الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الذاريات» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) (٥) و «الصادق» وصف القائل لا وصف الوعد؟

قلنا : قيل «صادق» بمعنى «مصدوق» كقوله تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) [الحاقة] وقوله : (ماءٍ دافِقٍ) (٦) [الطارق] وقيل معناه «لصدق» ، فإن المصدر قد جاء على وزن اسم الفاعل كقولهم : قمت قائما ، وقولهم : لحقت بهم اللائمة : أي اللوم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (١٥) والمتقون لا يكونون في الجنة في العيون؟

قلنا : معناه أنهم في الجنات ، والعيون الكثيرة محدّقة بهم من كل ناحية ، وهم في مجموعها لا في كل عين. ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) (٥٤) [القمر] لأنه بمعنى أنهار ، إلا أنه ـ والله أعلم ـ عدل عنها رعاية للفواصل.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) ، أي في قرى قوم لوط (ع) ، وقرى قوم لوط ليست موجودة ، فكيف توجد فيها العلامة؟

قلنا : الضمير في قوله تعالى (فِيها) عائد إلى تلك الناحية والبقعة لا إلى مدائن قوم لوط. الثاني : عائد إليها ، ولكن «في» بمعنى «من» كما في قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [النحل : ٨٤] ، وقوله تعالى : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) [النساء : ٥]. ويؤيد هذا الوجه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، ومكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١

مجيئه مصرحا به في سورة العنكبوت بلفظ «من» في قوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣٥) [العنكبوت] ثم قيل : الآية آثار منازلهم الخربة ؛ وقيل هي الحجارة التي أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقيل هي الماء الأسود الذي يخرج من الأرض.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الآية ٤٩] ، أي صنفين ، مع أن العرش والكرسي والقلم واللوح لم يخلق منها إلا واحد؟

قلنا قيل : معناه ومن كل حيوان خلقنا ذكرا أو أنثى. وقيل معناه : ومن كل شيء تشاهدونه خلقنا صنفين كالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، والنور والظلمة ، والخير والشر ، والحياة والموت ، والبحر والبر ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ونحو ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الآية ٥٠] ، وقال سبحانه ، في موضع آخر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]؟

قلنا : معنى قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي الجأوا إليه بالتوبة ، وقيل معناه : ففرّوا من عقوبته إلى رحمته ؛ ومعنى قوله سبحانه : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي يخوفكم عذاب نفسه أو عقاب نفسه. وقال الزجّاج : معنى «نفسه» «إياه» ، كأنه قال سبحانه وتعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام : ٥٢] أي إياه ، فظهر أنه لا تناقض بين الآيتين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) وإذا قلنا ، خلقهم للعبادة كان مريدا لها منهم ، فكيف أرادها منهم ولم توجد منهم؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها أنه عام أريد به الخاص وهم المؤمنون ، بدليل خروج البعض منه ، بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ومن خلق لجهنم لا يكون مخلوقا للعبادة. الثاني : أنه على عمومه ، والمراد بالعبادة التوحيد ، وقد وحّده الكل يوم أخذ الميثاق ، وهذا الجواب يختص بالإنس ، لأنّ أخذ الميثاق مخصوص بهم في الآية. وقيل معناه : إلا ليكونوا عبيدا لي. وقيل معناه : إلا ليذلّوا ويخضعوا وينقادوا لما قضيته وقدّرته

٢٢

عليهم ، فلا يخرج عنه أحد منهم. وقيل معناه إلّا ليعبدوني إن اختاروا العبادة لا قسرا وإلجاء. وقيل إلا ليعبدوني العبادة المرادة في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الرعد : ١٥] والعموم ثابت في الوجوه الخمسة.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) بعد قوله سبحانه : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ)؟

قلنا : معناه (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) لأنفسهم ، (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) : أي أن يطعموا عبيدي ، وإنما أضاف الإطعام إلى ذاته المقدسة لأن الخلق عياله وعبيده ، ومن أطعم عيال غيره فكأنه أطعمه ، ويؤيّده ما جاء في الحديث الصحيح «إن الله عزوجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني» أي استطعمك عبدي فلم تطعمه.

٢٣
٢٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الذاريات» (١)

في قوله سبحانه في صفة حجارة القذف : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤) استعارة. والمسوّمة : المعلمة. وأصل ذلك مستعمل في تسويم الخيل للحرب. أي تعليمها بعلامات تتميّز بها من خيل العدو ؛ شبّهت هذه الحجارة بها لأنها معلّمة بعلامات تدلّ على مكروه المصابين ، وضرر المعاقبين ، كما كانت الخيل المسوّمة تدل على ذلك في لقاء الأعداء. وإرسال هذه للعراك كإرسال تلك للهلاك.

وقيل : إن التسويم في تلك الحجارة هو أن تجعل نكتة سوداء في الحجر الأبيض ، أو نكتة بيضاء في الحجر الأسود.

وقيل : كان عليها أمثال الطوابيع والخواتيم. وقد تكلمنا على نظير هذه الاستعارة في«هود».

والمراد بقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّكَ) أي خلقها سبحانه كذلك من غير أن يفعلها فاعل ، أو يجعلها جاعل. فلأجل هذه الحال وجب أن يجعل لها تعالى هذا الاختصاص بقوله : (عِنْدَ رَبِّكَ). وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أنها مسوّمة في سلطان الله تعالى وملكوته. وفي موضع العقاب المعدّ للمذنبين من خلقه.

وفي قوله تعالى : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩).

وقد قيل : إن المراد بها أنه أعرض بجنوده الذين هم كالركن له ، والحجارة دونه. وقد يسمّى أعوان المرء وأنصاره

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٥

أركانه واعتماده (١) ، إذ كان بهم يصول ، وإليهم يؤول.

وقيل أيضا معنى ذلك فتولّى (٢) وسلطانه ، فإن ذلك كالركن له والمانع منه. ونظيره قوله سبحانه حاكيا عن لوط (ع) : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠) [هود] ، أي إلى عزّ دافع ، وسلطان قامع.

وفي قوله سبحانه : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١) استعارة. ومعنى العقيم هاهنا التي لا تحمل القطار ، ولا تلقح الأشجار ، ولا تعود بخير ، ولا تنكشف عن عواقب نفع. فهي كالمرأة التي لا يرجى ولدها ، ولا ينمى عددها.

__________________

(١). هكذا بالأصل. ولعلها «وأعماده».

(٢). بياض بالأصل.

٢٦

سورة الطّور

(٥٢)

٢٧
٢٨

المبحث الأول

أهداف سورة «الطور» (١)

سورة الطور سورة مكية وآياتها ٤٩ آية ، نزلت بعد سورة السجدة.

القسم في صدر السورة

(وَالطُّورِ) (١) : الجبل فيه شجر ، والأرجح أنّ المقصود به هو الطور المعروف في القرآن ، وهو الجبل الذي تلقّى موسى (ع) عنده كلام الله جلّ جلاله. قال تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥١) (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢) [مريم].

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) : الأقرب أن يكون كتاب موسى (ع) الذي كتب له في الألواح المناسبة بينه وبين الطور.

وقيل هو اللوح المحفوظ تمشيا مع ما بعده ، البيت المعمور والسقف المرفوع ، ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) : قد يكون هو الكعبة فهي عامرة بالطواف حولها في جميع الأوقات.

وقيل هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كلّ يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه بل يدخل غيرهم في اليوم التالي.

وذلك يرمز الى كثرة الملائكة وهم خلق مكرّمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٩

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) : هو السماء.

وقد نسب ذلك الى سفيان الثوري عن الإمام علي رضي الله عنه ، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٣٢) [الأنبياء].

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) : المملوء ، وهو أنسب شيء يذكر مع السماء ، في انفساحه وامتلائه وامتداده.

وقد يكون معنى المسجور : المتّقد ، كما في قوله تعالى في سورة أخرى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٦) [التكوير] أي توقّدت نيرانا عند نهاية الحياة ، وذلك يمهّد لجواب القسم ، وهو : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨).

وقد سمع عمر رضي الله عنه هذه الآية ذات ليلة فتأثّر بها واشتدّ خوفه وعاد الى بيته مريضا ، ومكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.

وعمر رضي الله عنه سمع السورة قبل ذلك وقرأها وصلى بها ، فقد كان رسول الله (ص) يصلي بها المغرب ، ولكنها في تلك الليلة صادفت من عمر قلبا مكشوفا ، وحسّا مفتوحا ، فنفذت إليه.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠).

ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوّة وهي تضطرب وتتقلّب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هناك بلا قوام ، ومشهد الجبال الراسية الصلبة تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار أمر مذهل مزلزل ، من شأنه أن يذهل الإنسان.

وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن السماء تنشقّ على غلظها وتتعلق الملائكة بأطرافها ، كما ذكر اضطراب الكون وسائر الموجودات يوم القيامة.

إن قلوب أهل مكة التي جحدت الاخرة ، وأنكرت البعث والجزاء ، تحتاج الى حملة عنيفة يقسم الله ، جلّت قدرته ، فيها بمقدّسات في الأرض والسماء بعضها مكشوف ومعلوم ، وبعضها مغيّب مجهول ، على وقوع العذاب يوم القيامة وسط مشهد هائل ترتج له الأرض والسماء : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨) [ابراهيم].

وفي وسط هذا المشهد المفزع نرى

٣٠

ونسمع ما يزلزل ويرعب من ويل وهول وتقريع وتفزيع.

إن المجرمين يساقون سوقا إلى جهنّم ويدفعون في ظهورهم دفعا ، حتّى إذ أوصل بهم الدفع الى حافة النار قيل لهم هذه هي النار ، فهل هي سحر كما زعمتم أن القرآن سحر وأن محمّدا ساحر ، أم أنها الحق الهائل الرهيب؟ أم أنتم لا تبصرون النار كما كنتم لا تبصرون الحقّ في القرآن؟.

نعيم الجنة

من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب الكافرين ونعيم المتّقين ، وفي الآيات [١٧ ـ ٢٨] نجد حديثا عن ألوان التكريم التي يتمتع بها المتقون. فهم في الجنات يتمتّعون بألوان اللذائذ الحسية والمعنوية ، وقد ألحق الله الذرية بالإباء إذا اشتركوا معهم في الإيمان وقصروا عنهم في العبادة والطاعة.

أدلة القدرة

في الجزء الأخير من السورة ، نجد أن الآيات لها وقع خاص. ورنين يأخذ على النفس البشرية كلّ أنحائها ، ويجبه المنكرين بالعديد من الحجج ، ويستفهم منهم بطريقة لاذعة ساخرة لا يملك أيّ منصف معها غير التسليم.

والآيات تبدأ بتوجيه الخطاب إلى رسول الله أن يبلغ الدعوة ، فهو أمين على وحي السماء ، بعيد عن الاتهام بالكذب والجنون. وتسرد الآيات اتّهام الكفّار له بأنّه شاعر أو متقوّل ادّعى القرآن من عند نفسه ، ونسبه الى الله ، فتطلب منهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين في دعواهم.

وأمامهم أدلّة القدرة ، فهل خلقوا من غير خالق؟ أم خلقوا أنفسهم؟ وإذا انتفى لم يبق الا احتمال ثالث وهو أنهم خلق الله.

ويتوالى هذا الاستفهام الإنكاري يقرّعهم بالحجة بعد الحجة ، وبالدليل تلو الدليل.

فهذه السماء العالية من خلقها؟ هل هم خلقوها؟

وهل تطلب منهم يا محمد أجرا على تبليغ الرسالة؟

وهل يملكون أمر الغيب؟ وأمر

٣١

الغيب لا يطلع عليه إلّا الله سبحانه وتعالى.

وهل لهم إله يتولاهم غير الله؟ تنزه الله عن شركهم.

وعند ما وصل جحودهم وعنادهم إلى هذا الحد من الغلوّ في الباطل ، أمر الله ، جلّ وعلا ، رسوله (ص) أن يعرض عنهم ويتركهم حتّى يلاقوا مصيرهم ، وفي هذا اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا تنجيهم مؤامراتهم.

٣٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الطور» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الطور» بعد سورة «السجدة» ، ونزلت سورة «السجدة» بعد «الإسراء» وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الطور» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) وتبلغ آياتها تسعا وأربعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة الإنذار بعذاب الدنيا والاخرة ، وبهذا تشارك السورتين السابقتين في الغرض المقصود منهما ، وهذا هو وجه ذكرها بعدهما.

إثبات الإنذار بالعذاب

الآيات [١ ـ ٤٩]

قال الله تعالى : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) ، فأقسم بهذا على وقوع ذلك العذاب ، وذكر أنه يوم تمور السماء وتسير الجبال ، وحينئذ يكون الهلاك للمكذّبين به ، ويصلون النار بما كانوا يعملون ؛ ثم ذكر ما أعد فيه للمتقين من جنات ونعيم ، ليجمع بهذا بين طريق الترهيب وطريق الترغيب ، قد أطال في هذا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣٣

الطريق ، إلى أن ذكر مما يقوله المتقون في سبب نعيمهم : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨).

ثم انتقل السياق من هذا الى أمر النبي (ص) بأن يستمر على تذكيره بما أنزل عليه من ذلك الإنذار ، لأنه حق ليس بقول كاهن ولا مجنون ولا شاعر كما يزعمون ، ولأنهم لا ينكرون عن عقل ، وإنما هم قوم طاغون ؛ ثم أمرهم ، جلّ وعلا ، على سبيل الإلزام ، أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في ما يفترونه عليه ، ليظهر عجزهم ويبطل ما زعموه من أنه كاهن أو مجنون أو شاعر. ثم سلك طريقا آخر في إلزامهم ؛ فذكر أنهم لم يخلقوا من غير شيء ، بلى لا بد لهم من خالق ، وأنهم لا يملكون شيئا من أمر هذا الخلق حتّى يقطعوا بنفي الحساب والعقاب ، وأنهم لم ينزل عليهم بذلك نبأ من السماء ، فألزمهم بأنّ لهم خالقا هو الذي يتصرف في أمورهم ، ولا يملكون أن يمنعوا ما يريده من حسابهم على أعمالهم ؛ وذكر سبحانه أنه لا شريك له في ذلك من الملائكة الذين يزعمون أنهم بناته ؛ ثم انتقل السياق الى إلزامهم بطريق آخر فذكر تعالى أن النبي (ص) لا يسألهم على إنذاره أجرا حتى يتهم فيه أو يثقلهم به ، وأنهم لا علم عندهم بالغيب حتى يقطعوا بأنه لا حساب عليهم ، وأنه لم يبق بعد هذا إلّا أن يريدوا الكيد والعذاب لأنفسهم لقيام هذه الإلزامات عليهم ، أو يكون لهم إله غير الله يدفع العذاب عنهم (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣).

ثم ختمت السورة ببيان فرط طغيانهم وعنادهم في تكذيب ما أنذروا به ، فذكر عزوجل أنهم لو نزّل عليهم كسف من السماء لعذابهم لقالوا : هذا سحاب تراكم بعضه على بعض ليمطرنا ، وأمر النبي (ص) أن يتركهم في هذا الطغيان والعناد حتّى يلاقوا ما ينكرون. ثم ذكر أن لهم عذابا دون عذاب الاخرة بتسليط المسلمين عليهم. وأمر النبي (ص) بالصبر الى أن يفي بهذا الوعد ، فقال (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩).

٣٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الطور» (١)

أقول : وجه وضعها بعد «الذاريات» : تشابههما في المطلع والمقطع ، فإنّ في مطلع كلّ منهما صفة حال المتّقين بقوله تعالى في الآيات ١٥ ـ ١٧ من سورة الذاريات : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) ، الآيات. وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفّار ، بقوله في تلك : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [الذاريات : ٦٠]. وفي هذه : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ٤٢] (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). ومن المناسبة بين الطور والذاريات أنه تعالى ذكر تكذيب الكافرين ، وردّ عليهم بإيجاز في الذاريات بقوله سبحانه : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢) وما بعدها. ثم فصّل ذلك في الطور من قوله جل وعلا : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) الى آخر السورة.

٣٥
٣٦

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الطور» (١)

١ ـ قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣).

والمعنى : يوم يدفعون إلى النار دفعا.

وقرئ : «يدعون» من الدعاء.

أقول : ليس في العربية المعاصرة الفعل المضاعف «دع يدع».

٢ ـ وقال تعالى : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧).

المصيطر بالصاد ، أي : الغالب. وقرئ بالسين.

أقول : غلبت السين على المسيطر في العربية ولكن لغة التنزيل في القراءة المثبتة الغالبة جاءت بالصاد ، وتعاقب السين والصاد معروف. ومثل هذا السراط والصراط ، والكلمة بالسين في اللغة المعاصرة ، وقد رسمت السين في القرآن تحت الصاد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

٣٧
٣٨

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الطور» (١)

قال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً فَوَيْلٌ) (١٠) دخلت الفاء لأنه في معنى : إذا كان كذا وكذا فأشبه المجازاة ، لأن المجازاة يكون خبرها بالفاء.

وقال : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) لأنك تقول : «تربّصت زيدا» أي : تربصت به (٢)».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في الجامع ١٧ : ٧٢. وقال الأخفش : نتربص به الى ريب المنون فحذف حرف الجر كما تقول قصدت زيدا وقصدت الى زيد.

٣٩
٤٠