الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الشورى» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الشّورى» بعد سورة «فصّلت» ، ونزلت سورة «فصلت» بعد الإسراء ، وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الشورى» في هذا التاريخ أيضا.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٨) وتبلغ آياتها ثلاثا وخمسين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : بيان اتفاق الرّسل على شرع الإسلام من أوّلهم إلى آخرهم ، وإنذار من يخالفه بعذاب الدنيا والآخرة ، وتبشير من يؤمن به بحسن الثواب فيهما. وبهذا تتّفق ، هي والسورة السابقة ، في ما جاء فيهما من الترهيب والترغيب ، مع ما فيها من أخذهم بشيء من طريق الدليل ، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.

اتفاق الرّسل على شرع الإسلام

الآيات [١ ـ ٥٣]

قال الله تعالى : (حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) فمهّد لذلك بأن الذي يوحي إلى الرسول (ص) وإلى الرسل قبله ، إله واحد ، هو العزيز الحكيم ؛ وذكر ما ذكر من سعة ملكه سبحانه ، وعلوّه وعظمته جلّ جلاله ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٦١

وأنّ السماوات تكاد تتفطّر من خشيته ، والملائكة يسبّحون بحمده ؛ وهدّد من يتخذ من دونه أولياء بأنه رقيب عليهم ، وسيحاسبهم على شركهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنه أوحى إليه قرآنا عربيا لينذر به أهل مكة ، ومن حولهم بعذاب يوم القيامة ، وهو اليوم الذي يجتمعون فيه ، فيكون فريق منهم في الجنة وفريق في السعير ؛ ولو شاء الله تعالى ، لجعلهم أمّة واحدة ، ولكن مشيئته ، سبحانه ، اقتضت أن يدخل من يشاء في رحمته ، وأن يحرم من يشاء منها ؛ ومن يحرمه منها لا يمكن أن يدخله فيها ، ما يتخذه من وليّ أو نصير ؛ ثم أنكر عليهم أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يمكنهم نصرهم : لأنه سبحانه هو الوليّ وحده ؛ وذكر أن ما اختلفوا فيه من ذلك ، فحكمه إليه في يوم القيامة ، وليس لأحد من خلقه الحكم فيه ، بل يجب تفويض كل شيء إليه ، لأنه فاطر السماوات والأرض ؛ إلى غير هذا مما استدلّ به على وجوب تفويض الأمر إليه.

ثم انتقل السياق من ذلك التمهيد إلى المقصود ، وهو أنه سبحانه شرع لهم ، من الدين ، ما وصّى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) ؛ وذلك ما اتفقت عليه شرائعهم ، من الإيمان بالله واليوم الآخر ، ونحوهما مما لا اختلاف فيه بينهم. وذكر السياق توبيخ المشركين أن يستبعدوا ما يدعوهم الله إليه من هذا الدين ، الذي اتفق الرسل عليه ، ثم ذكر أنّ أتباع أولئك الرّسل لم يتفرّقوا في ذلك الدين إلّا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ؛ ولو لا حكم الله بتأخير الفصل بينهم إلى يوم القيامة ، لفصل بينهم في الدنيا ؛ ثم أمر الله سبحانه النبي (ص) أن يستمر في دعوته إلى هذا الدين ، فلا يتّبع أهواءهم المتفرّقة ، ولا يؤمن ببعض الكتاب دون بعض. وليعدل بينهم في الحكم لأنّ إلهه وإلههم واحد ، وكلّ واحد مسؤول عن عمله ، والله هو الذي سيحكم بينهم ، ثم ذكر أن الذين يحاجّون في دين الله من بعد اتفاق أولئك الرسل عليه ، حجّتهم داحضة ، وعليهم غضب منه جلّ جلاله ، ولهم عذاب شديد ؛ وأنه ، سبحانه ، أنزل الكتاب بهذا الدين الحق ، وأنزل الميزان ، وهو العقل الذي يميّز بين الحق والباطل ، فلا عذر لهم في تباطئهم عن الإيمان به ، ولعلّ السّاعة تفاجئهم وهم على كفرهم ، فيندمون حينما لا ينفع الندم ؛ ثم ذكر

٦٢

أن الذين لا يؤمنون بها يستعجلون بها على سبيل الاستهزاء ، وأن الذين يؤمنون بها مشفقون أن تفاجئهم ، وأنّه لا يؤخّرها إلّا لأنّه لطيف بعباده ، يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. فمن كان يريد حرث الآخرة يزد له في حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا يؤته منها ويمهله ولا يعجّله ، وما له في الآخرة من نصيب.

ثم انتقل السياق إلى توبيخهم ، على ما شرّعوا لأنفسهم من الشرك وإنكار البعث ، ونحو ذلك ، مما زيّنه لهم شركاؤهم من الشياطين ؛ وهدّدهم سبحانه بأنّه لو لا حكمه بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لعجّل بالقضاء بينهم ؛ وأنذرهم بأن لهم عذابا أليما على ما شرعوه من ذلك لأنفسهم ، وبشّر المؤمنين بروضات الجنات التي أعدّها جلّت قدرته لهم ، وانتقل السياق من هذا إلى توبيخهم ، على أن ينسبوا الى النبي (ص) افتراء هذا الدين عليه ، وذكر سبحانه أنّه لو يشاء ختم على قلبه ، وتولّى هو محو الباطل وإحقاق الحق بآياته ؛ ولكنّه أراد أن يعذرهم بإرساله إليهم ، رحمة بهم ، ليتوب عن شركه من يتوب فيقبل توبته ، ويستجيب دعاء المؤمنين ويزيدهم من فضله ؛ ومن يستمرّ على كفره بعد ذلك ، فلهم عذاب شديد في دنياهم وآخرتهم ؛ ثم ذكر أنه في رحمته بهم يرزقهم بقدر ، لأنّه ، لو بسط لهم الرزق ، لبغوا في الأرض ؛ وبيّن أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه ، فينزل الغيث عليهم من بعد يأسهم منه ، وينشر عليهم رحمته. وقد ذكر بعد هذا آياته ونعمه عليهم ، وذكر ما يصيبهم في دنياهم ، أو في ما ينعم به عليهم ، ليبيّن أن ذلك قد يكون بما كسبت أيديهم ؛ ثم ذكر سبحانه أن ما يعطونه من الرزق في الدنيا لا قيمة له ، وأن ما عنده خير وأبقى للمؤمنين الذين يتوكّلون عليه ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، ويعفون عند غضبهم ، إلى غير هذا مما ذكره سبحانه من صفاتهم ؛ ثم انتقل السياق من هذا إلى وعيد من يضلّ عن ذلك الدين القديم ، فذكر سبحانه أنهم حين يرون العذاب ، يتمنّون أن يردّوا ليؤمنوا به ، إلى غير هذا مما ذكره من أحوالهم.

ثم ختم السورة بأمرهم أن يستجيبوا لربّهم فيما شرع لهم من ذلك الدين ، من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له منه ، ولا

٦٣

يكون لهم ملجأ من عذابه. فإن أعرضوا عن ذلك فليس على النبي (ص) شيء من إعراضهم ، لأنه قام بما كلّف به من تبليغهم ؛ ثم ذكر السياق أن السبب في إعراضهم ما هم فيه من غرور وجهل. فإذا أصابتهم رحمة فرحوا بها وأبطرتهم ، وإذا أصابتهم سيّئة بلغ الكفر مبلغه منهم ؛ ثم خطّأهم في غرورهم بما يملكون في دنياهم ، لأن كلّ شيء ملك لله جلّ جلاله ، وكل ما في أيدينا هبة منه وحده سبحانه (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً). ثم انتقل السياق من ذلك إلى إثبات ما أنكروه من الوحي ، بأنه ما كان لبشر أن يكلّمه الله إلّا وحيا أو من وراء حجاب ، أو بوساطة ملك ، وأنّه تعالى أوحى إلى الرسول (ص) روحا من أمره ، وما كان الرسول (ص) يدري قبله ما الكتاب ولا الإيمان ، وأنّه يهدي من ذلك إلى صراط مستقيم (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣).

٦٤

المبحث الثالث

مكنونات سورة «الشورى» (١)

١ ـ (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) [الآية ٤٩].

قال البغوي (٢) : كلوط (ع).

٢ ـ (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩).

قال : كإبراهيم (ع) لم يولد له أنثى.

٣ ـ (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) [الآية ٥٠].

قال : كمحمّد (ص) ٤ ـ (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الآية ٥٠].

قال : كيحيى وعيسى (ع).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). في «معالم التنزيل» ٧ / ٣٨٣. بهامش «ابن كثير».

٦٥
٦٦

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الشورى» (١)

١ ـ قال تعالى : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) [الآية ٣٤].

أي : يهلكهنّ.

أقول : آثرت أن أقف على هذا الفعل الذي لا نعرف منه في اللغة المعاصرة إلّا الوصف وهو «الموبقات» ، والموبقات في استعمال المعاصرين الأعمال الشائنة كالزّنى ونحوه.

٢ ـ وقال تعالى : (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧).

والنكير : الإنكار ، أي : ما لكم من مخلّص من العذاب.

والغالب في المصدر على «فعيل» أن يدل على صوت نحو الصريخ والعويل والهديل ، وغير ذلك كثير.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٦٧
٦٨

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الشورى» (١)

قال تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الآية ١٣].

على التفسير كأنه سبحانه قال «هو أن أقيموا الدين» على البدل.

وقال تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الآية ١٥] أي : أمرت كي أعدل.

وقال سبحانه : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الآية ٢٣] استثناء خارج. يريد ، والله أعلم ، إلّا أن أذكر مودة قرابتي.

وأمّا (يُبَشِّرُ) [الآية ٢٣] من «بشّرته» و «أبشرته» ، وقال بعضهم «أبشره» خفيفة ، فذا من «بشرت» (٢) وهو في الشعر. قال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والستون بعد المائتين] :

وقد أروح إلى الحانوت أبشره بالرّحل فوق ذرى العيرانة الأجد قال أبو الحسن (٣) «أنشدني يونس (٤) هذا البيت هكذا. لذلك ف (الذي يبشر) اسما للفعل كأنه «التبشير» ، كما قال تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر / ٩٤] أي اصدع بالأمر. ولا يكون أن تضمر فيها الباء ، وتحذفها لأنك لا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في التيسير ١٩٥ الى غير نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وفي البحر ٧ / ٥١٥ إلى عبد الله بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري ، والأعمش ، وطلحة ، في رواية ، والكسائي وحمزة ؛ أمّا قراءة التضعيف «يبشر» وعليها رسم المصحف ، فهي في التيسير إلى نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وفي البحر إلى الجمهور.

(٣). هو الأخفش المؤلف.

(٤). هو يونس بن حبيب ، وقد مرت ترجمته.

٦٩

تقول : «كلّم الذي مررت» وأنت تريد «به».

وقوله تعالى :

(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الآية ٢٦] أي : استجاب فجعلوا الفاعلين.

وقال تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٣).

أمّا اللام التي في (وَلَمَنْ صَبَرَ) (٤٣) فلام الابتداء ، وأمّا ذلك فمعناه ، والله أعلم ، إن ذلك منه لمن عزم الأمور.

وقد تقول : «مررت بدار الذراع بدرهم» أي : «الذراع منها بدرهم» ، و «مررت ببرّ قفيز بدرهم» أي : «قفيز منه» وأمّا ابتداء «إنّ» في هذا الموضوع فكمثل (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة / ٨].

وقال تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) (٤٥) [الآية ٤٥] بجعل (الطرف) العين كأنه سبحانه قال «ونظرهم من عين ضعيفة» ، والله أعلم. وقال يونس : إنّ (مِنْ طَرْفٍ) مثل : «بطرف» كما تقول العرب : «ضربته في السّيف» و «بالسّيف» (١).

وقال تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) لأن الله تبارك وتعالى ، يتولّى الأشياء دون خلقه يوم القيامة ، وهو سبحانه في الدنيا قد جعل بعض الأمور إليهم ، من الفقهاء والسلطان وأشباه ذلك (٢).

__________________

(١). نقله في الجامع ١٦ / ٤٦.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٣ / ١٠٤٩.

٧٠

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الشورى» (١)

قال سبحانه : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣).

ـ ما الحكمة من قوله تعالى (يُوحِي) والوجه الظاهر أن يقال : «أوحى»؟

إنما قال ذلك ليدل على أن إيحاء مثل القرآن الكريم من عادته سبحانه.

وقال : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الآية ١٦].

ـ الوجه المعهود ان يقال «حجتهم مدحوضة» ، أي ضعيفة وزالقة وزالّة وغير متماسكة ، وأن يقال : «شبهتهم داحضة» ، فلم قال تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ).

إنما قال تعالى : (داحِضَةٌ) ليكون أبلغ في ضعف سنادها ، ووهاء عمادها ، فكأنها هي المبطلة لنفسها من غير مبطل أبطلها ، لظهور أعلام الكذب فيها ، وقيام شواهد التهافت عليها.

وإنما قال سبحانه : (حُجَّتُهُمْ) ولم يقل : «شبهتهم» لاعتقادهم أنّ ما أدلوا به حجّة ، ولتسميتهم لها بذلك في حال النزاع والمناقلة.

وقال جلّ من قائل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠).

ـ لم عبر سبحانه بالحرث عن نفع الدنيا ونفع الآخرة؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أضواء على متشابهات القرآن» ، للشيخ خليل ياسين ، دار مكتبة الهلال ، بيروت ، ١٩٨٠ م.

٧١

لأن حرث الآخرة والدنيا كدح الكادح لثواب الآجلة ، وحطام العاجلة ، وذلك لأن الحارث المزدرع إنّما يتوقع عاقبة حرثه فيجني ثمرة غراسه ، ويفوز بعوائد ازدراعه ، كما قال الشريف الرضي.

ولم قال سبحانه : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الآية ٢٠] ولم يقل ، منه؟

إنما صح تأنيث الضمير لأن لفظة «حرث» في معرض الحذف ، ويصح حلول ما بعدها محلها ، فيكون الضمير عائدا على الجزء الثاني وهو «الدنيا» فكأنه سبحانه قال «من كان يريد الدنيا نؤته منها» ويدل عليه قول ابن مالك في منظومته :

وربما أكسب ثان أوّلا

تأنيثه إن كان حذف موهلا

وكما في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) [الأعراف] أي إن الله قريب.

وقال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢١).

ـ ما هي كلمة الفصل التي منعت من القضاء بينهم؟

كلمة الفصل هي القضاء السابق ، بتأجيل العقوبة لهذه الأمة ، الى الآخرة ، وهي الكلمة الواردة في [يونس / ١٩] و [هود / ١١٠] ، و [طه / ١٢٩] : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ).

وقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الآية ٢٣].

ـ من هم هؤلاء وما هي مودتهم ، وما معنى (فِي الْقُرْبى)؟

أما قوله تعالى (فِي الْقُرْبى) فمعناه أنهم جعلوا مكانا للمودّة ومقرّا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحبّ. وأما أهل القربى ، فهم عليّ وأبناؤه الميامين عليهم‌السلام ، وفي ذلك تواترت الأحاديث عن الرسول (ص) نذكر بعضا منها تيمّنا ، عن الكشاف ، والصواعق المحرقة وغيرهما.

روي أنه لما نزلت ، قيل يا رسول الله : من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ، قال هم علي وفاطمة وابناهما.

وورد عنه (ص) أنّه قال : ألا ومن

٧٢

مات على حبّ آل محمّد فتح له الى الجنة بابان ؛ ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنّة. يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه :

يا آل بيت رسول الله حبّكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الفخر أنّكم

من لم يصلّ عليكم لا صلاة له

وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الآية ٢٥].

ـ ما موقع كلمة (عَنْ) هنا؟

كلمة (عَنْ) هنا بمعنى «من» أي من عباده ، تقول أخذ فلان العلم عن فلان أي منه.

وقال : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) [الآية ٢٩].

وقال جل وعلا : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٥).

ـ ما وجه نصب (وَيَعْلَمَ) مع أنّ ما قبلها مجزوم؟

إنّما كان النصب للعطف على تعليل محذوف ، فكأنه سبحانه قال لينتقم منهم ، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا.

وقال سبحانه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الآية ٤٠].

ـ لم سمّي الجزاء سيئة وهو ليس بسيّئة؟

ـ ذلك من باب الازدواج ، كما في قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة / ١٩٤]. وقوله سبحانه : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل / ١٢٦].

وقال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الآية ٥١].

ـ ما المراد بالحجاب في هذه الآية الكريمة؟

المراد بالحجاب البعد والخفاء وعدم الظهور ، والعرب تستعمل لفظ الحجاب في ما ذكرناه ، فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه واستبطأ فطنته ، بيني وبينك حجاب ، وتقول للأمر الذي تستبعده وتستصعب طريقه ، بيني وبينه حجاب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك ؛ وعليه يكون معنى الآية : أنه تعالى لم يكلّم البشر إلّا وحيا بأن

٧٣

يخطر في قلوبهم ، أو من وراء حجاب بأن ينصب لهم أدلّة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه ، فيكون من حيث نصبه للدلالة على ذلك ، والإرشاد إليه مخاطبا ومكلّما للعباد بما يدل عليه ؛ وجعله تعالى من وراء حجاب من حيث لم يكن مسموعا ، كما يسمع الخاطر ، فالحجاب كناية عن الخفاء.

وقال : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الآية ٥٢].

ـ ما المراد بالكتاب والإيمان في هذه الآية الكريمة؟

المراد بالكتاب القرآن ، وبالإيمان التصديق بالله سبحانه وبرسوله معا ، فالنبي (ص) مخاطب بالإيمان أي بالتصديق بالله وبرسالة نفسه ، كما أنّ أمّته مخاطبة بتصديقه ، ولا شكّ في أنّه ، قبل البعث ، لم يكن يعلم أنه رسول الله ، وما علم ذلك إلا بالوحي ، ويستقيم نفي الإيمان بالمعنى المركّب من التصديق بالله وبرسالة نفسه ، وليس المراد بالإيمان التصديق بالله فقط.

ـ ولم قال تعالى : (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٥٢) والوجه الظاهر أن يقال «وما الإيمان»؟

تقدير الآية : ما كنت قبل البعث تدري ما الكتاب ، ولا ما الإيمان.

٧٤

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الشورى» (١)

في قوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) [الآية ١٣] استعارة. والمراد بإقامة الدين إعلان شعاره ، وإعلاء مناره ، والدّوام على اعتقاده ، والثبات على العمل بواجباته.

وقد مضى الكلام على نظائر هذه الاستعارة في ما تقدم.

وفي قوله سبحانه : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الآية ١٦] استعارة. و «الدحض» : الزّلق. فكأنه تعالى قال : حجّتهم ضعيفة غير ثابتة ، وزالّة غير متماسكة ، كالواطئ الذي تضعف قدمه ، فيزلق عن مستوى الأرض ، ولا يستمر على الوطء. وداحضة هاهنا بمعنى مدحوضة. وإذا نسب الفعل إليها في الدّحوض كان أبلغ في ضعف سنادها ، ووهاء عمادها ، فكأنها هي المبطلة لنفسها ، من غير مبطل أبطلها ، لظهور أعلام الكذب فيها ، وقيام شواهد التهافت عليها. وأطلق تعالى اسم الحجّة عليها ، وهي شبهة ، لاعتقاد المدلي بها أنّها حجّة ، وتسميته لها بذلك في حال النزاع والمناقلة.

وأيضا ، فإنّ المتكلّم بها ، لمّا أوردها مورد الحجة ، وأسلكها طريقها ، وأقامها مقامها ، جاز أن يطلق عليها اسمها.

وفي قوله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) استعارة. والمراد بحرث الآخرة والدنيا ، كدح

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٧٥

الكادح لثواب الآجلة ، وحطام العاجلة ، فهذا من التشبيه العجيب ، والتمثيل المصيب. لأنّ الحارث المزدرع ، إنّما يتوقع عاقبة حرثه ، فيجني ثمرة غراسه ، ويفوز بعوائد ازدراعه.

وقيل معنى : (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي نعطيه بالحسنة عشرا ، إلى ما شئنا من الزيادة على ذلك. ومن عمل للدنيا دون الآخرة ، أعطيناه نصيبا من الدّنيا دون الآخرة.

وفي قوله سبحانه : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٨) استعارة. وليس المراد أن هناك رحمة كانت مطويّة فنشرت ، وخفيّة فأظهرت.

وإنما معنى الرحمة ، هاهنا ، الغيث المنزّل لإحياء الأرض ، وإخراج النّبت. ونشره عبارة عن إظهار النفع به ، وتعريف الخلق عواقب المصالح بموقعه.

وفي قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الآية ٤٥] استعارة. وقد أشرنا إليها فيما تقدّم ، لمعنى جرّ إلى ذكرها. والمراد بذلك ، أنّ نظرهم نظر الخائف الذليل ، والمرتاب الظّنين. فهو لا ينظر إلا مسترقا ، ولا يغضي إلا مشفقا. وهذا معنى قولهم : فلان لا يملأ عينيه من فلان. إذا وصفوه بعظم الهيبة له ، وشدّة المخافة منه. فكأنّهم لا ينظرون بمتّسعات عيونهم ، وإنّما ينظرون بشفافاتها (١) من ذلّهم ومخافتهم.

وقد يجوز أن يكون الطّرف ، هاهنا ، بمعنى العين نفسها. فكأنه تعالى وصفهم بالنظر من عين ضعيفة ، على المعنى الذي أشرنا إليه ، أو يكون الطرف مصدر قولك : طرفت ، أطرف ، طرفا. إذا لحظت. فيكون المعنى أنّ لحظهم خفيّ ، لأنّ نظرهم استراق ، كما قلنا أوّلا ، من عظيم الخيفة وتوقّع العقوبة.

__________________

(١). لعلها جمع شفافة ، وهي بقيّة الشيء.

٧٦

سورة الزّخرف

٤٣

٧٧
٧٨

المبحث الأول

أهداف سورة «الزخرف» (١)

سورة الزخرف سورة مكيّة نزلت بعد سورة «الشورى». وقد نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وقد سمّيت بسورة «الزخرف» ، لقوله تعالى فيها :

(وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (٣٥).

أفكار السورة

تعرض هذه السورة جانبا ممّا كانت الدعوة الإسلامية تلاقيه من مصاعب وعقبات ، ومن جدال واعتراضات ، وتعرض معها كيف كان القرآن الكريم يعالجها في النفوس ، وكيف يقرّر في ثنايا علاجها حقائقه وقيمه في مواجهة الخرافات والوثنيات والقيم الجاهلة الزائفة ، التي كانت قائمة في النفوس إذ ذاك ، ولا يزال جانب منها قائما في النفوس في كلّ زمان ومكان.

وقال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة «الشورى» هو : «بيان إثبات القرآن في اللوح المحفوظ ، وإثبات الحجّة والبرهان على وجود الصانع ، والردّ على عبّاد الأصنام الذين قالوا : الملائكة بنات الله سبحانه ، والمنّة على الخليل إبراهيم (ع) بإبقاء كلمة التوحيد في عقبه ، وبيان قسمة الأرزاق ، والإخبار عن حسرة الكفار وندامتهم يوم القيامة ، ومناظرة فرعون وموسى ، ومجادلة عبد الله بن الزبعري للمؤمنين بحديث عيسى (ع) ، وادعاؤه أن

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٧٩

الملائكة أحق بالعبادة من عيسى ، ثم بيان شرف الموحّدين في القيامة ، وعجز الكفار في جهنّم ، وإثبات ألوهية الحق سبحانه في السماء والأرض ، وأمر الرسول (ص) بالإعراض عن مكافأة الكفار» (١) في قوله تعالى :

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩).

فصول السورة

إذا تأملنا سورة الزخرف ، وجدنا أنّه يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ شبهات الكافرين

يشمل الفصل الأول الآيات [١ ـ ٢٥]. ويبدأ بالتنويه بشأن القرآن والوحي ، وبيان أنّ من سنّة الله ، جلّ جلاله ، إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم ، ولكنّ البشرية قابلت الرسل بالاستهزاء والسخرية ، فأهلك الله المكذّبين.

والعجيب أن كفّار مكة كانوا يعترفون بوجود الله ، ثم لا يرتّبون على هذا الاعتراف نتائجه الطبيعية ، من توحيد الله وإخلاص التوجّه إليه ، فكانوا يجعلون له شركاء يخصّونهم ببعض ما خلق من الأنعام.

وفي هذه السورة تصحيح لهذه الانحرافات الاعتقادية ، وردّ النفوس الى الفطرة ، وإلى الحقائق الأولى ؛ فالأنعام من خلق الله ، وهي طرف من آية الحياة ، مرتبط بخلق السماوات والأرض جميعا ، وقد خلقها الله وسخّرها للبشر ليذكروا نعمة ربهم عليهم ويشكروها ، لا ليجعلوا له شركاء ، ويشرعوا لأنفسهم في الأنعام ما لم يأمر به الله ، بينما هم يعترفون بأن الله ، جل جلاله ، هو الخالق المبدع ، ثم هم ينحرفون عن هذه الحقيقة ، ويتّبعون الخرافات والأساطير :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٩).

وكانت الوثنية الجاهلية تقول : إنّ الملائكة بنات الله. ومع أنهم يكرهون مولد البنات لأنفسهم ، فإنّهم كانوا يختارون لله البنات ويعبدونهنّ من

__________________

(١). بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ١ / ٤٢١ ، مع تعديل يسير.

٨٠