

وجدّه متّوشلخ ، بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة ، بعدها واو ساكنة ، وفتح الشين المعجمة واللام ، بعدها خاء معجمة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

١٧١
١٧٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «نوح» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢٢).

وقرئ بالتخفيف أيضا ، والكبار أكبر من الكبير ، والكبّار أكبر من الكبار.

كقولهم طوال وطوّال.

أقول : ولا نعرف هذه الأبنية في العربية بالتخفيف والتثقيل.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٧٣
١٧٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «نوح» (١)

قال تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) ، أي : لا تخافون لله عظمة. و «الرجاء» هاهنا خوف ، و «الوقار» عظمة. وقال الشاعر (٢) [من الطويل وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائتين] :

إذا لسعته النّحل (٣) لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عواسل (٤)

وقال تعالى : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) (١٤) ، طورا علقة وطورا مضغة.

وقال تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [الآية ١٦] وإنّما هو ، والله أعلم ، على كلام العرب ، وإنما القمر في السماء الدنيا ، فيما ذكر ؛ كما تقول «أتيت بني تميم» وإنما أتيت بعضهم (٥).

وقال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧). بجعل «النّبات» المصدر ، والمصدر «الإنبات» لأن هذا يدل على المعنى.

وقال تعالى : (سُبُلاً فِجاجاً) (٢٠). واحدها «الفجّ» وهو الطريق.

وقال سبحانه : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ) [الآية ٢٤] ، لأن هذا حكاية من قول نوح (ع) دعاء عليهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو أبو ذؤيب الهذلي. ديوان الهذليين ١ : ١٤٣ والصحاح واللسان ومختار الصحاح «رجا».

(٣). في الديوان : الدبر بدل النحل.

(٤). البيت في معاني القرآن ١ : ٢٨٦ و ٢ : ٢٦٥. والنّوب : النّحل.

(٥). نقله في زاد المسير ٨ : ٣٧١ ، والجامع ١٨ : ٣٠٤.

١٧٥
١٧٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «نوح» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الآية ٤] فإن كان المراد به تأخيرهم عن الأجل المقدّر لهم في الأزل ، فهو محال ؛ لقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] وقوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [الآية ٤]. وإن كان المراد به تأخيرهم إلى مجيء الأجل المقدّر لهم في الأزل ، فما فائدة تخصيصهم بهذا ، وهم وغيرهم في ذلك سواء ، على تقدير وجود الإيمان منهم ، وعدم وجوده؟

قلنا : معناه ويؤخّركم عن العذاب ، إلى منتهى آجالكم ، على تقدير الإيمان ، فلا يعذّبكم في الدنيا ، كما عذّب غيركم من الأمم الكافرة فيها. الثاني : أنّه ، سبحانه ، قضى أنهم إن آمنوا عمّرهم ألف سنة ، وإن لم يؤمنوا أهلكهم بالعذاب لتمام خمسمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى هذا الأجل.

فإن قيل : لم أمرهم بالاستغفار ، والاستغفار إنما يصح من المؤمن دون الكافر؟

قلنا : معناه : استغفروا ربّكم من الشرك ، بالتوحيد.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧). والحيوان ضد النبات ، فكيف ينطلق على الحيوان أنه نبات؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٧٧

قلنا. هو استعارة ، للإنشاء والإخراج من الأرض ، بواسطة آدم (ع).

فإن قيل : لم دعا نوح (ع) على قومه بقوله ، كما ورد في التنزيل : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ، مع أنه أرسل ليهديهم ويرشدهم؟

قلنا : إنما دعا عليهم بذلك ، بعد ما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون.

فإن قيل : لم قال نوح ، كما ورد في التنزيل : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٢٧) وصفهم بالفجور والكفر في حال ولادتهم وهم أطفال ؛ وكيف علم أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا؟

قلنا : إنّهم لا يلدون إلا من يفجر ويكفر إذا بلغ ، وإنما علم ذلك بإعلام الله تعالى ؛ أو وصفهم بما يؤولون إليه من الفجور والكفر ، وعلم ذلك بإعلام الله إياه.

١٧٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «نوح» (١)

في قوله سبحانه : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) استعارة ، لأنّ الوقار ، هاهنا ، وضع الحلم مجازا ؛ يقال : رجل وقور ، بمعنى حليم.

فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثّقل ، فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه ، لأنها من صفات الأجسام ، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار ، على معنى الحلم كما ذكرنا. والمعنى أنه يؤخّر عقاب المذنبين مع الاستحقاق ، إمهالا للتوبة ، وإنظارا للفيئة والرجعة. لأنّ الحليم في الشاهد ، اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة ، ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما ، للعلّة الّتي ذكرناها. وقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال : ما لكم لا تخافون الله حلما؟ وإنما أخّر عقوبتكم ، إمهالا لكم ، وإيجابا للحجة عليكم. وإلّا فعقابه من ورائكم ، وانتقامه قريب منكم.

وقد جاء في شعر العرب لفظ الرجاء ، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفي الكلام حرف نفي. لا يقال : فلان يرجو فلانا بمعنى يخافه ، بل يقال : فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب (٢) :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). أبو ذؤيب الهذلي : تقدمت الإشارة إليه والترجمة له في الحديث عن مجازات سورة الزمر.

١٧٩

إذا لسعته الدّبر (٢) لم يرج لسعها

وحالفها في بيت نوب عواسل (٣)

أراد لم يخف لسعها.

وقال الاخر (٤) :

لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أخمسة لاقت معا أو واحدا أي لا تخاف. وقال بعض العلماء : إنما كنوا عن الخوف بالرجاء في هذه المواضع ، لأن الراجي لا يستيقن ، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم : الوقار هاهنا بمعنى العظمة ، وسعة المقدرة. وأصل الوقار : ثبوت ما به يكون الشيء عظيما ، من الحلم والعلم ، اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل.

ومن ذلك قول القائل : وقد وقر قول فلان في قلبي. أي ثبت واستقر ، أو خدش وأثر.

وفي قوله سبحانه : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) استعارة ، لأن حقيقة الإنبات إنما تجري على ما تطلعه من نباتها ، وتخرجه عند ازدراعها. ولمّا كان سبحانه ، يخرج البريّة من مضايق الأحشاء ، إلى مفاسح الهواء ، ويدرجهم من الصّغر إلى الكبر ، وينقلهم من الهيئات والصور ؛ كل ذلك على وجه الأرض ، فقد قال : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧).

وقال بعضهم ، قد يجوز أن يكون المراد بذلك ، خلق آدم عليه‌السلام من الطين ، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض ، كان نسله مخلوقين منها ، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) أي استخرجكم من طين الأرض. و «نباتا» هاهنا ، مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله ؛ وكان الوجه أن يكون : إنباتا. لأنّه في الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إنّ هناك فعلا محذوفا جرى المصدر عليه ، فكأنه

__________________

(٢). الدبر : جماعة النحل والواحدة دبرة.

(٣). نقل ديوان الهذليين ١ : ١٤٣١ ؛ معاني القرآن ١ : ٢٨٦ و ٢ : ٢٦٥.

(٤). لم ينسب في «أساس البلاغة» لقائله. وروي في الأساس هكذا :

لا ترتجي حين تلاقي الذائدا

أسبعة لاقت معا أم واحدا

١٨٠