الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «فصّلت» (١)

١ ـ قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١).

أقول : لمّا أنزلت السماء والأرض منزلة الآدميّين ، وذلك ظاهر من الآية في إسناد القول لهما ، وصفتا بصفة العقلاء فقيل : (طائِعِينَ) ، وهذه الصفة جمع مذكر للعاقل وهي منصوبة على الحال ، وصاحبها مثنّى ، وهذا موطن هذه المسألة اللطيفة ، ولا أستطيع أن أقول إلا أنّ هذا من أسلوب القرآن الذي اقتضت حكمته أن يأتي على هذه الصورة خدمة لهذا النظم البديع.

٢ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) (٢٤) [الآية ٢٤].

والمعنى : وإن يسألوا العتبى ، وهي الرجوع بهم إلى ما يحبّون ، جزعا ممّا هم فيه لم يعتبوا ، أي ، لم يعطوا العتبى ، ولم يجابوا إليها.

٣ ـ وقال تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [الآية ٥١].

وقوله تعالى : (وَنَأى بِجانِبِهِ) ، أي : ثنى عطفه ، وازورّ وتولّى بركنه.

أقول : وفي قوله تعالى (وَنَأى بِجانِبِهِ) ، تصوير لحاله ، وهو يتنكّر ويزور فيبتعد بجنبه إشارة إلى رفضه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤١
٤٢

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «فصّلت» (١)

قال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) [الآية ٣] فالكتاب خبر المبتدأ ، أخبر به أن التنزيل كتاب ثم قال سبحانه : (فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الآية ٣] بشغل الفعل بالآيات حتى صارت بمنزلة الفاعل ، فنصب «القرآن».

وقوله تعالى : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [الآية ٤] حين شغل عنه. وإن شئت جعلته نصبا على المدح ، كأنه حينما أقبل سبحانه على مدحه فقال : «ذكرنا قرآنا عربيّا بشيرا ونذيرا» أو «ذكرناه قرآنا عربيّا» وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر ، وقال تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [الآية ٥] معناه ، والله أعلم ، «وبيننا وبينك حجاب» ، ولكن دخلت «من» للتوكيد (٢).

وأمّا نصب (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١٠) فبجعله مصدرا كأنه قال «استواء» (٣) وقد قرئ بالجرّ (٤) وجعل اسما للمستويات أي : في أربعة أيّام تامّة.

وأما قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [الآية ٩] ثم قال : (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [الآية ١٠] فإنما يعني أن هذا مع الأول ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في زاد المسير ٧ / ٢٤١.

(٣). النصب قراءة عاصم وحمزة كما في معاني القرآن ٣ / ١٢ ؛ وفي الطبري ٢٤ / ٩٨ الى عامة قراء الأمصار ، إلّا أبا جعفر ، والحسن البصري ، وأبا جعفر القارئ ، وفي البحر ٧ / ٤٨٦.

(٤). في معاني القرآن ٣ / ١٢ نسبت الى الحسن ، وفي الطبري ٢٤ / ٩٨ كذلك ، وزاد في الجامع ١٥ / ٣٤٣ يعقوب الحضرمي ، وفي البحر ٧ / ٤٨٦ زاد زيد بن علي ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد وعيسى.

٤٣

أربعة أيام ، كما تقول «تزوّجت أمس امرأة ، واليوم اثنتين» وإحداهما التي تزوجتها أمس (١).

وقال تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) [الآية ١٢] كأنه سبحانه قد قال «وحفظناها حفظا» ، لأنه حين قال سبحانه :

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) قد أخبر أنه نظر في أمرها ، وتعاهدها ، فهذا يدل على الحفظ ؛ كأن السياق : «وحفظناها حفظا».

وقال تعالى : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الآية ٢١] فجاء اللفظ بهم ، مثل اللفظ في الإنس ، لما خبّر عنهم بالنطق والفعل ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل / ١٨] لمّا عقلن وتكلّمن صرن بمنزلة الإنس في لفظهم ، قال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :

فصبّحت والطّير لم تكلّم

جابية طمّت بسيل مفعم (٢)

وقال تعالى ، حكاية على لسان الذين كفروا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [الآية ٢٦] أي : لا تطيعوه. كما تقول «سمعت لك» وهو ، والله أعلم ، على وجه «لا تسمعوا القرآن». وقال تعالى (وَالْغَوْا فِيهِ) (٢٦) (٣) من «لغوت» «يلغا» مثل «محوت» «يمحا» (٤) وقرأ بعضهم (والغوا فيه) (٥) من «لغوت» «تلغو» مثل «محوت» «تمحو» وبعض العرب تقول : «لغي» «يلغى» وهي قبيحة قليلة (٦) ولكن «لغي بكذا وكذا»

__________________

(١). نقله في زاد المسير ٧ / ٢٤٤.

(٢). سبق للأخفش إيراد هذا الرأي ، والكلام عليه فيما سبق مع ذكر هذا الشاهد.

(٣). هي قراءة نسبت في الجامع ١٥ / ٣٥٦ الى الجماعة ، وفي البحر ٧ / ٤٩٤ الى جمهور القراء.

(٤). هي لهجة عقيل كما في اللهجات ٤٥٥ ، وقيل هي لهجة دوس ، وهي بطن من شنوءة الأزد «كالسابق ٤٥٦».

(٥). في المحتسب ٢ / ٢٤٦ نسبت الى ابي بكر بن حبيب السهمي ، وفي الشواذ ١٣٣ الى عبد الله بن بكير الساعي ، وابن أبي إسحاق وعيسى ، وفي الجامع ١٥ / ٣٥٦ الى عيسى بن عمر ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وابن حيوة ، وبكر بن حبيب السهمي ، وفي البحر ٧ / ٤٩٤ إلى بكر بن حبيب السهمي ، أو عبد الله بن بكر السهمي ، وقتادة ، وأبي حيوة ، والزعفراني ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، بخلاف عنهما.

(٦). لعلّها لهجة أهل العالية قياسا على قولهم «لهيت» في لهوت اللهجات ٤٥٥.

٤٤

أي : أغري به ، فهو يقوله ويصنعه.

وقال تعالى : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ) [الآية ٢٨] بالرفع على الابتداء كأنه تفسير للجزاء.

وقال سبحانه : (أَلَّا تَخافُوا) [الآية ٣٠] أي بأن لا تخافوا.

وقال تعالى : (نُزُلاً) [الآية ٣٢] على تقدير أن السياق قد شغل (وَلَكُمْ) ب (ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) [الآية ٣١] حتّى صارت بمنزلة الفاعل ، وهو معرفة ، وقوله تعالى : (نُزُلاً) ينتصب على «نزّلنا نزلا» (١) نحو قوله سبحانه : (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) [الإسراء / ٨٧] و [الكهف / ٨٢] و [القصص / ٤٦] و [الدخان / ٦].

وقال تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) [الآية ٣٤] يقال : «لا يستوي عبد الله ولا زيد» إذا أردت : لا يستوي عبد الله وزيد» لأنهما جميعا لا يستويان. وان شئت قلت إن الثانية زائدة تريد : لا يستوي عبد الله وزيد. فزيدت «لا» توكيدا كما قال سبحانه : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد / ٢٩] أي لأن يعلم. وكما قال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) [القيامة].

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) [الآية ٤١] فزعم بعض المفسّرين أن خبره (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) ؛ وقد يجوز أن يكون على الأخبار التي في القرآن ، يستغنى بها كما استغنت أشياء عن الخبر ، إذا طال الكلام وعرف المعنى ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد / ٣١] وما أشبهه. وحدّثني شيخ من أهل العلم قال : «سمعت عيسى بن عمر (٢) يسأل عمرو ابن عبيد (٣)» : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أين خبره؟» فقال عمرو : «معناه في التفسير : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) كفروا به (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) (٤١) فقال عيسى : «جاءت يا أبا عثمان».

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ٣ / ١٠٢٢.

(٢). هو عيسى بن عمر الثقفي ، وقد مرت ترجمته.

(٣). هو عمرو بن عبيد ، أبو عثمان البصري المتوفى سنة ١٤٤ ، وهو أحد العباد الزهّاد ، ترجم له في طبقات القراء ١ / ٦٠٢.

٤٥

وقال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) [الآية ٤٤] أي هلّا فصّلت آياته (ءَ أَعْجَمِيٌ) (١) يعني القرآن و (وَعَرَبِيٌ) يعني الرسول (ص) ، وقد قرئت من غير استفهام ، وكلّ جائز في معنى واحد.

وقال تعالى : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) أي : فاستيقنوا ، لأن «ما» هاهنا حرف ، وليس باسم ، والفعل لا يعمل في مثل هذا ، فلذلك جعل الفعل ملغى (٢).

__________________

(١). في معاني القرآن ٣ / ١٩ والكشاف ٤ / ٢٠٢ الى الحسن وفي التيسير ١٩٣ الى هشام وزاد عليهما في الجامع ١ / ٣٦٩ أبا العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وابن عامر. ولعل ما جاء من الكتابة همزة واحدة في الأصل مقام على ما جاء في المحتسب ٢ / ٢٤٨ منسوبا إلى عمرو بن ميمون من القراءة بالاستفهام وفتح العين نسبة الى العجم.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٣ / ١٠٢٨.

٤٦

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «فصّلت» (١)

إن قيل ما الحكمة في زيادة «من» في قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [الآية ٥] مع أن المعنى حاصل بالقول «وبيننا وبينك حجاب»؟

قلنا : لو قيل كذلك ، لكان المعنى أن الحجاب حاصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة «من» فمعناه أن الحجاب ابتداؤه منا ومنك ، فالمسافة المتوسطة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.

فإن قيل : قوله تعالى : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [الآية ٩] ، إلى قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [الآية ١٢] يدل على أن السموات والأرض وما بينهما خلقت في ثمانية أيام ، وقال تعالى في سورة الفرقان (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الفرقان / ٥٩] فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : معنى قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) (١٠) [الآية ١٠] في تتمة أربعة أيام ، لأن اليومين اللذين خلق سبحانه فيهما الأرض من جملة الأربعة ، أو معناه : كل ذلك في أربعة أيام يعني خلق الأرض ، وما ذكر بعدها ، فصار المجموع ستة ؛ وهذا لا اختلاف فيه بين المفسّرين.

فإن قيل : السموات وما فيها أعظم من الأرض وما فيها ، بأضعاف

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤٧

مضاعفة ، فما الحكمة في أن الله سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ، والسموات وما فيها في يومين؟

قلنا لأن السموات وما فيها من عالم الغيب ، ومن عالم الملكوت ، ومن عالم الأمر ، والأرض وما فيها من عالم الشهادة والملك ، وخلق الأول أسرع من الثاني. ووجه آخر ، وهو أنه فعل ذلك ليعلم أن الخلق على سبيل التدريج والتمهيل في الأرض ، وما فيها لم يكن للعجز عن خلقها دفعة واحدة ، بل كان لمصالح لا تحصل إلّا بذلك ، ولهذه الحكمة خلق العالم الأكبر في ستة أيام ، والعالم الأصغر وهو الإنسان في ستة أشهر.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف أهل النار : (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٢٤) [الآية ٢٤] مع أنهم إن لم يصبروا على عذاب النار ، وجزعوا فالنار مثوى لهم أيضا؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : فإن يصبروا أولا يصبروا ، فالنار مثوى لهم ، على كل حال ؛ ولا ينفعهم الصبر في الآخرة كما ينفع الصبر في الدنيا ؛ ولهذا قيل الصبر مفتاح الفرج ، وقيل من صبر ظفر. الثاني : أنّ هذا جواب لقول المشركين ، في حثّ بعضهم لبعض على إدامة عبادة الأصنام : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص / ٦] فقال الله تعالى : فإن يصبروا على عبادة الأصنام في الدنيا ، فالنار مثوى لهم في العقبى.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الكفّار : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٧) أي بأسوأ أعمالهم ، مع أنهم يجزون بسيّئ أعمالهم أيضا؟

قلنا : قد سبق نظير هذا السؤال في آخر سورة التوبة ، والجواب الأول هناك يصلح جوابا هنا.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَلا لِلْقَمَرِ) [الآية ٣٧] بعد قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) [الآية ٣٧] وهو مستفاد من الأول بالطريق الأولى؟

قلنا : فائدته ثبوت الحكم بأقوى الدليلين ، وهو النص ، والله أعلم.

٤٨

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «فصّلت» (١)

في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [الآية ٥] استعارة : فالأكنّة جمع كنان ، وهو الستر والغطاء ، مثل : عنان ، وأعنّة. وسنان ، وأسنّة.

وليس هناك على الحقيقة شيء ممّا أشاروا إليه. وإنّما أخرجوا هذا الكلام ، مخرج الدلالة على استثقالهم ما يسمعونه من قوارع القرآن ، وبواقع البيان. فكأنهم ، من قوة الزّهادة فيه ، وشدّة الكراهية له ، قد وقرت أسماعهم عن فهمه ، وأكنّت قلوبهم دون علمه.

وذلك معروف في عادات الناس ، أن يقول القائل منهم لمن يشنأ كلامه ، ويستثقل خطابه : ما أسمع قولك ، ولا أعي لفظك. وإن كان صحيح حاسّة السمع. إلا أنه حمل الكلام على الاستثقال والمقت.

وعلى هذا قول الشاعر (٢) :

وكلام سيّئ قد وقرت

أذني عنه ، وما بي من صمم

وفي قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) استعارة. فليس هناك ، على الحقيقة ، قول ولا جواب ، وإنما ذلك عبارة عن

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). لم أهتد إلى اسم هذا الشاعر ، وقد ورد هذا البيت في «أساس البلاغة» للزمخشري مادة «وقر» ولم يذكر قائله.

وروايته في الأساس هكذا :

كم كلام سيّئ قد وقرت

أذني عنه ، وما بي من صمم

٤٩

سرعة تكوين السماوات والأرض. كما قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النحل] ولو لم يكن المراد ما ذكرنا لكان في هذا الكلام أمر للمعدوم ، وخطاب لغير الموجود. وذلك يستحيل أن يكون من فعل الحكيم سبحانه.

ومعنى قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) أنهما جرتا على المراد ، ووقفتا عند الحدود والأقدار ، من غير معاناة طويلة ، ولا مشقّة شديدة ، فكانت في ذلك جارية مجرى الطائع المميّز ، إذا انقاد إلى ما أمر به ، ووقف عند الذي وقف عنده.

وقال بعضهم : معنى قوله سبحانه : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي : كونا على ما أريد منكم من لين وشدّة ، وسهل وحزونة ، وصعب وذلول ، ومبرم وسحيل (١).

والكره والشّدّة بمعنى واحد في اللغة العربية. يقول القائل منهم لغيره : أنا أكره فراقك. أي يصعب عليّ أن أفارقك.

وقال سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (٢١٦) [البقرة / ٢١٦] أي شديد عليكم. ومعنى الطوع هاهنا : التّسهّل والانقياد من غير إبطاء ولا اعتياص.

وإنما قال سبحانه : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) بجعل السماوات والأرض كلّها كالواحدة ، والأرض جميعا كذلك ، فحسن أن يعبّر عنهما بعبارة الاثنين دون عبارة الجميع.

وأمّا قوله سبحانه : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) فكان وجه الكلام أن يكون طائعتين ، أو طائعات ردّا على معنى التأنيث. فالمراد به ، والله أعلم ، عند بعضهم : قالتا أتينا بمن فينا من الخلق طائعين. فكانت كلمة «طائعين» وصفا للخلق المميّزين ، لا وصفا للسماوات والأرض.

وقال بعضهم : لمّا تضمّن الكلام ذكر السماوات والأرض في الخطاب لهما ، والكناية عنهما بما يخاطب به أهل التمييز ، ويكنى به عن السامعين الناطقين ، أجريتا في ردّ الفعل إليهما مجرى العاقل اللبيب ، والسامع المجيب. وذلك مثل قوله تعالى :

__________________

(١). المبرم : الخيط أو الحبل الذي فتل فتلتين ، والسّحيل : الحبل الذي فتل فتلا واحدا.

٥٠

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [يوسف]. ولو أجري اللفظ على حقيقته ، وحمل على محجّته لقيل ساجدات. ولكن المراد بذلك : أنه ، لما كان ما أشرنا إليه ، حسن أن يقال ساجدين ، وطائعين.

وقوله سبحانه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [الآية ١٧] استعارة. والمراد بالعمى هاهنا ظلام البصيرة ، والمتاه في الغواية. فإن ذلك أخفّ على الإنسان ، وأشد ملاءمة للطباع ، من تحمّل مشاقّ النظر ، والتلجيج في غمار الفكر.

وفي قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) استعارة : لأنّ الظن الذي ظنّوه على الحقيقة لم يردهم بمعنى : يهلكهم ، وإنّما أهلكهم الله سبحانه جزاء على ما ظنّوه به من الظنون السّيئة ، ونسبوه إليه من الأفعال القبيحة. فلمّا كان ذلك الظنّ سببا في هلاكهم ، جاز أن ينسب إليه الهلاك الواقع بهم.

وفي قوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الآية ٣٩] استعارة ، وقد مضى الكلام على نظيرها في سورة «الحج». إلا أن هاهنا زيادة هي صفة الأرض بالخشوع ، كما وصفت هناك بالهمود. واللفظان جميعا يرجعان إلى معنى واحد ، وهو ما يظهر على الأرض من آثار الجدب ، وأعلام المحل ، فتكون كالإنسان الخاشع الذي قد سكنت أطرافه ، وتطأطأ استشرافه.

وفي قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) استعارة. وقد قيل فيها أقوال : منها أن يكون المراد بذلك أن هذا الكتاب العزيز ، لا يشبهه شيء من الكلام المتقدم له ، ولا يشبهه شيء من الكلام الوارد بعده. فهذا معنى : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لأنه لو أشبهه شيء من الكلام المتقدّم ، أو الكلام المتأخّر ، لأبطل معجزته وفصم حجّته. فكأنّ الباطل ، قد أتاه من إحدى الجهتين المذكورتين ، إمّا من جهة أمامه ، وإمّا من جهة ورائه. وهذا معنى عجيب.

وقال بعضهم : معنى ذلك أنّه لا تعلق به الشّبهة من طريق المشاكلة ، ولا الحقيقة من جهة المناقضة ، فهو

٥١

الحقّ الخالص الذي لا يشوبه شائب ، ولا يلحقه طالب.

وقال بعضهم : معنى ذلك أن الشيطان والإنسان لا يقدران على أن ينتقصا منه حقّا ، أو أن يزيدا فيه باطلا.

وقال بعضهم : معنى ذلك ، أنه لا باطل فيه ، من الإخبار عمّا كان وما يكون. فكأنّ المراد بقوله سبحانه : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور الواقعة. وبقوله تعالى : (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي من جهة ما أخبر عنه من الأمور المتوقعة.

وفي قوله سبحانه : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، صفتهم بالتباعد عن طريق الرشد ، والإعراض عن دعاء الحق. كأنهم من شدة الذهاب بأسماعهم ، والانصراف بقلوبهم ينادون من مكان بعيد. فالنداء غير مسمع لهم ، ولا واصل إليهم. ولو سمعوه لضلّ عنهم فهمه للصدّ (١) المنفرج بينهم وبينه.

وفي قوله سبحانه وتعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١) استعارة. والمراد بها صفة الدعاء بالسّعة والكثرة ، وليس يراد العرض الذي هو ضدّ للطّول. وذلك أن صفة الشيء بالعرض تفيد فيه معنى الطول ؛ لأنه لو لم يكن مع العرض طول لكان العرض هو الطّول. ألا ترى أنهم يصفون الرّمح بالطول ، ولا يصفونه بالعرض إذا كان طوله أضعاف عرضه ، ويصفون الإزار بأنه عريض إذ كان عرضه مقاربا لطوله.

وقد استقصينا شرح ذلك في كتابنا الكبير واقتصرنا منه هاهنا على البلغة الكافية ، والنكتة الشافية.

__________________

(١). غير واضحة بالأصل ، ولعلها للبعد.

٥٢

سورة الشورى

٤٢

٥٣
٥٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الشورى» (١)

سورة «الشورى» سورة مكّية ، نزلت بعد «الإسراء» ، وقبيل الهجرة.

وآياتها ٥٣ آية نزلت بعد سورة «فصلت».

ولها اسمان : «عسق» لافتتاحها بها ، وسورة «الشورى» لقوله سبحانه :

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الآية ٣٨].

روح السورة

هذه السورة ، تعالج قضية العقيدة كسائر السور المكية ، ولكنها تركّز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة ؛ حتى ليصحّ أن يقال إن هذه الحقيقة ، هي المحور الرئيس ، الذي ترتبط به السورة كلّها.

وتأتي سائر الموضوعات فيها ، تبعا لتلك الحقيقة الرئيسة فيها.

هذا ، مع أن السّورة تتوسّع في الحديث عن حقيقة الوحدانية ؛ وتعرض لها من جوانب متعدّدة ؛ كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها ؛ ويأتي ذكر الآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها ؛ وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين ، وأخلاقهم التي يمتازون بها ؛ كما تلمّ بقضية الرزق ، بسطه وقبضه ، وصفة الإنسان في السّرّاء والضّرّاء. ولكنّ حقيقة الوحي والرسالة وما يتصل بها ، تظل مع ذلك هي الحقيقة البارزة في محيط السورة ، والتي تطبعها وتظلّلها ، وكأنّ سائر الموضوعات الأخرى ، مسوقة

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٥٥

لتقوية تلك الحقيقة الأولى ، وتوكيدها.

ويسير سياق السورة في عرض تلك الحقيقة ، وما يصاحبها من موضوعات أخرى ، بطريقة تدعو إلى مزيد من التدبّر والملاحظة ، «فهي تعرض من جوانب متعددة ، يفترق بعضها عن بعض ، ببضع آيات ، تتحدث عن وحدانية الخالق ، أو وحدانية الرازق ، أو وحدانيّة المتصرّف في القلوب ، أو وحدانيّة المتصرّف في المصير ، في حين أنّ الحديث عن حقيقة الوحي والرسالة يتّجه إلى تقرير وحدانية الموحي ، سبحانه ، ووحدة الوحي ، ووحدة العقيدة ، ووحدة المنهج والطريق ؛ وأخيرا وحدة القيادة البشرية في ظل العقيدة.

ومن ثمّ يرتسم في النفس خط الوحدانية بارزا واضحا بشتّى معانيه وشتى إيحاءاته من وراء موضوعات السورة جميعها» (١).

موضوع السورة

يمكن أن نقسم سورة الشورى إلى فصلين رئيسين. يتناول الفصل الأول وحدة الأهداف الرئيسية للرسالات السماوية ، ويتناول الفصل الثاني بعض صفات المؤمنين ودلائل الإيمان.

الفصل الأول :

وحدة أهداف الرسالات

يتناول النصف الأول من السورة الآيات [١ ـ ٢٤] ، ويبدأ بالتحدّث عن الوحي ، ثم يعالج قصّة الوحي منذ النبوّات الأولى ، ليقرّر وحدة الدّين ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق ، وليعلن القيادة الجديدة للبشريّة ممثلّة في رسالة محمد (ص) ، وفي العصبة المؤمنة بهذه الرسالة.

***

وتشير السورة إلى هذه الوحدة في مطلعها :

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) ، لتقرّر أن الله سبحانه هو الموحي بالرسالات جميعها للرسل جميعهم ، وأنّ الرّسالة الأخيرة ، هي امتداد لأمر مقرّر مطّرد من قديم.

وتأتي الإشارة الثانية بعد قليل :

__________________

(١). في ظلال القرآن بقلم سيد قطب ٢٤ / ٧.

٥٦

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الآية ٧] ، لتقرر مركز القيادة الجديد ، فقد اختار الله جلّ جلاله بلاد العرب ، لتكون مقر الرسالة الأخيرة ، التي جاءت للبشرية جمعاء ، والتي تتضح عالميّتها منذ أيامها الأولى.

كانت الأرض المعمورة ، عند مولد الرسالة الأخيرة ، تكاد تتقاسمها إمبراطوريات أربع هي :

الرومانية ، والفارسية ، والهندية ، والصينية.

وفي هذا الوقت ، جاء الإسلام لينقذ البشرية كلّها ، ممّا انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد ، وجاهلية عمياء في كل مكان من المعمورة.

جاء ليهيمن على حياة البشرية ، ويقودها في الطريق الى الله ، على هدى ونور.

ولم يكن هنالك بدّ من أن يبدأ الإسلام رحلته من أرض حرّة ، لا سلطان فيها لإمبراطورية من تلك الإمبراطوريات ، وكانت الجزيرة العربية وأمّ القرى وما حولها بالذات ، أصلح مكان على وجه الأرض ، لنشأة الإسلام يومئذ ، وأصلح نقطة ، يبدأ منها رحلته العالميّة.

لم تكن في بلاد العرب حكومات منظّمة ، ولا ديانة ثابتة واضحة المعالم ، وكانت خلخلة النظام السياسي للجزيرة ، إلى جانب خلخلة النظام الديني ، أفضل ظرف يقوم فيه دين جديد ، متحرر من كل سلطان عليه في نشأته.

وهكذا جاء القرآن الكريم بلسان عربيّ مبين ، لينذر أم القرى ومن حولها ؛ فلمّا خرجت الجزيرة من الجاهلية إلى الإسلام ، حملت الراية وشرّقت بها وغرّبت ، وقدّمت الرسالة للبشرية جميعها ، وكان الذين حملوها أصلح خلق الله لحملها ، وقد خرجوا بها من أصلح مكان في الأرض لميلادها ؛ وهكذا تبدو سلسلة طويلة من الموافقات المختارة لهذه الرسالة : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام / ١٢٤].

وفي آية مشهورة من سورة الشورى ، تطالعنا وحدة الرسالات جميعها ، ووحدة الرسل ، ووحدة الدين ، ووحدة الهدف للجميع ، وهو توحيد الله سبحانه ، وتدعيم القيم والأخلاق ،

٥٧

ومحاربة الرذائل والانحراف. قال تعالى :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣).

وتقرّر الآيات بعد ذلك أن التفرّق قد وقع مخالفا لهذه التوصية ، ولم يقع عن جهل من أتباع أولئك الرسل الكرام ، ولكن عن علم. وقع بغيا وحسدا :

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [الآية ١٤].

وتصف أتباع الأديان ، وحملة الكتب السماوية بأنّهم في حيرة وشكّ ، لاضطراب أحوال الديانات ، وخروجها عن الهدف الذي جاءت له :

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤).

وعند هذا الحدّ يتبين أن البشرية قد آلت إلى فوضى وارتياب ، ولم تعد لها قيادة راشدة تقوم على نهج ثابت قويم. ثمّ يعلن القرآن الكريم انتداب الرسالة الأخيرة وحاملها (ص) ، لهذه القيادة :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥).

الفصل الثاني :

صفات الجماعة المسلمة

يشتمل النصف الثاني من السورة ، على الآيات [٢٥ ـ ٥٣]. ويتحدّث عن صفات الجماعة المسلمة ، التي انتدبها الله تعالى لحمل هذه الرسالة ؛ ويبدأ هذا الفصل باستعراض آيات الله في بسط الرزق وقبضه ، وفي تنزيل الغيث برحمته ، وفي خلق السماوات والأرض ، وما بثّ فيهما من دابّة ، وفي الفلك الجواري في البحر كالأعلام ، ويستطرد السياق من هذه الآيات إلى صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم ، ومع أن سورة الشورى سورة مكّية ، نزلت قبل قيام الدولة الإسلامية في المدينة ، إلا أنها تذكر أن الشورى من صفات المؤمنين ، في قوله تعالى :

(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الآية ٣٨].

مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق ،

٥٨

في حياة المسلمين ، من مجرّد أن يكون نظاما سياسيّا للدولة ، فهو طابع أساسي للجماعة كلها ، يقوم على أمرها كجماعة ، ثم يتسرب من الجماعة إلى الدولة ، بوصفها ممثّلة للجماعة.

والتأمّل في صفات المؤمنين ، يوحي بأن الإسلام دين القيم ، دين يهتم بالجوهر لا بالعرض ، وبتكوين النفس البشرية لا بالقيم الزائلة.

فما قيم الجماعة المؤمنة؟

إنها الإيمان ، والتوكل ، واجتناب كبائر الإثم والفواحش ، والمغفرة عند الغضب ، والاستجابة لله ، وإقامة الصلاة ، والشورى الشاملة ، والإنفاق ممّا رزق الله ، والانتصار من البغي ، والعفو والإصلاح والصبر.

وبهذه القيم تحوّل العرب من أشتات مختلفين إلى أمّة متماسكة ، متراحمة مؤمنة بالله مستقيمة على هداه وتعاليمه ، فوطّأ الله لهم أكناف الأرض ، وصاروا خير أمة أخرجت للناس.

وبعد تقرير صفة المؤمنين ، وما ينتظرهم من عون وإنعام ؛ تعرض الآيات في الصفحة المقابلة ، صورة الظالمين الضّالّين ، وما ينتظرهم من ذلّ وخسران في يوم القيامة :

(يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ).

وفي ظل هذا المشهد ، نجد القرآن الكريم ، يدعو الناس إلى إنقاذ أنفسهم من مثل هذا الموقف ، قبل فوات الأوان :

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) [الآية ٤٧].

ويمضي سياق السورة حتى ختامها ، يدور حول محور الوحي والرسالة ، وأثرهما في صفات المؤمنين ، مع بعض الاستطراد إلى وصف الكافرين ، وبيان صفات الله الخالق الوهّاب ، القابض الباسط ، قال تعالى :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٥٠).

ويعود السياق في نهاية السورة ، إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وهناك ارتباط ظاهر بين الحديث عن

٥٩

الوحي في القسم الأول من السورة ، والحديث عن صفات المؤمنين ، ودلائل الإيمان في القسم الثاني منها ؛ فإنّ الهداية والإيمان من آثار الوحي ، وبركات الرسالة ؛ أي أن القسم الثاني ، وهو السلوك ، مترتّب عن القسم الأول ، وهو العقيدة والوحي.

٦٠