الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحشر» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) [الآية ٦].

أقول : الإيجاف من الوجيف وهو السير السريع.

ومعنى قوله تعالى : (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي ما أوجفتم على تحصيله وغنمه ، خيلا ولا ركابا ، ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنّما مشيتم على أرجلكم.

والمعنى : أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النّضير ، لم تحصّلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلّطه الله عليهم ، وعلى ما في أيديهم ، كما كان يسلّط رسله على أعدائهم.

٢ ـ وقال تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الآية ٩].

أقول : الخصاصة الخلّة ، وأصلها خصاص البيت ، أي : فروجه. وهذه الخلّة ، أي : الفرجة استعيرت للحاجة أو الفقر ، فكأن صاحبها به مثل هذا النقص ..

٣ ـ وقال تعالى : (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الآية ١٤] أي متفرقة.

أقول : كأنّ قوله تعالى : (شَتَّى) جمع شتيت ، وقد أنسي المفرد فاستعملت الكلمة استعمال المفرد صفة.

ونظير هذا كلمة «فوضى» أقول : لعلها في الأصل فضّى جمع فضيض!

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠١
٢٠٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحشر» (١)

قال تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ) [الآية ٢] أي : «فجاءهم أمر الله» ، وقال بعضهم أي : آتاهم العذاب ، لأنك تقول : «أتاه» و «آتاه» كما تقول : «ذهب» و «أذهبته».

وقال تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) [الآية ٥] وهي من «اللّون» في الجماعة ، وواحدته «لينة» ، وهو ضرب من النخل ، ولكن لمّا انكسر ما قبلها انقلبت الى الياء.

وقال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [الآية ٦] تقول : «فاء عليّ كذا وكذا» و «أفاءه الله» كما تقول : «جاء» و «أجاءه الله» وهو مثل «ذهب» وأذهبته».

وقال تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) [الآية ٧] و «الدّولة» في هذا المعنى أن يكون ذلك المال مرّة لهذا ، ومرّة لهذا ، وتقول : «كانت لنا عليهم الدّولة». وأمّا انتصابها ، فعلى تقدير «كي لا يكون الفيء دولة» و «كي لا تكون دولة» أي : «لا تكون الغنيمة دولة» ويزعمون أنّ «الدولة» أيضا في المال ، لغة للعرب ، ولا تكاد تعرف «الدولة في المال».

وقال تعالى : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) [الآية ٩] أي : ممّا أعطوا.

وقال تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) [الآية ١٢] برفع الاخر لأنه معتمد لليمين ، لأن هذه اللام التي في أول الكلام ، إنّما تكون لليمين كقول

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٣

الشاعر (١) [من الطويل ، وهو الشاهد السبعون بعد المائتين] :

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها

وقال تعالى : (أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) [الآية ١٧] بنصب «خالدين» على الحال و (في النار) خبر. ولو كان في الكلام «إنّهما في النار» كان الرفع في «خالدين» جائزا. وليس قولهم : إذا جئت ب «فيها» مرتين فهو نصب «بشيء» إنّما «فيها» توكيد جئت بها ، أو لم تجئ بها ، فهو سواء. ألا ترى أنّ العرب كثيرا ما تجعله حالا إذا كان «فيها» التوكيد ، وما أشبهه. وهو في القرآن منصوب في غير مكان. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [البيّنة : ٦].

__________________

(١). هو كثير بن عبد الرحمن ديوانه ٣٠٥ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤١٢ ، والخزانة ٣ : ٥٨٠.

٢٠٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحشر» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٩].

والإيمان ليس مكانا يتبوأ ، لأن معنى التّبوّء اتخاذ المكان منزلا؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : وأخلصوا الإيمان ، كقول الشاعر :

علفتها تبنا وماء باردا

أي وسقيتها ماء باردا. ثانيا : أنه على ظاهره بغير إضمار ولكنه مجاز ، فمعناه أنهم جعلوا الإيمان مستقرّا وموطنا ، لتمكّنهم منه واستقامتهم عليه ، كما جعلوا دار الهجرة كذلك ، وهي المدينة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) [الآية ١٢] بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم ، وحرف الشرط إنّما يدخل على ما يحتمل وجوده وعدمه.

قلنا : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى للنبي (ص) : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزّمر : ٦٥] وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] والله تعالى ، كما يعلم ما يكون قبل كونه ، فهو يعلم ما لا يكون ، أن لو كان كيف يكون.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى للمؤمنين : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) [الآية ١٣] ، أي في صدور المنافقين أو اليهود ، على اختلاف القولين ، وظاهره : لأنتم أشدّ خوفا من الله ، فإن كان «من» متعلّقا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٥

بأشدّ ، لزم ثبوت الخوف لله تعالى ، كما تقول : زيد أشدّ خوفا في الدار من عمرو. وذلك محال ، وإن كان «من الله» متعلّقا بالخوف فأين الذي فضل عليه المخاطبون ؛ وأيضا فإن الآية تقتضي إثبات زيادة الخوف للمؤمنين ، وليس المراد ذلك باتفاق المفسرين؟

قلنا : «رهبة» مصدر رهب ، مبنيّ لما لم يسمّ فاعله ؛ فكأنه قيل أشدّ مرهوبية ، يعني أنكم في صدورهم أهيب من الله فيها ، كذا فسّره ابن عباس رضي الله عنهما ، تقول زيد أشدّ ضربا في الدار من عمرو ، يعني مضروبية.

فإن قيل : كيف يستقيم التفضيل بأشدّية الرهبة ، مع أنهم كانوا لا يرهبون الله ، لأنهم لو رهبوه لتركوا النفاق والكفر؟

قلنا معناه أنّ رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم ؛ وكانوا يظهرون للمؤمنين رهبة شديدة من الله تعالى.

فإن قيل : لم ورد في التنزيل على لسان إبليس : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الآية ١٦].

وهو لا يخاف الله تعالى ، لأنه لو خافه لما خالفه ، ثم أضلّ عبيده؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة الأنفال.

فإن قيل ما الحكمة في تنكير النفس والغد ، في قوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الآية ١٨]؟

قلنا : أما تنكير النفس ، فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمت للاخرة ، كأنه تعالى قال : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وأين تلك النفس. وأمّا تنكير الغد ؛ فلعظمته ، وإبهام أمره ، كأنه قال لغد لا يعرف كنهه لعظمه.

فإن قيل : لم قال تعالى ، (لِغَدٍ) وأراد به يوم القيامة ، والغد عبارة عن يوم بينه وبيننا ليلة واحدة؟

قلنا : الغد له مفهومان : أحدهما ما ذكرتم. والثاني مطلق الزمان المستقبل ؛ ومنه قول الشاعر :

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عمي

وأراد به مطلق الزمان المستقبل ، كما أراد بالأمس مطلق الزمان الماضي ، فصار لكل واحد منهما مفهومان ؛ ويؤيّده أيضا قوله تعالى : (كَأَنْ لَمْ

٢٠٦

تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤] وقيل إنما أطلق على يوم القيامة اسم الغد ، تقريبا له ، كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] وقوله تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] وكأنه تعالى قال : إن يوم القيامة لقربه يشبه ما ليس بينكم وبينه إلا ليلة واحدة ، ولهذا روي عن النبي (ص) أنه قال «اعمل لليلة صبيحتها يوم القيامة» قالوا أراد بتلك الليلة ليلة الموت.

فإن قيل : ما الفرق بين الخالق والبارئ ، حتى عطف تعالى أحدهما على الاخر؟

قلنا : الخالق هو المقدّر لما يوجده ، والبارئ هو المميّز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. وقيل الخالق المبدئ ، والبارئ المعيد.

٢٠٧
٢٠٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحشر» (١)

في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٩]. استعارة : لأن تبوّأ الدار هو استيطانها والتمكّن فيها ، ولا يصحّ حمل ذلك على حقيقته في الإيمان. فلا بدّ إذن من حمله على المجاز والاتساع.

فيكون المعنى أنهم استقرّوا في الإيمان ، كاستقرارهم في الأوطان. وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة. وقد زاد اللفظ المستعار هاهنا معنى الكلام رونقا. ألا ترى كم بين قولنا : استقرّوا في الإيمان ، وبين قولنا : تبوّءوا الإيمان.

وأنا أقول ، أبدا ، إن الألفاظ خدم للمعاني ، لأنها تعمل في تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها.

وقوله سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الآية ٢١] هو على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان ممّا يعي القرآن ، ويعرف البيان لخشع من سماعه ، ولتصدّع من عظم شأنه ، على غلظ أجرامه ، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحقّ بذلك منه ، إذ كان واعيا لقوارعه ، عالما بصوادعه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٩
٢١٠

سورة الممتحنة

(٦٠)

٢١١
٢١٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الممتحنة» (١)

سورة الممتحنة سورة مدنية آياتها ١٣ آية ، نزلت بعد سورة الأحزاب.

قصة نزول السورة

هاجر الرسول (ص) الى المدينة ، واستطاع أن يؤلّف بين المهاجرين والأنصار ، وأن يضع أسس الدعوة الإسلامية ، وأن يصنع أمّة تميّزت بالأخلاق الكريمة ، والصفات الحميدة. وقد وقف كفار مكّة في وجه الدعوة الإسلامية ، ووقعت عدة معارك بين المسلمين والمشركين منها : بدر وأحد والخندق والأحزاب والحديبية. ثمّ توقّفت هذه المعارك بعد صلح الحديبية ، وكان من أهم نصوص الصلح : وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين ، وأنّ من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.

وعلى أثر ذلك دخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله (ص) ودخلت قبيلة بكر في حلف قريش.

ثمّ إنّ قريشا نقضت العهد بمساعدتها قبيلة بكر حليفتها على قتال خزاعة حليفة النبي حتّى قتلوا منهم عشرين رجلا ، وقد لجأت خزاعة الى الحرم لتحتمي به ، ولكنّ ذلك لم يمنع رجال بكر من متابعتها ، فاستنصرت خزاعة برسول الله (ص) ، وذهب رجال منهم إلى المدينة فأخبروا رسول الله بما كان

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢١٣

من غدر بكر بهم ومعاونة قريش عليهم ، وأنشد عمرو بن سالم ، بين يديه :

يا ربّ إنى ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيّتونا بالوتير هجّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

فانصر هداك الله نصرا أيّدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فقال له رسول الله (ص) نصرت يا عمرو بن سالم.

وأخذ رسول الله يتجهّز لفتح مكّة ، وطوى الأخبار عن الجيش كي لا يشيع الأمر فتعلم قريش فتستعدّ للحرب ، والرسول الأمين لا يريد أن يقيم حربا بمكّة ، بل يريد انقياد أهلها مع عدم المساس بهم ، فدعا الله قائلا : «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها».

حاطب يفشي السر

كان حاطب من كبار المسلمين ، وقد شهد مع النبي غزوة بدر مخلصا في جهادها ، ولكنّ في النفس الانسانية جوانب ضعف تطغى في بعض الأحيان عليها ، وتهوي بها من المنازل العالية الى الحضيض. لقد كتب حاطب كتابا إلى قريش ، يخبرهم فيه بعزم المسلمين على فتح مكّة ، واستأجر امرأة من مزينة تسمّى سارة ، وجعل لها عشرة دنانير مكافأة ، وأمرها ان تتلطّف وتحتال حتّى توصل كتابه الى قريش ، فأخذت المرأة الكتاب فأخفته ، وسلكت طريقها الى مكة. ثم أخبر الله رسوله بما صنع حاطب ، فأرسل النبيّ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في إثر المرأة ، فأدركاها في الطريق ، واستخرجا منها الكتاب ، فأحضراه الى رسول الله (ص) ؛ فدعا رسول الله (ص) حاطبا ، فأطلعه على الكتاب ، ثم قال له : ما حملك على هذا؟ فقال حاطب : يا رسول الله لا تعجل عليّ ، فو الله إنّي لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امّرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإيمان. ورأى النبيّ صدق لهجة حاطب ، وحسن نيّته في ما أقدم عليه من ذلك

٢١٤

الذنب ، فقال لمن حوله : أما إنّه قد صدقكم في ما أخبركم به. ونظر النبيّ إلى ماضي الرجل في الجهاد ، وحسن بلائه في الذود عن حرمات الإسلام ، فرغب في العفو عنه.

أمّا عمر بن الخطاب ، فقد كبرت عليه هذه الخيانة ، فنظر إلى حاطب وقال له : قاتلك الله ، ترى رسول الله يخفي الأمر ، وتكتب أنت إلى قريش؟ يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق.

فتبسّم رسول الله ، من حماسة عمر ، وقال : وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطّلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم.

وفي هذه الحادثة أنزل الله صدر سورة الممتحنة يحذّر المؤمنين من أن يوالوا عدوّهم ، أو يطلعوه على بعض أسرارهم مهما يكن السبب الذي يدفع الى ذلك ، فإنّ العدوّ عدو حيثما كان ، وموادّة العدوّ خيانة ليس بعدها خيانة. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الآية ١].

فكرة السورة

تسير السورة مع النفس الإنسانية ، تحاول جاهدة أن تربي المسلمين تربية خاصة ، عمادها الولاء للدعوة وحدها ، والمودة لله ، والمحبة لله ، والتجمع على دعوة الله.

على هذا المعنى قامت الدعوة الإسلامية ، وظهر الإيثار والأخوّة بين المهاجرين والأنصار.

ومن شعائر هذا الدين بغض الفاسقين والملحدين في دين الله ، وقد انتهزت السورة فرصة ضعف حاطب ، فجعلت ذلك وسيلة عملية لتهذيب النفوس ، ورسم المثل الأعلى للمسلم.

وقد عالجت السورة مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ، ليخرج المسلم من الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.

«لقد كان القرآن بهذا الأسلوب في التربية ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الانساني.

٢١٥

«وكان كأنما يجمع هذه النباتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ، ليعلمهم الله ، ويبصّرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنّهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ويحقّق بهم قدرا ، ومن ثمّ فهم يوسمون بسمته ، ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا ، في الدنيا والاخرة ؛ وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجرّدين من كل وشيجة غير وشيجته في عالم الشعور وعالم السلوك».

تسلسل أفكار السورة

سورة الممتحنة من أولها الى آخرها تنظم علاقة المسلمين بالمشركين ، وتدعو إلى تقوية أواصر المودة بين المسلمين ، وحفظ هذه الوشائج قوية متينة بين المؤمنين ، وتبيّن أنّ عداوة الكافرين للمسلمين أصيلة قديمة ، فقد أخرجهم كفّار مكّة من ديارهم وأهلهم وأموالهم [الآية ١] وإذا انتصر المشركون عليهم عاملوهم معاملة الأعداء ، رجاء أن يعودوا بهم من الإيمان إلى الكفر ، وحينئذ لا تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم ولا تنجيهم من عقاب الله [الآيتان ١ ـ ٣].

ثم ترسم السورة قدوة حسنة بإبراهيم الخليل ومن معه من المؤمنين ، حينما آمنوا بالله وأخلصوا له النية ، وتجردوا من كل عاطفة نحو قومهم المشركين. وأعلنوا براءتهم من الشرك وأهله ، وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، فلما تأكّد لإبراهيم إصرار أبيه على الشرك تبرّأ منه.

ذلك ركب الإيمان ، وطريق المؤمنين في تاريخ البشرية يتّسم بالتضحية والفداء ، والاستعلاء على رغبات النفس في صلة الأقارب من المشركين ؛ فالمودّة لله وللمؤمنين [الآيات ٤ ـ ٦].

ولعل الله أن يهدي هؤلاء المشركين فيدخلوا في دين الله ، وبذلك تتحوّل العداوة إلى مودّة ، وقد فتحت مكّة بعد ذلك ، وعاد الجميع إخوة متحابّين [الآية ٧].

وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ، فهو نبي الهدى والسلام ؛ والإسلام في طبيعته دين سلام ، فاسمه مشتقّ من السلام ؛ والله ، تقدّست

٢١٦

أسماؤه ، اسمه السلام ؛ والإسلام لا يمنع من موالاة الكفار ، والبرّ بهم ، وتحرّي العدل في معاملتهم ، ما داموا لم يقاتلونا في الدين.

ولكنّ الإسلام ينهى أشدّ النهي عن موالاة الكفّار المقاتلين أو الذين يستعدون لقتال المسلمين ، ويرى كشف خطط المسلمين لهم خيانة للعقيدة وللأمة الاسلامية.

«وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها الى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ؛ فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ، ودعوتهم ، ولم يصدّ الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البرّ به والقسط معه» [الآيتان ٨ ـ ٩].

وكان صلح الحديبية ينص على أنّ من جاء مسلما بدون إذن وليّه يردّه المسلمون إلى أهل مكّة ، ومن جاء إلى مكّة مشركا لا يردّونه.

ثمّ أسلمت نساء من أهل مكّة وجاء أزواجهنّ يطلبونهنّ ، فنزلت هذه الآيات تؤيّد أنّ المرأة لا يصح أن تردّ إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له بعد أن آمنت بالله وبقي الزوج على الشرك ، وكانت المرأة تمتحن ، أي تحلف بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماسا للدنيا ، وبالله ما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله ، فإذا حلفت ، كان لنا الظاهر والله أعلم بالسرائر. عندئذ تعيش في المجتمع المسلم. فإن تزوجت أعاد زوجها المسلم إلى الزوج المشرك ما أنفقه عليها ، وكذلك إذا ذهبت زوجة مسلمة الى المشركين مرتدّة ، فإذا تزوّجت يردّ المشركون للمسلم المهر الذي دفعه لها [الآيات ١٠ ـ ١١].

ثمّ بيّن الله سبحانه لرسوله (ص) كيف يبايع النساء على الإيمان وقواعده الأساسية ، وهي التوحيد ، وعدم الشرك بالله إطلاقا ، وعدم اقتراف المحرمات وهي السرقة ، والزنا ، وقتل الأولاد ، والإتيان ببهتان يفترينه ، ثم طاعة الرسول في كل ما يأمر به ، أي امتثال المأمورات واجتناب المحرمات [الآية ١٢].

وفي ختام السورة تجد آية تجمع

٢١٧

الهدف الكبير فتنهى عن موالاة من غضب الله عليهم من اليهود والمشركين [الآية ١٣].

مقصود السورة إجمالا

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود السورة : النهي عن موالاة الخارجين عن ملّة الإسلام ، والاقتداء بالسلف الصالح في طريق الطاعة والعبادة ، وانتظار المودّة بعد العداوة ، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة ، وأمر الرسول بكيفية البيعة مع أهل الستر والعفّة ، والتجنّب من أهل الزيغ والضلالة ، في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣).

٢١٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الممتحنة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الممتحنة بعد سورة الأحزاب ، وكان نزولها بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، فتكون من السّور التي نزلت فيما بين هذا الصلح وغزوة تبوك.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في [الآية ١٠] منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) وتبلغ آياتها ثلاث عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة نهي المؤمنين عن موالاة المشركين بعد نهيهم عن موالاة اليهود ، وكان المسلمون قد عقدوا مع قريش هدنة في صلح الحديبية لمدة أربع سنين ، فنزلت هذه السورة بعد هذا الصلح ليفهمه المسلمون على حقيقته ، لأنّه لم يقض على ما بين الفريقين من عداء ، وإنّما كان اتّفاقا على وضع الحرب بينهم هذه المدّة ، ولا شكّ في أنّ هذه السورة تشبه سورة الحشر في نهي المؤمنين عن موالاة غيرهم ، وهذا هو وجه المناسبة بينهما.

النهي عن موالاة المشركين

الآيات [١ ـ ١٣]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٩

بِالْمَوَدَّةِ) [الآية ١]، فنهاهم عن موالاة المشركين الذين أخرجوهم من ديارهم ، ووبّخ من يسرّ إليهم بالمودة من المنافقين ، وذكر أنهم إن يلتقوا بهم يكونوا لهم أعداء ويؤذوهم بالفعل والقول ، وهدّدهم إذا راعوا في ذلك ما بينهم من قرابة بأنها لن تنفعهم يوم القيامة ، بل يفصل فيها بينهم ، ولا ينتفع بعضهم بقرابة بعض ، ثمّ أخبرهم ، جلّ وعلا ، بما كان من إبراهيم والذين معه إذ تبرّأوا من قومهم وعادوهم ، ليكون لهم قدوة حسنة فيهم ؛ ثم ذكر أنهم إذا عادوهم ترجى مودّتهم بإسلامهم ، لأنّ العداوة قد تكون سببا في المودّة ، ثم ذكر ، سبحانه ، أنه لا ينهاهم عن موالاة الذين لم يقاتلوهم في الدّين ، ولم يخرجوهم من ديارهم ، وإنّما ينهاهم عن موالاة الذين فعلوا ذلك معهم. وكان في صلح الحديبية أن يردّ النبي (ص) على قريش من يهاجر إليه منهم ، فجاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة ، وهو لا يزال بالحديبية ، فأقبل زوجها يطلب ردّها إليه على ما جاء في الصلح بينهم ، وكذلك فعل غيرها من النساء ، فجاء أهلهن يطلبون ردّهن ، فأجابهم النبي (ص) بأن هذا الشرط في الرجال دون النساء ، وذكر الله تعالى في ذلك أنه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات فليمتحنوهنّ ، فإن علموهنّ مؤمنات لا يرجعوهنّ إلى الكفّار ، لأنّهنّ محرّمات عليهم ، وهم محرّمون عليهنّ ؛ وأحلّ للمسلمين أن ينكحوهنّ إذا دفعوا لهنّ مهورهنّ ، إلى غير هذا ممّا ذكره في أمرهنّ ؛ ثمّ أمر النبي (ص) إذا جاءه المؤمنات مهاجرات يبايعنه ، ألّا يشركن ، ولا يسرقن ، ولا يزنين ، ولا يقتلن أولادهن ، ولا يأتين ببهتان من نميمة أو نحوها ، ولا يعصينه في معروف أن يبايعهنّ ويستغفر لهنّ الله ، إنّ الله غفور رحيم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣).

٢٢٠