الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الرابع

مكنونات سورة «محمّد» (ص) (١)

١ ـ (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (٣٨) [الآية ٣٨].

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) تلا هذه الآية : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨).

فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ، ثم قال : «هذا وقومه ، ولو كان الدّين عند الثريّا لتناوله الرجال من الفرس» (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). أخرج البخاري في «صحيحه» (٤٨٩٧) في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «كنا جلوسا عند النبي (ص) فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة / ٣] قال : قلت : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا ـ وفينا سلمان الفارسي (رض) ، وضع رسول الله (ص) يده على سلمان ـ ثم قال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال ـ أو رجل ـ من هؤلاء».

وفي رواية لمسلم : «لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس حتى يتناولوه».

وقد أطنب أبو نعيم في أول «تاريخ أصبهان» في تخريج طرق هذا الحديث.

١٨١
١٨٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «محمّد» (ص) (١)

١ ـ وقال تعالى : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥) ، ومدّ لهم في الآمال والأماني ، يعني أن الشيطان يغويهم.

وقرئ : (وأملي لهم) على البناء للمفعول ، أي : أمهلوا ومدّ في عمرهم.

٢ ـ وقال تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠).

وقوله تعالى : (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ). أي : في نحوه وأسلوبه ، وقيل : واللّحن أن تميل الكلام إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك ، كالتعريض والتورية ، كقول الشاعر :

ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا

واللّحن يعرفه ذوو الألباب

٣ ـ وقال تعالى : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥).

وهو من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم. وحقيقته : أفردته من قريبه أو ماله ، من الوتر وهو الفرد ، فشبّه إضاعة عمل العامل ، وتعطيل ثوابه بوتر الواتر ، وهو من فصيح الكلام.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٨٣
١٨٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «محمّد» (ص) (١)

قال تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨) [الآية ١٨] أي : فإنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.

وقال سبحانه : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [الآية ٢٢] فإنّ الأوّل للمجازاة ، وأوقعت (عَسَيْتُمْ) على (أَنْ تُفْسِدُوا) لأنه اسم ، ولا يكون أن تعمل فيه (عسيتم) ولا «عسيت» إلّا وفيه «أن» لا تقول «عسيتم الفعل» كما أنّ قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» فقولك (٢) «أنّ زيدا جاء» اسم ، وأنت لا تقول : «لو ذاك» لأنه لا تقع الأسماء كلّها في كل موضع ؛ ولا تقع الأفعال كلها على كل الأسماء ، ألا ترى أنهم يقولون «يدع» ولا يقولون «ودع» ويقولون «يذر» ولا يقولون «وذر».

وقال تعالى : (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) أي : في أعمالكم ، كما تقول : «دخلت البيت» وأنت تريد «في البيت».

وقال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) [الآية ٣٨] بجعل التنبيه في موضعين للتوكيد ، وكان التنبيه الذي في «هؤلاء» تنبيها لازما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). عبارة المؤلف غير منسقة. وكان ينبغي لها أن تكون : كما أن قولك «أنّ زيدا جاء» في قولك «لو أنّ زيدا جاء كان خيرا له» اسم.

١٨٥
١٨٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «محمّد» (ص) (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣) ولم يسبق ضرب مثل؟

قلنا : معناه كذلك يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين ، وقيل أراد به أنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفّار ، واتّباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو أنه جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفّار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين.

فإن قيل : لم قال تعالى في حق الشهداء بعد ما قتلوا في سبيل الله : (سَيَهْدِيهِمْ) [الآية ٥] والهداية إنما تكون قبل الموت لا بعده؟

قلنا : معناه سيهديهم إلى محاجّة منكر ونكير. وقيل سيهديهم يوم القيامة إلى طريق الجنة.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ) [الآية ١٥]. إلى قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) [الآية ١٥]؟

قلنا : قال الفرّاء : معناه أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار. وقال غيره تقديره : مثل الجنة الموصوفة كمثل جزاء من هو خالد في النار ، فحذف منه ذلك إيجازا واختصارا.

فإن قيل : لم قال تبارك وتعالى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٨٧

للنبي (ص) (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (١٩) [الآية ١٩] وهو عالم بذلك قبل أن يوحى إليه ، وبعد الوحي؟

قلنا : معناه اثبت على ذلك العلم ، وقال الزّجّاج : الخطاب له (ص) ، والمراد أمّته كما ذكرنا في أوّل سورة الأحزاب.

١٨٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «محمّد» (ص) (١)

١ ـ في قوله سبحانه : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [الآية ٤] استعارة. والمراد بالأوزار هاهنا الأثقال ، وهي آلة الحرب وعتادها من الدروع والمغافر والرّماح والمناصل وما يجري هذا المجرى : لأنّ جميع ذلك ثقل على حامله ، وشاقّ على مستعمله. وعلى هذا قول الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

ومن نسج داوود موضونة (٢)

تساق مع الحيّ عيرا فعيرا

والمراد بذلك في الظاهر الحرب ؛ وفي المعنى أهل الحرب ، لأنهم الذين يصح وصفهم بحمل الأثقال ووضعها ، ولبس الأسلحة ونزعها.

٢ ـ وفي قوله سبحانه : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١) استعارة : لأن العزم لا يوصف بحقيقته إلّا الإنسان المميّز الذي يوطّن النفس على فعل الأمر قبل وقته عقدا بالمشيئة على فعله ، فيصحّ أن يسمّى عازما عليه ، وإنما قال تعالى : (عَزَمَ الْأَمْرُ) مجازا أي قويت العزائم على فعله ، فصار كالعازم في نفسه. وقال بعضهم معنى عزم الأمر أي جدّ الأمر ، ومنه قول النابغة الذّبياني :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). من وضن : الدرع المقاربة النسج ، أو المنسوجة بالجواهر.

١٨٩

حيّاك ودّ فإنا لا يحلّ لنا لهو النساء لأنّ الدّين قد عزما أي استحكم وجدّ وقوي واشتدّ.

٣ ـ وفي قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) استعارة. والمراد أن قلوبهم كالأبواب المقفلة لا تنفتح لوعظ واعظ ، ولا يلج فيها عذل عاذل. وفي لغة العرب أن يقول القائل ، إذا وصف نفسه بضيق الصدر وتشعّب الفكر : قلبي مقفل ، وصدري ضيّق. وإذا وصف غيره بضدّ هذه الصفات ، قال : انفتح قلبه وانفسح صدره ؛ وقد يجوز أن يكون المعنى أنّ أسماعهم لا تعي قولا ولا تسمع عذلا ؛ وإنما شبّهت الأسماع بالأقفال على القلوب لأنها أبواب عليها. فإذا عرضت على الأسماع كانت كالأقفال الموثقة والأبواب المغلقة.

٤ ـ وفي قوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) ، استعارة : ومعناها مأخوذ من الوتر ، وهو ما ينقصه الإنسان من مال أو دم وما أشبههما ظلما ، فيكسبه ذلك عداوة لفاعله وإرصادا بالمكروه لمستعمليه ، فكأنّه تعالى قال : «ولن ينقصكم ثواب أعمالكم ، أو لن يظلمكم في الجزاء على أعمالكم ؛ فيكون بمنزلة من أودعكم ترة وأطلبكم طائلة». وقال الأخفش عن قوله تعالى (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) : أي في أعمالكم ، كما نقول دخلت البيت ، والمراد دخلت في البيت.

١٩٠

سورة الفتح

٤٨

١٩١
١٩٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الفتح» (١)

سورة «الفتح» سورة مدنية ، نزلت في الطريق بين مكة والمدينة عند الانصراف من الحديبية ، وآياتها ٢٩ آية ، نزلت بعد سورة الجمعة.

ونلمح ، في بداية السورة ، فضل الله تعالى على النبي (ص) وصحبه ، وآثار نعمائه ، جلّ وعلا ، على المسلمين.

وقد سبقتها ، في ترتيب المصحف ، سورة «محمد» التي وصفت ظلم المشركين والمنافقين ، وحرّضت المسلمين على الجهاد ، وحذرتهم من الخنوع والبعد عن طاعة الله.

وقد نزلت سورة «محمد» في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة. أما سورة «الفتح» ، فقد نزلت في العام السادس من الهجرة ، وكان عود المسلمين قد اشتد ، وقوتهم قد زادت ، وظهر أثر ذلك في بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على التضحية والفداء.

صلح الحديبية

رأى رسول الله (ص) في منامه ذات ليلة أنّه دخل المسجد الحرام في أصحابه ، آمنين محلّقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون عدوّا ، فاستبشر بذلك وأخبر أصحابه ، فاستبشروا وفرحوا واستعدّوا لزيارة البيت الحرام معتمرين. «وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، خرج النبي (ص) معتمرا لا يريد حربا ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٩٣

معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدّوه عن البيت. وتخلّف كثير من الأعراب عن مرافقته ظنا أن الحرب لا بدّ واقعة بينه وبين قريش ، فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق بهم من العرب ، وساق معه الهدي سبعين بدنة. وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلموا أنه إنّما خرج زائرا للبيت ومعظّما له».

واستخلف رسول الله على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ، وأخذ معه من نسائه أمّ سلمة ، وسار معه ألف وخمسمائة من المسلمين معتمرين ، وسيوفهم مغمدة في قربها ، فلمّا أصبحوا على مسيرة مرحلتين من مكة لقي النبي (ص) بشر بن سفيان فأنبأه نبأ قريش قائلا :

«يا رسول الله ، هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا عازمين على طول الإقامة وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا».

فقال رسول الله (ص) : «يا ويح قريش ، قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين؟ والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد مني هذه السالفة».

وكان النبي (ص) حريصا على أن يتجنب الحرب مع قريش لأنه خرج متنسّكا معظّما للبيت لا للحرب.

وأرسلت قريش مندوبين عنها فأعلمهم النبي أنه لم يأت محاربا ، وإنما جاء معتمرا معظما للبيت.

وأرسل النبي (ص) عثمان بن عفان الى أهل مكة ليخبرهم بمقصد المسلمين فقال لهم : إنّا لم نأت لقتل أحد ، وإنّا جئنا زوّارا لهذا البيت ، معظّمين لحرمته. ولا نريد إلّا العمرة ، فأبت قريش أن يدخل النبي وصحبه مكة ، وأذنت قريش لعثمان أن يطوف بالبيت فقال : «لا أطوف ورسول الله ممنوع» ، فاحتبست قريش عثمان ، فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال (ص) حينما سمع ذلك : «لا نبرح حتّى نناجزهم الحرب».

بيعة الرضوان

دعا النبي الناس للبيعة على القتال فبايعوه على الموت ، تحت شجرة

١٩٤

هناك سميت «شجرة الرّضوان». وقد بارك الله هذه البيعة ، وأعلن رضاه عن أهلها فقال سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الآية ١٨].

شروط الصلح

علمت قريش بخبر هذه البيعة ، فاشتدّ خوفها ، وقويت رغبتها في الصلح ، وأرسلت سهيل بن عمرو ليفاوض المسلمين بشأن الصلح ، وتوصل الطرفان الى معاهدة مشتركة سميت بصلح الحديبية ؛ وأهم شروط هذا الصلح ما يأتي :

١ ـ وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين.

٢ ـ من جاء الى محمد من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون بردّه.

٣ ـ من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.

٤ ـ أن يرجع النبي من غير عمرة هذا العام ، ثم يأتي في العام المقبل فيدخل مكة بأصحابه ، ويقيموا بها ثلاثة أيام ، ليس معهم من السلاح إلّا السيف في القراب.

وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض من بعض كبار المسلمين ، لأنهم جاءوا للطواف بالبيت فمنعوا من ذلك ، وهم في حال قوة واستعداد لمحاربة قريش. كما أنّ شروط الصلح أثارت غضب المسلمين ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، ألست برسول الله؟ فقال بلى ، قال عمر : ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى ، قال فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ فقال رسول الله (ص) : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني».

ولكن أبا بكر كان أكثر الناس وثوقا بما اختاره النبي ، وبأن الحكمة والخيرة في اختياره.

ثم وقّع الطرفان على الصلح. وبعد ذلك توافدت قبيلة خزاعة فدخلت في عهد رسول الله ؛ وتوافدت قبيلة بكر فدخلت في حلف قريش. وقد كان لهذا الصلح أكبر الأثر في سير الدعوة الإسلامية. فقد اعترفت قريش بالمسلمين ، كما سمحت لهم بدخول مكة في العام القادم. ولما دخلوا مكة ، شاهدهم أهلها ، وسمعوا لقولهم ، ورأوا عبادتهم ، فتفتّحت قلوبهم

١٩٥

للإسلام ، وقد فتحت مكة بعد عمرة القضاء بسنة واحدة. إذ كان صلح الحديبية سنة ٦ ه‍ وعمرة القضاء سنة ٧ ه‍ ، وفتح مكة سنة ٨ ه‍. كما أن هذا الصلح يسّر للمسلمين نشر الدعوة ، وشرح الفكرة ، ودعوة الناس الى الإسلام ، ومكاتبة الرسل والملوك.

الأحداث وسورة «الفتح»

نزلت سورة «الفتح» في أعقاب صلح الحديبية ، فباركت السورة هذا الصلح وجعلته فتحا مبينا ؛ وبشرت النبي (ص) بالمغفرة والنصر وإتمام النعمة. وقد فرح النبي الكريم بهذه السورة فرحا شديدا (انظر الآيات ١ ـ ٣). واشتملت السورة على بيان فضل الله سبحانه على المسلمين حين أنزل السكينة والأمان والرضا في قلوبهم ، كما اعترفت السورة للمؤمنين بزيادة الإيمان ورسوخه ، وبشّرتهم بالمغفرة والثواب.

وتوعّدت السورة المنافقين والكفار بالعذاب والنكال (انظر الآيات ٤ ـ ٦). ثم نوّهت ببيعة الرضوان واعتبارها بيعة الله ، وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم من هذا الطريق بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت [الآية ١٠].

وبمناسبة البيعة والنكث ، التفت السياق الى الأعراب الذين تخلّفوا عن الخروج ، ليفضح معاذيرهم ، ويكشف ما جال في خاطرهم من سوء الظن بالله ، ومن توقع السوء للرسول ومن معه ، والتفت السياق ، أيضا ، إلى توجيه الله تعالى الرسول (ص) الى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل ، وذلك بأسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلّفين كما يوحي بأن هناك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلّفين المتباطئين [انظر الآيات ١١ ـ ١٧].

الله يبارك بيعة الرضوان

كان الربع الثاني من سورة الفتح تمجيدا لهؤلاء الصفوة من الرجال ، وتسجيلا لرضوان الله عليهم حين بايعوا رسول الله (ص) تحت الشجرة ، والله عزوجل حاضر هذه البيعة وشاهدها وموثقها ، ويده فوق أيديهم فيها ، تلك المجموعة التي حظيت بتلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الالهي : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ

١٩٦

تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨).

تلك المجموعة التي سمعت رسول الله (ص) يقول لها عند البيعة. «أنتم اليوم خير أهل الأرض».

تبدأ الآيات [١٨ ـ ٢٩] بحديث من الله سبحانه وتعالى الى رسول الله (ص) عن هؤلاء الصّفوة الذين بايعوا تحت الشجرة ، ثم بحديث مع هؤلاء الصفوة يبشّرهم بما أعدّ لهم من مغانم كثيرة وفتوح ، وبما أحاطهم به من رعاية وحماية في هذه الرحلة وفيما سيتلوها ، ويندد بأعدائهم الذين كفروا تنديدا شديدا ، ويكشف لهم عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام ، ويؤكد لهم صدق الرؤيا التي رآها رسول الله (ص) عن دخول المسجد الحرام ، وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون ، وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض بأسرها.

ظهور الإسلام

لقد صدقت رؤيا رسول الله (ص) ، وتحقّق وعد الله للمسلمين بدخول المسجد الحرام آمنين ، ثم كان الفتح في العام الذي يليه ، وظهر دين الله في مكة ، ثم ظهر في الجزيرة كلها بعد ذلك ، ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة حيث يقول : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨). فلقد ظهر دين الحق ، لا في الجزيرة وحدها ، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها ، قبل مضي نصف قرن من الزمان. ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية (أندونيسيا) ... وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي.

وما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله ، حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها ، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض ، وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس الى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان.

أجل ، ما يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله من حيث هو دين ، فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ،

١٩٧

الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ، لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ومع نواميس الوجود الاصلية ، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الاكواخ الى ناطحات السحاب ؛ وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجرّدة من التعصب والهوى من غير أن يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة.

وصف الصحابة

في ختام سورة الفتح نجد صورة مشرقة للنبي الكريم وصحبه الأبرار ، فهم أقوياء في الحق ، أشدّاء على الكفار ، رحماء بينهم ؛ وهم في الباطن أقوياء في العقيدة ، يملأ صدورهم اليقين ؛ فتراهم ركّعا سجّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

وقد ظهر نور الإيمان عليهم في سمتهم وسحنتهم وسماتهم. سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية. هذه الصورة الوضيئة ثابتة لهم في لوحة القدر ، فقد وردت صفتهم في التوراة التي أنزلها الله سبحانه ، على موسى (ع).

أما صفتهم في الإنجيل فهي صورة زرع نام قوي ، يخرج فروعه بجواره ، وهذه الفروع تشدّ أزره ، وتساعده حتى يصبح الزرع ضخما مستقيما قويّا سويّا ، يبعث في النفوس البهجة والإعجاب.

قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩).

مقاصد السورة الاجمالية

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة «الفتح» ما يأتي :

«وعد الله الرسول (ص) بالفتح والغفران ، وإنزال السكينة على أهل الايمان ، وإيعاد المنافقين بعذاب

١٩٨

الجحيم ؛ ووعد المؤمنين بنعيم الجنان ، والثناء على سيّد المرسلين ، وذكر العهد وبيعة الرضوان ، وذكر ما للمنافقين من الخذلان ، وبيان عذر المعذورين ، والمنّة على الصحابة بالنصر ، وصدق رؤيا سيد المرسلين ، وتمثيل حال النبي والصحابة بالزرع والزرّاع في البهجة والنضارة وحسن الشأن».

روى مسلم عن أنس عن ابن عبّاس رضي الله عنه ، قال : «لما نزلت سورة «الفتح» قال رسول الله (ص) لقد أنزل عليّ سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها».

١٩٩
٢٠٠