الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الأول

أهداف سورة «المجادلة» (١)

سورة «المجادلة» سورة مدنية وآياتها ٢٢ آية نزلت بعد سورة «المنافقون».

تربية إلهية

سورة «المجادلة» ، حافلة بآداب التربية ، وتهذيب السلوك ، وتحذير المسلمين من مكايد المنافقين.

لقد نزلت هذه السورة بعد سورة «المنافقون» ، وكانت الجماعة الإسلامية في المدينة لا تزال في دور الإعداد والتكوين ، وكان المسلمون يتألّفون من المهاجرين والأنصار ؛ وقد انضمّ إليهم ، من لم يتلقّ من التربية الإسلامية القدر الكافي ، ومن لم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة ، كما دخل في الإسلام جماعة من المنافقين ، حرصوا على الاستفادة المادية وأخذوا يتربّصون بالمسلمين الدوائر ، ويعرضون ولاءهم على المعسكرات المناوئة للمسلمين ، وهي معسكرات المشركين واليهود.

وقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض ، جهودا ضخمة وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا في صغار الأمور وكبارها.

ونحن نشهد في هذه السورة ، وفي هذا الجزء كلّه ، طرفا من تلك الجهود الضخمة وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنّزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل ، بين الإسلام وخصومه المختلفين ، من مشركين ويهود ومنافقين.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٦١

«ونشهد في سورة المجادلة ، بصفة خاصة ، صورة موحية من رعاية الله جلّ جلاله للجماعة الناشئة ، وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها ، في أخصّ خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ، وحراسته لها من كيد أعدائها ، خفيّة وظاهرة ، وأخذها في حماه وكنفه ، وضمّها الى لوائه وظلّه ، وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وترفع لواءه في الأرض» (١).

قصة المجادلة

سمّيت سورة «المجادلة» بهذا الاسم لاشتمالها على قصة المرأة المجادلة ، وقد افتتح الله بها السورة حيث قال سبحانه : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١).

وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في كتاب الطلاق من سننه ، عن خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ، قالت : كنت عنده ، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل عليّ يوما ، فراجعته بشيء فغضب فقال ، أنت عليّ كظهر أمي.

وكان الرجل ، في الجاهلية ، إذا قال ذلك لامرأته حرّمت عليه ؛ وكان ذلك أول ظهار في الإسلام ، فندم أوس لساعته ثم دعاها لنفسه (طلب ملامستها) فأبت وقالت : والذي نفسي بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله ، فأتت الى رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال ، حتى إذا أكل مالي ، وأفنى شبابي ، وتفرّق أهلي ، وكبرت سنّي ظاهر منّي ، وقد ندم فهل من شيء تجمعني به وإياه تفتيني به؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه : حرّمت عليه ، أوما أراك الّا حرمت عليه. فأعادت الكرّة ، والرسول عليه الصلاة والسلام يعيد عليها الجواب نفسه ، حتى قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، قد طالت له صحبتي ،

__________________

(١). في ظلال القرآن ، بقلم سيّد قطب ٢٨ : ٨.

١٦٢

ونثرت له بطني ، وإنّ له صبية صغارا ، ان ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ؛ وجعلت ترفع رأسها الى السماء ، وتستغيث وتتضرّع ، وتشكو الى الله ، فنزلت الآيات الأربع من صدر سورة المجادلة. فقال رسول الله (ص) يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا ، ثم تلا عليها الآيات. وقال لها (ص) مريه فليعتق رقبة ، قالت يا رسول الله ليس عنده ما يعتق ، قال فليصم شهرين متتابعين قالت والله إنه لشيخ ماله من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكينا وسقا (١) من تمر ، قالت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ، فقال رسول الله (ص) : «فإنّا سنعينه بعرق من تمر». قالت : يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال الرسول : «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدّقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» ، قالت : ففعلت.

تلك قصة الظّهار ، وهي تشير الى رعاية السماء لهذه الجماعة المؤمنة ، ونزول الوحي يجيب عن أسئلتها ويحلّ مشاكلها ، ويربّي نفوسها ، ويهذّب أخلاقها ، ويأخذ بيدها إلى الصراط القويم. وقد تضمّنت الآيات ، إحاطة السميع البصير بكل صغيرة وكبيرة ، واطّلاعه على جميع الأعمال ؛ وبينت أن المسارعة إلى ألفاظ الظّهار والطلاق منكر وزور ؛ وأنّ الزوجة غير الأم ، فالأم حملت وأرضعت ، وقد حرّم الله تعالى على الإنسان الزواج بأمه. والزوجة أحلّ الله زواجها.

ثم رسم القرآن الكريم طريق الحل لمن بدرت منه بادرة بالظّهار ، فقال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي ، ثم أراد أن يرجع عن ذلك ، وأن يراجع زوجته ؛ فعليه أن يكفّر عن هذا الذنب ، بتحرير رقبة ؛ فإن لم يجد ، فبصوم ستين يوما ، فإن لم يستطع ، فعليه إطعام ستين مسكينا ؛ وفي ذلك نوع من التهذيب والتأديب ، حتّى يضبط الناس أعصابهم ويحفظوا ألسنتهم في ساعة الغضب والتهوّر.

أهداف السورة

تبدأ السورة بهذه البداية الكريمة ، وهي سماع الله العليّ القدير ، شكوى امرأة فقيرة مغمورة ، وقد استمع إليها

__________________

(١). الوسق (بفتح الواو ، وكسرها) : مكيلة معروفة.

١٦٣

جلّ جلاله من فوق سبع سماوات ، وكان صوتها ضعيفا ، لا يكاد يسمعه من يجلس بجوارها.

وفي البخاري والنسائي عن عائشة (رض) قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله (ص) في جانب البيت ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) [الآية ١] الى آخر الآيات الأربع من صدر السورة.

وفي [الآيتين ٥ ـ ٦] توكيد أنّ الذين يحادّون الله ورسوله ، وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله ، مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الاخرة ، مأخوذون بما عملوا ، أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم ؛ وهم فاعلوه : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦).

و [الآية ٧] تؤكّد سعة علم الله سبحانه ، وإحاطته بما في السماوات والأرض ، واطّلاعه على السّر والنّجوى ، ورقابته لكلّ صغير وكبير ، ثمّ محاسبة الجميع بما قدّموا يوم القيامة ؛ والآية تخرج هذه المعاني في صورة عميقة التأثير ، تترك القلوب وجلة ، ترتعش مرّة وتأنس مرّة ، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل : (هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧).

وفي [الآيات ٨ ـ ١٠] يشهّر القرآن بموقف المنافقين ، الذين يبيّتون الكيد والدّسّ للمؤمنين ، ويهدّدهم بأنّ أمرهم مكشوف وأن عين الله مطّلعة عليهم ؛ ونجواهم بالإثم والعدوان ، ومعصية الرسول مسجّلة ، وسيحاسبون عليها ، ويلقون جزاءهم ، في جهنم وبئس المصير.

ثم تستطرد الآيات الى تربية المسلمين ، وتهذيب نفوسهم بهذا الخصوص ، فتنهاهم عن الحديث الخافت المحتوي على الإثم والعدوان ، ومعصية الرسول (ص) ؛ وذلك يؤكد أنه كان بين جماعة المسلمين قوم لم يترسّخ الإيمان في قلوبهم ، وكانوا يقلّدون المنافقين ، في التّناجي بالهمز واللّمز ، والإثم والمعصية ، وكان القرآن الكريم يواكب هؤلاء جميعا ، فيكشف المنافقين ، ويرشد المسلمين وينزل الهدى والرحمة أجمعين.

و [الآيات ١١ ـ ١٣] استطراد في

١٦٤

تربية المسلمين ، وتعليمهم أدب السماحة والطاعة ، في مجلس الرسول (ص) ومجالس العلم والذكر ، وهو أدب رفيع قدّمه القرآن الكريم من عشرات القرون ، ليحثّ الناس على التعاون ، والتكافل ، والسلوك المهذّب : (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا). كما تحثّ الآيات على توفير العلم ، وترسّم أدب السؤال والحديث ، مع رسول الله (ص) وتحثّ على الجد والتوقير في هذا الأمر.

ويبدأ الربع الثاني في السورة بالآية ١٤ ، وقد تحدثت مع ما بعدها عن المنافقين ، الذين يتولّون اليهود ويتامرون معهم ، ويدارون تأمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين. وهم في الاخرة كذلك حلّافون كذّابون ، يتقون بالحلف والكذب ، ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ، ما يواجههم من غضب رسول الله ، والمؤمنين ، مع توكيد أن الذين يحادّون الله ورسوله ، كتب الله عليهم أنّهم في الأذلّين ، وأنهم هم الأخسرون ، وأن الله ورسوله هم الغالبون.

وفي ختام السورة نجد صورة كريمة للمؤمن ، الذي يستعلي بإيمانه ، ويجعل الإيمان هو النسب وهو الحياة ، وهو العقيدة الغالية التي تصله بالمؤمنين والمسلمين ، وتحجب مودّته عن أعداء الله ، ولو كانوا أقرب الناس إليه.

وكذلك كان المهاجرون والأنصار ، الذين ضحّوا بكلّ شيء في سبيل العقيدة ، فكتب الله في قلوبهم الإيمان ، وأيّدهم بروح منه ، وجعلهم قدوة لكل فئة مخلصة ، ولكلّ مسلم مخلص ، فمودّة المسلم ، وحبه ، وإخلاصه ، وتعاونه ، لا تكون إلّا للمسلمين الصادقين ؛ ثم هو في الوقت نفسه يحجب مودّته عن الخائنين ، وإن كانوا أقاربه ، أو أصهاره ، أو عشيرته.

ومن سمات هذا الدّين ، أن تحبّ لله وأن تكره لله : أن تحبّ المتّقين ، وتصل المؤمنين ، وتتعاون مع الهداة الصالحين ، وأن تحجب مودّتك عن الفاسقين ، لأنك بهذا تنفّذ أمر الله عزوجل ، وتهجر من عصى الله سبحانه ؛ فمن أحبّ من أحبّ الله ، فكأنما يحبّ الله.

المقصد الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : «معظم مقصود

١٦٥

سورة المجادلة هو بيان حكم الظّهار وذكر النّجوى والسّرار ، والأمر بالتوسّع في المجالس ، وبيان فضل أهل العلم ، والشكاية من المنافقين ، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان» (٣) والحكم على الأول بالفلاح ، وعلى الثاني بالخسران. قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢).

__________________

(٣). بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ١ : ٤٥٦.

١٦٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المجادلة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» بعد غزوة بني المصطلق ، في السنة الخامسة من الهجرة ؛ فيكون نزول سورة «المجادلة» ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [الآية ١] وتبلغ آياتها اثنتين وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة في خولة بنت ثعلبة ، امرأة أوس بن الصامت ؛ وكان قد ظاهر منها بقوله ، أنت عليّ كظهر أمي ، وكان الظّهار من أشدّ طلاق الجاهلية ، لأنّه في التحريم أوكد ، فأتت النبي (ص) فقالت له : إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوب فيّ ، فلمّا خلا سنّي وكثر ولدي جعلني كأمّه ، وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فروى بعضهم أن النبي (ص) قال لها : ما عندي في أمرك شيء. وروى بعضهم أنه قال لها : حرّمت عليه. فقالت له : يا رسول الله ، فاقتي ووجدي. فأنزل الله هذه السورة في تحريم الظّهار ، وبيان حكمه ، وأوعد ، جلّ جلاله ، من يخالف ذلك أشدّ وعيد ؛ وقد ناسب هذا السياق الكلام

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٦٧

على المنافقين ، الذين يحادّون الله ورسوله ، لتحذيرهم من مخالفة ما جاء في الظّهار وغيره من الأحكام ، ولتوبيخهم على ما يتناجون به فيما بينهم ، من الإثم والعدوان ، ومعصية النبي (ص) ؛ وبهذا تشارك هذه السورة سورة «الحديد» ، في معالجتها أحوال أولئك المنافقين ، ويكون ذكرها بعدها لهذه المناسبة.

بيان حكم الظهار

الآيات [١ ـ ٢٢]

قال الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) ، فذكر أحكام الظّهار وختمها ، بقوله تعالى : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) ثم أوعد ، جلّ وعلا ، الذين يحادّون في هذا ونحوه من المنافقين ، بأنّه سبحانه سيخذلهم كما خذل أمثالهم من قبلهم ، ولهم بعد هذا عذاب مهين ، يوم يبعثهم فينبّئهم بما يكيدون به للإسلام في سرّهم ، لأنه يعلم ما في السماوات والأرض ، ولا يخفى عليه شيء مما يتناجى به الناس فيما بينهم. ثم ذكر عزوجل أنه نبأهم عمّا يفعلونه في نجواهم ، فعادوا إليها ، وتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية النبي (ص) ، فأعاد نهيهم عن هذه النّجوى الآثمة ، وأمرهم أن يتناجوا بالبرّ والتقوى ، وأن يتأدّبوا في مجالسهم مع النبي (ص) ؛ فإذا قيل لهم تفسّحوا فيها فسحوا ، وإذا قيل لهم انشزوا منها نشزوا ؛ ثمّ أمرهم سبحانه ، إذا أرادوا مناجاة النبي (ص) بشيء ، أن يقدّموا بين يدي نجواه صدقة تطهّر قلوبهم ، فلا يناجونه إلّا بما فيه خير ومصلحة لهم ، فإذا لم يجدوا ما يتصدّقون به لفقرهم ، فإنه سبحانه يعفو عنهم ، وإذا أشفقوا أن يتصدّقوا حرصا على مالهم وتاب عليهم فلم يكلّفهم بذلك ، فليحافظوا على ما وجب عليهم من الصلاة والزكاة ونحوهما ، ولا يفرّطوا فيها كما فرّطوا في تلك الصدقة ؛ ثم وبّخ أولئك المنافقين على موالاتهم لليهود الذين يؤلّبونهم على إخوانهم ، وهم أجانب لا يريدون بهم خيرا ؛ وذكر أنهم يوالونهم في السّر ويحلفون كذبا أنهم لا يوالونهم ، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به ؛ إلى أن ختم السورة

١٦٨

بتحذير المؤمنين منهم فقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢).

١٦٩
١٧٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المجادلة» (١)

أقول : لما كان في مطلع «الحديد» ذكر صفاته الجليلة ، ومنها : الظاهر والباطن ، وقوله سبحانه في [الآية ٤] منها : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) ، افتتح هذه بذكر أنه سبحانه سمع قول المجادلة التي شكت الى الرسول (ص) ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ، حين نزلت : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات ، إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول» (٢).

وذكر بعد ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [الآية ٧]. وهو تفصيل لقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤].

وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين «الحديد» و «الحشر» ، مع تأخيهما في الافتتاح ب «سبح».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). أخرجه البخاري في التوحيد : ٩ : ١٤٤ ؛ وابن ماجة في المقدمة : ١ : ٦٧ ؛ والإمام أحمد في المسند : ٦ : ٤٦ ؛ وابن جرير في التفسير : ٢٨ : ٥ ، ٦.

١٧١
١٧٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «المجادلة» (١)

١ ـ (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) [الآية ١] هي خولة بنت ثعلبة.

٢ ـ (فِي زَوْجِها) [الآية ١] هو أوس بن الصّامت. كما في «المستدرك (٢)» عن عائشة.

وعند ابن أبي حاتم عن أبي العالية : خولة بنت دليج (٣).

٣ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) [الآية ٨].

هم اليهود. نهاهم النبي (ص) عمّا كانوا يفعلون في تناجيهم ، «أي تحدّثهم» سرّا ناظرين إلى المؤمنين ليوقعوا في قلوبهم الريبة.

٤ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً) [الآية ١٤].

قال السّدّيّ : بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل من المنافقين. أخرجه ابن أبي حاتم.

٥ ـ (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ) [الآية ٢٢].

أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز ، عن عمر بن الخطاب

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). ٢ : ٤٨١ للحاكم وصحّحه ، وأقرّه الذهبي. ووقع في رواية قتادة عند الطبري ٢٨ : ٣ : «خويلة». وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ١٣ : ٣٧٤ : «وهذا يحمل على أن اسمها كان ربما صغّر».

(٣). قاله الحافظ في «فتح الباري» ١٣ : ٣٧٤.

١٧٣

قال : لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته (١).

قال سعيد : وفيه أنزلت هذه الآية ، حينما قتل أباه.

وأخرج عن ابن شوذب قال : نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، حينما قتل أباه يوم بدر.

وقال ابن عسكر : روى ابن فطيس ، عن ابن عبّاس ، أنّ الآية عنى بها جماعة من الصحابة.

فقوله تعالى : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) [الآية ٢٢] يريد أبا عبيدة ، لأنه قتل أباه يوم أحد. (أَوْ أَبْناءَهُمْ) [الآية ٢٢] يريد أبا بكر ، لأنه دعى ابنه للبراز يوم بدر ، فأمره رسول الله (ص) أن يقعد. (أَوْ إِخْوانَهُمْ) [الآية ٢٢] يريد مصعب بن عمير ، لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد. (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [الآية ٢٢] يريد عليّا ونحوه ممن قتلوا عشائرهم.

__________________

(١). قال ذلك عمر ، حينما جعل الأمر شورى بعده ، في أولئك الستة رضي الله عنهم ، كما في «تفسير ابن كثير» ٤ : ٣٢٩.

١٧٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «المجادلة» (١)

١ ـ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٥].

وقوله تعالى : (يُحَادُّونَ) أي : يعادون ويشاقّون.

أقول : الفعل «حادّ» على «فاعل» والإدغام واجب جرت عليه العربية ، فأما قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء : ١١٥] ، فقد فكّ الإدغام فيه لحاجة صوتية يقتضيها حسن الأداء (٢) ، والله أعلم. وأما قوله تعالى : (كُبِتُوا) فمعناه : أخزوا وأهلكوا.

أقول : هذا معنى «الكبت» في لغة التنزيل ، ولا أدري كيف أدرك المعاصرون من أصحاب علم النفس هذه المادة ، فصنعوا منها مصطلحا ، هو «الكبت» بمعنى أن الإنسان يكظم ويخفي من الأفكار والمعضلات والهموم ، ما يدفعه إلى سلوك خاص أو تصرّف مشين.

والذي أراه في هذه الحال أن يلجأ إلى كلمة أخرى ، هي «الزّمّ» التي تفي بمعنى الإخفاء والكظم ...

٢ ـ وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [الآية ٨].

أقول : «النّجوى» هي المسارّة ، وتكون في الخير والشر ، والمراد بها في الآية «النجوى» التي هي الإثم والكفر ، ويدلّنا على ذلك الفعل في الآية الكريمة : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). على أنه ورد قوله تعالى : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤) [الحشر].

١٧٥

وإذا جئنا إلى الآية اللاحقة وجدنا قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [الآية ٩].

٣ ـ وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [الآية ١١].

وقوله تعالى : (انْشُزُوا) أي : انهضوا.

أقول : كأنّ الفعل قد أخذ من «النّشز» ، وهو ما ارتفع من الأرض ، والناهض من مكانه كأنه يرتفع.

وعلى هذا قرئ قوله تعالى : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) [الملك] ، بزاي معجمة.

كما جاء قوله تعالى : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩].

٤ ـ وقال تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) [الآية ١٣].

وقوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) استعارة ممّن له يدان.

والمعنى : قبل نجواكم ، كقول عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ، ويستنزل به اللئيم. يريد : قبل حاجته.

١٧٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «المجادلة» (١)

قال تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) [الآية ٢] خفيفة ، ومن ثقّل جعلها من «تظهّر» ثم أدغم التاء في الظاء.

وقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [الآية ٣] المعنى : «فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ، فمن لم يجد فإطعام ستين مسكينا ، ثمّ يعودون لما قالوا (٢) : «أن لا نفعله» «فيفعلونه» هذا الظّهار ، يقول «هي عليّ كظهر أمّي» وما أشبه هذا من الكلام ، فإذا أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكينا ، عاد لهذا الذي قد قال : «إنّه عليّ حرام» ففعله (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). تسلسل الكلام في القرآن الكريم هو (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الآية ٣](فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً)

(٣). نقله في المشكل ٢ : ٧٢١ ، والجامع ١٧ : ٢٨٢.

١٧٧
١٧٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «المجادلة» (١)

إن قيل : لأي معنى خص الله تعالى الثلاثة والخمسة بالذكر في النّجوى دون غيرهما من الأعداد في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) [الآية ٧]؟

قلنا : لأنّ قوما من المنافقين ، تخلّفوا للتّناجي على هذين العددين مغايظة للمؤمنين ، فنزلت الآية على صفة حالهم ، تعريضا بهم ، وتسميعا لهم ؛ وزيد فيها ما يتناول كلّ متناجيين غير تينك الطائفتين ، وهو قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ) [الآية ٧].

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤)؟

قلنا : فائدته الإخبار عن المنافقين أنّهم يحلفون على أنهم ما سبّوا رسول الله (ص) وأصحابه ، مع اليهود ، كاذبين متعمدين للكذب ، فهي اليمين الغموس (٢) ، فكان ذلك نهاية في بيان ذمّهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

(٢). اليمين الغموس : اليمين الكاذبة تغمس صاحبها في الإثم. يقال : غموس ، وغموص.

١٧٩
١٨٠