الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٩

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الرحمن» (١)

إن قيل : أيّ مناسبة بين رفع السماء ووضع الميزان حتى قرن بينهما؟

قلنا : لما صدّرت هذه السورة بتعديد نعمه سبحانه على عبيده ، ذكر سبحانه من جملتها وضع الميزان الذي به نظام العالم وقوامه ، ولا سيّما أن المراد بالميزان العدل في قول الأكثرين ، والقرآن في قول ، وكل ما تعرف به المقادير في قول ، كالمكيال والميزان والذراع المعروف ، ونحوها.

فإن قيل : قوله تعالى : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٨) أي لا تجاوزوا فيه العدل ، مغن عمّا بعده من الجملتين ، فما الحكمة في ورودهما؟

قلنا : المراد بالطغيان فيه أخذ الزائد ، وبالإخسار فيه إعطاء الناقص ، وأمر بالتوسط الذي هو إقامة الوزن بالقسط ، ونهى عن الطرفين المذمومين.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) (١٤) وهو الطين اليابس الذي لم يطبخ لكن له صلصلة : أي صوت إذا نقر ؛ وقال تعالى في موضع آخر : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُون) [الحجر : ٢٦ و ٢٨] ؛ وقال تعالى : (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (١١) [الصّافات] وقال تعالى : (مِنْ تُرابٍ) [الروم : ٢٠]؟

قلنا : الآيات كلها متفقة في المعنى. لأنّه تعالى خلق الإنسان من تراب ، ثمّ جعله طينا ، ثمّ حمأ مسنونا ، ثم صلصالا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (رَبُّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٠١

الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) فكرر ذكر الرب ، ولم يكرره في سورة المعارج ، بل أفرده فقال تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] وكذا في سورة المزمّل : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) (٩)؟

قلنا : إنما ذكر الرب تأكيدا ، فكان التأكيد بهذا الموضع أليق منه بذينك الموضعين ، لأنه موضع الامتنان وتعديد النعم ، ولأنّ الخطاب فيه مع جنسين وهما الإنس والجن.

فإن قيل : بعض الجمل المذكورة في هذه السورة ، ليست من النعم ، كقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢٦) وقوله تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (٣٥) فكيف حسن الامتنان بعدها بقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦)؟

قلنا : من جملة الآلاء دفع البلاء وتأخير العقاب ، فإبقاء من هو مخلوق للفناء نعمة. وتأخير العقاب عن العصاة أيضا نعمة ، فلهذا امتنّ علينا بذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) والله تعالى لا يشغله شيء؟

قلنا : قال الزجّاج : الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من شغل ، والاخر القصد للشيء والإقبال عليه ، وهو تهديد ووعيد ، ومنه قولهم : سأتفرّغ لفلان : أي سأجعله قصدي ، فمعنى الآية سنقصد لعقابكم ، وعذابكم ، وحسابكم.

فإن قيل : لم وعد سبحانه الخائف جنّتين فقط؟

قلنا : لأن الخطاب للثّقلين ، فكأنّه قيل لكلّ خائفين من الثقلين جنتان ، جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف الجنّي. وقيل المراد به أن لكل خائف جنتين ، جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي. وقيل جنة يثاب بها ، وجنة يتفضّل بها عليه زيادة ، لقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] أي الجنة وزيادة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) [الآية ٥٦] ولم يقل سبحانه فيهما ، والضمير للجنتين؟

قلنا : الضمير لمجموع الآلاء المعدودة : من الجنتين ، والعينين ، والفاكهة ، وغيرها ، مما سبق ذكره. وقيل : هو للجنتين ، وإنّما جمع لاشتمال الجنتين على قصور ومنازل.

١٠٢

وقيل : الضمير للمنازل والقصور ، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل : الضمير لمجموع الجنان ، التي دل عليها ذكر الجنتين. وقيل : الضمير عائد الى الفرش ، لأنها اقرب ، وعلى هذا القول «في» بمعنى على ، كما في قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور : ٣٨].

فإن قيل : لم قال الله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٥٦) أي لم يفتضّهن ، ونساء الدنيا لا يفتضّهن الجان ، فما الحكمة في تخصيص الحور بذلك؟

قلنا : معناه أن تلك القاصرات الطرف إنسيّات للإنس وجنّيات للجنّ ، فلم يطمث الإنسيات إنسي ، ولا الجنيات جني ؛ وهذه الآية دليل على أن الجنّ يواقعون كما يواقع الإنس. وقيل فيها دليل ، على أن الجني يغشى الإنسيّة في الدنيا.

١٠٣
١٠٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الرحمن» (١)

في قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦) ، استعارة : فالنجم هاهنا ما نجم من النبات. أي طلع وظهر. والمراد بسجود النبات والشجر ، والله أعلم ، ما يظهر عليها من آثار صنعة الصانع الحكيم ، والمقدّر العليم ، بالتنقّل من حال الإطلاع ، الى حال الإيناع ، ومن حال الإيراق الى حال الإثمار ، غير ممتنعة على المصرّف ، ولا آبية على المدبّر.

وفي قوله سبحانه : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) ، نلاحظ أن لفظ الميزان هاهنا مستعار ، على أحد التأويلين. وهو أن يكون معناه العدل الذي تستقيم به الأمور ، ويعتدل عليه الجمهور. وشاهد ذلك قوله تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الإسراء : ٣٥] أي بالعدل في الأمور.

وروي عن مجاهد (٢) أنه قال : القسطاس : العدل بالرومية. ويقال : قسطاس ، وقسطاس. بالضم والكسر ، كقرطاس وقرطاس.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو من المفسرين الأوّلين للقرآن الكريم ، والمشهور أنه أول من دوّن في التفسير. وتفسيره غير موجود. ولعل الموجود هو تفسير ابن عبّاس رواه مجاهد. وذكر ابن عطية في «مقدمته» أن صدر المفسرين ، والمؤيد فيهم ، هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويتلوه عبد الله بن عبّاس ، ويتلوه مجاهد وسيعد بن جبير وغيرهما ، ويذكر ابن عطية أن مجاهدا قرأ على ابن عبّاس ، قراءة تفهّم ووقوف ، عند كل آية. وذكر جرجي زيدان ، أن مجاهدا توفي سنة ١٠٤ ه‍. انظر «تاريخ آداب اللغة العربية» ج ١ ص ٢٠٥ ، و «مقدّمتان في علوم القرآن» بتحقيق المستشرق أرثر جفري ، ونشر مكتبة الخانجي.

١٠٥

وفي قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (٢٠) استعارة. والمراد : أنه سبحانه أرسل البحرين طاميين ، وأمارهما مائعين ، وهما يلتقيان بالمقاربة ، لا بالممازجة ، فبينهما حاجز يمنعهما من الانحراف ، ويصدّهما عن الاختلاط.

ومعنى قوله تعالى : (لا يَبْغِيانِ) (٢٠) أي لا يغلب أحدهما على الاخر ، فيقلبه إلى صفته ، لا الملح على العذب ، ولا العذب على الملح. وكنى تعالى بلفظ البغي ، عن غلبة أحدهما على صاحبه. لأن الباغي ، في الشاهد ، اسم لمن تغلّب من طريق الظلم بالقوة والبسطة ، والتطاول والسطوة.

وقد مضى الكلام على مثل هذه الاستعارة في ما تقدّم. إلّا أن فيها هاهنا زيادة ، أوجبت إعادة ذكرها.

وفي قوله سبحانه : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) استعارة. وقد تقدّم الكلام على نظيرها. والمراد : وتبقى ذات ربّك وحقيقته. ولو كان محمولا على ظاهره ، لكان فاسدا مستحيلا ، على قولنا وقول المخالفين. لأنه لا أحد يقول من المشبّهة والمجسّمة ، الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضا مؤلّفة ، وأعضاء مصرّفة ، إنّ وجه الله سبحانه يبقى ، وسائره يبطل ويفنى. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومن الدليل على أن المراد بوجه الله هاهنا ، ذات الله ، قوله سبحانه : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) ألا ترى أنه سبحانه ، لمّا قال في خاتمة هذه السورة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) قال : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) ولم يقل (ذو) لأن اسم الله غير الله ، ووجه الله هو الله ، وهذا واضح البيان ، وقد مضى الكلام على هذا المعنى فيما تقدم.

وفي قوله سبحانه : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) استعارة. وقد كان والدي الطاهر الأوحد ، ذو المناقب ، أبو أحمد الحسين (١) ، ابن موسى

__________________

(١). كان نقيب الأشراف في بغداد ، وهو والد الشريفين : الرضي ، والمرتضى ، وقد تعرّض للقبض عليه من قبل عضد الدولة بن بويه سنة ٣٦٩ ه‍ ثم أطلقه ابنه شرف الدولة ابن بويه ، وعزل عن النقابة سنة ٣٨٤ ه‍ ثم أعيد إليها سنة ٣٩٤ ه‍ وأضيف إليه الحج والمظالم ، فلم يزل على ذلك ، الى أن توفي ضريرا سنة ٤٠٠ ه‍ ، فرثاه ولداه كما رثاه أبو العلاء المعري ، ومهيار الديلمي ، وجماعة من الشعراء.

١٠٦

الموسوي ، رضي الله عنه وأرضاه ، سألني عن هذه الآية في عرض كلام جرّ ذكرها ، فأجبته في الحال بأعرف الأجوبة المقولة فيها. وهو أن يكون المراد بذلك : سنعمد لعقابكم ، ونأخذ في جزائكم ، على مساوئ أعمالكم ، وأنشدته بيت جرير كاشفا عن حقيقة هذا المعنى.

وهو قوله :

ألان وقد فرغت الى نمير

فهذا حين صرت لها عذابا

فقال : فرغت إلى نمير ، كما يقول : عمدت إليها. فأعلمنا أن معنى فرغت هاهنا معنى عمدت وقصدت. ولو كان يريد الفراغ من الشغل لقال : فرغت لها ، ولم يقل فرغت إليها.

وقال بعضهم : إنما قال سبحانه : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) (٣١) ولم يقل : سنعمد. لأنه أراد أي سنفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تجميع (١) فيه ، ولا اشتغال بغيره عنه ، ولأنه لما كان الذي يعمد الى الشيء ربّما قصّر فيه لشغله معه بغيره ، وكان الفارغ له ، في الغالب ، هو المتوفّر عليه دون غيره ، دللنا بذلك على المبالغة في الوعيد ، من الجهة التي هي أعرف عندنا ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ ، وأدلّ الكلام على معنى الإبعاد.

وقال بعضهم : أصل الاستعارة موضوع على مستعار منه ومستعار له ، فالمستعار منه أصل ، وهو أقوى. والمستعار له فرع ، وهو أضعف. وهذا مطّرد في سائر الاستعارات ، فإذا تقرر ذلك كان قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٣١) من هذا القبيل.

فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال العباد ، والمستعار له مالا يجوز فيه الشغل ، وهو أفعال الله تعالى. والمعنى الجامع لهما الوعيد ، إلّا أن الوعيد بقول القائل : سأتفرّغ لعقوبتك ، أقوى من الوعيد بقوله : سأعاقبك. من قبل أنه كأنما قال : سأتجرّد لمعاقبتك ، كأنه يريد استفراغ قوّته في العقوبة له.

ثم جاء القرآن على مطرح كلام العرب ، لأن معناه أسبق الى النفس ، وأظهر للعقل ، والمراد به تغليظ الوعيد ، والمبالغة في التحذير. ومثل

__________________

(١). التمجيع : الممازحة والمماجنة في العمل ، وعدم أخذه مأخذه الجد.

١٠٧

ذلك قوله تعالى في المدّثّر : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (١١) فالمستعار منه هاهنا ما يجوز فيه المنع ، وهو أفعال العباد ، والمستعار له مالا يجوز فيه المنع ، وهو أفعال القديم سبحانه كما قلنا أولا ؛ والمعنى الجامع لهما : التخويف والتهديد.

والتهديد بقول القائل : «ذرني وفلانا» ، إذا أراد المبالغة في وعيده ، أقوى من قوله : خوّف فلانا من عقوبتي ، وحذّره من سطوتي. وهذا بيّن بحمد الله تعالى.

وقد يجوز أن يكون لذلك وجه آخر ، وهو أن يكون معنى قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي سنفرّغ لكم ملائكتنا الموكّلين بالعذاب ، والمعدين لعقاب أهل النار. ونظير ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢٢) [الفجر] أي جاء ملائكة ربّك. ويكون تقدير الكلام : وجاء ملائكة ربّك وهم صفّا صفّا. كما تقول : أقبل القوم وهم زحفا زحفا. والملك هاهنا لفظ الجنس ، وإنما أعيد ذكر الملك ليدل على المحذوف الذي هو اسم الملائكة ، لأنه ما كان يسوّغ أن يقول : وجاء ربك وهم صفّا صفّا ، ويريد الملائكة على التقدير الذي قدّرناه ، لأنّ الكلام كان يكون ملبسا ، والنظام مختلا مضطربا.

وقد يجوز أيضا أن يكون المعنى : وجاء أمر ربك ، والملك صفّا صفّا. كلا القولين جائز.

وقرأ (١) حمزة والكسائي : (سيفرغ لكم) ، بالياء وفتحها.

__________________

(١). انظر القرطبي ج ١٧ ص ١٦٩.

١٠٨

سورة الواقعة

(٥٦)

١٠٩
١١٠

المبحث الأول

أهداف سورة «الواقعة» (١)

سورة «الواقعة» سورة مكية آياتها ٩٦ آية ، نزلت بعد سورة «طه».

ثلاثة أصناف

عند قيام القيامة يرتفع شأن المؤمنين ، وينخفض قدر المكذّبين ، وينقسم الناس الى ثلاثة اقسام :

أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسّابقون المقرّبون.

وقد فصّلت الآيات [١٠ ـ ٢٦] ما أعدّ للسابقين في جنات النعيم ، فهم (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) (١٥) ، مشبكة بالمعادن الثمينة ، (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) (١٦) في راحة وخلوّ بال من الهموم والمشاغل ، ولهم في الجنة ما يشتهون ، من المتعة والنعيم والحور العين ، وحياتهم كلّها سلام : تسلّم عليهم الملائكة ، ويسلّم بعضهم على بعض ، ويبلغهم السلام من الرحمن.

أصحاب اليمين

تصف الآيات [٢٧ ـ ٤٠] ما أعدّ لأصحاب اليمين ، فهم في (سِدْرٍ مَخْضُودٍ) (٢٨) والسّدر شجر النبق الشائك ، ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع ، (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩) والطّلح شجر الموز ، منضود معدّ للتداول ، بلا كدّ ولا مشقة.

يتمتع أصحاب اليمين بألوان البهجة وصنوف التكريم ، فهم في حدائق من شجر نبق لا شوك فيه ، وشجر موز منتظم الثمر ، وفي ظل منبسط ، وماء

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١١١

يجري بين أيديهم كما يشاءون ، ولديهم فاكهة كثيرة الكمّ والأنواع ، لا تنقطع عنهم ولا يمنعون من تناولها ، وقد أعدّ لهم في الجنة أسرّة عالية طاهرة ، عليها زوجات طاهرات ، قد خلقن خلقا جديدا يتّسم بالكمال والجمال ، وأنشئن إنشاء جديدا من غير ولادة ، وهنّ أبكار لم يمسسن (عُرُباً) [الآية ٣٧] متحبّبات إلى أزواجهنّ (أَتْراباً) (٣٧) كلهن في سن واحدة ، في ريعان الشباب ، وطراوة الصّبا.

أصحاب الشمال

تصف الآيات [٤١ ـ ٥٧] ما أعدّ لأصحاب الشمال ، فهم في (سَمُومٍ) (٤٢) وهو هواء ساخن ينفذ الى المسام ، ويشوي الأجسام ، (وَحَمِيمٍ) (٤٢) وهو ماء متناه في الحرارة ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣) ظل من دخان أسود ساخن ، لا بارد كسائر الظلال ، ولا كريم ينتفع به ، لأنهم كفروا بالله ، وانغمسوا في الشهوات ، وأنكروا البعث والجزاء.

آيات القدرة الالهية

تعرض الآيات [٥٨ ـ ٧٤] آثار القدرة الإلهية المبدعة ، وتحرّك قلوب المشاهدين ، لينظروا في أصل خلقتهم ، وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم ، وفي الماء الذي يشربون ، وفي النار التي يوقدون.

وهي طريقة فذة للقرآن الكريم ، حين يلفت الإنسان الى أبسط مظاهر الحياة ومشاهدها ، ليبني له أضخم عقيدة دينية ، وأوسع تصوّر كوني. هذه المشاهدات التي تدخل في تجارب كلّ انسان ، في النسل ، في الزرع ، في الماء ، في النار ؛ فأيّ انسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟

من هذه المشاهدات البسيطة الساذجة ، ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في بيئته.

وهذه المشاهدات البسيطة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربّانية :

نشأة الحياة الإنسانية ... وهي سر الأسرار.

نشأة الحياة النباتية معجزة كذلك ، الماء أصل الحياة ، النار ... المعجزة التي صنعت الحضارة الانسانية.

١١٢

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩).

«إنّ دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة ، ثم ينقطع عمله وعملها ، وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين ، تعمل وحدها في خلقه ، وتنميته ، وبناء هيكله ، ونفخ الروح فيه ، ومنذ اللحظة الأولى ، وفي كل لحظة تالية ، تتحقّق المعجزة ، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلّا الله ، والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها ، كما لا يعرفون كيف تقع ، بله أن يشاركوا فيها» (١).

الزرع والماء والنار

يتابع القرآن الكريم طرقاته على القلب البشري ليتأمّل ، ويخاطب النفوس الإنسانية ، ليرشدها الى مواطن القدرة فيما بين يديها.

فهذا الزرع الذي ينبت ويؤتي ثماره ، ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون ، ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله .. ثم تسير الحبة في طريقها للنمو ، سير العاقل ، العارف الخبير بمراحل الطريق ، الذي لا يخطئ ولا يضل.

إنّ يد القدرة هي التي تتولّى خطاها على طول الطريق ، فإذا الحبة عود أخضر ناضر ، وإذا النواة نخلة كاملة سامقة مثمرة.

ويتابع القرآن لمساته لاستثارة التفكير والتأمّل ، فيناقش المخاطبين :

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٦٩).

أي أخبروني أيّها المنكرون الجاحدون عن الماء العذب الذي تشربونه ، هل فكّرتم وتدبّرتم من الذي صعّده من البحار والمحيطات ، وجعله بخارا ، ثمّ سحابا متراكما ، ثمّ صيّره ماء عذبا فراتا.

ولو شاء الله سبحانه لجعل ذلك الماء ملحا مرّا ، لا يحيي الزرع ولا الضّرع ، ولا يستساغ لمرارته ، فهلا تشكرون ربّكم على إنزال المطر ، عذبا زلالا سائغا ، لشرابكم أنتم وأنعامكم وزرعكم.

ثم يذكّر هم بنعمة النار التي يوقدونها : من الذي أنبت شجرتها

__________________

(١). في ظلال القرآن ٢٧ : ١٣٩.

١١٣

الخضراء من الأرض ، وأودع في الشجرة العناصر الأوّلية القابلة للاشتعال ؛ لقد جعل الله ، سبحانه ، النار في الدنيا تذكرة للناس بنار الاخرة (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣) أي للمسافرين (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) أي نزّه الله ، سبحانه ، وأنسب إليه ، جلّ جلاله ، العظمة والقدرة والخلق والإبداع ، فهو الإله العلي القدير.

مواقع النجوم

في الآيات [٧٥ ـ ٨٠] نلمس سموّ القرآن وطهارته ، وعلوّ شأنه ومنزلته. وقد مهّدت الآيات ببيان آثار القدرة ، في خلق النجوم ، وتحديد أماكنها ، وتنظيم سيرها ، بحيث لا يصطدم نجم باخر. قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧).

«ويقول الفلكيون ، إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدّة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلّا بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحسّ به الأجهزة دون أن تراه ؛ هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم ، من مجال نجم آخر ، أو يصطدم بكوكب آخر ، إلّا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط باخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيد جدا ان لم يكن مستحيلا» (١).

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧).

وليس قول كاهن ، كما تدّعون ، ولا قول مجنون ، ولا مفتر على الله من أساطير الأولين ، ولا تنزّلت به الشياطين ؛ الى آخر هذه الأقاويل. إنما هو قرآن كريم ، كريم بمصدره ، وكريم بذاته ، وكريم باتجاهاته ، كريم على الله ، كريم على الملائكة ، كريم على المؤمنين.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) من دنس الشّرك والنفاق ، ودنس الفواحش ، أي لا تصل أنوار القرآن وبركاته وهدايته ، إلّا إلى القلوب الطاهرة.

__________________

(١). عبد الرزاق نوفل الله والعلم الحديث ، ص ٣٣.

١١٤

وروي عن علي رضي الله عنه ، وابن مسعود ، ومالك ، والشافعي ، أنّ المعنى : لا يمسّه من كان على جنابة ، أو حدث ، أو حيض.

وروي عن ابن عبّاس ، والشّعبي ، وجماعة ، منهم أبو حنيفة ، أن المصحف ، أو بعضه ، يجوز للمحدث مسّه ، وبخاصة للدرس والتعليم (١).

نهاية الحياة

في الآيات [٨٣ ـ ٩٦] نجد الإيقاع الأخير في السورة لحظة الموت ، اللمسة التي ترتجف لها الأوصال ، واللحظة التي تنهي كلّ جدال ، واللحظة التي يقف فيها الحي بين نهاية طريق وبداية طريق ، حيث لا يملك الرجوع ولا يملك النّكوص : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٨٤).

وإننا لنكاد نسمع صوت الحشرجة ، ونبصر تقبّض الملامح ، ونحسّ الكرب والضيق ، من خلال قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣) ، كما نكاد نبصر نظرة العجز ، وذهول اليأس ، في ملامح الحاضرين ، من خلال قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٨٤).

هنا ، في هذه اللحظة ، وقد فرغت الروح من أمر الدنيا ، وخلّفت وراءها الأرض وما فيها ؛ وهي تستقبل عالما لا عهد لها به ، ولا تملك من أمره شيئا ، إلّا ما ادّخرت من عمل ، وما كسبت من خير أو شر.

فإن كان الميت المحتضر من السابقين في الإيمان ، فروحه ترى علائم النعيم الذي ينتظرها : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩) ؛ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩٠) ، وهم دون المقرّبين السّابقين في المنزلة والدرجة ، فإنّ الملائكة تبلّغه السلام من الله ، ومن الملائكة ومن أقرانه أصحاب اليمين ، (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) (٩٢) فنزله عند ذلك ، الحميم الساخن ، والماء الحار ، وعذاب الجحيم.

ثم تختم السورة في إيقاع عميق رزين ، يفيد أن ما قصّه الله سبحانه في هذه السورة ، حقّ ثابت ، ويقين صادق لا شكّ فيه.

__________________

(١). انظر المنتقى للشوكاني.

١١٥

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦).

الأفكار العامة للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود السورة : ظهور واقعة القيامة ، وأصناف الخلق ، بالإضافة الى العذاب والعقوبة ، وبيان حال السّابقين بالطّاعة ، وبيان حال قوم يكونون متوسّطين بين أهل الطّاعة ، وأهل المعصية ، ويذكر حال أصحاب الشمال ، والغرقى في بحر الهلاك ، وبرهان البعث من ابتداء الخلقة ، ودليل الحشر والنشر من الحرث والزرع ، وحديث الماء والنار ، وما ضمنهما من النعمة والمنّة ، ومن المصحف وقراءته في حالة الطهارة ، وحال المتوفّى في ساعة السّكرة ، وذكر قوم بالبشارة ، وقوم بالخسارة ، والشهادة للحق سبحانه بالكبرياء والعظمة (١) بقوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦) ، وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٥٨) ، (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦٣).

بدئ بذكر خلق الإنسان ، ثم بما لا غنى له عنه ، وهو الحبّ الذي منه قوته وقوّته ، ثم الماء الذي منه سوغه وعجنه ، ثمّ النّار التي بها نضجه وصلاحه (٢).

فضل السورة

عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : «من قرأ سورة الواقعة في كلّ ليلة ، لم تصبه فاقة أبدا» (٣).

__________________

(١). بصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي ١ : ٤٥١.

(٢). المصدر نفسه ، الموضع نفسه.

(٣). في شهاب البيضاوي : «هذا ليس بموضوع وقد رواه البيهقي وغيره».

١١٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الواقعة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الواقعة» بعد سورة «طه» ، ونزلت سورة «طه» فيما بين الهجرة الى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة «الواقعة» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) وتبلغ آياتها ستّا وتسعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : تفصيل جزاء المؤمنين والكافرين في يوم القيامة ، فهي من باب الدعوة بطريق الترغيب والترهيب ، وبهذا تكون مناسبة للسّور التي ذكرت قبلها في هذا الغرض ؛ وهذا إلى أن سورة الرحمن قد اشتملت على تعداد النعم ، ومطالبة الإنسان بالشكر عليها ، ومنعه من جحدها ، فجاءت سورة الواقعة بعدها ، لبيان جزاء الشاكرين للنعم ، والجاحدين لها.

تفصيل الجزاء الأخروي

الآيات [١ ـ ٩٦]

قال الله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) فذكر سبحانه أنه إذا قامت القيامة لا يكذّبها أحد ، وأنّها تخفض قوما وترفع آخرين. ثم ذكر تعالى أنها إذا وقعت ، ترجّ الأرض

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١٧

رجّا ، وتبسّ الجبال بسّا ، ويكون الناس ثلاثة أصناف : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسّابقون من أصحاب الميمنة ، لأنّ أصحاب الميمنة على درجات ، والسّابقون أعلاهم ، وهم جماعة كثيرة من المهاجرين والأنصار وجماعة قليلة من التّابعين ، ومن بعدهم ؛ ثم ذكر جلّ شأنه ما أعد لهم من الجزاء ، وذكر بعده جزاء أصحاب اليمين ممّن لم يصل الى درجة السابقين ، وذكر بعد جزائهم جزاء أصحاب الشمال ، وأن سببه أنه أترفهم بنعمه ، فكفروا به ، وأنكروا أن يبعثهم بعد أن يصيروا ترابا وعظاما. وأجاب سبحانه عن هذه بأنه لا بدّ من جمعهم بعد موتهم ، ولا بدّ من عقابهم على كفرهم ، بالأكل من شجر الزّقّوم ، إلى غير هذا مما أعدّه لهم ، ثم ذكر من آياته ما يدل على قدرته على بعثهم ، فذكر أنه خلقهم من تلك النّطف التي لا يمكنهم أن يزعموا أنهم الخالقون لها ، وأنّه قدّر بينهم الموت ، وليس بمسبوق عاجز عن إعادتهم في ما لا يعلمون من الأوصاف والأخلاق ؛ ثم ذكر جلّ وعلا أنه هو الذي يخرج نبات ما يحرثون ، وأنه هو الذي ينزل من المزن الماء الذي يشربون ، وأنه هو الذي أنشأ الشجرة التي يقدحون النار منها ، وقد جعلها تذكرة لنار يوم القيامة ، ومتاعا لمن يوقدها : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣).

ثم أمر النبي (ص) أن يقوم بتسبيحه ليخالف طريق أولئك الكافرين ، وأقسم لهم بمواقع النجوم ، أن ما ينزله عليهم في ذلك قرآن كريم ، يراد به خيرهم ، ثم وبّخهم على تكذيبهم له ، فيما حدّثهم به من تفصيل الجزاء الأخروي ؛ وذكر أنه لو صح ما يزعمون ، من أنه لا جزاء بعد الموت ، لأمكنهم أن يرجعوا أرواحهم إلى أبدانهم وقت خروجها ، ليعوّقوا الجزاء الذي ينتظرهم ؛ وإذا لم يكن هذا في إمكانهم ، فلا بد من ذلك الجزاء ، ليلقى كل شخص ما يستحقه على عمله. فإن كان من المقربين (السّابقين) ، (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٨٩) ؛ وإن كان من أصحاب اليمين (غير السابقين) (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) ؛ وإن كان من المكذّبين الضّالّين (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦).

١١٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الواقعة» (١)

أقول : هذه السورة متاخية مع سورة الرحمن ، في أن كلّا منهما في وصف القيامة ، والجنة والنار. وانظر الى اتصال قوله تعالى هنا : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (١) بقوله سبحانه هناك : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) [الرحمن : ٣٧]. ولهذا اقتصر في «الرحمن» على ذكر انشقاق السماء ، وفي «الواقعة» على ذكر رجّ الأرض (٢). فكأن السورتين ، لتلازمهما واتحادهما ، سورة واحدة.

ولهذا عكس الترتيب : فذكر في أول هذه السورة ما ذكر في آخر تلك ، وفي آخر هذه ما في أول تلك ، كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة.

فافتتحت «الرحمن» بذكر القرآن ، ثم ذكر الشمس والقمر ، ثمّ ذكر النبات ، ثمّ خلق الإنسان ، والجان من مارج من نار ، ثمّ صفة القيامة ، ثم صفة النّار ، ثم صفة الجنة.

وابتدئت هذه بذكر القيامة ثمّ صفة الجنة ، ثمّ صفة النار ، ثمّ خلق الإنسان ، ثمّ النبات ، ثمّ الماء ، ثمّ النار ، ثمّ النّجوم ، ولم تذكر في «الرحمن» ، كما لم تذكر هنا الشمس والقمر ، ثم ذكر القرآن.

فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) (٤).

١١٩
١٢٠