الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الأول

أهداف سورة «الحجرات» (١)

الآداب العامة

هذه سورة الآداب العامة ومكارم الأخلاق والتهذيب والتأديب ، سورة هذّبت وجدان المسلمين ، وحركت فيهم دوافع الخير والمعروف ، وحاربت نوازع السخرية والاستهزاء بالآخرين ، وحثّت على إزالة أسباب الخصام والبغضاء ، وحرصت على تأليف القلوب وإشاعة المحبة والمودّة بين الناس ، ولذلك نهت عن ظن السوء بالمسلم المخلص ، وعن تتبّع العورات المستورة ، وعن الغيبة واللّمز والتّنابز بالألقاب. وبيّنت أنّ النّاس جميعا عند الله سواء ، كلهم لآدم ، وآدم من تراب ؛ فهم يتفاضلون عنده ، سبحانه ، بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح.

منهج الحياة

سورة «الحجرات» يمكن أن تكون دائرة معارف شاملة لتربية الفرد وتهذيب الجماعة ، فهي تقدّم منهجا للحياة السليمة ، ونظاما تربويّا ناجحا لمواطن صالح مؤمن بربه ، يحترم دينه ويؤدّي شعائره.

جاء في كتاب «ظلال القرآن» ما يأتي :

«هذه سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٢١

والانسانية ، حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقا عالية ، وآمادا بعيدة ، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ، وتشمل ، من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات.

«وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبير والتفكير. وأول ما يبرز للنظر ، عند مطالعة السورة : أنها تستقل بوضع معالم كاملة لعالم رفيع كريم نظيف سليم ، متضمّنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يا قوم عليها هذا العالم ، والتي تكفل قيامه أولا وصيانته أخيرا ، عالم يصدر عن الله ، ويتجه الى الله ، ويليق أن ينتسب الى الله ، عالم نقي القلب نظيف المشاعر ، عفّ اللسان ، وقبل ذلك عفّ السريرة ، عالم له أدب مع الله وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره ، أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه ، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته ، وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتّسق معه. فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره ، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك الى الله. ومن ثمّ لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم ، بل يلتقي هذا بذاك في انسجام وتناسق ، كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده ، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها ، بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالافراد ، وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتّساق» (١).

معاني السورة

اشتملت السورة على طائفة كريمة من المعاني الإسلامية والآداب الدينية ، فقد أمرت المسلمين ألا يصدروا في أحكامهم إلّا عن طاعة الله والتزام أوامره ، ويجب ألا يسبقوا أحكام الله ، وأن يجعلوا اختيارهم وذوقهم الديني تابعا لهدى الله.

__________________

(١). في ظلال القرآن ، للاستاذ سيد قطب ٢٦ / ١٢٥.

٢٢٢

وهي تأمرهم بالتزام الأدب أمام النبي الكريم ، وبحسن المعاملة وخفض الصوت عند خطاب الرسول الأمين ، لأنه هو خاتم المرسلين ، وهو الذي بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ، ونصح الأمّة ، وربّى المسلمين تربية إلهية ، حتى صاروا خير أمة أخرجت للناس [الآيات ٢ ـ ٥].

وتأمر السورة المسلمين أن يتثبّتوا في أحكامهم ، وألا يصدّقوا أخبار الفاسقين وإشاعات المغرضين وأراجيف المرجفين ، فالرسول معهم ، وهدى القرآن والسنّة بين أيديهم ، وحقائق الإيمان وأحكامه واضحة أمامهم ، وقد حبّب الله إليهم الإيمان وحجب عنهم الكفر والعصيان ؛ فلله الفضل والمنّة ، وهو العليم بعباده الحكيم في أفعاله [الآيات ٦ ـ ٨].

والمؤمنون أمّة واحدة ، ربّهم واحد وقبلتهم واحدة ، وكتابهم واحد ، ودينهم يا قوم على التسامح والتعاون والتناصح. فإذا حدث خلاف بين طائفتين ، أو قتال ونزاع ، فمن الواجب أن نحاول الصلح بينهما ؛ وإذا أصرّت إحدى الطائفتين على البغي والعدوان فمن الواجب أن نقف في وجه المعتدي حتى يفيء الى الحق ، وعلينا أن نؤكّد مفاهيم الحق والعدل ، وأن نحثّ على الإصلاح ورأب الصّدع ، حفاظا على وحدة الأمة ، وجمع شمل المسلمين [الآيات ٩ ـ ١٠].

وتأمر الآيات بالبعد عن السخرية والاستهزاء بالآخرين ، فالإنسان إنسان بمخبره وإنسانيته لا بمظهره وتعاليه. وهناك قيم حقيقية لمقادير الناس ، هي حسن صلتهم بالله ورضى الله عنهم. فقد يسخر الغني من الفقير ، والقوي من الضعيف ، وقد تسخر الجميلة من القبيحة ، والشابة من العجوز ، والمعتدلة من المشوّهة. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست المقياس. فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين ، وربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه. وتحرّم الآيات كذلك اللمز والسخرية بالآخرين ، والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ويحسّون فيها مهانة وعيبا. فشتّان ما بين آداب الإيمان ، وما بين الفسوق والعصيان ، وظلم الآخرين [الآية ١١].

وتستمر الآيات فتنهى عن ظنّ السوء ، وعن تتبّع عورات الناس حتّى يعيش الناس آمنين على بيوتهم وأسرارهم ، وحتّى تصان حقوقهم

٢٢٣

وحرّيّاتهم ، وتنهى عن الغيبة وتحذّر منها ، وتبيّن أنّ الناس جميعا خلقوا من أصل واحد ، ثم تفرعت بهم الشعوب والقبائل ، والعلاقة بين الناس أساسها التعارف على الخير ، وأكرم الناس عند الله أكثرهم تقوى وطاعة لأمره والتزاما بهديه [الآيات ١٢ ـ ١٣].

الإيمان قول وعمل

وفي ختام السورة نجد لوحة هادفة ، ترسم معالم الايمان.

فالمؤمن الحق من آمن بالله ورسوله ، ولم يتطرق الشك الى قلبه ، وأتبع ذلك بالجهاد والعمل على نصرة الإسلام ، وسار في طريق العقيدة السليمة والتزم بآدابها وهديها.

ونجد صورة نابية للأعراب الذين افتخروا بالإيمان ، وتظاهروا به رياء وسمعة ، وجاءوا في تيه وخيلاء يمنّون على النبي أنّهم دخلوا في الإسلام ، وهي صورة كريهة فيها الرياء والسمعة والمنة ، مع أن الله هو العليم بنفوسهم والبصير بخباياهم ، وهو صاحب الفضل والمنّة عليهم إن كانوا صادقين.

إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ربّا ، واختاروا الإسلام دينا ، وصدّقوا بمحمد (ص) نبيّا ورسولا ، وجمعوا بين صدق اليقين وأدب السلوك [الآيات ١٤ ـ ١٨].

وفي الحديث الشريف : «ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدق في العمل».

الهدف الاجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة الحجرات ما يأتي :

«المحافظة على أمر الحق تعالى ، ومراعاة حرمة الأكابر ، والتّؤدة في الأمور ، واجتناب التهوّر ، والنجدة في إغاثة المظلوم ، والاحتراز عن السخرية بالخلق والحذر عن التجسّس والغيبة وترك الفخر بالأحساب والأنساب ، والتحاشي عن المنّة على الله بالطاعة».

«وقد تكرّر خطاب المؤمنين في السورة خمس مرات ، بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والمخاطبون هم المؤمنون في الآيات [١ و ٢ و ٦ و ١١ و ١٢] والمخاطب به أمر ونهي ، وفي الآية [١٣](يا أَيُّهَا النَّاسُ) والمخاطب به المؤمنون والكافرون حيث قال سبحانه : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الآية ١٣] والنّاس كلّهم في ذلك شرع سواء».

٢٢٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الحجرات» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الحجرات» بعد سورة «المجادلة» ، ونزلت سورة «المجادلة» بعد سورة «المنافقون» ، ونزلت سورة «المنافقون» في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة ، فيكون نزول سورة «الحجرات» فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) وتبلغ آياتها ثماني عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إرشاد المؤمنين إلى بعض الآداب في حق الله والرسول ، إلى آداب أخرى ذكرت فيها مع هذه الآداب. وقد حصل من المؤمنين في صلح الحديبية أن اعترضوا على بعض ما جاء فيه ، وأنهم لم يبادروا الى امتثال أمر النبي (ص) لهم أن يحلقوا أو ينحروا ليتحلّلوا من عمرتهم ، فجاءت سورة الحجرات عقب سورة «الفتح» التي ذكر فيها ذلك الصلح إرشادا للمؤمنين إلى تلك الآداب ، حتى لا يعودوا الى ما وقع منهم من الاعتراض على النبي (ص) ، ومن عدم المبادرة الى امتثال أمره.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٢٥

أدب المؤمنين مع الله ورسوله

الآيات [١ ـ ٥]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) فذكر من أدب المؤمنين مع الله ورسوله ألّا يتقدموا عليهما بالرأي ، وألّا يرفعوا أصواتهم فوق صوت الرسول (ص) ، وألّا يجهروا له بالخطاب كجهر بعضهم لبعض ، وألّا ينادوه من وراء الحجرات كما ناداه بعض جفاة الأعراب : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥).

أدب المؤمنين في سماع الأخبار

الآيات [٦ ـ ٨]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦) ، فذكر من أدب المؤمنين في سماع الأخبار أن يتثبّتوا في تصديق أخبار الفسّاق ، فلا يسمعوا لكلّ ما يلقى إليهم كما سمعوا لما ألقي إليهم ، في ذلك الصلح ، ولو أن الرسول سمع إليهم في هذا وفي غيره من أمورهم ، لوقعوا في العنت. ولكن الله حبّب إليهم الإيمان ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، فلم يجعلوا لهم رأيا مع رأيه (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨).

ترغيب المؤمنين في الصلح

الآيات [٩ ـ ١٨]

ثم قال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الآية ٩] ، فرغّب المؤمنين في الصلح لئلّا يأبوه كما أبوه في الحديبية ، وأمرهم أن يصلحوا بين كلّ طائفتين تقتتلان من المؤمنين ، وأن يقاتلوا من يأبى منهما الصلح حتى يرضى به ، فإذا رضي به وجب أن يصلح بينهما بالعدل ، ثم نهاهم عمّا يوجب الخصام بينهم من سخرية بعضهم ببعض ، ومن عيب بعضهم الآخر في غيبته ، وهو اللّمز ، ومن تسمية بعضهم بعضا بما يحطّ منه ، وهو النّبز ، ومن سوء ظنّ بعضهم ببعض ، إلى غير هذا ممّا يوجب الخصام بينهم ؛ ثم ذكر ، جلّ وعلا ، أنه خلقهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتناكروا ويتخاصموا ، وأنّ أكرمهم

٢٢٦

عنده هو الذي يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ، لا من يتعالى على غيره بنسب أو نحوه فيخاصمه ولا يصالحه.

ثم ختمت السورة بالكلام على الأعراب الذين يكتفون من الإسلام بالاسم ، ولا يأخذون بشيء من آدابه ، بل يمضون على ما كانوا عليه في جاهليتهم من الجفوة والتخاصم والتناكر ، فأنكر ، سبحانه ، عليهم ما يدّعون من الإيمان ، وذكر أنهم لم يحصل لهم إلا إسلام لا يتجاوز النطق باللسان ، ثم أخذ السّياق في هذا الى أن ذكر أنهم يمنّون على النبي (ص) بإسلامهم ، وأجاب عن هذا بأن الله سبحانه هو الذي يمنّ عليهم بهدايتهم للإيمان إن كانوا صادقين (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨).

٢٢٧
٢٢٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الحجرات» (١)

لا يخفى تآخي هاتين السورتين (الفتح والحجرات) مع ما قبلهما ، لكونهما مدنيتين ، ومشتملتين على أحكام. فتلك فيها قتال الكفّار ، وهذه فيها قتال البغاة (٢). وتلك ختمت بالذين آمنوا ، وهذه افتتحت بالذين آمنوا (٣) ؛ وتلك تضمنت تشريفا له (ص) ، خصوصا مطلعها ، وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له (ص) (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). قتال الكفّار في «الفتح» معروف ، لأنها في فتح مكة ، وقتال البغاة في «الحجرات» جاء في قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الآية ٩].

(٣). ختام الفتح : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) وافتتاح الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

(٤). تشريفه (ص) في «الفتح» في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [الآية ٢].

وتشريفه في مطلع الحجرات : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية الأولى] ، (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [الآية ٣] ، (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤).

٢٢٩
٢٣٠

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الحجرات» (١)

١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) [الآية ٤].

نزلت في ناس من الأعراب منهم : الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد وغيره.

٢ ـ (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [الآية ٦].

نزلت في الوليد بن عقبة.

أخرجه أحمد وغيره من حديث الحارث بن ضرار الخزاعي.

٣ ـ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) [الآية ١٤].

هم بنو أسد. أخرجه سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

٢٣١
٢٣٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحجرات» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩).

والقسط : العدل ، والفعل أقسط ، والهمزة للسلب ، وهذا يعني : أن الفعل «قسط» بمعنى جار ظلم.

٢ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) [الآية ١١].

أقول : دلت كلمة (قَوْمٌ) في الآية على الرجال بدلالة قوله تعالى : (وَلا نِساءٌ) وهذا مثل قول زهير :

وما أدري ولست إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٣٣
٢٣٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحجرات» (١)

قال تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الآية ٢] أي : مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال : «اسمك الحائط أن يميل».

وقال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ) [الآية ١٣] بالكسر ابتداء ولم يحمل الكلام على (لِتَعارَفُوا) [الآية ١٣].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٣٥
٢٣٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحجرات» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية ١] ، والمراد به نهيهم أن يتقدّموا على رسول الله (ص) بقول أو فعل ، لا أن يقدّموا غيرهم.

قلنا : «قدّم» هنا لازم بمعنى «تقدّم» ، كما في قولهم : بيّن وتبيّن ، وفكّر وتفكّر ، ووقّف وتوقّف ، ومنه قول الشاعر :

إذا نحن سرنا سارت الناس خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

أي توقفوا ، وقيل معناه : لا تقدّموا فعلا قبل أمر رسول الله (ص).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) [الآية ٢] بعد قوله سبحانه : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الآية ٢].

قلنا : فائدته تحريم الجهر في مخاطبته (ص) باسمه نحو قولهم يا محمد ، ويا أحمد ، فهو أمر لهم بتوقيره وتعظيمه (ص) في المخاطبة. وأن يقولوا يا رسول الله ، ويا نبي الله ، ونحو ذلك ، ونظيره قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور / ٦٣].

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) [الآية ٢] أي مخافة أن تحبط

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣٧

أعمالكم مع أن الأعمال إنّما تحبط بالكفر لا بغيره من المعاصي ، ورفع الصوت في مجلس النبي (ص) ليس بكفر ؛ وقد روي أن الآية نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لمّا رفعا صوتيهما بين يدي رسول الله (ص) ؛ وأنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جهوريّ الصّوت ، فربما تأذّى رسول الله (ص) بصوته؟

قلنا : معناه لا تستخفّوا به ، فإن الاستخفاف به ربّما أدى خطأه الى عمده ، وعمده كفر يحبط العمل. وقيل حبوط العمل مجاز عن نقصان المنزلة وانحطاط المرتبة.

فإن قيل : ما وجه الارتباط والتعلق بين قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) [الآية ٧] وبين ما قبله؟

قلنا : معناه فاتركوا عبادة الجاهلية ، فإن الله تعالى لم يترككم عليها ، ولكن الله حبّب إليكم الإيمان. وقيل معناه فتثبّتوا في الأمور كما يليق بالإيمان ، فإن الله حبّب إليكم الإيمان.

فإن قيل : إن كان الفسوق والعصيان بمعنى واحد ، فما فائدة الجمع بينهما ، وإن كان العصيان أعم من الفسوق فذكره مغن عن ذكر الفسوق لدخوله فيه فما فائدة الجمع بينهما؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بالفسوق هنا الكذب ، وبالعصيان بقية المعاصي ، وإنما أفرد الكذب بالذكر لأنه سبب نزول الآية.

فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان والإسلام بمعنى واحد ، والله سبحانه وتعالى يقول : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الآية ١٤].

قلنا : المنفي هنا الإيمان بالقلب بدليل قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الآية ١٤] يعني لم تصدّقوا بقلوبكم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الآية ١٤] أي استسلمنا وانقدنا خوف السيف ؛ ولا شكّ في الفرق بين الإيمان والإسلام بهذا التفسير ، والذي يدّعي اتحادهما لا يريد به أنهما حيث استعملا كانا بمعنى واحد ، بل يريد به أن أحد معاني الإيمان هو الإسلام.

فإن قيل : كيف يقال إن العمل ليس

٢٣٨

من الإيمان ، والله تعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا) [الآية ١٥]؟

قلنا : معناه إنما المؤمنون إيمانا كاملا ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر / ٢٨] ، وقوله (ص) «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ، وقولهم : الرجل من يصبر على الشدائد. ويردّ على هذا الجواب أن المنفي في أول الآية عن الإعراب نفس الإيمان الكامل ، فلا يناسب أن يكون المثبت بعد ذلك الإيمان الكامل بل نفس الإيمان.

٢٣٩

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحجرات» (١)

١ ـ في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) استعارة. وقد قرئ «لا تقدّموا» بفتح التاء والدال ، والمعنيان واحد ، والمراد بذلك لا تسبقوا أمر الله ورسوله بفعل ما لم يأمرا به ويندبا اليه. وقال أبو عبيدة : العرب تقول فلان تقدّم بين يدي الإمام أي تعجّل بالأمر والنهي دونه ، وذلك مضادّ لما وصف الله به ملائكته ، إذ يقول : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) [الأنبياء]. ومن قرأ (تُقَدِّمُوا) بضم التاء فإنما يريد به لا تقدّموا كلامكم بالحكم في الأمر قبل كلام الله سبحانه وكلام رسوله (ص) ، أي قبل الوحي النازل منه ، وقبل أداء رسوله إليكم ما أوحي به وأمر بتبليغه.

٢ ـ وفي قوله سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الآية ١٢] ، استعارة ومبناها على أصل معروف في كلام العرب ، وهو تسميتهم المغتاب بآكل لحوم الناس ، حتى قال شاعرهم (٢) :

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

 وقال حسان بن ثابت في مرثية ابنة له (٣) :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو المقنّع الكندي.

(٣). المعروف أن هذا البيت من قصيدة له في مدح عائشة.

٢٤٠