الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

١

سورة التغابن

٦٤

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «التغابن» (١)

سورة التغابن سورة مدنية ، آياتها ١٨ آية ، نزلت بعد سورة التحريم.

والتغابن بمعنى الغبن ، لأن أهل الجنّة يغبنون أهل النار ، ويأخذون أماكنهم في الجنّة. أي ينتصر أهل الجنّة في ذلك اليوم ، لأنهم نالوا حقّهم مضاعفا.

وقال جار الله الزمخشري : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا ، لنزول السّعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء في منازل السّعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء كما ورد في الحديث :

«ما من عبد يدخل الجنّة إلّا ويرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلّا ويرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة».

قال النيسابوري : «يجوز أن يفسّر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم ، وحمل الظالم خطايا المظلوم ؛ وإن صحّ مجيء التغابن بمعنى الغبن ، فذلك واضح في حقّ كل مقصّر صرف شيئا من استعداده الفطريّ في غير ما أعطي لأجله».

وقال الشيخ مخلوف : «يوم التغابن يظهر فيه غبن الكافر بتركه الإيمان ، وغبن المؤمن بتقصيره في الإحسان».

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

مع السورة

[في الآيات ١ ـ ٤] ، نجد آيات تذكر جلال الخالق المبدع ، وتصور قدرة الله القدير.

١ ـ فهو سبحانه مالك الملك ، وصاحب الفضل والنّعم ، وهو القادر القاهر المتّصف بصفات الجلال والكمال ، وقدرة الله لا حدود لها فهي محيطة بكلّ شيء ، مهيمنة على كلّ شيء ، مدبّرة لكلّ شيء ، حافظة لكلّ شيء ، لا يفتر عنها شيء ، سواء في ذلك الكبير والصغير والجليل والحقير.

والمؤمن يدرك آثار هذه القدرة ، ويشعر بجلال الله وعظمته ، وعلمه ووقايته ، وقهره وجبروته ، ورحمته وفضله ، وقربه منه في كلّ حال.

٢ ـ وقد خلق الله الإنسان ومنحه الإرادة والاختيار ، وميّزه بذلك من جميع الموجودات ، وأرسل اليه الرسل وأنزل إليه الكتاب ليساعده على الإيمان. ومن الناس من يهديه الله للإيمان ، ومنهم من يختار الكفر والجحود.

٣ ـ وقد أبدع الله خلق السماء فرفعها ، وزيّنها بالنّجوم ، وخلق الأرض ، وأودع فيها الأقوات والأرزاق ، والجبال والبحار والأنهار ؛ وخلق الإنسان في أبدع صورة وأحسن تركيبه ، حيث يجتمع فيه الجمال الى الكمال ، ويتفاوت الجمال بين شكل وشكل ، ولكنّ الله ، جلّ جلاله ، متّع الجميع بكل ما يحتاجون إليه من الآلات الجسديّة ، ومن المواهب المعنويّة ، ومن الخصائص التي يتفوّق بها الإنسان على سائر الأحياء.

٤ ـ وقد أحاط علم الله ، سبحانه ، بالسماء والأرض والسر والعلن ، والمؤمن يحسّ ، من الله تعالى ، إحاطة علمه به ، ويشعر أنّه مكشوف كلّه لعين الله ، فليس له سر يخفى عليه ، وليست له نيّة غائرة في الضمير لا يراها ، وهو العليم بذات الصدور.

وبهذه المعاني يستقرّ الإيمان في القلب ، ويستقرّ تعظيم الله ، سبحانه ، والشعور بجلاله ورقابته.

أمّا الآيتان ٥ و ٦ ، فتذكّران بما أصاب مكذّبي الرّسل من الهلاك والدّمار. لقد جاءتهم الرّسل بالآيات الواضحة ، فاستكثروا أن يكون النبيّ إنسانا من البشر ، وأعرضوا عن الهدى

٤

فأعرض الله عنهم ، وهو سبحانه غني عن عباده ، محمود على نعمائه.

و [الآيات ٧ ـ ١٣] تستعرض شبهة الكافرين في البعث وإنكارهم له ، وتردّ عليهم بأنّ البعث حقيقة مؤكدة ، ويتبع البعث الحساب والجزاء. والإيمان بالله ورسوله سبيل النجاة والهداية ، فسيجمع الله المؤمنين والكفّار في يوم التغابن.

والتغابن تفاعل من الغبن ، وهو تصوير لما يقع من فوز المؤمنين بالنعيم ، وحرمان الكافرين من كلّ شيء منه ، ثمّ صيرورتهم الى الجحيم ؛ فهما نصيبان متباعدان ، وكأنّما كان هناك سباق للفوز بكلّ شيء ، ليغبن كلّ فريق مسابقه ، ففاز فيه المؤمنون ، وهزم فيه الكافرون.

إنّ من آمن وعمل صالحا له جزاؤه في جنّة الخلد والفوز العظيم ، ومن كفر بالله وكذّب بآياته ، له عقابه وخلوده في النار وبئس المصير.

وإنّ من أصول الإيمان أن تؤمن بالقضاء والقدر ؛ وأن ترى الله خالق كلّ شيء ، وأن تفوّض إليه الأمر ، وأن تحني رأسك إجلالا لعظمته ، وتسليما لقضائه وقدره.

وطاعة الله وطاعة الرسول طريق الفلاح ، والإعراض عن طاعتهما نذير بالعقاب ، وليس هناك في الكون إلّا إله واحد ، يتوكّل عليه المؤمن ، ويتيقّن بوجوده ، ويوحّده ويعظّمه ، وذلك أساس العقيدة الإسلامية : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣).

روابط الأسرة

تتّجه الآيات الأخيرة من السورة لبناء المجتمع ، وتهذيب العاطفة ، وتوجيه العلاقات الأسرية الوجهة السليمة.

فالآيات الأولى من السورة شبيهة بالآيات المكّيّة في بناء العقيدة ، وتأكيد معنى الألوهيّة ، وبيان صفات الله وكمالاته ؛ أمّا الآيات الأخيرة من السورة فتتّجه لبناء مجتمع سليم.

وفي تفسير مقاتل وابن جرير الطبري : أنّ الآية ١٤ نزلت في قوم كانوا أرادوا الإسلام والهجرة ، فثبّطهم عن ذلك أزواجهم وأولادهم. وروى ابن جرير ، عن عكرمة ، أنّ رجلا سأل ابن عباس عن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [الآية

٥

١٤] ، قال : هؤلاء رجال أسلموا فأرادوا أن يأتوا رسول الله (ص) بالمدينة ، فلمّا أتوا رسول الله (ص) ورأوا الناس قد فقهوا في الدين ، همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وفيها : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤).

فينبغي ألا تشغل المكلّف زوجته ولا أولاده عن طاعة الله ، وأن تكون أسرته لمرضاة ربّه ، معينة على الصلاح والإصلاح. إنّ الله يمتحن الإنسان بالمال والولد ، فالمؤمن يتّخذ ماله وسيلة لمرضاة ربّه ويجعل من ولده أثرا صالحا ؛ وعند الله الأجر الأكبر لمن أحسن استخدام ماله وولده في طريق الخير والإحسان.

روى الإمام أحمد : أنّ رسول الله (ص) كان يخطب ، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله (ص) عن المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ثم قال : صدق الله ورسوله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الآية ١٥]. «نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران حتّى قطعت حديثي ورفعتهما».

وفي الأثر : الولد مجبنة مبخلة ، أي يجعل والده جبانا وبخيلا ، رغبة من الأب في توفير الحماية والمال لولده.

والإسلام يهذّب الغرائز ، وينمّي الفطرة ويوجّهها الوجهة السليمة ، فيأمر بالاعتدال في حبّ المال والولد ، ويحذّر من الافتتان بهما ، وإذا طلبت الزوجة أو الأولاد ، ما يغضب الله فحذار من طاعتهما ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وكلّ ما قد ترى تفنى بشاشته يبقى الإله ويفنى الأهل والولد وفي آخر السورة دعوة إلى تقوى الله قدر الطاقة والاستطاعة ، وحثّ على الصدقة والإحسان ، وتحذير من البخل والشّحّ : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الآية ١٧]. وإن تقدموا صدقة للفقراء ، وعملا صالحا في مرضاة الله ، فإنّ الله يضاعف الثواب لكم إلى سبعمائة ضعف ، ويصفح عن سيئاتكم ، ويشكر لكم أعمالكم ، وهو سبحانه شكور حليم. فالله صاحب الفضل والنّعم يطلب من عبده فضل ما أعطاه ، ثم يشكر لعبده ويعامله بالحلم والعفو عن التقصير ؛ ما أجمل الله وما أعظم حلمه ، وما أوسع رحمته وفضله!

٦

وفي الآية الأخيرة تظهر صفات الجلال والكمال ، فهو سبحانه (عالِمُ الْغَيْبِ) أي ما لا تراه العباد ويغيب عن أبصارهم. (وَالشَّهادَةِ) ما يشاهدونه فيرونه بأبصارهم. فكلّ شيء مكشوف لعلمه ، خاضع لسلطانه ، مدبّر بحكمته ؛ وهو العزيز الغالب ، الحكيم في تدبير خلقه وصرفه إيّاهم فيما يصلحهم.

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة التغابن : بيان تسبيح المخلوقات ، والحكمة في تخليق الخالق ، والشكاية من القرون الماضية ، وإنكار الكفّار البعث والقيامة ، وبيان الثواب والعقاب ، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد ، والأمر بالتّقوى حسب الاستطاعة ، وتضعيف ثواب المتّقين ، والخبر عن اطّلاع الحقّ على علم الغيب في قوله سبحانه : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨).

٧
٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «التغابن» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة التّغابن بعد سورة التحريم ، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات ، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة بدر ، فيكون نزول سورة التغابن في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في [الآية ٩] منها : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إنذار الكافرين ، من المنافقين وغيرهم ، بعذاب الدنيا والاخرة ، ليدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله ؛ ولا شكّ في أنّ هذا الغرض قريب من الأغراض المقصودة من سورة «المنافقون» والسور السابقة عليها ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر هذه السورة بعدها.

الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة

الآيات [١ ـ ١٨]

قال الله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) فذكر ، سبحانه ، تسبيح كلّ شيء له واختصاصه بالملك والحمد ، وأنه خلقنا فمنّا كافر ومنّا مؤمن ، وهو بصير

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩

بما نعمله ؛ وأنّه ، جلّ جلاله ، خلق السماوات والأرض بالحقّ ، ولم يخلقهما عبثا ؛ وأنّه صوّرنا فأحسن صورنا وإليه مصيرنا ؛ وأنه يعلم ما نسرّ وما نعلن فيحاسبنا عليهما ؛ ثم ذكر ما أنزله من عذاب الدنيا بالكافرين السابقين وما أعدّه لهم من عذاب الاخرة ، ليكون في هذا نذير لهم ؛ وذكر أنّهم يزعمون أنّهم لن يبعثوا ، وردّ عليهم بأنّهم سيبعثون وسينبّأون بعملهم ؛ ثم أمرهم أن يؤمنوا به وبرسوله ؛ وحذّرهم اليوم الذي يجمعهم فيه وهو يوم التغابن ، لأنّ أهل الحقّ يغبنون فيه أهل الباطل ؛ وذكر أن من يؤمن به ويعمل صالحا يكفّر عنه سيّئاته ويدخله جنّاته ، ومن يكفر به يعذبه بناره ، وكل هذا بإذنه وتقديره ؛ ثمّ أمرهم ، بعد هذا ، أن يطيعوه ويطيعوا رسوله ، فإن أعرضوا عن طاعتهما فقد بلّغوا ما أمروا به ، وليس على النبي (ص) إلّا أن يبلّغهم ، ثمّ يتوكل بعد هذا عليه ، سبحانه ، هو ومن آمن به لينصرهم عليهم ؛ ثم ذكر لهم أنّ من أزواجهم وأولادهم عدوّا لهم ، وحذّرهم أن يؤثروهم على دينهم ؛ ثمّ أمرهم أن يتقوه ما استطاعوا ، وينفقوا في سبيله من أموالهم. ووعدهم بأن يضاعف لهم ما ينفقونه ويغفر لهم ، لأنّه شكور حليم : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨).

١٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «التغابن» (١)

أقول : لمّا وقع في آخر سورة «المنافقون» : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [الآية ١٠]. عقّب بسورة التغابن ، لأنه قيل في معناه : إن الإنسان يأتي يوم القيامة ، وقد جمع مالا ، ولم يعمل به خيرا ، فأخذه وارثه بسهولة ، من غير مشقّة في جمعه ، فأنفقه في وجوه الخير ، فالجامع محاسب معذّب مع تعبه في جمعه ، والوارث منعّم مثاب ، مع سهولة وصوله إليه ، وذلك هو التغابن.

فارتباطه باخر السورة المذكورة في غاية الوضوح. ولهذا قيل هنا : (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٦).

وأيضا ففي آخر «المنافقون» : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [الآية ٩]. وفي هذه : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الآية ١٥]. وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة ، ولذا ذكرت على ترتيبها (٢).

وقال بعضهم : لمّا كانت سورة «المنافقون» رأس ثلاث وستين سورة ، أشير فيها إلى وفاة النبي (ص) بقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [الآية ١١]. فإنّه مات على رأس ثلاث وستين سنة ، وعقّبها بالتغابن ، ليظهر التغابن في فقده (ص) (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). يعني الأموال أوّلا ، والأولاد ثانيا ، وفي كلتا السورتين.

(٣). أورد السيوطي هذا القول في الإتقان : ٤ : ٣٠ غير معزو كما هو هاهنا ، كدليل على أنه ما من شيء إلّا ويمكن استخراجه من القرآن.

١١
١٢

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «التغابن» (١)

قال تعالى : (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [الآية ٦] بالجمع لأن «البشر» في المعنى جماعة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣
١٤

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «التغابن» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [الآية ٢] فقدّم الكافر في الذكر؟

قلنا : الواو لا تعني رتبة ولا تقتضي ترتيبا ، كما قال تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) [هود] ، وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر : ٢٠] ، وقال سبحانه : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢] ، وقال تعالى : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩) [الشورى]. وقد ذكرنا في الآية الأخيرة معنى آخر في موضعها.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) [الآية ٦] يوهم وجود التولّي والاستغناء معا بعد مجيء رسلهم إليهم ، والله تعالى لم يزل غنيا؟

قلنا : معناه : وظهر استغناء الله تعالى عن إيمانهم وعبادتهم حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرّهم إليه مع قدرته تعالى على ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [الآية ١١] مع أنّ الهداية سابقة على الإيمان ، لأنّه لو لا سبق الهداية لما وجد الإيمان؟

قلنا : ليس المراد «يهد» قلبه للإيمان ، بل المراد به «يهد» قلبه لليقين عند نزول المصائب ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. الثاني «يهد» قلبه للرّضا والتسليم عند نزول المصائب. الثالث

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٥

«يهد» قلبه للاسترجاع عند نزول المصائب ، وهو أن يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١٥٦) [البقرة]. الرابع «يهد» قلبه : أي يجعله ممّن إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر. والخامس : «يهد» قلبه لاتّباع السّنّة إذا صحّ إيمانه ، وقرئ (يهدأ) بفتح الدال وبالهمز ، من الهدوّ ، وهو السّكون ، فمعناه : ومن يؤمن بالله إيمانا خالصا يسكن قلبه ، ويطمئن عند نزول المصائب والمحن ، ولا يجزع ويقلق.

١٦

المبحث السادس

المعاني المجازية في سورة «التغابن» (١)

في قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [الآية ٨] استعارة. والمراد بالنور هاهنا القرآن. وإنّما سمّي نورا لأنّ به يهتدى في ظلم الكفر والضلال ، كما يهتدى بالنور الساطع ، والشهاب اللامع. وضياء القرآن أشرف من ضياء الأنوار ، لأن القرآن يعشو إليه القلب ، والنور يعشو إليه الطّرف.

وقوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [الآية ٩]. فذكر التغابن هاهنا مجاز ، والمراد به ، والله أعلم ، تشبيه المؤمنين والكافرين بالمتعاقدين والمتبايعين ؛ فكأنّ المؤمنين ابتاعوا دار الثواب ، وكأنّ الكافرين اعتاضوا منها دار العقاب ، فتفاوتوا في الصّفقة ، وتغابنوا في البيعة ، فكان الربح مع المؤمنين ، والخسران مع الكافرين.

ويشبه ذلك قوله تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الصفّ].

وليس في السورة التي يذكر فيها «الطلاق» (٢) شيء من الغرض الذي نقصده في هذا الكتاب.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). يرى المؤلّف أن سورة الطلاق ليس فيها شيء من مجازات القرآن.

١٧
١٨

سورة الطّلاق

٦٥

١٩
٢٠