الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الممتحنة» (١)

أقول : لمّا كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب ، عقّبت بهذه لاشتمالها على ذكر المعاهدين من المشركين ، لأنها نزلت في صلح الحديبية (٢).

ولمّا ذكر ، سبحانه ، في سورة الحشر ، موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، ثمّ موالاة الذين من أهل الكتاب ، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتّخاذ الكفّار أولياء ، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك ؛ وكرّر ذلك وبسطه ، إلى أن ختم به ، فكانت في غاية الاتّصال ؛ ولذلك ، كان الفصل بها بين الحشر والصف ، مع تأخيهما في الافتتاح ب (سَبَّحَ).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، لمّا أخبر المشركين بعزم النبي (ص) على فتح مكّة بعد أن نقض المشركون صلح الحديبية. (البخاري في التفسير : ٦ : ١٨٥ ، ١٨٦ ، والتّرمذي في التفسير : ٩ : ١٩٨. ٢٠٢ بتحفة الأحوذي ومسند الإمام أحمد : ١ : ٧٩ ، ٨٠).

٢٢١
٢٢٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الممتحنة» (١)

١ ـ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) [الآية ١].

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.

٢ ـ (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) [الآية ٧].

قال ابن شهاب : نزلت في جماعة ، منهم أبو سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم.

٣ ـ (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) [الآية ٨].

نزلت في قتيلة أمّ أسماء بنت أبي بكر ، كما في «المستدرك».

٤ ـ (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) [الآية ١٠].

أخرج الطبراني عن عبد الله : أنّها نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط.

وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن أبي حبيب : أنّه بلغه أنّها نزلت في أميمة بنت بشر ، امرأة أبي حسّان بن الدحداحة.

وعن مقاتل : أنّها نزلت في سعيدة ، امرأة صيفي بن الراهب.

٥ ـ (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) [الآية ١١].

قال الحسن : نزلت في أمّ الحكم بنت أبي سفيان ، ارتدّت فتزوّجها رجل ثقفي ، ولم ترتدّ امرأة من قريش غيرها ، فأسلمت مع ثقيف ، حينما أسلموا ، أخرجه ابن أبي حاتم.

٦ ـ (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الآية ١٣].

قال ابن مسعود : هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

٢٢٣
٢٢٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الممتحنة» (١)

١ ـ وقال تعالى : (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) [الآية ٤].

أقول برآء مثل شركاء ، جمع بريء ، واجتماع الهمزتين مع المد يجعلها ثقيلة ، ومن أجل ذلك قرئت «براء» بالضم ، و «براء» بالكسر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٢٥
٢٢٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الممتحنة» (١)

قال تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) [الآية ٤].

استثناء خارج من أول الكلام.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٢٧
٢٢٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الممتحنة» (١)

إن قيل : ممّ استثني قوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [الآية ٤]؟

قلنا : من قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الآية ٤].

لأنه سبحانه أراد بالأسوة الحسنة قوله الذي حكاه عنه وعن أتباعه وأشياعه ، ليقتدوا به ويتخذوه سنّة يستنّون بها ؛ واستثنى سبحانه استغفاره لأبيه ، لأنه كان عن موعدة وعدها إيّاه.

فإن قيل : فإن كان استغفاره لأبيه ، أو وعده لأبيه بالاستغفار مستثنى من الأسوة ، فكيف عطف عليه قوله (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الآية ٤] وهو لا يصح استثناؤه ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الفتح : ١١]؟

قلنا : المقصود بالاستثناء هو الجملة الأولى فقط ، وما بعدها ذكر لأنه من تمام كلام إبراهيم صلوات الله عليه ، لا بقصد الاستثناء ؛ كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلّا الاستغفار.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [الآية ١٢] ، ومعلوم أن النبي (ص) لا يأمر إلّا بمعروف ، فلما ذا لم يقتصر على قوله تعالى (وَلا يَعْصِينَكَ)؟

قلنا : الحكمة فيه سرعة تبادر الأفهام إلى قبح المعصية منهنّ لو وقعت ، من غير توقّف الفهم على المقدّمة التي أوردتم في السؤال.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٢٩
٢٣٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الممتحنة» (١)

في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الآية ١]. استعارة على أحد التأويلين ، وهو أن يكون المعنى : تلقون إليهم بالمودة ليتمسّكوا بها منكم. كما يقول القائل : ألقيت إلى فلان بالحبل ليتعلّق به ، وسواء أقال : ألقيت بالحبل ، أم ألقيت الحبل. وكذلك لو قال : ألقيت إلى فلان بالمودة ، أو ألقيت إليه المودّة. وكذلك قولهم : رميت إليه بما في نفسي ، وما في نفسي ، بمعنى واحد.

وقال الكسائي : تقول العرب : ألقه من يدك ، وألق به من يدك ، واطرحه من يدك ، واطرح به من يدك ، كلام عربي صحيح. وقد قيل : إن في الكلام مفعولا محذوفا ، فكأنه تعالى قال : تلقون إليهم أسرار النبي (ص) بالمودة التي بينكم. وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين ، كانوا يخالّون قوما من المنافقين ، فيتسقّطونهم أسرار النبي (ص) ، استزلالا لهم ، واستغمارا لعقولهم.

وفي قوله سبحانه : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الآية ٢] استعارة. لأنّ بسط الألسن على الحقيقة لا يتأتّى كما يتأتّى بسط الأيدي ؛ وإنّما المراد إظهار الكلام السيّئ فيهم بعد زمّ الألسن عنهم ، فيكون الكلام كالشيء الذي بسط بعد انطوائه ، وأظهر بعد إخفائه.

وقد يجوز أيضا أن يكون تعالى إنّما

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٣١

حمل بسط الألسن على بسط الأيدي ، ليتوافق الكلام ، ويتزاوج النظام ؛ لأنّ الأيدي والألسن مشتركة في المعنى المشار إليه : فللأيدي الأفعال ، وللألسن الأقوال ؛ وتلك ضررها بالإيقاع ، وهذه ضررها بالسّماع.

وقوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الآية ١٠] وقرأ أبو عمرو وحده (تمسّكوا) بالتشديد ، وقرأ بقية السبعة (تُمْسِكُوا) بالتخفيف. وهذه استعارة. والمراد بها : لا تقيموا على نكاح المشركات ، وخلاط الكافرات ، فكنى سبحانه عن العلائق التي بين النساء والأزواج بالعصم ، وهي هاهنا بمعنى الحبال ، لأنّها تصل بعضهم ببعض ، وتربط بعضهم إلى بعض. وإنما سميت الحبال عصما ، لأنها تعصم المتعلق بها والمستمسك بقوّتها. قال الشاعر :

وآخذ من كل حيّ عصما

أي حبالا. وهي بمعنى العهود في هذا الشعر.

وقال أبو عبيدة : العصمة : الحبل والسّبب ؛ وقال غيره : العصم : العقد. فكأنه تعالى قال : ولا تمسّكوا بعقد الكوافر ، أي بعقود نكاحهن. وأبو حنيفة يستشهد بهذه الآية على أنه لا عدّة في الحربيّة إذا خرجت إلى دار الإسلام مسلمة ، وبانت من زوجها بتخليفها له في دار الحرب كافرا. ويقول : إنّ في الاعتداد منه تمسّكا بعصمة الكافر التي وقع النهي عن التمسّك بها. ويذهب أنّ الكوافر هاهنا جمع فرقة كافرة ، كما أن الخوارج جمع فرقة خارجة ، ليصح حمل الكوافر على الذكور الإناث.

ويكون قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا) خطابا للنبي (ص) والمؤمنين. والمعنى : ولا تأمروا النساء بالاعتداد من الكفّار ، فتكونوا كأنكم قد أمرتموهنّ بالتمسّك بعصمهم.

وقال أبو يوسف (١) ، ومحمد (٢) يجب عليها العدّة.

__________________

(١). أبو يوسف هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي ، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان. تولّى القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد ؛ وهو أول من لقّب بقاضي القضاة في الإسلام ، وأول من وضع الكتاب في الفقه الحنفي. توفي سنة ١٨٢ ه‍.

(٢). محمد هو محمد بن الحسن بن واقد الشيباني ، كان إماما في الفقه والأصول ، وهو صاحب أبي حنيفة وناشر علمه ومذهبه. وتولّى القضاء في زمن الرشيد ، ثم صحبه إلى خراسان ، فمات في الريّ سنة ١٨٩ ه‍.

٢٣٢

سورة الصّف

٦١

٢٣٣
٢٣٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الصف» (١)

سورة الصف سورة مدنية ، آياتها ١٤ آية ، نزلت بعد سورة التغابن.

وهي سورة تدعو الى وحدة الصف ، وتماسك الأمة ، وتحثّ على الجهاد ، وتنفّر من الرياء ، وتبيّن أنّ الإسلام كلمة الله الأخيرة الى الأرض ، وأنّ رسالات السماء كانت دعوة هادفة لبناء الإنسان والدعوة إلى الخير والعدل ، وقد أرسل الله سبحانه موسى (ع) بالتوراة ، فلما انحرف اليهود عن تعاليم السماء ، أرسل الله عيسى (ع) مجدّدا لناموس التوراة ، ومبشّرا برسالة محمد (ص).

وقد كانت رسالة محمد (ص) بالهدى ودين الحق ، متممة للرسالات السابقة ، مشتملة على مبادئ الحق واليسر والعدل والمساواة ، وقد كره المشركون انتصار النور والخير ، فحاولوا مقاومة هذه الدعوة وإطفاء نورها ، ولكنّ الله أيّد الإسلام ، حتّى طوى ممالك الفرس والروم ، وعمّ المشارق والمغارب.

وقد حاولت الصليبيّة الحاقدة اجتياح بلاد الإسلام في فترات متعددة ، من بينها الحرب الصليبية التي انتهت بهزيمة المعتدين وانتصار المسلمين ، ووجّهت الصليبيّة ضرباتها للمسلمين في الأندلس ، وحاولت تصفية الإسلام أيّام الدولة العثمانية ، وأطلقت على تركيا اسم «الرجل المريض» ، والبلاد التي تحت يدها «تركة الرجل المريض». فلمّا قام كمال أتاتورك ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٣٥

وأعلن إلغاء الخلافة الإسلامية ، كبّر له الغرب وهلّل ، وتراجعت الجيوش الغربية من أمام تركيا ، وجعلوا من أتاتورك بطلا عملاقا لقضائه على الخلافة الإسلامية.

وفي هذه الأيام ، تقوى الحركة الإسلامية في تركيا ، وتمتلئ المساجد والمدارس الإسلامية بالباحثين ، وتشتد سواعد الحزب الإسلامي هناك ، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.

سبب نزول السورة

جمهور المفسرين على أن صدر هذه السورة نزل حينما اشتاق المسلمون إلى معرفة أحب الأعمال إلى الله ، فأنزل الله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤). فلمّا أخبرهم الله بأن أفضل الأعمال بعد الإيمان هو الجهاد في سبيل الله ، كره الجهاد قوم ، وشقّ عليهم أمره ، فقال الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣).

هدفان للسورة

لسورة الصف هدفان رئيسان :

الهدف الأول : الدعوة إلى الجهاد والحثّ عليه ، والتحذير من كراهيته ، والفرار منه ، وبيان ثوابه وفضله ، وأنّه تجارة رابحة. وتبع ذلك ترسيخ العقيدة ، ووجوب اتفاق الظاهر مع الباطن ، ووجوب الطاعة للقائد ، وتماسك الأمّة ، وترابط بنيانها حتّى تصبح صفّا واحدا ، محكم الأساس ، قويّ الوشيجة والرّباط ، كأنّه بنيان مرصوص.

فالآيات الأربع الأولى : دعوة الجهاد ، والتحذير من الخوف والجبن ، وبيان أن العقيدة السليمة تستتبع التضحية والفداء ، حتّى يصبح جيش الإسلام قويّ البنيان ، متلاحم الصفوف.

والآيات [١٠ ـ ١٢] صورة رائعة لفضل الجهاد وثوابه ، فهو أربح تجارة ، وأفضل سبيل للمغفرة ودخول الجنة ، وهو باب النصر والفتح ، والبشرى للمؤمنين بالسيادة والعزّة.

والهدف الثاني : بيان وحدة الرسالات. فالرسالات الإلهية كلّها

٢٣٦

دعوة إلى التوحيد ، وثورة على الباطل ، وإصلاح للضمير ، وإرساء لمعالم الفضيلة ، ومحاربة للرذيلة. وقد دعا الرسل جميعا إلى توحيد الله ، وتكفّل كلّ رسول بإرشاد قومه وهدايتهم ، ونصحهم الى ما فيه الخير ، وتحذيرهم من الانحراف والشر.

وفي سورة الصف نجد الآية الخامسة تبيّن رسالة موسى (ع) لقومه ، وتذكر عنت اليهود ، وإيذاءهم لموسى ، وتجريحهم له ، وانصرافهم عن روحانيّة الدعوة إلى مادّية المال.

وفي الآية السادسة ، نجد عيسى (عليه‌السلام) يجدّد أمر الناموس ، ويصيح باليهود صيحات ضارعة ، ويعظهم ويدعوهم للإيمان ، ويحثّهم على الصدقة ، والعناية بالروح ، وتقديم الخير لوجه الله.

والمسيح يبشّر برسالة أحمد خاتم المرسلين. فالرسالات كلّها حلقات متتابعة في تاريخ الهداية والإصلاح ، والإسلام كان ختام هذه الرسالات وآخرها ، والمهيمن عليها ؛ فقد حفظ تاريخها في القرآن ، ودعا إلى الإيمان بالملائكة والكتاب والرسل. قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥) [البقرة].

وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله (ص) قال : «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمّها وأكملها إلّا موضع لبنة ، فجعل الناس يقولون لو وضعت هذه اللبنة ، فأنا هذه اللبنة وأنا خاتم الرسل».

وقال تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)) [البقرة].

وفي آخر آية من السورة دعوة للمسلمين أن ينصروا دين الله ، كما نصر الحواريون دين عيسى ، أيّام كان دينه توحيدا خالصا ؛ والعاقبة دائما للمتقين.

والعبرة المستفادة من هذه الدعوة : استنهاض همّة المؤمنين بالدين الأخير ، الأمناء على منهج الله في الأرض ، ورثة العقيدة والرسالة الإلهية ، المختارين لهذه المهمّة الكبرى ؛

٢٣٧

استنهاض همتهم لنصرة الله ، ونصرة دينه ، ونصرة رسالته وشريعته : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) [الآية ١٤].

المقصد الاجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة الصف هو :

«عتاب الذين يقولون ولا يعلمون بمقتضى ما يقولون ، وتشريف صفوف الغزاة والمصلّين ، والتنبيه إلى جفاء بني إسرائيل ، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان ، وبيان التجارة الرابحة مع الرحمن الرحيم ، والبشارة بنصر أهل الإيمان على الكفر والخذلان».

٢٣٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الصف» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الصفّ بعد سورة التّغابن ، ونزلت سورة التغابن بعد سورة التحريم ، ونزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات ، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة الصف في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤). وتبلغ آياتها أربع عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

غرض هذه السورة الحثّ على الجهاد في سبيل الله ، وتوبيخ المنافقين على تقاعسهم عنه ، وقد كان هذا ناشئا من موالاتهم للمشركين ، فكانوا يكرهون قتالهم لأنّهم يبطنون الشرك مثلهم ، فالسياق فيها مع المنافقين كالسياق في السورة التي قبلها ، ولهذا ذكرت بعدها.

الحث على الجهاد

الآيات [١ ـ ١٤]

قال الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، فذكر تسبيح كل شيء له ليسبّحه أولئك المنافقون ويؤمنوا به ؛ ثمّ وبخهم على أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون ، فيقولون ما لا يفعلون ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣٩

ويتقاعسون عن الجهاد مع المسلمين. وذكر جلّ وعلا أنه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا ، فيثبتون في قتالهم ولا يتقهقرون. ثمّ حذرهم عاقبة زيفهم ، أن يزيغ قلوبهم فيصيروا إلى الكفر الصريح ، كما أزاغ قلوب قوم موسى حينما زاغوا وآذوه ، ثم رغّبهم في الإيمان بتبشير عيسى بالنبي الذي يدعوهم إليهم : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الآية ٦]. ثم ذكر سبحانه أنهم يريدون إطفاء نوره ، وأنه سيتمّ نوره ويظهر دينه على الدين كله ؛ ثم دلّهم على ما ينجيهم في أخراهم ، وهو أن يصدقوا في إيمانهم ، ويجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم ، ليغفر لهم ذنوبهم في أخراهم وينيلهم نصرا قريبا في دنياهم ، وهو فتح مكة ؛ ثم أمرهم أن يكونوا أنصارا لله مخلصين كحواريي عيسى حينما قال لهم : من أنصاري إلى الله؟ فقالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤).

٢٤٠