المبحث الرابع
مكنونات سورة «الجمعة» (١)
١ ـ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣).
أخرج البخاري عن أبي هريرة مرفوعا : أنهم قوم سلمان (٢).
وأخرج أبن أبي حاتم عن مجاهد ، قال : هم الأعاجم (٣).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). الفارسي رضي الله عنه ، والحديث في «صحيح البخاري» (٤٨٩٧) في التفسير.
(٣). الأثر في «تفسير الطبري» ٢٨ : ٦٢ ، وذكر أبو جعفر الطبري رحمهالله قولا آخر عن مجاهد وابن زيد : أن المعنيّ بذلك جميع من دخل في الإسلام من بعد النبي (ص) ، كائنا من كان إلى يوم القيامة ؛ وهذا القول هو الراجح عند الطبري ، لأن الله تعالى لم يخصص منهم نوعا دون نوع ، فكلّ لاحق بهم ، أي من الصحابة ، فهو من الآخرين الذين لم يكونوا في عداد الأولين ، الذين كان رسول الله (ص) يتلو عليهم آيات الله جلّ جلاله.
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «الجمعة» (١)
قال تعالى : (أَسْفاراً) [الآية ٥] واحدها «السّفر».
وقال بعض النحويين لا يكون ل «الأسفار» واحد كنحو «أبابيل» و «أساطير» ، ونحو قول العرب : «ثوب أكباش» وهو الرديء الغزل ، و «ثوب مزق» للمتمزّق.
وقال تعالى : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) [الآية ٩] أي والله أعلم ، من صلاة يوم الجمعة ..
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «الجمعة» (١)
إن قيل : لم قال تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الآية ٩] والسعي : العدو ؛ والعدو إلى صلاة الجمعة ، وإلى كل صلاة ، مكروه؟
قلنا : المراد بالسعي القصد. وقال الحسن : ليس هو السعي على الأقدام ، ولكنه على النيّات والقلوب ، ويؤيّد قول الحسن قوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) [النجم] ، وقول الداعي في دعاء القنوت : وإليك نسعى ونحفد (٢) ، وليس المراد به العدو والإسراع بالقدم.
فإن قيل : لم قال تعالى : (انْفَضُّوا إِلَيْها) [الآية ١١]. والمذكور شيئان اللهو والتجارة؟
قلنا : قد سبق جواب هذا في سورة التوبة في قوله تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤] والذي يؤيّده هنا ما قاله الزّجّاج معناه : «وإذا رأوا تجارة انفضّوا إليها» «أو لهوا انفضّوا إليه» ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه (إليهما) بضمير التثنية ، وعليه فلا حذف.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
(٢). حفد : خفّ في العمل ، وأسرع.
المبحث السابع
المعاني المجازية في سورة «الجمعة» (١)
في قوله سبحانه : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) استعارة. والمراد : ولا يتمنّون الموت أبدا ، خوفا مما فرط منهم من الأعمال السيئة ، والقبائح المجترحة. ونسب تعالى تلك الأفعال إلى الأيدي ، لغلبة الأيدي على الأعمال ، وإن كان فيها ما يعمل بالقلب واللسان.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
سورة المنافقون
٦٣
المبحث الأول
أهداف سورة «المنافقون» (١)
سورة «المنافقون» سورة مدنيّة ، آياتها ١١ آية نزلت بعد سورة الحج.
النفاق هو إظهار الإسلام أمام المسلمين ، وإضمار غير الإسلام. والنفق بفتحتين سرب في الأرض يكون له مخرج من موضع آخر ، ونافق اليربوع إذا أتى النّافقاء ، أي دخل من مكان وخرج من مكان ، ومنه قيل «نافق الرجل» إذا دخل في الإسلام أمام المسلمين ، ودخل في عداوة الإسلام أمام غير المسلمين.
والنفاق قسمان : القسم الأول : نفاق العقيدة ، وهو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
والقسم الثاني : نفاق العمل ، وهو الرياء والسمعة والتظاهر وإبراز الأمور على غير حقيقتها.
النفاق في المدينة
لم يظهر النفاق في مكّة ، لأن المسلمين كانوا مستضعفين ، وكان أهل مكة يعلنون لهم العداء ، ويجابهونهم بالإيذاء. ثمّ هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة ، والتفّ حوله الأنصار والمهاجرون ، وقويت شوكته بوحدة المسلمين وتماسكهم ، وظلّ الإسلام يتفوّق يوما بعد يوم ، ويدخل فيه وجوه أهل المدينة من رجال الأوس والخزرج ووجهائهم وأهل العصبية فيهم ؛ عندئذ رأى بعض المنافقين أن يدخلوا في
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
الإسلام مجاملة لأهله ، وأن يبيّتوا الكيد والخداع للمسلمين.
وقد قبل النبي (ص) من الناس ظواهرهم ، وترك بواطنهم الى الله. ولكن الأحداث كانت تعرّف المسلمين بهؤلاء المنافقين ، فإذا وقع المسلمون في شدة أو انهزموا في معركة ، تجرّأ هؤلاء المنافقون على تجريحهم والتشهير بهم جهارا نهارا. وإذا أنعم الله على المؤمنين بالنصر ، اختبأ المنافقون في جحورهم ، وغيّروا طريقتهم ، وانتقلوا من باب المواجهة إلى الكيد والدّسّ في الخفاء.
وكان اليهود في المدينة يكوّنون جبهة قوية ، وقد ساندوا المنافقين وشجّعوهم ، وكوّن الطرفان جبهة متّحدة لمناوأة الإسلام والمسلمين.
وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بالمدينة ، وكان من وجهاء الأنصار ، وكان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم. فلمّا جاء الإسلام للمدينة ، وتعاظمت قوّة المسلمين يوما بعد آخر ، وأصبح النبيّ الأمين صاحب الكلمة النافذة ، والأمر المطاع ، اشتدّ حقد عبد الله بن أبيّ لضياع الملك من بين يديه ، وكوّن جبهة للنفاق تشيع السوء والفتنة ، وتدبّر الكيد والأذى للمسلمين.
وشاء الله ، سبحانه ، أن يمتحن المسلمين بوجود اليهود في المدينة ، وبوجود المنافقين فترة طويلة صاحبت نشوء الدعوة بالمدينة. ولم يشأ الله ، جل جلاله ، أن يعرّف النبي (ص) بأسمائهم إلّا في آخر حياته ، وقد أخفى النبي (ص) أسماءهم عن الناس ، وأعلم واحدا فقط من الصحابة بها ، هو النعمان بن مقرن ، ليظلّ أمرهم مستورا.
وكان بعضهم ينكشف أمره من سلوكه وفعله ، وقوله ، وقسمات وجهه ، وتعبيراتها. قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) [محمد].
قصة نزول السورة
في كثير من كتب التفسير والسيرة : أن هذه السورة نزلت في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد انتصر فيها المسلمون ، وغنموا غنائم كثيرة ، وقد وقعت في شعبان من السنة الخامسة للهجرة (ديسمبر ٦٢٦ م). وبعد
المعركة ازدحم على الماء رجلان أحدهما أجير لعمر بن الخطاب ، وهو «جهجاه بن سعيد» ، والثاني حليف بني عون بن الخزرج ، وهو سنان الجهني وتضاربا. فقال جهجاه يا للمهاجرين ، وقال سنان يا للأنصار ، فاجتمع عليهما المتسرعون من المهاجرين والأنصار حتى كادوا يقتتلون ، وأوشكت أن تقوم الفتنة بين المهاجرين والأنصار. فلمّا سمع رسول الله (ص) الصراخ ، خرج مسرعا يقول : «ما بال دعوى الجاهلية»؟ فأخبروه الخبر ، فصاح غاضبا : «دعوا هذه الكلمة ، فإنّها فتنة» وأدرك الفريقين ، فهدّأ من ثورتهما ، وكلّم المضروب حتّى أسقط حقّه ؛ وبذلك سكنت الفتنة ، وتصافي الفريقان.
ولكن عبد الله بن أبيّ عزّ عليه أن تنطفئ هذه الشرارة قبل أن تحدث حريقا بين المسلمين ، وأن تموت هذه الفتنة قبل أن تذهب بما في صفوف المسلمين من وحدة وائتلاف ، فأخذ يهيّج من معه من الأنصار ، ويثير ضغينتهم ضدّ المهاجرين ، وجعل يقول في أصحابه :
«والله ما رأيت كاليوم مذلّة. لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ، وأنكروا منّتنا ، والله ما عدنا وجلايب قريش هذه إلّا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك .. «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» يقصد بالأعز نفسه ، وبالأذلّ رسول الله (ص).
ثم أقبل ابن أبيّ على من حضره من قومه يلومهم ويعنّفهم فقال : «هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم في بلادكم ، وأنزلتموهم منازلكم ، وآسيتموهم في أموالكم حتّى استغنوا. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. ثمّ لم ترضوا ما فعلتم حتّى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا ، فقتلتم دونهم ، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا ، فلا تنفقوا على من حوله حتّى ينفضّوا».
وكان في القوم زيد بن أرقم ، وهو يومئذ غلام لم يبلغ الحلم ، أو قد بلغ حديثا ، فنقل كلام ابن أبيّ إلى الرسول (ص) ، فتغيّر وجه رسول الله (ص) ، وتأثّر من معه من المهاجرين والأنصار ، وشاع في الجيش ما قاله ابن أبيّ ، حتّى ما كان للناس حديث غيره ، وقال عمر للنبيّ (ص) : يا رسول الله مر بلالا فليقتله ، وهنا
ظهر النبيّ (ص) ـ كدأبه ـ بمظهر القائد المحنّك والحكيم البعيد النظر ، إذ التفت إلى عمر وقال : «فكيف إذا تحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه»؟ ولكنه قدّر في الوقت نفسه أنه إذا لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر. لذلك أمر أن يؤذّن في الناس بالرحيل ، في ساعة لم يكن يرتحل فيها المسلمون.
وترامى الى ابن أبيّ ما بلغ النبيّ (ص) عنه ، فأسرع الى حضرته ينفي ما نسب إليه ويحلف بالله ما قاله ولا تكلّم به ، ولم يغيّر ذلك من قرار النبيّ بالرحيل.
قال ابن اسحق : «فلمّا استقلّ رسول الله (ص) وسار ، لقيه أسيد بن الحضير ، فحيّاه بتحية النبوّة وسلم عليه ، ثمّ قال : يا نبيّ الله ، والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول الله (ص) : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأيّ صاحب يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال وما قال؟ قال : زعم أنه إن رجع المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. قال أسيد : فأنت يا رسول الله ، والله ، تخرجه منها إن شئت ، هو ، والله ، الذليل وأنت العزيز ، في عزّ من الرحمن ومنعة المسلمين. قال أسيد : يا رسول الله ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثمّ مشى رسول الله (ص) بالناس يومهم ذاك حتّى أمسى ، وليلتهم حتّى أصبح ، وصدر يومهم ذاك حتّى آذتهم الشمس ؛ ثمّ نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياما. وإنّما فعل ذلك رسول الله ليشغل الناس عن كلام عبد الله بن أبيّ.
ونزلت سورة (المنافقون) في ابن أبيّ ، ومن كان على مثل أمره. ولمّا نزلت السورة قال رسول الله (ص) : يا غلام ، إنّ الله قد صدّقك وكذّب المنافقين.
ولما ظهر كذب عبد الله بن أبيّ ، قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب الى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال : أمرتموني أن أؤمن فأمنت ، وأمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت ، وما بقي إلّا أن أسجد لمحمد ، فنزل فيه قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ
لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٥).
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله ، إنّه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه ؛ فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر ، فأدخل النار ؛ فقال رسول الله (ص) بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
مع السورة
وصفت الآيات الأربع الأولى من السورة رياء المنافقين ، وكشفت خداعهم : إنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ويسارعون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة ، وهم كاذبون في هذه الشهادة ، لأنّها لا تطابق عقيدتهم ، ولا توافق ما يضمرونه في قلوبهم [الآية ١]. وكانوا يحلفون بالله كذبا ، ويتحصّنون بهذا الإيمان ، وبئست أفعال الرجال ، الكذب والأيمان الفاجرة [الآية ٢].
لقد تكرّر نفاقهم ، وطبع الله على قلوبهم ، فلا ينفذ إليهم الهدى والإيمان [الآية ٣].
وكان فيهم أقوام صباح الوجوه ، أشدّاء البنية ، فصحاء الألسنة ؛ فإذا تكلّموا أعجبوا السّامع بكلامهم المعسول ، ولكنّ واقعهم لا يوافق ظاهرهم ؛ وإن عداوتهم ضاربة ، فاحذرهم واتّق جانبهم في حياتك (١) ، فإنهم سيلقون مصيرهم المحتوم بالهلاك والنكال [الآية ٤].
وتشير الآيات [٤ ـ ٨] إلى ما حدث من عبد الله بن أبيّ بن سلول ، في أعقاب غزوة بني المصطلق ، وقد مرّت قصتها.
ولمّا انكشف أمره ، دعاه الناس ليستغفر له الرسول الأمين ، فأعرض ولوى وجهه ، خوفا من مواجهة الرسول بالحقيقة. [الآية ٥].
__________________
(١). الخطاب موجه إلى الرسول محمد ، عليه الصلاة والسلام.
وكان ابن أبيّ قد طلب من بعض الأنصار أن يمسكوا نفقتهم ومساعدتهم عن المهاجرين ، حتّى ينفضّوا عن النبيّ الكريم ، فذكر القرآن أنّ خزائن الله عامرة ، وخيره لا ينفد ، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين [الآية ٧].
وكان ابن أبيّ يبيّت كيدا مع أتباعه ، ويتوعّد بأن يخرج النبيّ من المدينة ذليلا ؛ فبيّن الله سبحانه أنّ العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين بالإيمان ، وبمساعدة الرحمن ، وبعون الله القويّ المتين ؛ ولكنّ المنافقين لا يفقهون هذه المعاني الكريمة [الآية ٨].
أمّا المقطع الأخير في السورة ، ويشمل الآيات [٩ ـ ١١] ، فإنّه يتوجّه إلى المؤمنين بالنداء ألّا تشغلهم أموالهم ولا أولادهم عن تذكّر ربهم ، والقيام بحقّه ، جلّ وعلا ، ومرضاته ، وتأمرهم بالصدقة والزكاة وعمل الخير ، فالله باعث الرزق ، وله الحمد في الأولى والاخرة. فأنفق أيّها الإنسان وأنت صحيح ؛ ولا تمهل ، حتّى إذا بلغت الروح الحلقوم تمنيت العودة للدنيا ، لإخراج الصدقة وعمل الصالحات ؛ ولكن الأجل إذا جاء لا يتأخّر لحظة ، بل يساق الإنسان الى الخبير العليم ، جزاء ما قدّم.
وهكذا تختم السورة بهذه الدعوة إلى الإخلاص لله سبحانه ، وامتثال أوامره ، فهو ، جلّت قدرته ، مطّلع وشاهد ، وهو الحكيم العادل.
المعنى الاجمالي للسورة
قال الفيروزآبادي : معظم مقصود السورة : تقريع المنافقين وتبكيتهم ، وبيان ذلّهم وكذبهم ، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم ، وبيان عزّهم وشرفهم ، والنهي عن نسيان ذكر الحقّ تعالى ، والغفلة عنه ، والإخبار عن ندامة الكفّار بعد الموت ، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل ، في قوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١).
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «المنافقون» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة «المنافقون» بعد سورة الحجّ ، وكان نزولها بعد غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة ، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [الآية ١] وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
نزلت هذه السورة ، فيما كان من مؤامرة المنافقين على المهاجرين ، في رجوعهم من غزوة بني المصطلق ؛ وذلك أنهم تأمروا على إخراجهم من المدينة بعد رجوعهم إليها ، وكان زيد بن أرقم قد حضر مؤامرتهم فأخبر النبيّ (ص) بها. فلمّا بلغهم ذلك ذهبوا إليه ، فأنكروها على عادتهم ، فنزلت هذه السورة لفضح مؤامرتهم ، وتصديق زيد بن أرقم. ولا شك في أنّ سياقها ، في هذا ، سياق سورة الجمعة والسور المذكورة قبلها ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الجمعة.
مؤامرة المنافقين على المهاجرين
الآيات [١ ـ ١١]
قال الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
لَكاذِبُونَ) (١)فكذّبهم في ذلك ؛ ثمّ ذكر سبحانه أنهم يتخذون هذه الأيمان الكاذبة وقاية لهم ؛ ثمّ ذكر أنّ من يراهم تعجبه أجسامهم ، فإذا خبرهم وجدهم كالخشب المسنّدة في عدم العقل ، وهم جبناء يحسبون كلّ صيحة عليهم ؛ ثم ذكر ما كان من مؤامرتهم حينما نهوا من حضرهم من الأنصار أن ينفقوا على المهاجرين حتّى ينفضّوا من المدينة ، واتّفقوا على أنّهم إذا رجعوا إليها يخرجونهم منها ؛ ثمّ نهى المؤمنين أن تلهيهم أموالهم وأولادهم كما ألهت أولئك المنافقين ، وأن ينفقوا ممّا رزقهم ، سبحانه ، ولا يسمعوا لهم ، حتّى لا يأتي أحدهم الموت فيتمنّى لو يتأخّر أجله ، ليتدارك ما فاته من الصدقة : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «المنافقون» (١)
أقول : وجه اتّصالها بما قبلها : أنّ سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون ، وهذه ذكر فيها أضدادهم ، وهم المنافقون. ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة : أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة ، يحرّض بها المؤمنين ، وبسورة «المنافقون» يفزّع بها المنافقين.
وتمام المناسبة : أنّ السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين ؛ والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى (٢) ؛ والتي قبلها ، وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهدين من المشركين (٣) ؛ والتي قبلها ، وهي الحشر فيها ذكر المعاهدين من أهل الكتاب (٤) ، فإنّها نزلت في بني النضير ، حين نبذوا العهد وقوتلوا.
وبذلك اتّضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الستّ هكذا ، لاشتمالها على أصناف الأمم ، وفي الفصل بين المسبّحات بغيرها (٥) لأنّ إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). وذلك في قوله تعالى من «التغابن» (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [الآية ٥] الى (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧).
(٣). وذلك في الآيات [٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠].
(٤). وذلك في الآيتين [٨ ، ٩].
(٥). يعني الفصل بين الحشر ، وأولها : سبّح. والتغابن وأولها : يسبّح ، بالممتحنة والصف والجمعة والمنافقون.
غيره. وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره.
فظهر بذلك أن الفصل بين المسبّحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير ، فلله الحمد على ما فهّم وألهم.
هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول : أنّ سورة «التغابن» نزلت عقب الجمعة (١) ، وتقدّم نزول سورة «المنافقون» فما فصل بينهما إلّا لحكمة ، والله أعلم.
__________________
(١). الإتقان : ١ : ٩٧ وهو عن جابر بن زيد أيضا. وجابر أحد علماء التابعين بالقرآن.