الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

وتدكّ كالكرة فيستوي عاليها بأسفلها ؛ عندئذ نزلت النازلة ، وجاءت القيامة. وقد انفرط عقد الكون المنظور ، واختلّت روابطه وضوابطه التي تمسك به ، فترى السماء مشقّقة واهية مسترخية ، ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة. والسماء مسكن الملائكة ، فإذا انشقت تعلّق الملائكة بجوانبها وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية : ثمانية أملاك ، أو ثمانية صفوف منهم ، أو ثمانية أصناف ، أو طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم الله ، ولا ندري نحن من هم ولا ما هم.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١٨) فالكلّ مكشوف ، مكشوف الجسد ، مكشوف النفس ، مكشوف الضمير ، مكشوف المصير.

ألا إنه لأمر عصيب ، وقوف الإنسان عريان الجسد ، عريان النفس ، عريان المشاعر ، عريان التاريخ ، عريان العمل ، ما ظهر منه وما استتر ، أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة ، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع.

[الآيات ١٩ ـ ٢٤] : تصف مشهد المؤمن الناجي ، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة ، وتملأ الفرحة جوانحه فيهتف : اقرءوا كتابي فأنا من الناجين ، لقد أيقنت بالجزاء والحساب. فيعيش حياة ناعمة ، في جنّة عالية ، ثمارها قريبة التناول ، ويقول لهم ربّهم جل ثناؤه : كلوا وتمتّعوا جزاء عملكم السابق ، وطاعتكم لربكم.

[الآيات ٢٥ ـ ٢٩] : تصف حسرة المشرك ، وبؤسه ويأسه ، فهو يتمنّى أنّه لم يأت للموقف ، ولم يؤت كتابه ، ولم يدر ما حسابه ، كما يتمنّى أن لو كانت هذه القارعة هي القاضية ، التي تنهي وجوده أصلا ، فلا يعود بعدها شيئا.

ثمّ يتحسّر أن لا شيء نافعه مما كان يعتز به أو يجمعه ، فلا المال أغنى أو نفع ، ولا السلطان بقي أو دفع ، والرّنّة الحزينة الحسيرة المديدة في طرف الفاصلة الساكنة ، وفي ياء العلة بعد المد بالألف ، في تحزّن وتحسّر ، تشعر بالحسرة والأسى والحزن العميق.

[في الآيات ٣٠ ـ ٣٢] : يقال لملائكة العذاب خذوه إلى جهنّم ، فيبتدره سبعون ألف ملك ، كلّهم يبادر إلى جعل الغلّ في عنقه ، ويتقدّم

١٢١

ليصطلي نار الجحيم ويشوى بها ، ويدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه ؛ وذراع واحد من سلاسل النار تكفيه ، ولكن الآية تكشف عن شدة العذاب وهوله ، حفظنا الله من عذاب النار.

[الآيتان ٣٣ ـ ٣٤] : تذكّران أسباب العذاب والسعير ، فقد خلا قلب هذا الكافر من الإيمان بالله ، كما خلا قلبه من الرحمة بالعباد ، ومن العطف على المساكين ، ومن الحثّ على إطعامهم والبرّ بهم.

[الآيات ٣٥ ـ ٣٧] : تخبرنا أنّ الكافر لا يجد له صديقا ولا حميما يؤنسه ، ولا يأكل الا غسالة أهل جهنم من القيح والصديد ، وهو طعام لا يأكله إلّا المذنبون ، المتصفون بالخطيئة ، فليتّق الله كلّ غنيّ في ماله ، وليعلم أنّ للمساكين والأرامل والشيوخ والأطفال حقا في هذا المال ، وسيترك المال لورثته ويسأل هو عن زكاته.

[الآيات ٣٨ ـ ٤٣] : تبيّن لنا أنّ الوجود أضخم بكثير ممّا يرى البشر ، والكون مملوء بعقول فعّالة غير عقولنا.

«إنّ الإنسان قد يكون جهازا ، ولكن من الذي يدير هذا الجهاز؟ لأنه بدون أن يدار لا فائدة منه ، والعلم لا يعلل من يتولى إدارته ، وكذلك لا يزعم أنه مادي. لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لأن نوقن بأن الله سبحانه قد منح الإنسان قبسا من نوره» (١).

والآيات تقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم. وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.

إن القرآن كلام الله ومنهج الله وشريعة الله ، وليس قول شاعر ولا قول كاهن ؛ انّما هو قول رسول أرسل به من عند الله ، فحمله الى عباد الله بأمانة وإخلاص في تبليغ الرسالة.

في [الآيات ٤٤ ـ ٤٦] : أن قدرة الله قدرة بالغة ، ولو تقوّل محمّد بعض الأقاويل ، لعاجلناه بالعقوبة ، وأزهقنا روحه ، فكان كمن قطع وتينه. وهذا تصوير للهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، إذ يأخذه السيّاف بيمينه ، ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.

__________________

(١). أ. كريسى موريسون. رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك. في كتابه المترجم. بعنوان «العلم يدعو الى الايمان».

١٢٢

[في الآية ٤٧] : أنّ أحدا لا يمنعنا من عقوبة محمد ، والتنكيل به إذا افترى علينا.

[الآيات ٤٨ ـ ٥٢] : تخبرنا أنّ القرآن يذكّر القلوب التّقيّة فتتذكّر أنّ الحقيقة ، التي جاء بها ، كامنة فيها ؛ فهو يثيرها ويذكّرها فتتذكّر ؛ أما المطموسة قلوبهم فهم يكذّبون بهذا القرآن ، والقرآن حجة على الكافرين في الدنيا ، وحسرة عليهم إذا رأوا عذاب الاخرة.

وهذا القرآن عميق في الحقّ ، عميق في اليقين ، تنزيل من ربّ العالمين ، فعلينا أن نعظّم الله ، وأن ننزّهه ونجلّه ، ونعترف له بالقدرة والعظمة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢).

المعنى الإجمالي للسورة

الخبر عن صعوبة القيامة ، وهلاك الأمم المكذّبة لرسلها ، وذكر نفخة الصور ، وانشقاق السماوات ، وحال السّعداء والأشقياء في وقت قراءة الكتاب ، وذلّ الكفار مقهورين في أيدي الزبانية ، وإثبات أن القرآن العظيم وحي من عند الله سبحانه ، وليس بقول شاعر ولا كافر ، والأمر بتسبيح الركوع (١) في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢).

__________________

(١). أنظر بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. للفيروزآبادي.

١٢٣
١٢٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الحاقّة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الحاقّة بعد سورة الملك ، ونزلت سورة الملك بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة الحاقة في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) وتبلغ آياتها اثنتين وخمسين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات يوم القيامة ، وبيان ما فيه من ثواب وعقاب. وبهذا يكون سياقها في سياق الإنذار الذي جاء في السورة السابقة ، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.

إثبات يوم القيامة

الآيات [١ ـ ٥٢]

قال الله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) والحاقّة الساعة الثابتة التي لا ريب فيها. وقد ذكر ، سبحانه ، أن ثمود وعادا كذّبا بها فأهلكا بما أهلكا به ، وأنّ فرعون ومن قبله والمؤتفكات (قوم لوط) كذّبوا بها فأخذوا أخذة رابية ؛ وأنه ، جلّ وعلا ، نجّى من آمن بها من قوم نوح حينما طغى الماء ، فحملهم في الجارية ، وأغرق من كذّب بها ، ليجعلها تذكرة لنا وتعيها آذاننا ، فإذا جاء يومها بأهواله

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٢٥

من النّفخ في الصّور وغيره ، يعرض الناس على ربّهم : فأمّا من أوتي كتابه بيمينه ، فينال ما ذكره من الثواب ، وأمّا من أوتي كتابه بشماله ، فينال ما ذكره من العقاب ؛ ثم أقسم عزوجل ، بما يبصرون وما لا يبصرون من خلقه ، أنّ ذلك قول رسول كريم ، لا يشكّ في صدقه ، وليس بقول شاعر ولا كاهن يغلب الكذب فيه. ثم ذكر سبحانه أنه لو تقوّله الرسول (ص) عليه لأخذ بيمينه وقطع عنقه ، ولم يمكّن أحدا أن يحجزه عنه ؛ ثم ذكر تعالى أن القرآن تذكرة للمتّقين ، وأنه يعلم تكذيبهم له فيعاقبهم به ويجعله حسرة عليهم ، وأنّه لحقّ اليقين : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٥٢).

١٢٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الحاقّة» (١)

أقول : لمّا وقع في سورة «ن» ، أي «القلم» ، ذكر يوم القيامة مجملا في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [الآية ٤٢] ، شرح ذلك في هذه السورة بناء على هذا اليوم ، وشأنه العظيم (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك من أول السورة الى قوله : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) (٣٧).

١٢٧
١٢٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الحاقّة» (١)

١ ـ (وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [الآية ٧].

قال الرّبيع بن أنس : كان أوّلها الجمعة. أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) [الآية ١٧].

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : لم يسمّ من حملة العرش إلّا إسرافيل. قال : وميكائيل ليس من حملة العرش.

وأخرج عن أبي الزاهرية قال : أنبئت أنّ لبنان أحد حملة العرش الثمانية يوم القيامة.

وذكر يحيى بن سلّام ، قال : بلغني أن روفيل من حملة العرش.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٢٩
١٣٠

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحاقّة» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الآية ١٧].

أقول والأرجاء جمع رجا ، وهو الجانب.

ولا نعرف من هذا إلا الجمع ، أمّا المفرد فغير معروف في الاستعمال.

ونظير «الأرجاء» هذه «آناء» في قوله تعالى :

(وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) [طه : ١٣٠].

والإناء جمع إنى.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣١
١٣٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحاقّة» (١)

قال تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (١٢) لأنك تقول : «وعت ذاك أذني» ، و «وعاه سمعي» ، و «أوعيت الزاد» ، و «أوعيت المتاع» كما قال الشاعر (٢) [من البسيط ، وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائتين] :

الخير يبقي وإن طال الزّمان به (٣)

والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد

وقال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) : فالفعل وقع على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع.

وقال تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الآية ١٧] وواحدها «الرّجا» وهو مقصور.

وقال تعالى : (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦) جعل ، والله أعلم ، من «الغسل» وزيد الياء والنون ، بمنزلة «عفرين» و «كفرين».

وقال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) على المعنى ، لأنّ معنى (أحد) معنى جماعة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو عبيد بن الأبرص. ديوانه. ٤٩ واللسان «وعي».

(٣). من الديوان واللسان والصحاح «وعي».

١٣٣
١٣٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحاقّة» (١)

قيل : لم قال تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) [الآية ٦] ، ولم يقل «صرصرة» ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦) (عاتية) وهو صفة لمؤنث ، لأنها الشديدة الصوت أو الشديدة البرد؟

قلنا : لأنّ الصرصر وصف مخصوص بالرّيح لا يوصف به غيرها ، فأشبه باب حائض وطامث وحامل ، بخلاف عاتية فإنّ غير الريح من الأسماء المؤنّثة يوصف به.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) [الآية ٧] أي في تلك الليالي والأيّام ، والنبي (ص) ما رآهم ولا يراهم فيها؟

قلنا : «فيها» ظرف ، لقوله تعالى (صرعى) ، لا لقوله تعالى (فترى) ، والرؤية هنا من رؤية العلم والاعتبار ، فصار المعنى فتعلمهم صرعى في تلك الليالي والأيام ، بإعلامنا حتّى كأنّك تشاهدهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) إلى قوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (١٨) والمراد بها هنا النفخة الأولى ، وهي نفخة الصّعق ، بدليل ما ذكر بعدها من فساد العالم العلويّ والسفليّ ؛ والعرض إنّما يكون بعد النفخة الثانية ، وبين النفختين من الزمان ما شاء الله تعالى ، فلم قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) [الآية ١٨].

قلنا : وضع اليوم موضع الوقت

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٣٥

الواسع الذي يقع فيه النفختان وما بعدهما.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) (٢٠)؟

قلنا : معناه تيقّنت ، والظّنّ يطلق بمعنى اليقين ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) [البقرة].

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف أهل النار : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٣٦). وقال سبحانه في موضع آخر : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٦) [الغاشية] ، وفي موضع آخر (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤) [الدخان] ، وفي موضع آخر : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٥٣) [الواقعة] ، وفي موضع آخر : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤]؟

قلنا : معناه إلّا من غسلين وما أشبهه ، أو وضع الغسلين موضع كل طعام مؤذ كريه. الثاني : أنّ العذاب ألوان والمعذّبون طبقات ؛ فمنهم أكلة الزّقّوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضّريع ، لكل باب منهم جزء مقسوم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠) يعني أن القرآن قول جبريل (ع) ، مع أنه قول الله تعالى لا قول جبريل؟

قلنا : معناه عند الأكثرين أن المراد به النبي (ص) ، والمعنى أنه يقوله ويتكلم به ، على وجه الرسالة من عند الله ، لا من تلقاء نفسه ، كما تزعمون.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٤٧) أخبر عن الفرد بالجمع؟

قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في آخر سورة البقرة.

١٣٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحاقّة» (١)

في قوله تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) (٦) استعارة. والمراد بالصّرصر الباردة. وهو مأخوذ من الصّرّ. والعاتية : الشديدة الهبوب التي ترد بغير ترتيب ، مشبّهة بالرجل العاتي ، وهو المتمرّد الذي لا يبالي على ما أقدم ، ولا في ما ولج ووقع.

وفي قوله سبحانه : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) (١٠) استعارة : المراد بالرّابية هاهنا : العالية القاهرة. من قولهم : ربا الشيء إذا زاد. والرّبا مأخوذ من هذا. فكأنّ تلك الأخذة كانت قاهرة لهم ، وغالبة عليهم.

وفي قوله سبحانه : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) (١١) استعارة.

والمراد بها قريب من المراد بالاستعارتين الأوليين ، وهو تشبيه للماء في طموّ أمواجه ، وارتفاع أثباجه (٢) بحال الرجل الطاغي ، الذي علا متجبرا وشمخ متكبرا.

وقال بعضهم : معنى طغى الماء أي كثر على خزّانه ، فلم يضبطوا مقدار ما خرج منه كثرة ، لأن للماء خزنة ، وللرياح خزنة من الملائكة عليهم‌السلام ، يخرجون منهما على قدر ما يراه الله سبحانه من مصالح العباد ، ومنافع البلاد ، على ما وردت به الآثار.

وفي قوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) ، استعارة. وكان الوجه أن

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). الأثباج : جمع مفردة ثبج ، وهو وسط الشيء الرّابي.

١٣٧

يقال في عيشة مرضيّة. ولكن المعنى خرج على مخرج قولهم : شعر شاعر ، وليل ساهر. إذا شعر في ذلك الشعر وسهر في ذلك الليل ، فكأنهما وصفا بما يكون فيهما ، لا بما يكون منهما. فبان أنّ تلك العيشة ، لما كانت بحيث يرضي الإنسان فيها حاله جاز أن توصف هي بالرضا. فيقال راضية. على المعنى الذي أشرنا إليه. وعلى ذلك قول أوس بن حجر : (٢) جدلت على ليلة ساهرة بصحراء شرج إلى ناظره (٣) وصف الليلة بصفة الساهر فيها ، وظاهر الصفة أنها لها.

وقال بعضهم : إنّما قال تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) لأنها في معنى ذات رضى ، كما قيل : لابن وتامر. أي ذو لبن وتمر.

وكما قالوا لذي الدّرع : دارع ، ولذي النّبل : نابل ، ولصاحب الفرس : فارس. وإنما جاءوا به على النّسب ، ولم يجيئوا به على الفعل. وعلى ذلك قول النابغة الذبياني (٤) :

كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب أي : ذي نصب. قال فكأن العيشة أعطيت من النعيم حتّى رضيت ، فحسن أن يقال : راضية ، لأنّها بمنزلة الطالب للرضا ، كما أنّ الشهوة بمنزلة الطالب المشتهى.

وفي قوله سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) (٤٥) استعارة على أحد التأويلات ، وهو أن يكون المراد باليمين هاهنا القوّة والقدرة. فيكون المعنى : أنه لو فعل ما نكره فعله لانتقمنا منه عن قدرة ، وعاقبناه عن قوّة.

وقد يجوز أن تكون اليمين هاهنا

__________________

(٢). هو أوس بن حجر بن مالك التميمي ، كان شاعر تميم في الجاهلية ، وعمّر طويلا ، ولم يدرك الإسلام ؛ وفي شعره رقة وحكمة. وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها :

أيتها النفس أجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

(٣). البيت في «الأغاني» ج ١١ ص. ٧٢ وفي مخطوطتنا هذه «حدلت» بالحاء المهملة ، وفي أصول «الأغاني» خذلت بالخاء والذال المعجمتين. وجدلت : صرعت. وشرج ، وناظرة : اسما مكان بأرض بني أسد.

(٤). هو أشهر من أن نعرّف به هنا ، وهو من شعراء الجاهلية المقدّمين ، وأخباره مع النعمان بن المنذر واعتذاراته له معروفة متعالمة.

١٣٨

راجعة على النبي (ص) فيكون المعنى : لو فعل ذلك لسلبناه قدرته ، وانتزعنا منه قوّته. ويكون ذلك كقوله سبحانه : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي تنبت الدّهن على بعض التأويلات. وكقول الشاعر (٥) :

نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي نرجو الفرج.

__________________

(٥). هو النابغة الجعدي ، كما في «معجم ياقوت» و «تاج العروس» وقد نقل ذلك عنهما محقق «معجم ما استعجم» للبكري ص ١٠٢٩ ، والبيت كاملا هو :

نحن بنو جعدة أرباب الفلج

نضرب بالبيض ونرجو بالفرج

والفلج بفتحتين : اسم مكان لبني جعدة ، من قيس ، ببلاد نجد.

١٣٩
١٤٠