الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الجمعة» (١)

١ ـ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣).

أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا : أنهم قوم سلمان (٢).

وأخرج أبن أبي حاتم عن مجاهد ، قال : هم الأعاجم (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). الفارسي رضي الله عنه ، والحديث في «صحيح البخاري» (٤٨٩٧) في التفسير.

(٣). الأثر في «تفسير الطبري» ٢٨ : ٦٢ ، وذكر أبو جعفر الطبري رحمه‌الله قولا آخر عن مجاهد وابن زيد : أن المعنيّ بذلك جميع من دخل في الإسلام من بعد النبي (ص) ، كائنا من كان إلى يوم القيامة ؛ وهذا القول هو الراجح عند الطبري ، لأن الله تعالى لم يخصص منهم نوعا دون نوع ، فكلّ لاحق بهم ، أي من الصحابة ، فهو من الآخرين الذين لم يكونوا في عداد الأولين ، الذين كان رسول الله (ص) يتلو عليهم آيات الله جلّ جلاله.

٢٦١
٢٦٢

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» (١)

قال تعالى : (أَسْفاراً) [الآية ٥] واحدها «السّفر».

وقال بعض النحويين لا يكون ل «الأسفار» واحد كنحو «أبابيل» و «أساطير» ، ونحو قول العرب : «ثوب أكباش» وهو الرديء الغزل ، و «ثوب مزق» للمتمزّق.

وقال تعالى : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الآية ٩] أي والله أعلم ، من صلاة يوم الجمعة ..

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٣
٢٦٤

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الآية ٩] والسعي : العدو ؛ والعدو إلى صلاة الجمعة ، وإلى كل صلاة ، مكروه؟

قلنا : المراد بالسعي القصد. وقال الحسن : ليس هو السعي على الأقدام ، ولكنه على النيّات والقلوب ، ويؤيّد قول الحسن قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) [النجم] ، وقول الداعي في دعاء القنوت : وإليك نسعى ونحفد (٢) ، وليس المراد به العدو والإسراع بالقدم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) [الآية ١١]. والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟

قلنا : قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] والذي يؤيّده هنا ما قاله الزّجّاج معناه : «وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها» «أو لهوا انفضّوا إليه» ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.

وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه (إليهما) بضمير التثنية ، وعليه فلا حذف.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

(٢). حفد : خفّ في العمل ، وأسرع.

٢٦٥
٢٦٦

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الجمعة» (١)

في قوله سبحانه : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) استعارة. والمراد : ولا يتمنّون الموت أبدا ، خوفا مما فرط منهم من الأعمال السيئة ، والقبائح المجترحة. ونسب تعالى تلك الأفعال إلى الأيدي ، لغلبة الأيدي على الأعمال ، وإن كان فيها ما يعمل بالقلب واللسان.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٧
٢٦٨

سورة المنافقون

٦٣

٢٦٩
٢٧٠

المبحث الأول

أهداف سورة «المنافقون» (١)

سورة «المنافقون» سورة مدنيّة ، آياتها ١١ آية نزلت بعد سورة الحج.

النفاق هو إظهار الإسلام أمام المسلمين ، وإضمار غير الإسلام. والنفق بفتحتين سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر ، ونافق اليربوع إذا أتى النّافقاء ، أي دخل من مكان وخرج من مكان ، ومنه قيل «نافق الرجل» إذا دخل في الإسلام أمام المسلمين ، ودخل في عداوة الإسلام أمام غير المسلمين.

والنفاق قسمان : القسم الأول : نفاق العقيدة ، وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.

والقسم الثاني : نفاق العمل ، وهو الرياء والسمعة والتظاهر وإبراز الأمور على غير حقيقتها.

النفاق في المدينة

لم يظهر النفاق في مكّة ، لأن المسلمين كانوا مستضعفين ، وكان أهل مكة يعلنون لهم العداء ، ويجابهونهم بالإيذاء. ثمّ هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة ، والتفّ حوله الأنصار والمهاجرون ، وقويت شوكته بوحدة المسلمين وتماسكهم ، وظلّ الإسلام يتفوّق يوما بعد يوم ، ويدخل فيه وجوه أهل المدينة من رجال الأوس والخزرج ووجهائهم وأهل العصبية فيهم ؛ عندئذ رأى بعض المنافقين أن يدخلوا في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٧١

الإسلام مجاملة لأهله ، وأن يبيّتوا الكيد والخداع للمسلمين.

وقد قبل النبي (ص) من الناس ظواهرهم ، وترك بواطنهم الى الله. ولكن الأحداث كانت تعرّف المسلمين بهؤلاء المنافقين ، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة ، تجرّأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا. وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر ، اختبأ المنافقون في جحورهم ، وغيّروا طريقتهم ، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدّسّ في الخفاء.

وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية ، وقد ساندوا المنافقين وشجّعوهم ، وكوّن الطرفان جبهة متّحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين.

وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة ، وكان من وجهاء الأنصار ، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم. فلمّا جاء الإسلام للمدينة ، وتعاظمت قوّة المسلمين يوما بعد آخر ، وأصبح النبيّ الأمين صاحب الكلمة النافذة ، والأمر المطاع ، اشتدّ حقد عبد الله بن أبيّ لضياع الملك من بين يديه ، وكوّن جبهة للنفاق تشيع السوء والفتنة ، وتدبّر الكيد والأذى للمسلمين.

وشاء الله ، سبحانه ، أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة ، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة. ولم يشأ الله ، جل جلاله ، أن يعرّف النبي (ص) بأسمائهم إلّا في آخر حياته ، وقد أخفى النبي (ص) أسماءهم عن الناس ، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بها ، هو النعمان بن مقرن ، ليظلّ أمرهم مستورا.

وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله ، وقوله ، وقسمات وجهه ، وتعبيراتها. قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) [محمد].

قصة نزول السورة

في كثير من كتب التفسير والسيرة : أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد انتصر فيها المسلمون ، وغنموا غنائم كثيرة ، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة (ديسمبر ٦٢٦ م). وبعد

٢٧٢

المعركة ازدحم على الماء رجلان أحدهما أجير لعمر بن الخطاب ، وهو «جهجاه بن سعيد» ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج ، وهو سنان الجهني وتضاربا. فقال جهجاه يا للمهاجرين ، وقال سنان يا للأنصار ، فاجتمع عليهما المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون ، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار. فلمّا سمع رسول الله (ص) الصراخ ، خرج مسرعا يقول : «ما بال دعوى الجاهلية»؟ فأخبروه الخبر ، فصاح غاضبا : «دعوا هذه الكلمة ، فإنّها فتنة» وأدرك الفريقين ، فهدّأ من ثورتهما ، وكلّم المضروب حتّى أسقط حقّه ؛ وبذلك سكنت الفتنة ، وتصافي الفريقان.

ولكن عبد الله بن أبيّ عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين ، وأن تموت هذه الفتنة قبل أن تذهب بما في صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف ، فأخذ يهيّج من معه من الأنصار ، ويثير ضغينتهم ضدّ المهاجرين ، وجعل يقول في أصحابه :

«والله ما رأيت كاليوم مذلّة. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ، وأنكروا منّتنا ، والله ما عدنا وجلايب قريش هذه إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك .. «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» يقصد بالأعز نفسه ، وبالأذلّ رسول الله (ص).

ثم أقبل ابن أبيّ على من حضره من قومه يلومهم ويعنّفهم فقال : «هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم في بلادكم ، وأنزلتموهم منازلكم ، وآسيتموهم في أموالكم حتّى استغنوا. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. ثمّ لم ترضوا ما فعلتم حتّى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا ، فقتلتم دونهم ، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا ، فلا تنفقوا على من حوله حتّى ينفضّوا».

وكان في القوم زيد بن أرقم ، وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم ، أو قد بلغ حديثا ، فنقل كلام ابن أبيّ إلى الرسول (ص) ، فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، وتأثّر من معه من المهاجرين والأنصار ، وشاع في الجيش ما قاله ابن أبيّ ، حتّى ما كان للناس حديث غيره ، وقال عمر للنبيّ (ص) : يا رسول الله مر بلالا فليقتله ، وهنا

٢٧٣

ظهر النبيّ (ص) ـ كدأبه ـ بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر ، إذ التفت إلى عمر وقال : «فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه»؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل ، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون.

وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه ، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به ، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل.

قال ابن اسحق : «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار ، لقيه أسيد بن الحضير ، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه ، ثمّ قال : يا نبيّ الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال : زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد : فأنت يا رسول الله ، والله ، تخرجه منها إن شئت ، هو ، والله ، الذليل وأنت العزيز ، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى ، وليلتهم حتّى أصبح ، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ؛ ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ.

ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام ، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين.

ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ ، قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال : أمرتموني أن أؤمن فأمنت ، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت ، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد ، فنزل فيه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ

٢٧٤

لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥).

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله ، إنّه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه ؛ فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر ، فأدخل النار ؛ فقال رسول الله (ص) بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

مع السورة

وصفت الآيات الأربع الأولى من السورة رياء المنافقين ، وكشفت خداعهم : إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويسارعون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة ، وهم كاذبون في هذه الشهادة ، لأنّها لا تطابق عقيدتهم ، ولا توافق ما يضمرونه في قلوبهم [الآية ١]. وكانوا يحلفون بالله كذبا ، ويتحصّنون بهذا الإيمان ، وبئست أفعال الرجال ، الكذب والأيمان الفاجرة [الآية ٢].

لقد تكرّر نفاقهم ، وطبع الله على قلوبهم ، فلا ينفذ إليهم الهدى والإيمان [الآية ٣].

وكان فيهم أقوام صباح الوجوه ، أشدّاء البنية ، فصحاء الألسنة ؛ فإذا تكلّموا أعجبوا السّامع بكلامهم المعسول ، ولكنّ واقعهم لا يوافق ظاهرهم ؛ وإن عداوتهم ضاربة ، فاحذرهم واتّق جانبهم في حياتك (١) ، فإنهم سيلقون مصيرهم المحتوم بالهلاك والنكال [الآية ٤].

وتشير الآيات [٤ ـ ٨] إلى ما حدث من عبد الله بن أبيّ بن سلول ، في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد مرّت قصتها.

ولمّا انكشف أمره ، دعاه الناس ليستغفر له الرسول الأمين ، فأعرض ولوى وجهه ، خوفا من مواجهة الرسول بالحقيقة. [الآية ٥].

__________________

(١). الخطاب موجه إلى الرسول محمد ، عليه الصلاة والسلام.

٢٧٥

وكان ابن أبيّ قد طلب من بعض الأنصار أن يمسكوا نفقتهم ومساعدتهم عن المهاجرين ، حتّى ينفضّوا عن النبيّ الكريم ، فذكر القرآن أنّ خزائن الله عامرة ، وخيره لا ينفد ، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين [الآية ٧].

وكان ابن أبيّ يبيّت كيدا مع أتباعه ، ويتوعّد بأن يخرج النبيّ من المدينة ذليلا ؛ فبيّن الله سبحانه أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين بالإيمان ، وبمساعدة الرحمن ، وبعون الله القويّ المتين ؛ ولكنّ المنافقين لا يفقهون هذه المعاني الكريمة [الآية ٨].

أمّا المقطع الأخير في السورة ، ويشمل الآيات [٩ ـ ١١] ، فإنّه يتوجّه إلى المؤمنين بالنداء ألّا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن تذكّر ربهم ، والقيام بحقّه ، جلّ وعلا ، ومرضاته ، وتأمرهم بالصدقة والزكاة وعمل الخير ، فالله باعث الرزق ، وله الحمد في الأولى والاخرة. فأنفق أيّها الإنسان وأنت صحيح ؛ ولا تمهل ، حتّى إذا بلغت الروح الحلقوم تمنيت العودة للدنيا ، لإخراج الصدقة وعمل الصالحات ؛ ولكن الأجل إذا جاء لا يتأخّر لحظة ، بل يساق الإنسان الى الخبير العليم ، جزاء ما قدّم.

وهكذا تختم السورة بهذه الدعوة إلى الإخلاص لله سبحانه ، وامتثال أوامره ، فهو ، جلّت قدرته ، مطّلع وشاهد ، وهو الحكيم العادل.

المعنى الاجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود السورة : تقريع المنافقين وتبكيتهم ، وبيان ذلّهم وكذبهم ، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم ، وبيان عزّهم وشرفهم ، والنهي عن نسيان ذكر الحقّ تعالى ، والغفلة عنه ، والإخبار عن ندامة الكفّار بعد الموت ، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل ، في قوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١).

٢٧٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المنافقون» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «المنافقون» بعد سورة الحجّ ، وكان نزولها بعد غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة ، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [الآية ١] وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة ، فيما كان من مؤامرة المنافقين على المهاجرين ، في رجوعهم من غزوة بني المصطلق ؛ وذلك أنهم تأمروا على إخراجهم من المدينة بعد رجوعهم إليها ، وكان زيد بن أرقم قد حضر مؤامرتهم فأخبر النبيّ (ص) بها. فلمّا بلغهم ذلك ذهبوا إليه ، فأنكروها على عادتهم ، فنزلت هذه السورة لفضح مؤامرتهم ، وتصديق زيد بن أرقم. ولا شك في أنّ سياقها ، في هذا ، سياق سورة الجمعة والسور المذكورة قبلها ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الجمعة.

مؤامرة المنافقين على المهاجرين

الآيات [١ ـ ١١]

قال الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٧٧

لَكاذِبُونَ) (١)فكذّبهم في ذلك ؛ ثمّ ذكر سبحانه أنهم يتخذون هذه الأيمان الكاذبة وقاية لهم ؛ ثمّ ذكر أنّ من يراهم تعجبه أجسامهم ، فإذا خبرهم وجدهم كالخشب المسنّدة في عدم العقل ، وهم جبناء يحسبون كلّ صيحة عليهم ؛ ثم ذكر ما كان من مؤامرتهم حينما نهوا من حضرهم من الأنصار أن ينفقوا على المهاجرين حتّى ينفضّوا من المدينة ، واتّفقوا على أنّهم إذا رجعوا إليها يخرجونهم منها ؛ ثمّ نهى المؤمنين أن تلهيهم أموالهم وأولادهم كما ألهت أولئك المنافقين ، وأن ينفقوا ممّا رزقهم ، سبحانه ، ولا يسمعوا لهم ، حتّى لا يأتي أحدهم الموت فيتمنّى لو يتأخّر أجله ، ليتدارك ما فاته من الصدقة : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١).

٢٧٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المنافقون» (١)

أقول : وجه اتّصالها بما قبلها : أنّ سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون ، وهذه ذكر فيها أضدادهم ، وهم المنافقون. ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة : أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة ، يحرّض بها المؤمنين ، وبسورة «المنافقون» يفزّع بها المنافقين.

وتمام المناسبة : أنّ السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين ؛ والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى (٢) ؛ والتي قبلها ، وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهدين من المشركين (٣) ؛ والتي قبلها ، وهي الحشر فيها ذكر المعاهدين من أهل الكتاب (٤) ، فإنّها نزلت في بني النضير ، حين نبذوا العهد وقوتلوا.

وبذلك اتّضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الستّ هكذا ، لاشتمالها على أصناف الأمم ، وفي الفصل بين المسبّحات بغيرها (٥) لأنّ إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى من «التغابن» (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [الآية ٥] الى (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧).

(٣). وذلك في الآيات [٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠].

(٤). وذلك في الآيتين [٨ ، ٩].

(٥). يعني الفصل بين الحشر ، وأولها : سبّح. والتغابن وأولها : يسبّح ، بالممتحنة والصف والجمعة والمنافقون.

٢٧٩

غيره. وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره.

فظهر بذلك أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير ، فلله الحمد على ما فهّم وألهم.

هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول : أنّ سورة «التغابن» نزلت عقب الجمعة (١) ، وتقدّم نزول سورة «المنافقون» فما فصل بينهما إلّا لحكمة ، والله أعلم.

__________________

(١). الإتقان : ١ : ٩٧ وهو عن جابر بن زيد أيضا. وجابر أحد علماء التابعين بالقرآن.

٢٨٠