الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الفتح» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الفتح» بعد سورة «الجمعة» ، وكان نزولها في الطريق عند الانصراف من الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، فتكون من السور التي نزلت فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) وتبلغ آياتها تسعا وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة التنويه بشأن صلح الحديبية ، لأنّ قريشا سعت إليه بعد بيعة الرضوان ، فظهر ضعفها وخضوعها بعد إبائها ، وبدأ تخاذلها بعد بيعة المسلمين على الموت ، وهذا كان فتحا مبينا للمسلمين ، وتمهيدا لفتح مكة بعد ذلك في السنة الثامنة من الهجرة ؛ وبهذا وفي الله بوعده بنصرهم في السورة السابقة.

التنويه بصلح الحديبية

الآيات [١ ـ ٢٩]

قال الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) فجعل صلح الحديبية فتحا مبينا للنبي (ص) ، وقيل إنه يقصد بذلك فتح مكة ، لأن هذا الصلح كان تمهيدا لفتحها ؛ ثم ذكر سبحانه أنه هو

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠١

الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين حينما أبت قريش عليهم أن يدخلوا مكة ليؤدّوا عمرتهم ، فلم يهنوا أو لم يرتدّوا على أعقابهم ، بل وقفوا ينتظرون ما يكون بعد تبادل الرسل بينهم وبين قريش ، وقد وعدهم على هذا بما وعدهم ، وأوعد المنافقين الذين تخلفوا عنهم وظنّوا أنهم لن يرجعوا إليهم ، ثم مدح الذين بايعوا الرسول (ص) على الموت تحت شجرة الرّضوان حينما أشيع أن قريشا قتلت عثمان بن عفان ، وكان النبي (ص) قد أرسله إليها ، وذكر أن الذين بايعوه على ذلك إنما بايعوه ويد الله فوق أيديهم ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بعهده فسيؤتيه أجرا عظيما. ثم ذكر أن أولئك المتخلّفين من المنافقين سيعتذرون بأنهم اشتغلوا بأموالهم وأهليهم ، وذكر أنهم كاذبون في اعتذارهم ، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم ، ثم ذكر جلّ وعلا أنهم سيطلبون من النبي (ص) بعد أن رأوا ظهور أمره أن ينطلقوا معه إلى القتال طمعا في الغنائم ، وأمره ألّا يمكّنهم من الانطلاق معه ، وأن يبيّن لهم أن القتال طمعا في الغنائم ليس طريقا لقبول توبتهم ، وإنما طريق ذلك أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ـ ولعلهم يهود خيبر ـ فإن يطيعوا أمر الله ، سبحانه ، في قتالهم يؤتهم أجرا حسنا ، وإن يتولوا كما تولّوا من قبل يعذبهم عذابا أليما ، واستثنى منهم صاحب العذر من الأعمى والأعرج والمريض ، ثم عاد السّياق إلى أولئك الذين بايعوا تحت الشجرة فذكر أن الله جلّ جلاله رضي عنهم ، وأنه سيثيبهم فتحا قريبا هو فتح خيبر ، وهذا إلى مغانم كثيرة يأخذونها بعدها ، وقد عجّل لهم فتح خيبر بعد أن كفّ أيدي قريش عنهم بذلك الصلح ، وهناك غنيمة أخرى لم يقدروا عليها هذه المدة وهي مكة ، وقد أحاط بها بفتح ما حولها ؛ ثم ذكر أنه لو لم يعقد هذا الصلح وقاتلتهم قريش لانتصروا عليها ، كما هي سنّته في نصر أوليائه على أعدائه ، ولكنه أراد ذلك الصلح وكفّ الفريقين عن القتال من بعد أن أظهر المؤمنين عليهم ، لأنّ مكة كانت لا يزال بها فريق من المسلمين لم يهاجروا إلى المدينة ، فلو دخلها المسلمون عنوة لأصابوهم مع المشركين ، ولهذا اقتضت إرادته ذلك ، لتكتمل هجرة من بقي بمكة من المسلمين ولو تميزوا فيها من المشركين

٢٠٢

لما كفّ المسلمين عنهم ، ولعذّبهم عذابا أليما.

ثم عاد السياق إلى ذكر فضله تعالى عليهم في ذلك الصلح ، فأمرهم أن يذكروا إحسانه إليهم إذ ثارت حميّة الجاهلية في قلوب قريش وصدّوهم عن عمرتهم ، فأنزل سكينته عليهم فلم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا ، وكانوا أحق بهذا من أولئك الذين ثارت فيهم حميّة الجاهلية ؛ ثم ذكر أنه حقق بذلك الصلح رؤيا النبي (ص) أنهم دخلوا المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، لأنهم اتّفقوا فيه على أن يرجع المسلمون هذا العام ويعتمروا في العام المقبل. فعلم ، سبحانه ، من ذلك الصلح ما لم يعلموا ، وجعل من دونه فتحا قريبا (فتح خيبر) وإنما يفعل ذلك لأنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩).

٢٠٣
٢٠٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الفتح» (١)

لا يخفى وجه حسن وضعها هنا ، لأن الفتح بمعنى النصر ، مرتّب على القتال ، وقد ورد في الحديث : أنها مبينة لما يفعل بالرسول (ص) وبالمؤمنين ، بعد إيهامه في قوله تعالى في الأحقاف : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (٢) [الأحقاف / ٩] فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). هو قول ابن عبّاس رواه عنه علي بن طلحة. ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة : إنّ آية «الأحقاف» منسوخة بآية «الفتح» : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) [الآية ٢]. قالوا : ولمّا نزلت قال رجل من المسلمين : فما هو فاعل بنا؟ فنزل : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الآية ٥] انظر تفسير ابن كثير : ٧ / ٢٦٠.

٢٠٥
٢٠٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الفتح» (١)

١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) [الآية ١١] قال مجاهد : هم : جهينة ومزينة.

أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

وأخرج عن مقاتل : أنهم خمس قبائل.

٢ ـ (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الآية ١٦].

قال ابن عباس : هم فارس.

وقال سعيد بن جبير : أهل هوازن (٣) وقال الضّحّاك : ثقيف.

وقال جويبر : مسيلمة وأصحابه.

أخرجها كلّها ابن أبي حاتم (٤).

٣ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الآية ١٨].

أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي : أنه سئل كم كان أهل الشجرة عند بيعة الرّضوان؟ قال : كانوا ألفا وخمسمائة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). والطبري ٢٦ / ٤٩.

(٣). وأخرجه الطبري أيضا في «تفسيره» ٢٦ / ٥٢.

(٤). قال أبو جعفر بن جرير الطبري في «تفسيره» ٢٦ / ٥٢ : «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إنّ الله تعالى أخبر عن هؤلاء المخلّفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ونجدة في الحروب ، ولم يوضح لنا الدليل من خبر لا عقل على أن المعنيّ بذلك هوازن لا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم ولا أعيانهم ، وجائز أن يكون عني بذلك بعض هذه الأجناس ، وجائز أن يكون عني بهم غيرهم ، ولا قول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد».

٢٠٧

وخمسا وعشرين.

وأخرج البخاري عن أبي الزبير قال : قلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟ قال : كنّا زهاء ألف وخمسمائة.

وأخرج مسلم (١) عن معقل بن يسار : أنهم كانوا ألفا وأربعمائة.

وأخرج الشيخان (٢) عن ابن أبي أوفى قال : كنّا يوم الشجرة ألفا وثلاثمائة.

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث سلمة بن الأكوع : أن الشجرة سمرة (٣).

٤ ـ (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨).

قال ابن أبي ليلى : فتح خيبر (٤) وقال السّدّي : مكة.

أخرجهما ابن أبي حاتم.

٥ ـ (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) [الآية ٢١].

قال ابن أبي ليلى : فارس ، والروم.

أخرجه ابن أبي حاتم (٥).

٦ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [الآية ٢٤].

نزلت في ثمانين من أهل مكة ، هبطوا على النبي (ص) من التّنعيم (٦) ليقتلوه. أخرجه التّرمذي (٧) من حديث أنس.

__________________

(١). انظر «صحيح مسلم» كتاب الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام رقم (١٨٥٨).

(٢). البخاري (٤١٥٥) في المغازي ، باب : غزوة الحديبية ، ومسلم (١٨٥٧) في الإمارة باب : استحباب مبايعة الإمام.

وقد جمع الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» ٧ / ٤٤٠ بين الروايات بأن مع الزائد زيادة لم يطلع عليها غيره ، والزيادة من الثقة مقبولة ، أو أن الزيادة قد تكون من الأتباع الذين لحقوا بعد ، كالخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم.

(٣). سمرة : نوع من الطّلح ، صغار الورق ، قصار الشوك.

(٤). وأخرجه الطبري ٢٦ / ٥٥.

(٥). والطبري ٢٦ / ٥٧.

(٦). التّنعيم : موضع بمكة في الجبل ، وهو بين مكة وسرف ، على فرسخين من مكة

(٧). برقم (٣٢٦٠) في التفسير ، وأخرجه أيضا : مسلم في «صحيحه» في الجهاد والسّير (١٢٢).

٢٠٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الفتح» (١)

قال تعالى : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) [الآية ٩]

أي : تقوّوه بالنّصرة.

أقول : وهذا ما لا نعرفه في العربية المعاصرة.

وفي عامية العراقيين التعزير ضرب من التأنيب.

٢ ـ وقال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الآية ٢٥].

وقوله سبحانه : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي : محبوسا عن أن يباع.

أقول : وهذا معنى لا نعرفه وهو من كلم القرآن ، وكلّه فرائد.

٣ ـ وقال تعالى : (أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ٢٥].

أي : يصيبكم ما تكرهون ، ويشقّ عليكم.

والمعرّة بهذا المعنى أي : المصيبة ، وما يعتريكم من نازلة أو داهية شيء غير «المعرّة» في العربية المعاصرة التي تعني السوء والقبح.

٤ ـ وقال تعالى : (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥).

والمراد بقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، لو تفرّقوا وتميّز بعضهم من بعض : من زاله يزيله.

وقرئ : (لو تزايلوا).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٩

٥ ـ وقال تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) [الآية ٢٩].

وقوله سبحانه : (شَطْأَهُ) أي : فراخه. ويقال أشطأ الزرع إذا فرّخ.

وقوله عزوجل : (فَآزَرَهُ) من المؤازرة وهي المعاونة.

٢١٠

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الفتح» (١)

قال تعالى : (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) [الآية ٢٥] على وصدّوا (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) كراهية (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ).

وقال تعالى : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ) [الآية ٢٩] يريد «أفعله» من «الإزارة».

وقال تعالى : (أَنْ تَطَؤُهُمْ) [الآية ٢٥] على البدل «لو لا رجال أن تطئوهم».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢١١
٢١٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الفتح» (١)

إن قيل : لم جعل فتح مكة علة للمغفرة ، فقال تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١) (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ)؟

قلنا : لم يجعله علة للمغفرة بل لاجتماع ما وعده من الأمور الأربعة ، وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز. وقبل الفتح لم يكن إتمام النعمة والنصر العزيز حاصلا ، وإن كان الباقي حاصلا. ويجوز أن يكون فتح مكة سببا للمغفرة من حيث هو جهاد للعدو.

فإن قيل : قوله تعالى : (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الآية ٢] إن كان المراد بما تأخّر ذنبا يتأخّر وجوده عن الخطاب بهذه الآية فهو معدوم عند نزولها ، فكيف يغفر الذنب المعدوم ، وإن كان المراد به ذنبا وجد قبل نزولها فهو متقدم فلم سماه متأخرا؟

قلنا : المراد بما تقدم قصة مارية ، وبما تأخر قصة امرأة زيد. وقيل المراد بما تقدم ما وجد منه ، وبما تأخّر ما لم يوجد منه على معنى أنه موعود بمغفرته على تقدير وجوده ، أو على طريق المبالغة كقولهم : فلان يضرب من يلقاه ومن لا يلقاه ؛ بمعنى يضرب كل أحد ، فكذا هنا معناه ليغفر لك الله كل ذنب : فالحاصل أن الذنب المتأخّر متقدّم على نزول الآية ، وإن كان متأخّرا بالنسبة إلى شيء آخر قبله ، أو متأخّرا عن نزولها وهو موعود بمغفرته ، أو على طريق المبالغة كما بيّنا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٣

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) وهو مهديّ إلى الصراط المستقيم ، ومهديّة به أمته أيضا.

قلنا : معناه ويزيدك هدى ؛ وقيل ويثبّتك على الهدى ، وقيل معناه ويهديك صراطا مستقيما في كل أمر تحاوله.

فإن قيل : كيف يقال إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ، وقد قال الله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الآية ٤]

قلنا : الإيمان الذي يقال إنه لا يقبل الزيادة والنقصان هو الإقرار بوجود الله تعالى ، كما أن إلهيته سبحانه ، لا تقبل الزيادة والنقصان ؛ فأما الإيمان بمعنى الأمن أو اليقين أو التصديق فإنّه يقبلهما ؛ وهو في الآية بمعنى التصديق ، لأنهم بسبب السكينة التي هي الطمأنينة وبرد اليقين كلما نزلت فريضة وشريعة صدّقوا بها فازدادوا تصديقا مع تصديقهم.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَأَهْلَها) [الآية ٢٦] بعد قوله جلّ وعلا (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) [الآية ٢٦]؟

قلنا الضمير في «بها» لكلمة التوحيد ، وفي «أهلها» للتقوى فلا تكرار.

فإن قيل : ما وجه تعليق الدخول بمشيئة الله تعالى في أخباره سبحانه وتعالى ، حتّى قال : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الآية ٢٧].

قلنا : فيه وجوه : أحدها أن «إن» بمعنى إذ ، كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٧٨) [البقرة]. الثاني : أنه استثناء من الله تعالى فيما يعلم تعليما لعباده أن يستثنوا فيما لا يعلمون. الثالث : أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي (ص) فإنه رأى أن قائلا يقول له (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الآية ٢٧]. الرابع : أن الاستثناء متعلق بقوله تعالى (آمِنِينَ) [الآية ٢٧]. فأما الدخول فليس فيه تعليق.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (لا تَخافُونَ) [الآية ٢٧] بعد قوله سبحانه : (آمِنِينَ) [الآية ٢٧]؟

قلنا : معناه آمنين في حال الدّخول ، لا تخافون عدوكم أن يخرجكم منه في المستقبل.

٢١٤

فإن قيل : قوله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الآية ٢٩] تعليل لأي شيء؟

قلنا : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوّتهم ، كأنه قال : إنما كثّرهم وقوّاهم ليغيظ بهم الكفار.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) ، وكل أصحاب النبي (ص) موصوفون بالإيمان والعمل الصالح وبغيرهما من الصفات الحميدة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية ، فما معنى التبعيض هنا؟

قلنا : «من» هنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، كما في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج / ٣٠].

٢١٥
٢١٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الفتح» (١)

١ ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الآية ١٠]. استعارة ، واليد هاهنا تعرف على وجوه : أحدها أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم. وقيل المراد قوّة الله تعالى في نصرة نبيه (ص) فوق قوّة نصرتهم. وقيل اليد هاهنا بمعنى السلطان والقدرة كما يقول القائل فلان تحت يد فلان أي تحت سلطانه وأمره. فيكون المعنى أنّ سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم ، وأمره فوق أمرهم. وقيل في ذلك وجه آخر ، وهو أن العادة جارية في المبايعات والمعاقدات أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري. ومن هناك قالوا صفقة رابحة وصفقة خاسرة ، فقيل : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ذهابا إلى هذا المعنى ، كأنه سبحانه قال : فالذي أعطاكم الله ، في هذه المبايعة ، أعلى ممّا أعطيتم وأجلّ وأربح وأفضل.

٢ ـ وفي قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الآية ٢٩] استعارة لأنه شبّه أصحاب النبي (ص) في تضافرهم وتآزرهم واشتدادهم وأضدادهم (٢) بالزرع الملتفّ المتكاثف الذي يقوّى بعضه ببعض ويستند بعضه إلى بعض. وشطأ الزّرع خرجت أفرخه التي تنبت الى أصوله. ويقال شطأه ممدود ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). كذا في النسخة ، ونظنّ أن الأصل واحتشادهم.

٢١٧

ويقال : قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا أفرخ. ومعنى آزره أي صار فراخ الزرع له أزرا وقوّة ودعاما ومسكة. وقيل : شطأه سنبله فيكون المراد هو آزره حب السّنبل بعضه لبعض ، حتى تشتد كل حبة بأختها. والتأويلان متقاربان وقوله تعالى : (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) ، أي قوي وغلظ واستقام على نصبه ، كما يا قوم القائم على ساقه ، ويعتمد على قدمه وهذه استعارة أخرى.

٢١٨

سورة الحجرات

٤٩

٢١٩
٢٢٠