الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الحديد» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة «الحديد» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في الآية ٢٥ منها : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله ، والإنفاق في سبيله ؛ وقد ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة ، لأنّها ختمت بأمر النبي (ص) بتسبيح ربّه العظيم ، فجاءت هذه السورة بعدها ، وأوّلها في بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض يسبّح بحمده.

الدعوة إلى الإيمان والإنفاق

في سبيله

الآيات [١ ـ ٢٩]

قال الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) فذكر ، سبحانه ، أن كل ذلك يسبّح بحمده ، وأنّ له ملكه ، وأنّه يحيي ويميت ، إلى غير هذا ممّا يوجب

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٤١

الإيمان به جلّ شأنه وبرسوله محمد (ص). وذكر أن رسوله إنما يدعوهم ليؤمنوا به ، وقد أخذ ميثاقهم بهذا منذ خلقهم ، وأنه جاءهم بكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور ، ثم دعاهم إلى الإنفاق في سبيله ، وفضّل من أنفق وقاتل قبل الفتح ، على من أنفق وقاتل بعده ، ووعد من ينفق في سبيله بأن يضاعفه له يوم القيامة ، ويكون لهم فيها نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ؛ ويقول المنافقون والمنافقات ممّن لم ينفقوا في سبيله للذين آمنوا أو أنفقوا انظروا لنقتبس من نوركم ، فيقال لهم : ارجعوا وراءكم ، ويحال بينهم وبينهم ؛ إلى غير هذا من التحاور الذي يجري بينهم في ذلك اليوم ؛ ثم ذكر تعالى أنه حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، ثمّ ذكر من آياته جلّ وعلا أنّه يحيي الأرض بعد موتها ، لتخشع قلوبهم له ، ورغّبهم في الإيمان به وبرسله ، بأنّ الذين آمنوا به سبحانه ، وبرسله ، هم الصّديقون والشهداء ، ولهم أجرهم ونورهم ، والذين كفروا وكذّبوا بآياته هم أصحاب الجحيم ، ثمّ هوّن لهم أمر الحياة الدنيا فذكر عزوجل أنها لعب ولهو إلى غير هذا مما هوّن به أمرها ، وأمرهم أن يسابقوا إلى ما هو أعظم منها من نيل مغفرته وجنّته ؛ ثم ذكر أنّ ما يصيبهم في الأرض من قحط ونحوه ، وفي أنفسهم من شرّ أو خير ، فبقضائه وقدره. فلا يصحّ أن يحزنوا على ما فاتهم أو يفرحوا بما آتاهم ، ليهوّن عليهم الإنفاق والجهاد في سبيله ، ويحذّرهم من البخل والأمر به ، ثم أشارت الآيات إلى أنّ ما يأمرهم به تعالى من ذلك ، هو الذي أرسل به رسله بالبيّنات ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ، ليقوم الناس بالقسط ، وأنزل الحديد فيه بأس شديد ، ومنافع للناس ، وليعلم من ينصره ورسله بالجهاد به في سبيله ؛ وذكر سبحانه من أولئك الرسل نوحا وإبراهيم (ع) وأنه جعل في ذرّيتهما النبوّة والكتاب ، ثمّ قفّى على آثارهم برسله ، وقفى بعدهم بعيسى ابن مريم (ع) ، فأخذ بهدايتهم قليل من أتباعهم ، وفسق كثير منهم ؛ ثم أمر هذه الأمّة أن تؤمن بالله ورسوله ، الذي جاء

١٤٢

مصدّقا لأولئك الرسل ، وذكر أنه يعطيهم نصيبين من رحمته بإيمانهم برسالتهم ورسالة أهل الكتاب قبلهم ؛ ثم رغّبهم في ذلك بأنهم ينالون به فضلا ، يرى أهل الكتاب أنّه خاص بهم ، فقال تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩).

١٤٣
١٤٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الحديد» (١)

قال بعضهم : وجه اتصالها بسورة «الواقعة» : أنها قدّمت بذكر التسبيح ، وتلك ختمت بالأمر به.

قلت : وتمامه : أنّ أوّل «الحديد» واقع العلة للأمر به ، وكأنه سبحانه قال : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) [الواقعة] لأنه (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية : ١].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

١٤٥
١٤٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الحديد» (١)

١ ـ (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) [الآية ١٣].

قال مجاهد : هو الحجاب الذي في سورة الأعراف (٢).

وقال قتادة : حائط بين الجنّة والنّار.

أخرجهما ابن أبي حاتم (٣).

٢ ـ (الْغَرُورُ) (١٤).

هو الشيطان.

٣ ـ (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [الآية ٢٧].

قال ابن حزم : وهو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). المذكور في قوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) [الأعراف : ٤٦].

(٣). والطبري ٢٧ : ١٢٩.

١٤٧
١٤٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحديد» (١)

١ ـ قال تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الآية ١٣].

أقول : وقوله تعالى : (انْظُرُونا) أي : انتظرونا.

وهذا يعني أن الثلاثي «نظر» يعني انتظر ؛

ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠].

وقولهم :

إن غدا لناظره قريب.

٢ ـ وقال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) [الآية ١٦].

وقوله تعالى : (يَأْنِ) من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه ، أي : وقته.

وهذا بمعنى مقلوبه «آن» ، أي «حان» ، وهذا القلب في الأفعال قد ورد في جملة مواد منها : رأى وراء ، وعثا وعاث.

٣ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الآية ٢٨].

وقوله تعالى : (كِفْلَيْنِ) أي نصيبين من رحمته لإيمانكم بمحمد (ص) وإيمانكم بمن قبله.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٤٩
١٥٠

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحديد» (١)

قال تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الآية ١٢]. يريد ، والله أعلم ، عن أيمانهم كما قال سبحانه : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] أي «بطرف».

وقال تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الآية ١٣] من «نظرته» أي «أنظره» ومعناه : أنتظره.

وقال تعالى : (إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الآية ٢٢]. يريد ، والله أعلم ، «إلّا هو في كتاب» فجاز فيها الإضمار. وقد تقول : «عندي هذا ليس إلّا» تريد : ليس إلّا هو.

وقال تعالى : (بِسُورٍ لَهُ بابٌ) [الآية ١٣] معناه : والله أعلم ، «وضرب بينهم سور».

وقال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٤) بالاستغناء بالأخبار التي في القرآن ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] ولم يكن في ذا الموضع خبر ، والله أعلم بما ينزل هو ، كما أنزل ، وكما أراد ان يكون.

وقال تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) [الآية ٢٩]. يقول ، والله أعلم : لأن يعلم.

وقال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [الآية ١١] وليس هذا مثل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٥١

الاستقراض من الحاجة ، ولكنّه مثل قول العرب : «لي عندك قرض صدق» و «قرض سوء» إذا فعل به خيرا او شرّا. قال الشاعر :

[من الطويل وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائتين] :

سأجزي سلامان بن مفرج قرضهم

بما قدّمت أيديهم وأزلت

١٥٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحديد» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الآية ٨] ثم قال سبحانه : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨)؟

قلنا : معناه إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد (ص). الثاني : إن كنتم مؤمنين بالميثاق الذي أخذه عليكم يوم أخرجكم من ظهر آدم (ع). الثالث : أن معناه : أيّ عذر لكم في ترك الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه ، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقد ركّب الله تعالى فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلّة ، ومكّنكم من النظر وأزاح عللكم ، فما لكم لا تؤمنون إن كنتم مؤمنين بموجب مّا ، فإن هذا الموجب لا مزيد عليه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الآية ١٠] ، ولم يذكر مع من لا يستوي ، والاستواء لا يكون إلا بذكر اثنين ، كقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة : ١٠٠] و (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠]؟

قلنا : هو محذوف تقديره : ومن أنفق وقاتل من بعد الفتح ، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه.

فإن قيل : كيف يقال إن أعلى الدرجات بعد درجة الأنبياء درجة الصّدّيقين ، والله تعالى قد حكم لكلّ مؤمن بكونه صدّيقا ، بقوله تعالى :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٥٣

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الآية ١٩]؟

قلنا : قال ابن مسعود ومجاهد : كلّ مؤمن صدّيق. الثاني : أنّ الصّدّيق هو الكثير الصدق ، وهو الذي كلّ أقواله وأفعاله وأحواله صدق ، فعلى هذا يكون المراد به بعض المؤمنين لا كلّهم. وقد روي عن الضّحّاك أنّها نزلت في ثمانية نفر ، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر ، وعثمان ، وعلي ، وحمزة بن عبد المطلب ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وزيد ؛ وألحق بهم عمر ، رضي الله عنهم فصاروا تسعة.

فإن قيل : لم ذكر سبحانه هؤلاء المذكورين بكونهم شهداء ، ومنهم من لم يقتل؟

قلنا : معناه أنّ لهم أجر الشهداء. الثاني : أنه جمع بمعنى شاهد ، فمعناه أنهم شاهدوه عند ربّهم على أنفسهم بالإيمان. الثالث أنه مبتدأ منقطع عمّا قبله لا معطوف عليه ؛ معناه : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الآية ٢١] والمسابقة من المفاعلة التي لا تكون إلا بين اثنين كقولك : سابق زيد عمرا؟

قلنا : قيل معناه سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في الميدان ؛ ويؤيّد هذا القول مجيئه بلفظ المسارعة في سورة آل عمران (١). وقيل سابقوا ملك الموت ، قبل أن يقطعكم بالموت ، عن الأعمال التي توصلكم إلى الجنة ؛ وقيل سابقوا إبليس ، قبل أن يصدّكم بغروره وخداعه عن ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٢١]. وقال تعالى في سورة آل عمران (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] فكيف يكون عرضها كعرض السماء الواحدة ، وكعرض السماوات السبع؟

قلنا المراد بالسّماء جنس السماوات لا سماء واحدة ، كما أن المراد بالأرض في الآيتين جنس الأرضين ، فصار التشبيه في الآيتين بعرض السماوات السبع ، والأرضين السبع.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لِكَيْلا

__________________

(١). إشارة إلى الآية الكريمة (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣].

١٥٤

تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الآية ٢٣] ولا أحد يملك نفسه عند مضرة تناله أن لا يحزن ، ولا عند منفعة تناله أن لا يفرح ، وليرجع كل واحد منا في ذلك إلى نفسه؟

قلنا : ليس المراد بذلك الحزن والفرح اللذين لا ينفك عنهما الإنسان بطبعه قسرا وقهرا ؛ بل المراد به الحزن المخرج لصاحبه ، إلى الذهول عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ، ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح الطاغي الملهي عن الشكر ، نعوذ بالله منهما.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الآية ٢٥] والميزان لم ينزل من السماء؟

قلنا قيل المراد بالميزان هنا العدل. وقيل العقل. وقيل السلسلة التي أنزلها الله تعالى ، على داود (ع). وقيل هو الميزان المعروف ، أنزله جبريل (ع) فدفعه إلى نوح (ع) وقال له : مر قومك يزنوا به.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) [الآية ٢٨] ، مع أن المؤمنين مؤمنون برسوله (ص)؟

قلنا : معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، آمنوا بمحمد (ص) فيكون خطابا لليهود والنصارى خاصة ، وعليه الأكثرون. وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا ، يوم الميثاق اتّقوا الله ، وآمنوا برسوله اليوم. وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا بالله في العلانية باللسان ، اتّقوا الله وآمنوا برسوله في السر بتصديق القلب.

١٥٥
١٥٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحديد» (١)

في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) استعارة عليه سبحانه ، كإطلاقنا لذلك على غيره ، لأنه سبحانه لا يأتي بالكلام المستعار ، المجاز عليه ، ولكن لأن ذلك اللفظ أبعد في البلاغة منزعا ، وأبهر في الفصاحة مطلعا.

والواحد منّا ، في الأكثر ، إنما يستعير أغلاق الكلام ، ويعدل عن الحقائق إلى المجازات ، لأن طرق القول ربما ضاق بعضها عليه فخالف إلى (٢) ... بقية الكلام وربما استعصى بعضها على فكره فعدل إلى المطاوعة.

معنى قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ) أي الذي لم يزل قبل الأشياء كلها ، لا عن انتهاء مدة ، (وَالْآخِرُ) أي الذي لا يزال بعد الأشياء كلّها لا إلى انتهاء غاية.

(وَالظَّاهِرُ) المتجلّي للعقول بأدلّته ، (وَالْباطِنُ) أي الذي لا تدركه أبصار بريّته.

وقال بعضهم : قد يجوز أن يكون معنى الظاهر هاهنا أي العالم بالأشياء كلها. من قولهم : ظهرت على أمر فلان أي علمته. ويكون الظاهر مخصوصا بما كان في الوجود والجهر ، ويكون الباطن مخصوصا بما كان في العدم والسر.

وتلخيص معنى الظاهر والباطن ، أنه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هنا لفظة غير واضحة.

١٥٧

العالم بما ظهر وما بطن ، بما استسرّ وما علن.

وفي قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١٠] استعارة على ما تقدم في كلامنا من نظير ذلك. والمعنى : أن الخلائق إذا فنوا وانقرضوا ، خلّوا ما كانوا يسكنونه ، وزالت أيديهم عما كانوا يملكونه (١) إلّا الله سبحانه ، وصار تعالى كأنه قد ورث عنهم ما تركوه (٢) ... خلفوه. لأنه الباقي بعد فنائهم ، والدائم بعد انقضائهم.

وفي قوله سبحانه : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الآية ١٢] استعارة على أحد التأويلين.

وفي قوله سبحانه : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥) استعارة. ومعنى مولاكم : أي أملك بكم ، وأولى بأخذكم. وهذا بمعنى المولى من طريق الرّق ، لا المولى من جهة العتق. فكأنّ النار ، نعوذ بالله منها ، تملكهم رقّا ، ولا تحرّرهم عتقا.

وفي قوله سبحانه : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) استعارة. ومعنى : بيد الله ، أي ملك الله وقدرته ، يبسطه إذا شاء على حسب المصالح والمفاسد ، والمغاوي والمراشد. وقد مضى الكلام على نظائرها.

__________________

(١). هنا ألفاظ ممحوّة.

(٢). هنا بضعة أسطر مبتورة الأطراف غير واضحة المعالم.

١٥٨

سورة المجادلة

(٥٨)

١٥٩
١٦٠