الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الطور» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠) مع أن الحور العين في الجنة مملوكات ملك يمين لا ملك نكاح؟

قلنا : معناه قرنّاهم بهن من قولهم زوّجت إبلي : أي قرنت بعضها إلى بعض ، وليس من التزويج الذي هو عقد النكاح ، ويؤيّده أن ذلك لا يعدّى بالباء بل بنفسه كما قال تعالى : (زَوَّجْناكَها) [الأحزاب : ٣٧] ويقال زوّجه امرأة ولا يقال بامرأة.

فإن قيل : لم قال الله تعالى في وصف أهل الجنة (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٢١) أي مرهون في النار بعمله؟

قلنا : قال الزمخشري : كأن نفس كل عبد ترهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالب به ، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه ، فإن عمل صالحا فك الرهن عنها ، وخلصت ، وإلا أوبقت. وقال غيره : هذه جملة من صفات أهل النار وقعت معترضة في صفات أهل الجنة ؛ ويؤيّده ما روي عن مقاتل ، أنه قال : معناه : كل امرئ كافر بما عمل من الكفر مرتهن في النار ، والمؤمن لا يكون مرتهنا ، لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ) (٤٠) [المدّثّر].

فإن قيل : لم قال تعالى في حقّ النبي (ص) : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) ، وكل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤١

واحد غيره كذلك لا يكون كاهنا ولا مجنونا بنعمة الله تعالى؟

قلنا : معناه فما أنت بحمد الله وإنعامه عليك ، بالصدق والنبوة ، بكاهن ولا مجنون كما يقول الكفار. وقيل الباء هنا بمعنى «مع» ، كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠]. وقوله تعالى : (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٥٢] ويقال : أكلت الخبز بالتمر : أي معه.

فإن قيل : ما معنى الجمع في قوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الآية ٤٨]؟

قلنا : معناه التفخيم والتعظيم ، والمراد بحيث نراك ونحفظك ؛ ونظيره في معنى العين قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) [طه : ٣٩] ونظيره في الجمع للتفخيم والتعظيم قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [يس : ٧١].

٤٢

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الطور» (١)

في قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) استعارة ، أي إن كانوا حكماء عقلاء كما يدّعون ، فكيف تحملهم أحلامهم وعقولهم على أن يرموا رسول الله (ص) بالسّحر والجنون ، وقد علموا بعده عنهما ، ومباينته لهما؟

وهذا القول منهم سفه وكذب ، وهاتان الصفتان منافيتان لأوصاف الحلماء ، ومذاهب الحكماء.

ومخرج قوله سبحانه : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) مخرج التبكيت لهم ، والإزراء عليهم. ونظير هذا الكلام قوله سبحانه حاكيا عن قوم شعيب (ع) : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [هود : ٨٧] أي دينك وما جئت به من شريعتك التي فيها الصلوات وغيرها من العبادات ، تحملك على أمرنا بترك ما يعبد آباؤنا. وقد مضى الكلام على ذلك في موضعه.

وفي قوله سبحانه (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) وقد قرئ : (وأدبار النجوم) بفتح الهمزة استعارة على القراءتين جميعا.

فمن قرأ بفتح الهمزة كان معناه : وأعقاب النجوم. أي أواخرها إذا انصرفت. كما يقال : جاء فلان في أعقاب القوم. أي في أواخرهم. وتلك صفة تخصّ الحيوان المتصرّف الذي

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرخ.

٤٣

يوصف بالمجيء والذّهاب ، والإقبال والإدبار. ولكنها استعملت في النجوم على طريق الاتساع. فأمّا قراءة من قرأ : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) بالكسر ، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف ، فمعناه قريب من المعنى الأول. فكأنه سبحانه وصفها بالإدبار بعد الإقبال. والمراد بذلك الأفول بعد الطلوع ، والهبوط بعد الصعود.

٤٤

سورة النّجم

(٥٣)

٤٥
٤٦

المبحث الأول

أهداف سورة «النجم» (١)

سورة «النجم» سورة مكية وآياتها ٦٢ آية ، نزلت بعد سورة «الإخلاص».

١ ـ تكريم الرسول

في مطلع السورة نعيش لحظات مع قلب النبي محمد (ص) ، مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار ، يتلقى من الملأ الأعلى ، يسمع ويرى ويحفظ ما وعى ، وهي لحظات خصّ بها ذلك القلب المصفّى ، حينما عرج به في رحاب الملأ الأعلى.

أقسم الله ، جلّ وعلا ، بالثريا إذا سقطت عند الفجر ، أن محمدا راشد غير ضال ، مهتد غير غاو ، مخلص غير مغرض ، مبلّغ عن الحق بالحق غير واهم ، لا مفتر ولا مبتدع ، ولا ناطق عن الهوى في ما يبلّغكم من الرسالة ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) وهو يبلّغكم ما يوحى إليه صادقا أمينا.

وقد رأى النبي (ص) جبريل (ع) مرتين على صورته التي خلق عليها ، الأولى عند غار حراء ، وكان ذلك في مبدأ الوحي حينما رآه النبي يسدّ الأفق بخلقه الهائل ، ثم دنا منه فتدلى نازلا مقتربا إليه فكان أقرب ما يكون منه على قاب قوسين أو أدنى ، وهو تعبير عن منتهى القرب ، فأوحى إلى عبد الله ما أوحى ، بهذا الإجمال والتفخيم والتهويل.

والثانية ، كانت ليلة الإسراء والمعراج ، فقد دنا منه جبريل وهو على هيئته التي خلقه الله بها مرة أخرى

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٤٧

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) أي شجرة ينتهي إليها علم الخلائق ، أو انتهت إليها صحبة جبريل (ع) لرسول الله (ص) حيث وقف جبريل وصعد محمد (ص) درجة أخرى أقرب الى عرش ربه.

٢ ـ أوهام المشركين

تتحدث الآيات [١٩ ـ ٢٨] عن آلهة المشركين المدّعاة ، اللات والعزى ومناة ، وعن أوهامهم ، عن الملائكة وأساطيرهم حول بنوتها لله ، واعتمادهم في هذا كلّه على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ، في حين أن الرسول (ص) يدعوهم الى ما دعاهم إليه عن تثبّت وروية ويقين.

٣ ـ الإعراض عن الملحدين

أما المقطع الثالث من السورة ، فيشمل الآيات [٢٩ ـ ٣٢] ، ويوجه الخطاب إلى الرسول (ص) أن يعرض عنهم ، وأن يهمل شأنهم ، وأن يدع أمرهم لله ، الذي يعلم المسيء والمحسن ، ويجزي المهدي والضال ، ويملك أمر السماوات والأرض وأمر الدنيا والاخرة ، ويحاسب بالعدل فلا يظلم أحدا ، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصرّ عليها فاعلوها ؛ هو الخبير بالنيات والطوايا ، لأنه خالق البشر المطّلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا.

٤ ـ الصغائر من الذنوب

الصغائر هي ما دون الفاحشة ، وهي القبلة واللمسة والمباشرة والنظرة وغيرها ؛ فإذا التقى الختانان ، وتوارت الحشفة ، فقد وجب الغسل ، وهذه هي الفاحشة.

روى البخاري ومسلم أن رسول الله (ص) قال : «إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظّه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».

وروى ابن جرير أن ابن مسعود قال : زنا العين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلّا فهو اللّمم ، وكذا قال مسروق والشعبي.

ويرى فريق من العلماء أن اللّمم هو الإلمام بالذنوب ثم التوبة منها ،

٤٨

فصاحب اللمم يقع في الكبائر أو يرتكب الآثام غير مصر عليها ، ثم يندم ويتوب من قريب.

قال ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه : «أراه رفعه» في (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [الآية ٣٢]. قال اللّمّة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللّمّة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود. قال فذلك الإلمام.

وروى ذلك موقوفا على الحسن.

وهذا التفسير يفتح باب التوبة أمام الجميع حتى مرتكب الكبيرة لا ييأس ، فإذا صدق في توبته ، وأخلص في نيته ، وأكد عزمه على التوبة النصوح ، فإنّ أمامه رحمة الله الواسعة التي يشمل بها التائبين ، ويستأنس لذلك بما في الآية من المغفرة :

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢).

والآية كما نرى تفتح باب الرجاء ، وتدل الناس على عظيم فضل الله. فهو سبحانه خلقهم ، وهو أعلم بهم. وحينما يذنبون لا يغلق باب الرحمة في وجوههم بل يفتح أبواب القبول للتائبين ، ويغفر للمستغفرين ، قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣) [الزمر].

وفي الصحيح أن رسول الله (ص) قال : «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الأخير فينادي : يا عبادي هل من داع فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من تائب فأتوب عليه ، هل من طالب حاجة فأقضيها له حتى يطلع الفجر». [والنزول هاهنا ليس النزول المعهود ، وهو بكيفيّة لا يعلمها إلّا الله جلّ جلاله].

٥ ـ حقائق العقيدة

وفي الآيات الأخيرة من السورة [٣٣ ـ ٦٢] تعود الفواصل القصيرة والتنغيم الكامل في أسلوب بسيط ، وإيقاع يسير ، وتقرّر الآيات الحقائق الأساسية للعقيدة كما هي ثابتة منذ إبراهيم عليه‌السلام صاحب الحنيفية الأولى ، وتعرّف البشر بخالقهم ، فاثاره واضحة

٤٩

أمام الناس ، فهو الخالق الرازق صاحب الطّول والإنعام ، ومنه المبدأ وإليه المنتهى. وهو الذي أهلك المكذبين من عاد وثمود وقوم نوح ، ولكنكم يا أهل مكة تضحكون وتسخرون ، وتسترسلون في غيكم وعنادكم ، وأولى بكم أن تسجدوا لله سبحانه ، وأن تعبدوه وأن تقبلوا على دينه ، مقرّين لله عزوجل بالعبودية ولمحمد (ص) بالرسالة.

٥٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «النجم» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «النجم» بعد سورة «الإخلاص» ، وكان نزولها بعد الهجرة الأولى للحبشة ، وكانت هذه الهجرة في السنة السابعة من البعثة. فلمّا نزلت هذه السورة أشيع كذبا أنه نزل فيها بعد قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) تلك الغرانيق العلى ، وإنّ شفاعتهن لترتجى ؛ وأن قريشا أسلمت حين آمن النبي (ص) بشفاعة آلهتها في تلك الشائعة المفتراة ، فرجع مهاجرو الحبشة حين أشيع ذلك بينهم ، فرأوا أن قريشا لا تزال على كفرها ، وبهذا تكون سورة النجم من السور التي نزلت فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) وتبلغ آياتها اثنتين وستين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات أن ما جاء به النبي (ص) من وحي الملائكة ، وهذا يقتضي أن الملائكة عباد الله من وظيفتهم الوحي وغيره ، فلهذا انتقل الكلام في هذه السورة من هذا الغرض الى إبطال بنوّتهم لله تعالى ؛ ولا شك في أن هذا الغرض يتصل بما جاء في السورة السابقة من زعمهم الباطل أن الرسول (ص) كاهن أو مجنون أو شاعر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٥١

نزول جبريل بالدعوة

الآيات [١ ـ ٦٢]

قال الله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤).

فأقسم بهذا على أن النبي (ص) ما ضلّ وما ينطق عن الهوى ، كما هو شأن الكاهن والمجنون والشاعر ؛ وإنما ينطق عن الوحي الذي ينزله عليه الملك جبريل ؛ ثم ذكر أن جبريل تارة ينزل إليه من السماء بالوحي ، وتارة يصعد هو إليه بالسماء فيتلقاه منه ، ويرى في ذلك ما يرى من آيات ربه الكبرى.

ثم انتقل السياق من هذا إلى إبطال ما يزعمونه من أن هذه الملائكة بنات الله ، وكانوا يتخذون لها أصناما يعبدونها من اللات والعزّى ومناة ، فذكر ما يتخذونه من هذه الأصنام الثلاثة ، وأبطل أن يكون له منها بنات ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وهم لا يرضون لأنفسهم إلا البنين ، وذكر أن هذه مزاعم يقلّدون فيها آباءهم ولا دلهم عليها ، ثم أبطل ما يتمنونه من شفاعتها لهم ، وذكر جلّ وعلا أن كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذنه ورضاه.

ثم عاد السياق إلى تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى من غير علم ، فذكر أمر الله تعالى النبي (ص) أن يعرض عمّن يتولى بعد هذا عنه ، لأنهم لا يريدون الحق وإنما يريدون الحياة الدنيا. ثم ذكر جل جلاله أن له ما في السماوات والأرض ليجزي المحسن والمسيء بعمله ، فلا تنفع هناك شفاعة شفيع له. وذكر سبحانه أن المحسنين هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم ، وأنه سيكون معهم واسع المغفرة ؛ ثم ذكر الذي تولى من المشركين واعتمد على ما يزعمه من شفاعة الملائكة له ، فرد عليه بأنه لا علم عنده بذلك من الغيب ، وبما ورد في صحف موسى وإبراهيم : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) ، إلى غير هذا مما نقله عن هذه الصحف ؛ ثم ذكر أن ما يوحى إلى النبي (ص) نذير من تلك النّذر التي أنزلت قبله ، وأن ما ينذر به قد قربت ساعته ، وأنكر عليهم أن يعجبوا ويضحكوا ممّا ينذرهم به ، ولا يبكوا وهم سامدون : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [الآية ٦٢].

٥٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «النجم» (١)

أقول : وجه وضعها بعد «الطور» : أنها شديدة المناسبة لها ، فإن «الطور» ختمت بقوله تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩). وافتتحت هذه بقوله سبحانه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١).

ووجه آخر : أن «الطور» ذكر فيها ذرية المؤمنين ، وأنهم تبع لآبائهم (٢) ، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود (٣) في قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) [الآية ٣٢].

ولما قال هناك في المؤمنين : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١]. أي : ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين ، مع نفعهم بما عمل آباؤهم. قال هنا في صفة الكفّار أو بني الكفّار : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) خلاف ما ذكر في المؤمنين الصّغار.

وهذا وجه بيّن بديع في المناسبة ، من وادي التضاد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١].

(٣). بل فيها ذكر لذرية كل كافر حين استخرج الله ذرية آدم من صلبه وقسمهم فريقين : فريقا للجنة ، وفريقا للسعير. انظر (تفسير ابن كثير : ٧ : ٤٣٧).

٥٣
٥٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «النجم» (١)

١ ـ (وَالنَّجْمِ) [الآية ١].

قال مجاهد : الثريّا.

وقال السّدّي : الزّهرة.

أخرجهما ابن أبي حاتم.

وقيل : هو زحل.

وقيل : هو محمد (ص).

حكاهما الكرماني.

٢ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥).

قال الربيع ، والسّدّي : هو جبريل.

أخرجه ابن أبي حاتم.

٣ ـ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ) [الآية ١٠].

قال ابن عبّاس : هو محمد (ص).

وقال الحسن : هو جبريل (٢).

أخرجهما ابن أبي حاتم (٣).

٤ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) (٣٣).

قال السّدّي : هو العاصي بن وائل.

وقال مجاهد : الوليد بن المغيرة (٤).

أخرجهما ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطباع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ : ٢٤٩ «معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمّد ما أوحى ، أو فأوحى الله إلى عبده محمد بواسطة جبريل ، وكلا المعنيين صحيح».

(٣). انظر «تفسير الطبري» ٢٧ : ٢٦.

(٤). أخرجه أيضا الطبري في «تفسيره» ٢٧ : ٤٢.

٥٥
٥٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «النجم» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١).

سامدون ، أي : شامخون مبرطمون (٢).

وقيل : لاهون ولاعبون.

أقول : وهذا من الكلم الذي لم يتّضح للمفسرين ، واختلافهم البعيد في فهمه دليل على ذلك.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). برطم الرّجل : أدلى شفتيه من الغضب.

٥٧
٥٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «النجم» (١)

قال تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) جماعة «القوّة» وبعض العرب يقول : «حبوة» و «حبى» فينبغي لهؤلاء أن يقولوا : «القوى» ، بكسر القاف ، في هذا القياس. ويقول بعض العرب «رشوة» و «رشا» ، ويقول بعضهم «رشوة» و «رشا». وبعض العرب يقول : «صور» ، و «صور» والجيدة «صور» (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤].

وقال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) فقوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ) بدل من قوله سبحانه (بِما فِي صُحُفِ مُوسى) (٣٦) أي : بأن لا تزر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرخ.

٥٩
٦٠