الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «المجادلة» (١)

يقول تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [الآية ٧].

ظاهر هذا الكلام : محمول على المجاز والاتساع ؛ لأنّ المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين ، ومعاريض المتخافتين ؛ فكأنّه سبحانه يعلم جميع ذلك ، سامع للحوار ، وشاهد للسّرار.

ولو حمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض. ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعا لثلاثة في مكان على معنى قول المخالفين ، استحال أن يكون سادسا لخمسة في غير ذلك المكان إلّا بعد أن يفارق المكان الأوّل ، ويصير إلى المكان الثاني ؛ فينتقل كما تنتقل الأجسام ، ويجوز عليه الزوال ، والمقام ، تنزّه سبحانه عن هذا السياق ، وهذا واضح بحمد الله وتوفيقه.

وفي قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [الآية ١٢] استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة.

والمراد بقوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أي أمام نجواكم ، وذلك كقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧] أي مطرقة أمام الغيث الوارد ، ومبشّرة بالخير الوافد.

وفي قوله سبحانه : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الآية ١٦]

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٨١

استعارة. والكلام وارد في شأن المنافقين.

والمراد أنهم جعلوا إظهار الإيمان الذي يبطنون ضدّه جنّة ، يعتصمون بها ويستلئمون (١) فيها تعوّذا بظاهر الإسلام الذي يسع من دخل فيه ، ويعيذ من تعوّذ به.

وفي قوله سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢١).

استعارة. والمراد بالكتابة هاهنا الحكم والقضاء. وإنّما كنى تعالى عن ذلك بالكتابة ، مبالغة في وصف ذلك الحكم بالثبات ، وأنّ بقاءه كبقاء المكتوبات.

وفي قوله سبحانه : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [الآية ٢٢] استعارتان ، إحداهما قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، ومعناه أنه ثبّته في قلوبهم ، وقرّره في ضمائرهم ، فصار كالكتابة الباقية ، والرّقوم الثابتة ، على ما أشرنا إليه من الكلام على الاستعارة المتقدّمة. وذلك كقول القائل : هو أبقى من النقش في الحجر ، ومن النقش في الزّبر.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ولذلك وجهان : إمّا أن يكون المراد بالروح هاهنا القرآن ، لأنه حياة في الأديان ، كما أنّ الروح حياة في الأبدان. وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] والمراد القرآن.

والوجه الاخر أن يكون الروح هاهنا معنى النّصر والغلبة والإظهار للدّولة. وقد يعبّر عن ذلك بالريح. والرّوح والريح يرجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] أي دولتكم واستظهاركم.

__________________

(١). يستلئم : أي يلبس الدرع.

١٨٢

سورة الحشر

٥٩

١٨٣
١٨٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الحشر» (١)

سورة الحشر سورة مدنية ، آياتها ٢٤ آية ، نزلت بعد سورة البيّنة.

نزلت هذه السورة في بداية السنة الرابعة من الهجرة ، بعد غزوة أحد ، وقبل غزوة الأحزاب ، وهي تحكي قصّة غزوة بني النضير ، ولكنّها ، على طريقة القرآن الكريم ، تحكي أحداث الغزوة ، وما صاحب هذه الأحداث ؛ وتربّي النفوس وتؤكد على معالم الإيمان ، وبذلك يكون القصص هادفا ، ورواية الأحداث وسيلة عملية لتقويمها ، ومعرفة حكم الله فيها ، واستنباط العظة والعبرة منها.

والقرآن الكريم فيه القصة ، وفيه أحداث التاريخ ، وفيه العظة والعبرة ، وفيه الحكم والتشريع ، وفيه التهذيب والتربية ، وقد استطاع أن يمزج ذلك كلّه بطريقته الخاصة ، ليصل به إلى قلب المؤمن ، وليسهم في بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة ، والمجتمع الصالح والأمة الصالحة.

قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران : ١١٠].

غزوة بني النضير

قدم رسول الله (ص) المدينة ومعه رسالته الهادية ، وقد آمن به جمع من المهاجرين والأنصار ، ثم عقد معاهدات مع يهود المدينة على حرّية الأديان ، وعلى المعايشة السلمية في

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٨٥

المدينة ، وعلى ألّا يكون اليهود لا عليه ولا له.

«وكان يهود بنو النضير حلفاء الخزرج ، وبينهم وبين المسلمين عهود خاصة يأمن بها كل منهم الاخرة» لكنّ بني النضير لم يوفوا بهذه العهود ، حسدا منهم وبغيا ، فقد ذهب رسول الله (ص) في عشرة من أصحابه الى محلة بني النضير ، يطلب منهم المشاركة في أداء دية قتيلين ، بحكم ما بينه وبينهم من عهود ، فاستقبله اليهود بالبشر والتّرحاب ، ووعدوا بأداء ما عليهم بينما كانوا يدبّرون أمرا لاغتيال رسول الله (ص) ومن معه ، وكان (ص) ، جالسا إلى جدار من بيوتهم ، فقال بعضهم لبعض : إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، فهل من رجل منكم يعلو هذا البيت فيلقي صخرة عليه فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا لذلك ، فصعد ليلقي صخرة على رسول الله (ص) ، فاطّلع (ص) على قصدهم ، فقام كأنّما ليقضي أمرا فلما غاب استبطأه من معه ، فخرجوا من المحلّة يسألون عنه ، فعلموا أنه دخل المدينة.

وأمر رسول الله (ص) ، بالتهيؤ لحرب بني النّضير ، لظهور الخيانة منهم ، ونقض عهد الأمان الذي بينه وبينهم ، وكان قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف ، من بني النضير ، في هجاء رسول الله (ص) وما قيل من أنّ كعبا ورهطا من بني النضير ، اتصلوا بكفار قريش اتصال تامر وتحالف وكيد ، ممّا جعل رسول الله (ص) يأذن لمحمد ابن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف ، فقتله. فلما كان التبييت للغدر برسول الله (ص) في محلة بني النضير ، لم يبق مفر من نبذ عهدهم.

ثم أرسل النبي (ص) إليهم ، محمد بن مسلمة ليقول لهم اخرجوا من بلادي فقد هممتم بالغدر.

وتجهز الرسول (ص) لقتال بني النضير ، وحاصر محلّتهم ، وأمهلهم ثلاثة أيام ، وقيل عشرة ، ليفارقوا المدينة ، على أن يأخذوا أموالهم ، ويقيموا وكلاء عنهم على بساتينهم ومزارعهم.

وتهيّأ بنو النضير للرحيل ؛ ولكنّ المنافقين في المدينة ، أرسلوا إليهم يحرّضونهم على الرفض والمقاومة ، وقالوا لهم لا تخرجوا من دياركم ، وتمنّعوا في حصونكم ونحن معكم ؛ إن

١٨٦

قوتلتم قاتلنا معكم ؛ وان أخرجتم خرجنا معكم ؛ وقد حكى القرآن عمل المنافقين وشهّر بنفاقهم وكذبهم ، قال تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣).

وقد طمع اليهود في معونة المنافقين ومؤازرتهم ، فتحصّنوا في حصونهم ، وتأخروا عن الجلاء ، وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله ، فحاصرهم (ص) وضيّق عليهم الخناق ، ثم أمر بقطع نخيلهم ليكون ذلك أدعى الى تسليمهم ، ثم قذف الله الرعب في قلوب اليهود ، ولم يجدوا معونة من المنافقين ، ويئسوا من صدق وعودهم ، فسألوا رسول الله (ص) أن يجليهم ويكف عن دمائهم ، وأنّ ما لهم ممّا حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب. فأجابهم النبي (ص) إلى طلبهم ، وصار اليهود يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، كي لا يسكنها المسلمون.

ولمّا سار اليهود ، نزل بعضهم بخيبر ، ومن أكابرهم حيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق.

ومنهم من سار الى أذرعات بالشام ، وقد أسلم منهم اثنان : يامين بن عمرو ، وأبو سعد بن وهب.

وكانت أموال بني النضير فيئا خالصا لله وللرسول ، ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فقسّمها رسول الله (ص) بين المهاجرين خاصة ، دون الأنصار ، عدا رجلين من الأنصار فقيرين ، هما سهل بن حنيف ، وأبو دجانة سماك بن خرشة ؛ وكان المهاجرون قد تركوا بلادهم وأموالهم ، وهاجروا فرارا بدينهم الى المدينة ؛ وقد استقبلهم الأنصار ، بالبشر والتّرحاب ، والمعونة الصادقة ، والإيثار الكريم. فلما فاتت الفرصة ، وزّع النبي (ص) الفيء على المهاجرين خاصة لتحسين أحوالهم المادّية ، ولكي لا يكون المال متداولا بين الأغنياء وحدهم.

قال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ

١٨٧

وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦).

تسلسل أفكار السور

١ ـ وصفت سورة الحشر حصار بني النضير ، وعناية الله بالمؤمنين ، وانتهاء الحصار بجلاء اليهود وانتصار المؤمنين. [الآيات ١ ـ ٤].

٢ ـ تحدّثت عن قطع المسلمين للنخيل ، وبيّنت أنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه ، ليذلّ به اليهود ، ويخزي الفاسقين. [الآية ٥].

٣ ـ ذكرت حكم الفيء والغنائم ، التي غنمها المسلمون من بني النضير ، وبينت أنّها توزع على المهاجرين لسدّ حاجتهم ، ولا يعطى الأنصار منها شيئا ، لأنها ليست غنيمة حرب ، استخدم فيها الكر والفر وركوب الإبل والخيل ، ولكنّها غنيمة حصار محدود ، انتهى بتسليم اليهود ، بعد أن ألقى الله سبحانه الرعب في قلوبهم. [الآيتان ٦ ـ ٧].

٤ ـ باركت السورة كفاح المجاهدين ، وخروجهم من مكة إلى المدينة ، حفاظا على الدين وفداء للعقيدة ، كما باركت كرم الأنصار وأريحيّتهم ، ووصفتهم بالسماحة والإيثار ، والمحبة للبذل والعطاء.

كما باركت الأجيال اللاحقة ، التي ولدت في محاضن الدعوة ، وكانت ثمرة كريمة ، لتربط المهاجرين والأنصار [الآيات ٨ ـ ١٠].

٥ ـ حملت السورة على المنافقين ، وكشفت نفاقهم وكيدهم واتهمتهم بالجبن والصّغار. [الآيات ١١ ـ ١٣].

٦ ـ بينت أن اللقاء بين المنافقين وأهل الكتاب ، لقاء في الظاهر فقط ، وبينهم من العداوة والإحن ما يظهر في الشدائد : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الآية ١٤].

٧ ـ أشارت إلى قصة الشيطان مع عابد قيل إنّه يسمى برصيصا ، أغراه الشيطان بارتكاب الفاحشة ، ثم استدرجه الى الكفر ، ثم تولى عنه وخذله ، ومثله كمثل المنافقين ، زيّنوا لليهود المقاومة ، والتحصّن ، ضد المسلمين ، ثم خذلوهم. [الآية ١٦].

٨ ـ في الجزء الأخير ، تلتفت السورة الى المؤمنين ، فتأمرهم بالتقوى

١٨٨

والعمل الصالح ، وتبيّن فضل القرآن الكريم وأثره في هداية القلوب. [الآيات ١٨ ـ ٢١].

تختم السورة بذكر أسماء الله الحسنى ، فهو سبحانه مالك الملك ، (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) تقدّست أسماؤه ، وتنزهت عن النقص (السَّلامُ) الذي يشمل عباده بالأمان والطمأنينة ويمنحهم السلامة والراحة ، (الْمُؤْمِنُ) واهب الأمن وواهب الايمان ، (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب على كل شيء (الْعَزِيزُ) الغالب ، (الْجَبَّارُ) القاهر ، (الْمُتَكَبِّرُ) البليغ الكبرياء والعظمة ، (الْخالِقُ الْبارِئُ) الموجد ، (الْمُصَوِّرُ) خالق الصور للكائنات. ومن معناها إعطاء الملامح المتميزة ، والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة ، (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الدالة على الصفات العالية ، والكمال المطلق ، فهو سبحانه متصف بكل كمال ، ومنزّه عن كل نقص.

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة الحشر هو :

الخبر عن جلاء بني النضير ، وقسم الغنائم ، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار ، والشكاية من المنافقين في واقعة بني قريظة ؛ وذكر برصيصا (١) والنظر الى العواقب ؛ وتأثير نزول القرآن الكريم وذكر أسماء الحق تعالى وصفاته ؛ وبيان أن جميع المخلوقات تدل على عظمته وكماله وتنزيهه ، في قوله سبحانه : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤).

النظام الاقتصادي في الإسلام

أشارت الآية السابعة ، من سورة الحشر ، إلى الحكمة من توزيع الفيء على المهاجرين وحدهم ، دون الأغنياء من أهل المدينة ، بقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي كسی

__________________

(١). حمل بعضهم عليه الآية ١٦ من سورة الحشر ، حيث استدرجه الشيطان إلى المعصية ثم الى الشرك ثم تخلى عنه ، وذلك أن الشيطان ذهب الى بنت فخنقها حتى مرضت. ثم أفهم أهلها أن شفاءها عند ذلك العابد ، فتركها أهلها عنده في صومعته ليرقيها ، فلما شفيت وسوس له الشيطان حتى ارتكب معها الفحشاء ، فلما انكشف أمره ، أخذ ليصلب ، فطلب منه الشيطان أن يسجد له ، حتى ينجو من الصلب ، فسجد للشيطان ، ثم مات كافرا.

١٨٩

لا يكون الفيء ، أي الغنيمة ، متداولا بين الأغنياء دون الفقراء. وهذه قاعدة هامة ، من قواعد النظام الاقتصادي في الإسلام.

وقد احترم الإسلام الملكية الفردية ، لأنها حافز طبيعي للعمل والإنتاج ، ولكنّه قلّم أظفار هذه الملكية ، وحارب جبروت المال وطغيانه ، بما يأتي :

١ ـ فرض الإسلام الزكاة ، وجعلها نسبة متفاوتة حسب التعب في كسب المال. فزكاة المال نسبتها ٢ : ٢١ في المائة ، وكذلك زكاة التجارة ٢ : ٢١ في المائة من رأس المال ، وزكاة الزراعة ٥ في المائة ، أو ١٠ في المائة. وقريب منها زكاة الماشية ، وزكاة الرّكاز ، وهو المال ، أو البترول ، أو المعادن والكنوز التي توجد في باطن الأرض ، نسبتها ٢٠ في المائة.

وهكذا ، كلما كان عمل العبد أظهر ، كانت نسبة الزكاة أقل ؛ وكلّما كان عمل القدرة الإلهية أظهر كانت نسبة الزكاة أكثر ، فكانت النسبة ٢٠ في المائة في الرّكاز ؛ و ٢ : ٢١ في المائة في التجارة ... إلخ.

٢ ـ حرّم الإسلام الرّبا والاحتكار ، وهما الوسيلتان الرئيستان ، لجعل المال دولة بين الأغنياء ، أي يتداوله الأغنياء ، ولا يصل إليه الفقراء.

٣ ـ جعل للإمام الحقّ في أن يأخذ فضول أموال الأغنياء ، فيردّها على الفقراء ؛ وأن يفرض الضرائب في أموال الأغنياء ، عند خلوّ بيت المال.

٤ ـ جعل هناك صدقات موسمية مثل صدقة الفطر ، والأضحية ؛ والهدف في الحج ، والكفّارات ؛ مثل كفّارة اليمين ، والظّهار والفطر في رمضان ، وكلّها تنتهي الى إطعام المساكين أو كسوتهم والتوسعة عليهم.

٥ ـ حث الإسلام على الصدقة والترحم والتكافل ، والمودة والتعاطف بين الناس ؛ وبذلك نجد أن النظام الاقتصادي في الإسلام نظام متميز ، ليس فيه مساوئ الرأسمالية أو الشيوعية ، بل فيه محاسنهما مع التجرّد من عيوبهما ، وذلك نظام العليم الخبير ، البصير بالنفوس الذي أعطى الإنسان حقّ التملك ، ثم جعله موظّفا في ماله ، يجب عليه أن ينفق ، وأن

١٩٠

يتصدّق عن طواعية ، ورغبة في الثواب العاجل والآجل ، قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧] وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١) [البقرة].

١٩١
١٩٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الحشر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الحشر بعد سورة البيّنة ؛ ونزلت سورة البيّنة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ؛ فيكون نزول سورة الحشر في ذلك التاريخ أيضا ؛ والحقّ أنها من السّور التي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية ، لأنها نزلت في غزوة بني النّضير ، وكانت هذه الغزوة في السنة الرابعة من الهجرة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في [الآية ٢] منها (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) وتبلغ آياتها أربعا وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة ، في غزوة بني النضير من يهود المدينة ؛ وكانوا قد نقضوا عهدهم مع النبي (ص) فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فأبوا ، وبعث إليهم عبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ألّا يخرجوا ، فإن قاتلهم المسلمون كانوا معهم عليهم ، وإن أخرجوهم خرجوا معهم ؛ فحاصرهم المسلمون ، حتى رضوا أن يخرجوا من المدينة ، على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلّا آلة الحرب ، ولم يفعل المنافقون شيئا مما وعدوهم به ، وبهذا يظهر وجه ذكر هذه السورة بعد سورة المجادلة ، لأن الكلام فيهما يتناول ما كان من موالاة المنافقين لليهود.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩٣

الكلام على غزوة بني النضير

الآيات [١ ـ ٤]

قال الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، فذكر تسبيح ما في السماوات وما في الأرض له ، وأنه سبحانه عزيز حكيم ؛ ومهّد بهذا لما أراده من بيان فضله على المسلمين في هذه الغزوة ؛ فذكر جلّ شأنه ، أنه هو الذي أخرج بني النضير من ديارهم لأول الحشر ، الذي سيكون بإخراج اليهود جميعهم من جزيرة العرب ؛ وكان المسلمون لا يظنّون أن يخرجوا ، وكانوا هم يظنون أنّ حصونهم تمنعهم من الله ، فقذف في قلوبهم الرعب حتى رضوا بالخروج ؛ ولو لا هذا لعذّبوا في الدنيا بالقتل ، ولهم في الاخرة عذاب النار ؛ ثم ذكر سبحانه أنّ ما قطعه المسلمون من أشجارهم قبل الصلح ، وما تركوه منها كان بإذنه ، وكان في أنفسهم شيء ممّا قطعوه منها ، ولعلّهم ندموا على قطعها بعد أن صار ما بقي منها لهم ؛ ثم ذكر تعالى أنّ ما أفاءه عليهم من أموالهم لم يكن بقتال ؛ وأنّ حكم ما أفاءه عليهم بغير قتال أن يكون سهم منه لله والرسول ، ينفق في عمارة المساجد ونحوها ، وسهم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطّلب ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل ، فلا يأخذ لأغنياء منه شيئا ، وإنّما يأخذه فقراء المهاجرين ، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تعويضا لهم ؛ وقد أثنى سبحانه عليهم في هجرتهم وتضحيتهم بأموالهم ، وأثنى بعدهم على الأنصار الذين آووهم في دار هجرتهم ، وطابت نفوسهم بتوزيع أموال بني النّضير عليهم ؛ وأثنى بعد الفريقين على من يجيء بعدهم ، ويسلك سبيلهم ، في ما كان من تضحية وإيثار وتحابّ ؛ ثم ذكر ما كان من قول المنافقين لبني النضير (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الآية ١١] وذكر سبحانه أنهم كاذبون في وعدهم لهم ، فلئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار جميعا ؛ لأنهم يرهبون المسلمين أشد من رهبتهم من الله ، فلا يقاتلونهم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ؛ لأنهم ضعاف بسبب عداوة بعضهم لبعض ، فيحسبهم من ينظر إليهم أنهم على وفاق ، ولكنّ قلوبهم مختلفة

١٩٤

متفرّقة ؛ فمثلهم في ذلك كمثل أهل بدر من قبلهم ، حينما ذاقوا وبال أمرهم ، ولم يغن بعضهم عن بعض شيئا ، وكمثل الشيطان حينما يغوي الإنسان على الكفر ، ثم يتبرأ منه : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧).

ثم أمر ، سبحانه ، المؤمنين بتقواه ، وأن ينظر كل واحد منهم ما قدّمه لغده ؛ ونهاهم أن يكونوا كأولئك المنافقين واليهود ، والذين نسوه فأنساهم أنفسهم. ثم يمضي السياق بعد ذلك إلى تعظيم شأن القرآن الذي ينزل بمثل هذه الآيات والمواعظ. فذكر تعالى أنه لو أنزله على جبل لتصدّع من خشية منزله ، وأتبع ذلك بشرح عظمته ، جلّت قدرته ، فذكر من صفاته ما ذكر ، إلى أن ختمها بقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤).

١٩٥
١٩٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الحشر» (١)

آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر (٢) ، وأوّل الحشر نزل في غزوة بني النضير (٣) وهي عقبها ، وذلك نوع من المناسبة والربط.

وفي آخر المجادلة : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [الآية ٢١]. وفي أول هذه : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) [الآية ٢].

وفي آخر المجادلة ، الآية ٢٢ ، ذكر من حادّ الله ورسوله (٤) ، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله (٥).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وهو قوله تعالى من الآية ٢٢ : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ).

وقيل هم : أبو عبيدة قتل أباه يوم بدر ، وأبو بكر همّ بقتل ولده عبد الرحمن ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيدا ، وعمر قتل قريبا له ، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عقبة وشيبة والوليد بن عتبة (طبقات ابن سعد : ٣ : ١ : ٣٠٠).

(٣). وذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) [الآية ٢]. وأخرج البخاري في التفسير : ٦ : ١٨٣ ، ومسلم في التفسير : ٨ : ٢٤٥ عن ابن عباس ، أنّ أول الحشر أنزلت في بني النضير.

(٤). وذلك قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

(٥). وذلك قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الآية ٤].

١٩٧
١٩٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الحشر» (١)

١ ـ (أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الآية ٢].

هم بنو النّضير (٢).

٢ ـ (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) [الآية ٢].

قال ابن عبّاس : هو الشّام. أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

٣ ـ (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [الآية ٧].

قال مقاتل : يعني قريظة والنّضير وخيبر. أخرجه ابن أبي حاتم.

٤ ـ (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) [الآية ١٦].

هو برصيصا العابد. ذكره ابن كثير (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). أخرجه البخاري (٤٨٨٢) في التفسير ؛ عن ابن عبّاس موقوفا.

(٣). والطبري في «تفسيره» ٢٨ : ١٩ ، عن عدد من الرواة.

(٤). في «تفسيره» ٤ : ٣٤١.

١٩٩
٢٠٠