الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الواقعة» (١)

١ ـ (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠).

قال محمّد بن كعب : هم الأنبياء.

زاد مجاهد : وأتباعهم.

وقال ابن عبّاس : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل ياسين سبق إلى عيسى ، وعلي بن أبي طالب سبق إلى النبي (ص).

أخرج ذلك ابن أبي حاتم (٢).

٢ ـ (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١).

قال بعضهم : في حواصل طير سود تكون ببرهوت (٣) كأنها الزّرازير (٤) ، أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وروى الطبري ٢٧ : ٩٩ عن ابن سيرين : أنهم الذين صلّوا للقبلتين. وعن عثمان بن أبي سودة : أنهم أوّلهم رواحا الى المساجد ، وأسرعهم خفوفا في سبيل الله.

(٣). برهوت : واد أو بئر بحضر موت. «القاموس المحيط».

(٤). الزرازير : جمع زرزور ، وهو نوع من العصافير.

١٢١
١٢٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الواقعة» (١)

١ ـ قال تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)).

وقوله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) ، أي : لا يأخذهم من شربها صداع ، وقيل : لا يتفرّقون عنها.

و (وَلا يُنْزِفُونَ) (١٩) ، أي : لا يسكرون.

٢ ـ وقال تعالى : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (٦٥).

وقوله تعالى : (تَفَكَّهُونَ) (٦٥) ، أي : تعجبون.

وعن الحسن : تندمون على تعبكم فيه ، وإنفاقكم عليه ، أو على ما اقترفتم من المعاصي ، التي أصبتم بذلك من أجلها.

وقرئ (يتفكّهون) ، أي : يتندّمون.

٣ ـ وقال تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣).

وقوله تعالى : (لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) أي : الذين ينزلون القواء وهي القفر.

وقيل : الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.

ويقال : أقويت من أيام ، أي : لم آكل شيئا.

٤ ـ وقال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٧٥).

والمعنى فأقسم ، و «لا» زائدة : وهي كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩]. والزيادة للتوكيد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٢٣

٥ ـ وقال تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١).

أي : متهاونون به ، كمن يدهن في الأمر ، أي : يلين جانبه ، ولا يتصلّب فيه ، تهاونا به.

٦ ـ وقال تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣).

أي : بلغت النفس ، وإضمار الفاعل هو لمعرفته واشتهاره.

١٢٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الواقعة» (١)

قال تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩). فقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (٨) وقوله جلّ وعلا : (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩) هو الخبر. تقول العرب : «زيد وما زيد» تريد «زيد شديد».

وقال تعالى : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) إن شئت نصبت السلام بالقيل ، وإن شئت جعلت السلام عطفا على القيل ، كأنه تفسير له ، وإن شئت جعلت الفعل يعمل في السلام ، تريد «لا تسمع إلّا قيلا الخير» ، تريد : إلّا أنّهم يقولون الخير ، والسلام هو الخير.

وقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) (١٦) على المدح ، بنصبه على الحال ، كأنّ السّياق : «لهم هذا متّكئين».

وقال تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً) (٣٧) بإضمارهنّ من غير أن يذكرن قبل ذاك (٢). وأمّا (الأتراب) فواحدهنّ «الترب» وللمؤنّث : «التربة» هي «تربي» وهي «تربتي» مثل «شبه» و «أشباه» و «الترب» و «التربة» جائزة في المؤنث ، ويجمع : ب «الأتراب» ، كما تقول «حيّة» و «أحياء» ، إذا عنيت المرأة و «ميتة» و «أموات».

وقال تعالى : (فَمالِؤُنَ مِنْهَا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في المشكل ٢ : ٧١٢ وإعراب القرآن ٣ : ١٢٢٧.

١٢٥

الْبُطُونَ) (٥٣) ، أي : من الشجرة : (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) [الآية ٥٤] لأنّ «الشجر» يؤنّث ويذكّر. والتأنيث حمل على «الشجرة» ، لأن «الشجرة» قد تدل على الجميع ، تقول العرب : «نبتت قبلنا شجرة مرّة وبقلة رديّة» وهم يعنون الجميع.

قال تعالى : (فَشارِبُونَ شُرْبَ) [الآية ٥٥] و (شرب) (١) مثل «الضّعف» و «الضّعف».

وقال تعالى : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) أي للمسافرين في الأرض القيّ (٢). تقول : «أقوى الشيء» إذا ذهب كلّ ما فيه.

وقال تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣) ثم قال سبحانه : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) (٨٦) أي : غير مجزيّين مقهورين ، ترجعون تلك النفس ، وأنتم ترون كيف تخرج عند ذلك : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٨٧) أنّكم تمتنعون من الموت. ثم أخبرهم سبحانه فقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) أي : فله روح وريحان» (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) أي : فيقال له : «سلام لك».

وقال تعالى : (حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥) بإضافة «حق» الى «اليقين» كما في قوله تعالى (دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) [البيّنة] أي : ذلك دين الملّة القيّمة ، وذلك حقّ الأمر اليقين. وأما «هذا رجل السوء» فلا يكون فيه : هذا الرجل السوء. كما يكون في «الحقّ اليقين» لأن «السّوء» ليس ب «الرّجل» و «اليقين هو الحق».

__________________

(١). نسبها في معاني القرآن ٣ : ١٢٨ الى ابن جريج ، وفي الطبري ٣٧ : ١٩٥ إلى بعض قرّاء مكة والبصرة والشام ؛ وفي السبعة ٦٢٣ إلى ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي ، وفي الكشف ٢ : ٣٠٥ ، والتيسير ٢٠٧ ، والجامع ١٧ : ٢١٤ ، إلى غير نافع وحمزة وعاصم.

في معاني القرآن ٣ : ١٢٨ إلى سائر القراء ، وفي الطبري ٢٧ : ١٩٥ إلى عامة قرّاء المدينة والكوفة ، وفي السبعة ٦٢٣ ، والكشف ٢ : ٢٠٥ ، والتيسير ٢٠٧ ، والجامع ١٧ : ٢١٤ ، والبحر ٢١٠ ، إلى نافع وعاصم وحمزة.

(٢). الأرض القيّ : الأرض المستوية الملساء.

١٢٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الواقعة» (١)

إن قيل : ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١٠)؟

قلنا ، فيه وجهان : أحدهما أنه تأكيد مقابل لما سبقه من التأكيد في قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) (٩). كأنه قال تعالى : والسابقون هم المعروف حالهم ، المشهور وصفهم. ونظيره قول أبي النجم : «أنا أبو النّجم وشعري شعري». الثاني : أنّ معناه : والسابقون إلى طاعة الله ، هم السابقون إلى جنته وكرامته ، ثم قيل المراد بهم السابقون إلى الإيمان من كلّ أمّة ، وقيل الذين صلّوا إلى القبلتين ، وقيل أهل القرآن ، وقيل السابقون الى المساجد ، وقيل السابقون الى الخروج في سبيل الله ، وقيل هم الأنبياء صلوات الله عليهم ، فهذه خمسة أقوال.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) (١٧) ، مع أن التخليد ليس صفة مخصوصة بالولدان في الجنة ، بل كلّ أهل الجنة مخلّدون فيها ، لا يشيبون ولا يهرمون ، بل يبقى كلّ واحد أبدا على صفته التي دخل الجنة عليها؟

قلنا : معناه أنّهم لا يتحوّلون عن شكل الولدان. وقيل مقرّطون. وقيل مسوّرون ، ولا إشكال على هذين القولين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئله القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٢٧

فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤)) بتأنيث ضمير الشجر ثم تذكيره؟

قلنا : قد سبق جوابه في سورة القمر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧) أي فهلا تصدّقون ، مع أنهم مصدّقون أنه خلقهم ، بدليل قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧]؟

قلنا : هم ، وإن كانوا مصدّقين بألسنتهم ، إلا أنهم لمّا كان مذهبهم على خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذّبون به. الثاني : أنه تخصيص على التصديق بالبعث بعد الموت ، بالاستدلال بالخلق الأول ، فكأنه تعالى قال : هو الذي خلقكم أوّلا باعترافكم ، فلا يمتنع عليه أن يعيدكم ثانيا ، فهلا تصدّقون بذلك؟

فإن قيل : لم قال تعالى في الزرع : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) [الآية ٦٥] ، «باللام» وقال تعالى في الماء : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الآية ٧٠] بغير لام؟

قلنا : الأصل ، لغة ، أن تذكر اللام في الموضعين ، إذ لا بد منها في جواب «لو» ، إلّا أنها حذفت في الثاني اختصارا ، وهي مؤدّية لدلالة الأولى عليها. الثاني : أن أصل هذه اللام للتأكيد ، فذكرت مع المطعوم دون المشروب ، لأنّ المطعوم مقدّم وجودا ورتبة ، لأنه إنما يحتاج إلى الماء تبعا له ، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب ؛ فلما كان الوعيد بفقد المطعوم أشدّ وأصعب ، أكّدت تلك الجملة مبالغة في التهديد.

فإن قيل : التسبيح : التنزيه عن السوء ، فما معنى (بِاسْمِ) في قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) لم لم يقل تعالى : «فسبح ربك العظيم»؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها : أنّ الباء زائدة ، والاسم بمعنى الذات ، فصار المعنى ما قلتم. الثاني : أنّ الاسم بمعنى الذّكر ، فمعناه فسبح بذكر ربك. الثالث : أن الذّكر فيه مضمر ، فمعناه فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك. الرابع : قال الضّحّاك : معناه فصلّ باسم ربك : أي افتتح الصلاة بالتكبير.

فإن قيل : إذا كان القرآن صفة من صفات الله تعالى ، قديمة قائمة بذاته المقدّسة ، فلم قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ

١٢٨

كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)) أي اللوح المحفوظ ، أو المصحف على اختلاف القولين؟

قلنا : معناه مكتوب في كتاب مكنون ، ولا يلزم ، من كتابة القرآن في الكتاب ، أن يكون القرآن حالا في الكتاب ، كما لو كتب إنسان على كفه : «ألف دينار» ، لا يلزم منه وجود ألف دينار في كفّه ، وكذا لو كتب في كفّه العرش أو الكرسي ، وكذا وكذا ، قال تعالى في صفة النبي (ص) : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]. الثاني : أن القرآن لو كان حالّا في المصحف ، فإما أن يكون جميعه حالّا في مصحف واحد ، أو في كلّ مصحف ، أو في بعضه ؛ ولا سبيل إلى الأول ، لأن المصاحف كلّها سواء في الحكم في كتابته فيها ، ولأنّ البعض ليس أولى بذلك من البعض ؛ ولا سبيل إلى الثاني ، وإلّا يلزم تعدّد القرآن ، وإنّه متّحد ؛ ولا سبيل الى الثالث ، لأنّه كلّه مكتوب في كلّ مصحف ، ولأنّ هذا المصحف ليس أولى بهذا البعض من ذلك المصحف ؛ وكذا الباقي ، فثبت أنه ليس حالا في شيء منها ، بل هو كلام الله تعالى ، وكلامه صفة قديمة قائمة به سبحانه لا تفارقه.

فإن قيل : فإذا لم تفارقه ، فلم سمّاه تعالى منزلا وتنزيلا ، وقال سبحانه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣) [الشعراء] ونظائره كثيرة ، وإذا فارقه ، وباينه ، يكون مخلوقا ، لأنّ كل مباين له فهو غيره ، وكلّ ما هو غيره هو مخلوق؟

قلنا : معنى إنزاله أنه ، سبحانه وتعالى ، علّمه لجبريل فحفظه ، وأمره أن يعلّمه للنبي (ص) ويأمره أن يعلّمه لأمّته ، مع أنه لم يزل ، ولا يزال ، صفة الله تعالى ، قائمة به لا تفارقه.

١٢٩
١٣٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الواقعة» (١)

في قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) استعارة. والمراد أنها إذا وقعت لم ترجع عن وقوعها ، ولم تعدل عن طريقها ، كما يقولون : قد صدق فلان الحملة ولم يكذب. أي ولم يرجع على عقبه ، ويقف عن وجهة عزمه جبنا وضعفا ، أو وجلا وخوفا.

وكاذبة هاهنا مصدر ، كقولك : عافاه الله عافية ، فيكون كذب كذبا وكاذبة. وتلخيص المعنى : ليس لوقعتها كذب ولا خلف. وقيل أيضا : ليس لها قضيّة كاذبة ، لإخبار الله سبحانه بها ، وقيام الدلائل عليها ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ..

وذلك في كلامهم أظهر من أن يتعاطى بيانه.

وقيل أيضا : ليس لها نفس كاذبة في الخبر عنها ، والإعلام بوقوعها. والمعنيان واحد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣١
١٣٢

سورة الحديد

(٥٧)

١٣٣
١٣٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الحديد» (١)

سورة «الحديد» سورة مدنية آياتها ٢٩ آية ، نزلت بعد سورة «الزّلزلة».

مطلع السورة

بدأت السورة ببيان قدرة الله العلي القدير ، فهو الخالق الرازق مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام. وهو سبحانه أول بلا ابتداء ، وآخر بلا انتهاء ، وظاهر في كلّ ما تراه العين من سماء وأرض وجبال وبحار ، وباطن فلا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار. وهو خالق الكون كلّه ، القائم على حفظه ، المهيمن على جميع أمره ، المطّلع على خفايا النفوس ، المحاسب على القليل والكثير ، المجازي على الفتيل والقطمير.

«ولما كان مدار السورة على تحقيق الإيمان في القلب ، وما ينبثق عن هذه الحقيقة من خشوع وتقوى ، ومن خلوص وتجرّد ، ومن بذل وتضحية ، فقد سارت في إقرار هذه الحقيقة في النفوس على نسق مؤثّر ، أشبه ما يكون بنسق السور المكّية ، حافل بالمؤثرات ، ذات الإيقاع الاسر ، للقلب والحس والمشاعر.

«وكان مطلعها خاصة مجموعة إيقاعات بالغة التأثير ، تواجه القلب البشري بمجموعة من صفات الله سبحانه ، فيها تعريف به مع الإيحاء الاسر بالخلوص له ، نتيجة للشعور بحقيقة الألوهية المتفرّدة ، وسيطرتها المطلقة على الوجود ، ورجعة كل شيء

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٣٥

إليها في نهاية المطاف ، مع نفاذ علمها إلى خبايا القلوب وذوات الصدور» (١).

أدلة التوحيد

الآيات الأولى من السورة [١ ـ ٦] يمكن أن تكون عناصر لأدلة التوحيد وصفات الله العلي القدير. فكل شيء في الكون يتّجه إليه وحده سبحانه بالعبادة ، ويعلن خضوعه وانقياده لقدرة الله ، فالسماء مرفوعة ، والأرض مبسوطة ، والبحار جارية ، والهواء مسخّر ، والشمس مسيّرة ، والقمر باهر ، والكوكب زاهر ، وكلّ شيء في مداره يسير ، معلنا قدرة القدير ، مسبّحا بلسان الحال ، مظهرا لله العبادة والخضوع.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣).

والقلب يهتزّ عند قراءة هذه الآيات وما بعدها ، يهتزّ من جلال القدرة الإلهية ، المؤثّرة المبدعة لكل شيء ، المحيطة بكلّ شيء ، المهيمنة على كلّ شيء ، العلمية بكلّ شيء. يهتزّ إجلالا للخالق ، القادر ، العليم ، الخبير ، المطّلع على خفايا الصدور ؛ يهتزّ القلب حين يجول في الوجود كله ، فلا يجد إلا الله ، ولا يرى إلا الله ، ولا يحسّ غير الله ، ولا يعلم له مهربا من قدرته ، ولا مخبأ من علمه ، ولا مرجعا إلّا إليه ، ولا متوجّها إلّا لوجهه الكريم.

تثبيت الايمان

الآيات [٧ ـ ١١] دعوة الى صدق الإيمان وتأكيده ، وحث على الإنفاق في سبيل الله.

وظاهر من سياق السورة ، أنّها كانت تعالج حالة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري ، الى ما بعد فتح مكة ؛ فإلى جانب المهاجرين والأنصار ، الذين ضربوا أروع الأمثال في تحقيق الإيمان ، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم في إخلاص قادر ، وتجرّد كامل. إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذّة ، كانت

__________________

(١). في ظلال القرآن ٢٧ : ١٥١.

١٣٦

هناك في الجماعة الاسلامية فئة أخرى ، يصعب عليها البذل في سبيل الله ، وتشقّ عليها تكاليف العقيدة في النفس والمال ، وتزدهيها قيم الحياة الدنيا وزينتها ، فلا تستطيع الخلاص من دعوتها وإغرائها.

وهؤلاء بصفة خاصة ، نجد هذه الآيات تدعوهم إلى الإيمان وتحثّهم عليه ، وتهتف بهم تلك الهتافات الموحية ، لتخلّص أرواحهم من الإغراء ، والخلود الى الأرض ، وترفعها إلى مستوى الإيمان الحقّ ، فيخاطبهم القرآن الكريم بقوله جلّ وعلا : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨).

مشاهد الاخرة

تعرض الآيات [١٢ ـ ١٥] صورة وضيئة للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الآية ١٢]. والمشهد هنا جديد بين المشاهد القرآنية. إنه مشهد عجب. هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم ، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا. ذلك نورهم يشعّ منهم ، ويفيض بين أيديهم. فهذه الشخوص الإنسانية قد أشرقت وأضاءت ، وأشعّت نورا يمتدّ منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها. إنّه النور الذي أخرجها الله إليه ، وبه ، من الظلمات ، والذي أشرق في أرواحها فغلت طينتها ، أو لعلّه نور الأعمال الصالحة التي عملتها في الدنيا ، ثم تبشّرهم ملائكة الرحمن بجنّات تجري من تحتها الأنهار ينعمون فيها بالخلود والفوز العظيم.

ولكنّ المشهد لا ينتهي عند هذا المنظر الطريف اللطيف. إنّ هناك المنافقين والمنافقات ، في حيرة وضلال ، في مهانة وإهمال ، وهم يتعلّقون بأذيال المؤمنين والمؤمنات ، ويقولون لهم : أنظروا إلينا لنقتبس من نوركم ؛ فيجيب المؤمنون إن النور ، هنا ، هو نور العمل الصالح ، الذي عمل في الدنيا ، فالدنيا عمل ولا حساب ، والاخرة حساب ولا عمل ، والجزاء الحقّ هنا من جنس العمل ، ولذلك يحال بين المؤمنين والكافرين ، ويذهب المؤمنون الى الرحمة

١٣٧

والرضوان ، ويذهب المنافقون إلى عذاب النار وبئس المصير.

القلوب الخاشعة

الربع الثاني من سورة الحديد يشتمل على الآيات [١٦ ـ ٢٩] وفيها دعوة المؤمنين ، إلى أن تكون قلوبهم خاشعة قانتة ، تهتزّ لآيات الله وما نزل من الحق ، وتستجيب لنداء السماء ، وتؤثر الاخرة على الدنيا ، والباقية على الفانية.

ومضمون الآيات ، كما نرى ، امتداد لموضوع السورة الرئيسي : تحقيق الإيمان في النفس ، حتّى ينبثق عنها البذل الخالص في سبيل الله.

ويستهل هذا الرّبع برنّة عتاب من الله سبحانه للمؤمنين ، الذين لم يصلوا إلى المرتبة السامية في الإيمان ، وتلويح لهم بما كان من أهل الكتاب قبلهم من قسوة في القلوب وفسق في الأعمال ، وتحذير من هذا المال الذي انتهى اليه أهل الكتاب بطول الأمد عليهم ، مع إطماعهم في عون الله الذي يحيي القلوب كما يحيي الأرض بعد موتها ، قال تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) [الآية : ١٦].

وتتبع هذه الدعوة الى الخشوع والتقوى ، دعوة تالية إلى إقراض الله قرضا حسنا ، مع بيان ما أعدّه الله لمن يقرضونه في الدنيا من العوض المضاعف والأجر الكريم [انظر الآيتين] [١٨ و ١٩].

والآية ٢٠ رسم رائع ، وميزان عادل ، يضع قيم الدنيا كلّها في كفّة ، وقيم الاخرة في كفّة ، حيث تبدو قيم الأرض لعبا ، خفيفة الوزن ، وترجّح كفة الاخرة ، ويبدو فيها الجدّ الذي يستحقّ الاهتمام.

ومن ثمّ تهتف الآية ٢١ بهم ليسابقوا إلى قيم الأخرى ، في جنّة عرضها كعرض السماء والأرض أعدّت للمتّقين.

والآيتان [٢٢ ـ ٢٣] كلام مفيد في الايمان بالقضاء والقدر ؛ وبيان أن الأجل بيد الله جلّ جلاله ، الذي خلق النفوس ، وكتب أجلها ورزقها ، حتّى لا نكثر الأسى على ما فاتنا ، ولا نكثر الفرح بما جاءنا ، فالقلب الموصول بالله ، ثابت في المحن ، راض في المنح.

١٣٨

وتعرض الآيات [٢٥ ـ ٢٧] طرفا من تاريخ دعوة الله في الأرض ، تبدو فيه وحدة المنهج واستقامة الطريق ، وأن الذي يحيد عنه في كل عهد هم الفاسقون.

وفي الآية الأخيرة من السورة ، هتاف ودعوة للمؤمنين لتقوى الله ، وصدق الإيمان برسوله ، وبذلك يعطيهم الله نصيبين من رحمته ويجعل لهم نورا يمشون به ويغفر لهم ، فضل الله ليس وقفا على أهل الكتاب كما يزعمون ، إنّما هو بيد الله ، سبحانه ، يؤتيه من يشاء (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩).

وهكذا تبدو السورة من أولها الى آخرها مترابطة الحلقات ، في خط واحد ثابت ، تتوالى إيقاعاتها على القلوب ، منوّعة ومتشابهة ، فيها من التكرار القدر اللازم ، لتعميق أثر الإيقاع في القلب ، وطرقه وهو ساخن ، وتلوين هذه المؤثّرات أمام المخاطبين : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣).

«وبعد ؛ فهذه السورة نموذج من النماذج القرآنية الواضحة ، في خطاب القلوب البشرية ، واستجاشتها بأسلوب عميق التأثير ؛ وهي في بدئها وسياقها وختامها ، وفي طريقة تناولها للموضوع وسيرها فيه جولة بعد جولة ، هي في هذا درس بديع للدعاة ، يعلّمهم كيف يخاطبون الناس ، وكيف يوقظون الفطرة ، وكيف يستحيون القلوب» (١).

قال الفيروزآبادي : «معظم مقصود السورة : الإشارة إلى تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات ، في الأرض والسماوات ، وتنزيه الحقّ في الذات والصفات ، وأمر المؤمنين بإنفاق النفقات والصدقات ، وذكر حيرة المنافقين والمنافقات في ساحة القيامة ، وبيان خسّة الدنيا وعزّ الجنّات ، وتسلية الخلق عند هجوم النكبات والمصيبات» (٢) في قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢٣).

__________________

(١). في ظلال القرآن ٢٧ : ١٨٠.

(٢). بصائر ذوي التمييز للكتاب العزيز للفيروزآبادي ١ : ٤٥٣.

١٣٩
١٤٠