الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «القمر» (١)

إن قيل : ما الحكمة في إعادة التكذيب في قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) [الآية ٩] لما ذا لم يقل عزّ من قائل : كذبت قبلهم قوم نوح عبدنا؟

قلنا : معناه كذّبوا تكذيبا بعد تكذيب. وقيل إن التكذيب الأول منهم بالتوحيد ، والثاني بالرسالة. وقيل التكذيب الأول منهم لله تعالى ، والثاني لرسوله (ص).

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف ماء الأرض والسماء : (فَالْتَقَى الْماءُ) [الآية ١٢] ولم يقل فالتقى الماءان؟

قلنا : أراد به جنس المياه.

فإن قيل : الجزاء إنما يكون للكافر لا للمكفور ، فلم قال تعالى : (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤)؟

قلنا : جزاء مفعول له فمعناه : ففتحنا أبواب السماء وما بعده ممّا كان يسبّب إغراقهم جزاء لله تعالى لأنه مكفور به ، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه ، كقوله تعالى (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] والجزاء يضاف إلى الفاعل وإلى المفعول كسائر المصادر. الثاني : أنه نوح (ع) إما لأنه مكفور به بحذف الجار ، كما مر من الكفر الذي هو ضد الإيمان ، أو لأنّ كلّ نبيّ نعمة منّ الله بها على قومه ، ومنه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) [الأنبياء]. وقال رجل للرشيد : الحمد لله عليك ، فقال ما

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٨١

معنى هذا : فقال أنت نعمة حمدت الله عليها ، فكأنه قال : جزاء لهذه النعمة المكفورة ؛ وكفران النعمة يتعدّى بنفسه ، قال الله تعالى : (وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢) [البقرة]. الثالث : أن «من» بمعنى «ما» ، فمعناه : جزاء لما كان كفر من نعم الله تعالى على العموم. وقرأ قتادة كفر بالفتح : أي جزاء للكافرين.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) أي منقلع ، ولم يقل منقعرة؟

قلنا : إنّما ذكر الصفة لأنّ الموصوف ، وهو النخل ، مذكّر اللفظ ليس فيه علامة تأنيث ، فاعتبر اللفظ ؛ وفي موضع آخر اعتبر المعنى ، وهو كونه جمعا ، فقال سبحانه : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٧) [الحاقة] ونظيرهما قوله تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) (٥٤) [الواقعة] وقال أبو عبيدة : النخل يذكّر ويؤنّث ، فجمع القرآن اللّغتين. وقيل إنّما ذكر رعاية للفواصل.

٨٢

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «القمر» (١)

في قوله تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢) استعارة ؛ والمراد ، والله أعلم ، بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس ، ولا يلفتها لافت. ومفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء ، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب ، أو معقول أطلق عنه عقال. وقوله تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (١٢) أي اختلط ماء الأمطار المنهمرة ، بماء العيون المتفجرة ، فالتقى ماءاهما على ما قدره الله سبحانه ، من غير زيادة ولا نقصان. وهذا من أفصح الكلام ، وأوقع العبارات عن هذه الحال.

وفي قوله سبحانه : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥) ولفظ إلقاء الذّكر مستعار : والمراد به أن القرآن لعظم شأنه ، وصعوبة أدائه ، كالعبء الثقيل الذي يشقّ على من حمله ، وألقي عليه ثقله.

وكذلك قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٥) [المزمّل]. وكذلك قول القائل : «ألقيت على فلان سؤالا ، وألقيت عليه حسابا» أي سألته عمّا يستكدّ له هاجسه ، ويستعمل به خاطره.

وفي قوله سبحانه : (بَلِ السَّاعَةُ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٨٣

مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦) استعارة ، لأن المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمتطعّمات ؛ ولكنّ الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقّي العقاب ، حسن وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق.

ومن عادة من يلاقي ما يكرهه ، ويرى ما لا يحبّه ، أن يحدث ذلك تهيّجا في وجهه ، يدلّ على نفور جأشه ، وشدّة استيحاشه ، فكذلك هؤلاء إذا شاهدوا أمارات العذاب ، ونوازل العقاب ، ظهر في وجوههم ما يستدلّ به على فظاعة الحال عندهم ، وبلوغ مكروهها من قلوبهم ، فكانوا كلائك (١) المضغة المقرة (٢) ، وذائق الكأس الصّبرة ، في فرط التقطيب ، وشدة التهيج. وشاهد ذلك قوله سبحانه : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١٠٤) [المؤمنون].

__________________

(١). اللائك : اسم فاعل من لاك يلوك أي مضغ.

(٢). المقرة على وزن فرحة : المرّة الطعم يقال : مقر الشيء مقرّا إذا صار مرّا.

٨٤

سورة الرّحمن

(٥٥)

٨٥
٨٦

المبحث الأول

أهداف سورة «الرحمن» (١)

سورة «الرحمن» سورة مدنية وآياتها ٧٨ آية ، نزلت بعد سورة «الرعد».

وتتميز سورة «الرحمن» بجرسها ، وقصر آياتها ، وتعاقب الآيات : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤). فنسمع هذا الرنين الأخّاذ ، والإيقاع الصاعد الذاهب الى بعيد ، والنعم المتعدّدة بتعليم القرآن ، وخلق الإنسان ، وتعليم البيان .. وكلّ هذه النعم مصدرها رحمة الرحيم الرحمن ، صاحب الفضل والإنعام ؛ فإذا استرسلنا في قراءة السورة رأينا حشدا من مظاهر النعم ، وآلاء الله الباهرة الظاهرة ، في جميل صنعه ، وإبداع خلقه ، وفي فيض نعمائه ، وفي تدبيره للوجود وما فيه ، وتوجيه الخلائق كلّها الى وجهه الكريم ...

وسورة «الرحمن» ، إشهاد عام للوجود كلّه على الثّقلين : الإنس والجن ، إشهاد في ساحة الوجود ، على مشهد من كلّ موجود ، مع تحدّ للجن والإنس إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحديا يتكرّر عقب بيان كلّ نعمة من نعمه ، التي يعدّدها ويفصّلها ، ويجعل الكون كلّه معرضا لها ، وساحة الاخرة كذلك.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣).

تكررت هذه الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة ، لتذكّر الإنس والجن ، بنعم الله الجزيلة عليهم ، بأسلوب معجز يتحدّى بلغاء العرب ؛ ولا شك

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٨٧

في أنّ هذه النعم الضافية ، التي أسبغها ربهم عليهم ، تستحق من العباد الشكر والايمان ، لا الكفر والطغيان.

والآلاء جمع «ألى» ، أو «إلى» وهي النعمة ، أي نعم الله عليكم وافرة ، ترونها أمامكم ، وخلفكم ، وفوقكم ، وتحتكم ، فبأيّ هذه النعم تكذّبان؟ والخطاب هنا للجنّ والانس ، لتذكيرهما بالإفضال المتلاحقة من الله تعالى ، ولا يستطيعان أن يكذّبا ، أو يجحدا ، أيّ نعمة من هذه النعم.

روي أنّ رسول الله (ص) خرج على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة «الرحمن» ، من أوّلها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال النبي (ص) : لقد قرأتها على الجنّ ، فكانوا أحسن ردّا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله تعالى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) قالوا : لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد.

كما روي أن قيس بن عاصم المنقري ، جاء الى رسول الله (ص) فقال له : يا محمد ، اتل عليّ شيئا ممّا أنزل عليك ، فتلا عليه سورة «الرحمن» ، فقال : أعدها فأعادها (ص) فقال : والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وأسفله مغدق ، وأعلاه مسفر ، وما يقول هذا بشر ، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله.

المعنى الإجمالي للسورة

المنّة على الخلق بتعليم القرآن ، وتلقين البيان ، ولفت أنظارهم إلى صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله : الشمس ، والقمر ، والنجم ، والشجر ، والسماء المرفوعة ، والميزان الموضوع ، وما فيها من فاكهة ، ونخل ، وحبّ ، وريحان ، والجن والإنس ، والمشرقان ، والمغربان ، والبحران بينهما برزخ لا يبغيان ، وما يخرج منهما ، وما يجري فيهما.

فإذا تمّ عرض هذه الصحائف الكبار ، عرض مشهد فنائها جميعا ، مشهد الفناء المطلق للخلائق ، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي ، الذي إليه تتوجّه الخلائق جميعا ، ليتصرف في أمرها بما يشاء ، قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧).

وفي ظل الفناء المطلق للإنسان ، والبقاء المطلق للرحمن ، يجيء التهديد المروّع ، والتحدّي الكوني للجن والإنس ، ومن ثمّ يعرض السياق مشهد

٨٨

النهاية ، مشهد القيامة ، يعرض في صورة كونية ، يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة ، ومشهد العذاب للمجرمين ، ثم يعرض ألوان الثواب للمتقين ، ويصف الجنة وما فيها من نعيم مقيم أعدّه الله للمتقين ، ويبين أن منازل الجنات مختلفة ، ونعيمها متفاوت ، والجزاء على قدر العمل.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩).

قال المفسّرون : شؤون يبديها لا شؤون يبتديها (١) ، فهو سبحانه صاحب التدبير ، الذي لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يندّ عن علمه ظاهر ، ولا خاف ؛ والخلق كلهم يسألونه ، فهو سبحانه مناط السؤال ، وغيره لا يسأل ، وهو معقد الرجاء ومظنة الجواب.

وهذا الوجود ، الذي لا تعرف له حدود ، كله منوط بقدره ، متعلّق بمشيئته ، وهو سبحانه قائم بتدبيره.

هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت ، وما يسقط من ورقة ، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض ، وكل رطب وكل يابس ، يتبع الأسماك في بحارها ، والديدان في مساربها ، والوحوش في أوكارها ، والطيور في أعشاشها ، وكل بيضة وكل فرخ ، وكل خلية في جسم حي.

تفسير النسفي للاية

في تفسير قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) ، قال النسفي : كل من في السماوات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم.

وكل وقت وحين ، يحدث أمورا ويجدّد أحوالا ؛ كما روي أنه عليه‌السلام تلاها ، فقيل له وما ذلك الشأن؟ فقال : من شأن أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ، ويضع آخرين. وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان ، أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا ، فشأنه فيه الأمر ، والنهي ، والإحياء ، والإماتة ، والإعطاء ، والمنع ؛ واليوم الاخر ، هو القيامة ، فشأنه فيه الجزاء ، والحساب.

وقيل نزلت في اليهود حينما قالوا :

__________________

(١). تفسير النسفي ٤ : ١٥٩ ، والمعنى يظهرها امام أعين الناس ولا يبتكرها اليوم بل يقضي بوقوعها ، ومن أصول الإيمان أن نؤمن بالقضاء والقدر. والقضاء ما وقع أمام الناس والقدر ما قدّر الله وقوعه في الأزل.

٨٩

إنّ الله لا يقضي يوم السبت شأنا. وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية ، فاستمهله الى الغد ، وذهب كئيبا يفكّر فيها فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك ، فأخبره ، فقال الغلام أنا أفسرها للملك فأعلمه ، فقال أيها الملك : شأن الله أنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيما ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويغني فقيرا. فقال الملك : أحسنت ، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة ، فقال : يا مولاي هذا من شأن الله. وقيل سوق المقادير إلى المواقيت. وقيل إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل ، وقال له أشكلت علي آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) وقد صح أن القلم جفّ ، بما هو كائن الى يوم القيامة. فقال الحسين : كل يوم هو في شأن ، فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها (١) أي يظهرها لعباده في واقع الناس ، على وفق ما قدّره في الأزل ، من إحياء وإماتة ، وإعزاز وإذلال ، وإغناء وإعدام ، وإجابة داع ، وإعطاء سائل ، وغير ذلك ؛ (٢) فالناس يسألونه سبحانه بصفة مستمرّة ، وهو سبحانه مجيب الدعاء ، بيده الخلق والأمر ، يغيّر ولا يتغيّر ، يجير ولا يجار عليه ، يقبض ويبسط ويخفض ويرفع ، وهو بكل شيء عليم.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦).

__________________

(١). تفسير النسفي ٤ : ١٥٩.

(٢). تفسير الجلالين ص ٤٩٤.

٩٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الرحمن» (١)

تاريخ نزولها وتسميتها

نزلت سورة «الرحمن» بعد سورة «الرعد» ، ونزلت سورة «الرعد» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة «الرحمن» في ذلك التاريخ أيضا. وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لافتتاحها به في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ٩٩ (٢) وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ، الدعوة إلى الله تعالى ، بطريق الترغيب ، وذلك بتعداد نعمه على عباده ، وقد أخذ المشركون في السورة السابقة ، بطريق الإنذار والترهيب ، فأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب ، تفنّنا في السياق ، وتجديدا لنشاط السامع ، على أنها لم تخل مع هذا من الأخذ بالترهيب أيضا.

تعداد نعم الله على عباده

الآيات [١ ـ ٧٨]

قال الله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ) (٣) فذكر سبحانه نعمته على عباده بإنزال القرآن لهدايتهم ، وبخلقهم وتعليمهم البيان ، وبخلق الشمس والقمر بحسبان ، وبخلق النجم والشجر ، وبرفع السماء ووضع الميزان ، وبوضع الأرض وما فيها ، من فاكهة ونخل وحبّ وريحان ؛ ثم ذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرخ.

٩١

صلصال ، والجانّ من نار ، وأنه ربّ المشرقين والمغربين ، وأنه مرج البحرين يلتقيان ، بينهما برزخ لا يبغيان ، ويخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ، وتجري فيهما السفن كالأعلام ؛ ثم ختم السياق بقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) ليبين أن الإنسان يتمتّع بذلك الى أجل ، فلا يصح أن يغتر به وينسى ربّه ؛ ثمّ عدّد سبحانه نعمه ، فذكر أنه يسأله من في السماوات والأرض ، ما يحتاج إليه في دينه ودنياه كل يوم ، وأنه سيفرغ لهم ويحاسبهم على جحد هذه النعم ، فلا يمكنهم أن يفلتوا من حسابه ؛ وأنه سيرسل عليهم شواظا من نار ونحاس ، فلا يمنعهم منهما أحد ، وأن ذلك سيكون إذا انشقت السماء فكانت وردة كالدّهان ؛ ثم ذكر سبحانه ما يكون من حسابهم وعقابهم في ذلك اليوم ؛ وأعقبه جلّ شأنه بذكر ما أعدّه لمن خاف مقامه فلم يجحد ما أنعم به عليه ، ومضى السياق في تفصيل هذا إلى أن ختمه بقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨).

٩٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الرحمن» (١)

أقول : لمّا قال سبحانه وتعالى في آخر القمر : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦). ثم وصف حال المجرمين في سقر ، وحال المتّقين في جنّات ونهر ، فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتمّ تفصيل ، على الترتيب الوارد في الإجمال.

فبدأ بوصف مرارة الساعة ، والإشارة الى إدهائها ، ثم وصف النار وأهلها (٢) ، والجنّة وأهلها (٣) ، ولذا قال فيهم : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦). وذلك هو عين التقوى (٤). ولم يقل : لمن آمن وأطاع ، أو نحوه ، لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصّل.

وعرف بذلك ، أنّ هذه السورة بأسرها ، شرح لآخر السورة التي قبلها ، فلله الحمد ، على ما ألهم وفهّم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وصف النار وأهلها جاء في قوله تعالى في سورة الرحمن : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) إلى (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٤٤).

(٣). وصف الجنة وأهلها جاء في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) الى آخر السورة.

(٤). التقوى هي : خوفه عزوجل. وبذلك يتفق التفصيل هنا مع الإجمال في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤).

٩٣
٩٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الرحمن» (١)

١ ـ (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦).

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب ، وعطاء : أنها نزلت في أبي بكر (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وسبب ذلك جاء في رواية عطاء ، التي أخرجها عنه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، في كتاب «العظمة» : أن أبا بكر ، ذكر ، ذات يوم ، القيامة والموازين ، والجنة والنار ، فقال : وددت أني كنت خضراء من هذه الخضر ، تأتي عليّ بهيمة تأكلني ، وأني لم أخلق. فنزلت : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦). انظر «الباب النقول في أسباب النزول» للسيوطي ص ٧١٦ (بهامش تفسير الجلالين).

٩٥
٩٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الرحمن» (١)

١ ـ وقال تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) (٦٦). قوله تعالى : (نَضَّاخَتانِ) (٦٦) ، أي : فوّارتان بالماء.

أقول : والنّضخ والنّضح واحد ، إلّا أنّ الأوّل أكثر ؛ وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية ، ومثل هذا الهدير والهديل.

٢ ـ وقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) (٧٦).

«الرفرف» : ضرب من البسط ، وقيل الوسائد ، وقيل : كلّ ثوب عريض رفرف. وقرئ «رفارف خضر» ؛ وقرئ : (وعباقري حسان).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٩٧
٩٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الرحمن» (١)

قال تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) أي : بحساب. وأضمر الخبر. أظن ، والله أعلم ، كأنّه أراد يجريان بحساب (٢).

وقال تعالى : (ذاتُ الْأَكْمامِ) (١١) وواحدها «الكمّ».

وقال سبحانه : (ذَواتا أَفْنانٍ) (٤٨) وواحدها : «الفنن» (٣).

وقال جلّ شأنه : (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) تقول «ازورّ» و «ازوارّ».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في زاد المسير ٨ : ١٠٦.

(٣). في الهامش : «الفنن» جمعها «الأفنان» ثم «الأفانين» وهي «الأغصان».

٩٩
١٠٠