الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

الابتداء كأنك تقول : «هي النار» وإن شئت جررت على أن تجعل (النَّارُ) بدلا من (الْعَذابِ) كأنّ المراد : «سوء النار».

وقال تعالى : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) وفيه ضمير «يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون» : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) (٤٦) فإنّما هو مصدر كما تقول : «آتيه ظلاما» تجعله ظرفا وهو مصدر جعل ظرفا ، ولو قلت «موعدك غدرة» أو «موعدك ظلام» فرفعته كما تقول : «موعدك يوم الجمعة» ، لم يحسن لأنّ هذه المصادر وما أشبهها من نحو «سحر» لا تجعل إلا ظرفا ، والظرف كلّه ليس بمتمكّن.

وقال تعالى : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) [الآية ٤٨] بجعل (كُلٌ) اسما مبتدأ ، كما تقول : «إنّا كلّنا فيها».

وقال سبحانه : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١) و (تقوم) (١) كلّ جائز ، وكذلك كل جماعة مذكّر أو مؤنّث من الإنس ، فالتذكير والتأنيث في فعله جائز.

وقال تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥) أي «في الإبكار». وقد تقول «بالدار زيد» تريد «زيد في الدّار».

وقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [الآية ٦٠] فقوله سبحانه : (أَسْتَجِبْ) إنّما هو «أفعل» [وما] هذه الألف سوى ألف الوصل. ألا ترى أنّك تقول : «بعت» «تبيع» ثم تقول «أبيع» فتجيء فيها ألف ل «أفعل» فهي نظير الياء والتاء في «يفعل» و «تفعل» تقطع كل شيء كان على «أفعل» ، في وصل كان أو قطع.

وقال تعالى : (كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) [الآية ٤٧] «فالتبع» يكون واحدا وجماعة ، ويجمع فيقال «أتباع».

وقال تعالى : (لِتَرْكَبُوا مِنْها) [الآية ٧٩] فكأن السياق أضمر «شيئا».

وقال سبحانه : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) وقال جلّ وعلا :

__________________

(١). في الطبري ٢٤ / ٧٥ نسبت القراءة بالتاء على التأنيث إلى بعض أهل مكة ، وبعض قراء البصرة ؛ وفي البحر ٧ / ٤٧٠ إلى ابن هرمز وإسماعيل والمنقري ، عن أبي عمرو.

٢١

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) [النساء]. فيجوز أن يكون آل فرعون أدخلوا مع المنافقين في الدرك الأسفل ، وهو أشدّ العذاب.

وأمّا قوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (١١٥) [المائدة]. فقوله جلّ شأنه : (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً) من عالم أهل زمانه.

٢٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «غافر» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ٤].

مع أن الذين آمنوا يجادلون أيضا فيها ، أمنسوخة هي أم محكمة؟ أفيها مجاز أم كلها حقيقة؟ أمخلوقة هي أم قديمة؟ وغير ذلك.

قلنا : المراد الجدال فيها بالتكذيب ، ودفعها بالباطل والطعن بقصد إدحاض الحق وإطفاء نور الله تعالى ، ويدل عليه قوله تعالى عقيبه : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [الآية ٥].

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في وصف حملة العرش : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [الآية ٧] ولا يخفى على أحد أن حملة العرش يؤمنون بالله تعالى؟

قلنا : الحكمة إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء (ع) بالصلاح والإيمان في غير موضع من كتابه.

فإن قيل : في قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [الآية ١١] كيف صح أن يسمى خلقهم أمواتا إماتة؟

قلنا : هذا كما تقول : سبحان من صغّر جسم البعوضة وكبّر جسم الفيل ، وكما تقول للحفّار : ضيّق فم الركيّة ووسّع أسفلها ، وليس فيهما نقل من كبر إلى صغر ومن صغر إلى كبر ، ولا من سعة إلى ضيق ولا من ضيق إلى سعة ؛ وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصّغر

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣

والكبر جائزان معا على ذات المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ؛ وإذا اختار الصانع أحد الجائزين ، وهو متمكن منهما على السواء ، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.

فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [الآية ١٦] بيان وتقرير لبروزهم في قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) [الآية ١٦] والله تعالى لا يخفى عليه شيء ، برزوا أو لم يبرزوا؟

قلنا : معناه لا يخفى على الله منهم شيء في اعتقادهم أيضا ، فإنهم كانوا في الدنيا يتوهّمون إذا تستّروا بالحيطان والحجب أنّ الله لا يراهم ، ويؤيده قوله تعالى : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢) [فصلت].

فإن قيل : لم قال المؤمن في حق موسى (ع) كما ورد في التنزيل : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) [الآية ٢٨] مع أنه صادق في زعم القائل لهذا القول ، وفي نفس الأمر أيضا ، ويلزم من ذلك أن يصيبهم جميع ما وعدهم لا بعضه فقط؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها أن لفظة بعض صلة. الثاني : أنها بمعنى «كل» كما في قول الشاعر :

إنّ الأمور إذا الأحداث دبّرها دون الشّيوخ ترى في بعضها خللا ومنه قول لبيد :

أولم تكن تدري نوار بأنني

وصّال عقد حبائل جذّامها

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يرتبط بعض النّفوس حمامها

قلنا : ولقائل أن يقول : إن لفظة بعض في البيتين على حقيقتها ، وكنى لبيد ببعض النفوس عن نفسه ، كأنه قال : أتركها إلى أن أموت ، وكذا فسّره ابن الأنباري ؛ على أنّ أبا عبيدة قال : إن لفظة «بعض» في الآية بمعنى كل ، واستدل ببيت لبيد ؛ وأنكر الزمخشري على أبي عبيدة هذا التفسير ؛ على أن غير أبي عبيدة قال في قوله تعالى حكاية عن عيسى (ع) لأمّته : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) [الزخرف / ٦٣] أن لفظة «بعض» فيه بمعنى كل. الثالث : أنها على أصلها. ثم في ذلك وجهان : أحدهما أنه وعدهم النجاة إن آمنوا ، والهلاك إن كفروا ، فذكر لفظة بعض لأنهم على إحدى الحالتين لا

٢٤

محالة. الثاني أنه وعدهم على كفرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وكان هلاكهم في الدنيا بعضا ، فمراده : يصيبكم في الدنيا بعض الذي يعدكم. الرابع : أنه ذكر البعض بطريق التنزّل والتلطّف وإمحاض النصيحة من غير مبالغة ولا تأكيد ، ليسمعوا منه ولا يتّهموه ، فيردوا عليه وينسبوه إلى ميل إلى موسى (ع) ومحاباة ؛ فكأنه قال : أقلّ ما يصيبكم البعض وفيه كفاية ؛ قال الشاعر :

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون من المستعجل الزّلل

كأنه يقول أقلّ ما يكون في التأني إدراك بعض المطلوب ، وأقلّ ما يكون في الاستعجال الزلل ، فقد بان فضل التأني على العجلة بما لا يقدر الخصم على دفعه وردّه. والوجه الرابع هو اختيار الزمخشري رحمة الله عليه.

فإن قيل : التولّي والإدبار واحد ، فما الحكمة في قوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) [الآية ٣٣]؟

قلنا : هو تأكيد ، كقوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل / ٢٦] ونظائره كثيرة. الثاني : أنه استثارة لحميّتهم ، واستجلاب لأنفتهم ، لما في لفظ «مدبرين» من التعريض بذكر الدبر ، فيصير نظير قوله تعالى : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر].

فإن قيل : ما الحكمة في التكرار في قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (٣٦) (أَسْبابَ السَّماواتِ) ولم لم يقل : أبلغ أسباب السماوات؟ أي أبوابها وطرقها.

قلنا : إذا أبهم الشيء ثمّ أوضح كان تفخيما لشأنه وتعظيما لمكانه ، فلما أريد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السموات أبهمت ثمّ أوضحت.

فإن قيل : مثل السيئة سيئة ، فما المقصود في قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الآية ٤٠]؟

قلنا : معناه أنّ جزاء السيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المقدار المستحق ، وأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير حساب كما قال تعالى في آخر الآية.

فإن قيل : قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام / ١٦٠] ينافي ذلك.

قلنا : ذلك لمنع النقصان لا لمنع الزيادة ، كما قال الله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس / ٢٦].

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَقالَ

٢٥

الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [الآية ٤٩] ولم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها مع أنه أوجز؟

قلنا : لأن في ذكر جهنّم تهويلا وتفظيعا. وقيل إن جهنّم هي أبعد النار قعرا ، وخزنتها أعلى الملائكة الموكلين بالنار مرتبة ، فإنّما قصدهم أهل النار بطلب الدعاء منهم لذلك.

فإن قيل : لم قال المشركون كما ورد في التنزيل : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) [الآية ٧٤] مع قولهم كما ورد في التنزيل أيضا : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [النحل / ٨٦]؟

قلنا : معناه أن الأصنام التي كنا نعبدها لم تكن شيئا لأنّها لا تنفع ولا تضرّ. الثاني أنهم قالوا كذبا وجحودا ، كقولهم كما ورد في التنزيل : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) [الأنعام].

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٨٠) ولم يقل : وفي الفلك تحملون ، كما قال سبحانه : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود / ٤٠].؟

قلنا : معنى الوعاء ومعنى الاستعلاء كلاهما صحيح في الفلك ، لأنه وعاء لمن يكون فيه وحمولة لمن يستعليه ؛ فلما صحّ المعنيان استقامت العبارتان معا.

٢٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «غافر» (١)

في قوله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [الآية ٧]. استعارة : لأن حقيقة السعة إنّما توصف بها الأوعية والظروف التي هي أجسام ، ولها أقدار ومساحات ، والله سبحانه يتعالى عن ذلك.

والمراد ، والله أعلم ، أنّ رحمتك وعلمك وسعا كلّ شيء ، فنقل الفعل إلى الموصوف على جهة المبالغة كقولهم : طبت بهذا الأمر نفسا ، وضقت به ذرعا. أي طابت نفسي ، وضاق ذرعي. وجعل العلم موضع المعلوم ؛ كما جاء قوله سبحانه : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة / ٢٥٥] أي بشيء من معلومه.

وفي قوله سبحانه : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) استعارتان. إحداهما قوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) والمعنى : أن منازل العز ، ومراتب الفضل التي يخصّ بها عباده الصالحين ، وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار ، مشرفة المنار.

فالدرجات المذكورة هي التي يرفع عباده إليها ، لا التي يرتفع هو بها ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) والرّوح هاهنا كناية عن الوحي كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٧

مِنْ أَمْرِنا) [الشورى / ٥٢] وإنما سمّي روحا لأن الناس يحيون به من موت الضلالة ، وينشرون من مدافن الغفلة. وذلك أحسن تشبيه ، وأوضح تمثيل.

وفي قوله سبحانه : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١٩) استعارة. والمراد بخائنة الأعين ، والله أعلم ، الرّيب في كسر الجفون ، ومرامز العيون.

وسمّى سبحانه ذلك خيانة ، لأنه أمارة للرّيبة ، ومجانب للعفّة.

وقد يجوز أن تكون خائنة الأعين هاهنا صفة لبعض الأعين بالمبالغة في الخيانة ، على المعنى الذي أشرنا إليه. كما يقال علّامة ، ونسّابة.

وأنشدوا قول الشاعر في مثل ذلك :

حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن

للغدر خائنة مغلّ الإصبع

أي لم تكن موصوفا بالمبالغة في الخيانة. ومعنى مغلّ الإصبع : سارق مختلس.

وأضاف الأغلال إلى الإصبع ، كما أضاف الآخر (١) الخيانة إلى اليد في قوله :

أولّيت العراق ورافديه

فزار يّا أحذّ يد القميص

أي خفيف اليد في السرقة والأحذّ الخفيف السريع. وعنى برافديه : دجلة والفرات.

وإنما ذكرت اليد والإصبع في هذين الموضعين ، لأنّ فعل السارق والمختلس في الأكثر إنّما يكون باستعمال يده ، واستخدام أصابعه.

__________________

(١). هو الشاعر الفرزدق. والبيت من أبيات في ديوانه ، وقد أشار إليه ابن قتيبة في مقدمته لكتابه «الشعر والشعراء» ص ٣٤ ، وهو يتحدّث عن التكلّف وضرورات القافية. والفرزدق يخاطب الخليفة يزيد بن عبد الملك شاكيا عمر بن هبيرة.

وفي «أساس البلاغة» للزمخشري ، روي هذا البيت هكذا :

بعثت على العراق ورافديه

فزاريّا أحذّ يد القميص

٢٨

سورة فصّلت

٤١

٢٩
٣٠

المبحث الأول

أهداف سورة «فصّلت» (١)

سورة «فصّلت» سورة مكية نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها ٥٤ آية نزلت بعد سورة «غافر».

أسماؤها : تسمى سورة «فصّلت» لقوله تعالى في أوائلها :

(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣).

وتسمى سورة «حم السجدة» لاشتمالها على السجدة ، وسورة «المصابيح» لقوله تعالى :

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (١٢).

روح السورة

الروح الساري بين آيات سورة «فصلت» ، هو عرض أهداف الدعوة الجديدة ، وأركانها وحقائقها الأساسية ، وهذه الحقائق هي :

الإيمان بالله وحده ، وبالحياة الآخرة ، وبالوحي والرّسالة ، ويضاف إلى ذلك طريقة الدعوة إلى الله وخلق الداعية.

وكلّ ما في السورة هو شرح لهذه الحقائق ، واستدلال عليها ، وعرض لآيات الله في الأنفس والآفاق ، وتحذير من التكذيب بها ، وتذكير بمصارع المكذبين في الأجيال السابقة ، وعرض لمشاهد المكذّبين يوم القيامة ، وبيان أن المكذّبين من الجن والإنس هم وحدهم الذين لا يسلمون بهذه الحقائق ، ولا يستسلمون لله وحده ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣١

بينما السماء والأرض والشمس والقمر والملائكة ... كلهم يسجدون لله ، ويخضعون لأمره ، ويسلمون ويستسلمون.

موضوعات السورة

في سورة «فصلت» موضوعان اثنان :

الموضوع الأول

يستغرق نصف السورة الأول الآيات [١ ـ ٣٦] ، ويبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته ، وموقف المشركين منه ، وتليها قصّة خلق السماء والأرض ، فقصّة عاد وثمود ، فمشهدهم في الآخرة تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد السياق إلى الحديث عنهم في الدنيا وكيف ضلّوا هذا الضلال ، فيذكر أن الله سبحانه قيّض لهم قرناء سوء من الجن والإنس ، يزيّنون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ومن آثار هذا قولهم ، كما ورد في التنزيل : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦).

ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس. وفي الجهة الأخرى نجد الذين قالوا : ربّنا الله ، ثم استقاموا.

وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة ، لا قرناء السوء ، يطمئنونهم ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة ؛ ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية ، وبذلك ينتهي الموضوع الأول.

الموضوع الثاني

تتحدّث الآيات [٣٧ ـ ٥٤] عن آيات الله من الليل والنهار ، والشمس والقمر ، والملائكة العابدة ، والأرض الخاشعة ، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه. وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب ، ويشار إلى كتاب موسى واختلاف قومه فيه ، وأنه لو لا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم.

وهنا يرد حديث عن الساعة واختصاص علم الله بها ، وعلمه بما تكنّه الأكمام من ثمرات ، وما تكنّه الأرحام من أنسال ، ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها ، ومع حرص

٣٢

الإنسان على نفسه هكذا ، فإنه لا يحتاط لها ، فيكذب ويكفر ، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.

وتختم السورة بوعد من الله سبحانه ، أن يكشف للناس عن آياته ، في الآفاق وفي أنفسهم. وقد صدق الله وعده ، فكشف لهم عن آياته في الآفاق خلال الأربعة عشر قرنا ، التي تلت هذا الوعد ، فعرفوا كثيرا عن مادة هذا الكون ، وعرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرّة ، وأدركوا أن الذّرة تتحول إلى الإشعاع ، كما فهموا أن الكون كله من الإشعاع.

وعرفوا الكثير عن كروية الأرض ، وحركتها حول نفسها ، وحول الشمس ؛ وعرفوا الكثير عن المحيطات والأنهار ، والمخبوء في جوف الأرض من الأرزاق.

وفي آفاق النفس اهتدى الإنسان إلى معرفة الكثير عن خصائص الجسم البشري وأسراره ، ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وأسرار عمله وحركته ، ثم عن تطوّر المعرفة حول ذكاء الإنسان ، ونفسية الأفراد والجماعات ، وقياس السلوك ، ولا يزال الإنسان في الطريق إلى اكتشاف نفسه ، واكتشاف الكون من حوله ، حتّى يحقّ وعد الله بأن كلماته حقّ ، وآياته صدق ، وكتابه منزل ، وهو على كل شيء شهيد ... قال تعالى :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤).

٣٣
٣٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «فصّلت» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «فصّلت» بعد سورة «غافر» ، ونزلت سورة «غافر» بعد الإسراء ، وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة فصلت في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣) وتبلغ آياتها أربعا وخمسين آية.

الغرض منها وترتيبها

ترمي من هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن ، وهو التبشير بالثواب والإنذار بالعقاب ، وهي بهذا تكاد تتّفق في الغرض مع السورة السابقة ، وهذا هو وجه ذكرها بعدها. وقد جمع فيها بين الأخذ بالترغيب والترهيب ، والأخذ بالدليل أيضا.

بيان الغرض من نزول القرآن

الآيات [١ ـ ٣٢]

قال الله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) فذكر ، سبحانه ، أن القرآن تنزيل منه ، وأنه كتاب فصّلت آياته ليكون بشيرا ونذيرا للناس ، فأعرض أكثرهم عنه وقالوا استهزاء بوعيده ، كما ورد في التنزيل : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) (٥) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم عن هذا بأنه بشر مثلهم ، فليس له شيء من أمر عقابهم ، وما

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣٥

عليه إلا أن يبلغهم ما يوحى إليه من دعوتهم إلى وحدانية الله ، وإنذارهم بالويل والهلاك إن لم يؤمنوا به ، وتبشير المؤمنين بأن لهم أجرا غير ممنون. ثم أخذ السياق يبيّن لهم قبح كفرهم به ، فذكر أنهم يكفرون بالذي خلق الأرض في يومين. ومضى هذا السياق في ترتيب أيام خلق الأرض والسماوات ، ثم أنذرهم إن أعرضوا عن الإيمان بالله تعالى ، بعد ذلك ، بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. وأخذ في تفصيل ما حصل لهم من ذلك في دنياهم ، ثم ذكر ما يحصل لهم بعد حشرهم من شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم ، إلى غير هذا ممّا ذكره من أمر آخرتهم ، ثم عاد إلى ذكر إعراضهم عن إنذار القرآن لهم ، فذكر أنهم قالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦). ثم هدّدهم جلّ جلاله على ذلك بما أعده لهم من العذاب الشديد ، وذكر ما أعدّه للمؤمنين من حسن لقاء الملائكة لهم ، إلى قولهم في لقائهم لهم (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢).

شرف الغرض الذي تدعو إليه

الآيات [٣٣ ـ ٥٤]

ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) ؛ فذكر شرف الغرض في الدعوة إلى الله ، وأمر رسوله (ص) أن يقابل في دعوته إساءتهم بالحسنة ، وأن يستعيذ بالله جلّ وعلا إذا نزغه من الشيطان نزغ من الغضب ؛ ثم ذكر سبحانه أن من آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ونهاهم جلّ شأنه أن يسجدوا للشمس والقمر ، وأمرهم بالسجود له تعالى ، فإن استكبروا فلا ينقص ذلك شيئا من سلطانه ؛ وتسبيح الملائكة له سبحانه لا ينقطع إقرارا وإذعانا. ثم ذكر السياق أن من آيات الله إحياء الأرض بالمطر ، ليبيّن لهم أنّ الذي يحيي الأرض قادر على إحياء الموتى ، وانتقل السياق من ذلك الى تهديدهم على إلحادهم في آياته بعد إحيائهم.

ثم عاد هذا السياق إلى تهوين أمر إساءتهم للرسول (ص) ليؤكّد ما أمره من مقابلتها بالحسنة ، فذكر أنّه لا يقال له إلا ما قد قيل للرسل من قبله ، فلا يصحّ أن يضيق صدره بما قالوه في أول

٣٦

السورة من أن في قلوبهم أكنّة ممّا يدعوهم إليه ، إلى غير هذا مما حكى عنهم ، وعليه أن يشتغل بالتبليغ ويفوّض أمره إلى الله سبحانه ؛ فهو ذو مغفرة وذو عقاب أليم. ثم ذكر السياق أنه سبحانه لو جعله قرآنا أعجميّا ، ولم يفصّل آياته بالعربية كما فصّله ، لقالوا : لو لا فصّلت آياته ، لأنهم متعنّتون لا يرضيهم شيء. وذكر أنه هدى وشفاء للمؤمنين ، وأنّ غيرهم في آذانهم وقر وهو عليهم عمى ، فلا عيب فيه وإنما العيب فيهم. ثمّ ذكر تعالى أنه آتى موسى التوراة قبله فاختلف فيها كما اختلف هؤلاء المشركون في القرآن بين مصدّق ومكذّب ، وأنه لو لا سبق حكمه بإمهالهم لعجّل بقضائه بينهم ، فذكر أن من عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها. وذكر أن موعد ذلك ممّا اختص هو جل جلاله بعلمه ، فإذا أتى يومه ناداهم أين شركائي؟ فيتبرءون من إثبات الشركاء له. ثم بيّن أن إنكارهم لهم في الآخرة بعد إقرارهم بهم في الدنيا هو شأن الإنسان لا يثبت على حال ، فإن أقبلت عليه الدنيا لا ينتهي إلى درجة إلّا ويطلب أزيد منها ، وإن أدبرت عنه بالغ في اليأس والقنوط ، وإن عاودته النعمة ، اغترّ بها ، وظنّ أنها حق له لا يزول عنه ؛ وأنه لا ساعة قائمة ؛ ولئن كان هناك ساعة ورجع إلى ربه ليحسننّ إليه. ثم يمضي في إعراضه وينأى بجانبه ، فإذا مسّه الشر بعد ذلك عاد إلى الإكثار من دعائه.

ثم ختم بذكر ما يوجب عليهم أن يحتاطوا في أمرهم ، فأخبرهم بأنه على تقدير أن يكون القرآن من عنده ، يكون كفرهم به من أعظم موجبات العقاب. ثم ذكر أنه سيريهم ما أوعدهم به في الآفاق وفي أنفسهم. ويراد بالآفاق ، والله أعلم ، فتح البلاد المحيطة بهم ، وبأنفسهم فتح مكة ، وبهذا يتبين لهم أنه الحق : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤).

٣٧
٣٨

المبحث الثالث

مكنونات سورة «فصّلت» (١)

١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [الآية ٢٦].

قيل : إنّ قائلها أبو جهل. ذكره ابن عسكر.

٢ ـ (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الآية ٢٩].

قال عليّ بن أبي طالب : هما إبليس ، وابن آدم ، الذي قتل أخاه.

أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

٣ ـ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [الآية ٣٣].

قال الحسن : هو النبي (ص) أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). والطبري ٢٤ / ٧٢.

(٣). والطبري ٢٤ / ٧٥.

٣٩
٤٠