الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

١

سورة غافر

٤٠

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «غافر» (١)

سورة «غافر» سورة مكية ، نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وآياتها ٨٥ آية نزلت بعد سورة «الزمر».

أربعة أسماء : تسمى هذه السورة سورة «غافر» ، لقوله تعالى في أوّلها : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [الآية ٣].

وتسمى سورة «المؤمن» لاشتمالها على حديث مؤمن آل فرعون «واسمه خربيل» في قوله تعالى :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [الآية ٢٨].

وسورة «الطّول» ، لقوله تعالى :

(ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣).

وتسمى «حم الأولى» لأنها السورة الأولى في الحواميم.

روح السورة

الروح الساري في سورة «غافر» هو الصراع الدائر بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والدعوة والتكذيب ، وأخيرا قضية العلو في الأرض والتجبّر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخذ المتجبّرين. وفي ثنايا أهداف السورة الأصلية نجد أنها تلمّ بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ، ونضر الله إيّاهم ، واستغفار الملائكة لهم ، واستجابة الله

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

وجو السورة كله ، من ثمّ ، كأنه جو معركة ، وهي المعركة بين الإيمان والطغيان ، بين الهدى والضلال ، بين المتكبرين المتجبّرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. وتتنسّم ، خلال هذا الجو ، نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين.

ويتمثّل روح السورة في عرض مصارع الغابرين ، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة ، وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر ، وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة. ومنذ بداية السورة إلى نهايتها نجد آيات تلمس القلب ، وتهزّ الوجدان ، وتعصف بكيان المكذّبين ، وقد ترقّ آيات السورة فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق ، وهي تعرض صفات الله تعالى ، غافر الذنب وقابل التوب ، ثم تصف حملة العرش ، وهم يدعون ربّهم ليتكرّم على عباده المؤمنين ؛ ثم تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.

موضوعات السورة

يمكننا أن نقسم سورة غافر بحسب موضوعاتها إلى أربعة فصول :

الفصل الأول :

صفات الله

تبدأ الآيات ، من ٤ إلى ٢٠ ، بعرض افتتاحية السورة ، وبيان أن الكتاب منزّل من عند الله سبحانه.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) للمؤمنين التائبين ، وهو : (شَدِيدِ الْعِقابِ) للعصاة المذنبين.

ثم تقرر أن الوجود كلّه مسلّم مستسلم لله جلّ وعلا ، وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذّون عن سائر الوجود بهذا الجدال ، ومن ثمّ فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله (ص) ، مهما تقلّبوا في الخير والمتاع ، فإنّما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذّبين قبلهم وقد أخذهم الله أخذا ، بعقاب يستحق العجب والإعجاب ، ومع الأخذ في الدنيا ، فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربّهم ، ويتوجهون

٤

إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح. وفي الوقت ذاته تعرض مشهد الكافرين وهم ينادون :

(لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) (١٠).

وهم في موقف المذلة والانكسار يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ، ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة ، يعود السياق ليعرض أمام الناس مظاهر أنعم الله عليهم ، ليأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان بالله.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥).

ويعرض السياق مشهد ذلك اليوم في صورة حية مؤثرة : فقد برز الجميع أمام الله جلّ وعلا ، العالم بالظواهر والبواطن ؛ وفي المشهد تبلغ الروح الحلقوم ، وتذهب صولة الظالمين والطغاة ، فلا يجدون حميما ولا شفيعا يطاع في شفاعته ؛ لقد أصبح الملك والأمر والقضاء لله الواحد القهار.

الفصل الثاني :

رجل مؤمن يجاهد بالكلمة

يستغرق الفصل الثاني الآيات [٢١ ـ ٥٥].

ويبدأ بلفت المشركين إلى ما أصاب المكذّبين قبلهم ؛ ثم يعرض ، من قصة موسى (ع) مع فرعون وهامان وقارون ، جانبا يمثل موقف الطغاة من دعوة الحق ، ويعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة ، وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، يدافع عن موسى (ع) ، ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطّف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية ، ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه القوية الناصعة ، ويحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ، ويذكّرهم بموقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف (ع) ورسالته ؛ ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة فإذا هم هناك ، وإذا هم

٥

يتحاجّون في النار ، وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنّم يطلبون فيه الخلاص ، ولات حين خلاص ؛ وفي ظل هذا المشهد يوضح الحق سبحانه أن العاقبة للمرسلين في الدنيا ويوم القيامة ، فقد نصر الله موسى رغم جبروت فرعون ؛ ثم يدعو الرسول الأمين إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق ، والتوجه إلى الله بالتسبيح والحمد والاستغفار.

الفصل الثالث :

الترغيب والترهيب

يستغرق الفصل الثالث من الآية [٥٦ ـ ٧٧] ويبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر ؛ ويوجّه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله جلت قدرته ؛ وهذا الوجود أكبر من الناس جميعا ، لعلّ المتكبّرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله ، وتتفتّح بصيرتهم فلا يكونون عميا :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) (٥٨).

ويذكّر هذا الفصل الناس بمجيء الساعة ، ثم يفتح الباب أمامهم إلى دعاء الله سبحانه والاستجابة لأمره ؛ ويبيّن لهم أنّ الذين يستكبرون عن عبادته تعالى سيدخلون جهنّم أذلاء صاغرين. ويعرض هذا القسم في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين ، يعرض عليهم الليل وقد جعله الله سكنا ، والنهار مبصرا ، والأرض قرارا والسماء بناء ، ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم ، ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. وفي هذا القسم عينه ، يأمر الله تعالى رسوله (ص) أن يبرأ من عبادة الذين يدعون من دون الله سبحانه ، وأن يعلن إسلامه لرب العالمين ؛ ثم يؤكّد السياق أنّ الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة ، وهو الذي يحيي ويميت. ثم يلفت الحقّ تعالى رسوله (ص) إلى أمر الذين يجادلون في الله ، وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف ، تعلق فيه الأغلال في أعناقهم ، ويسحبون في الحميم ، ويحرقون في النار جزاء كفرهم

٦

وشركهم بالله ؛ وفي ضوء هذا المشهد يوجّه الله رسوله إلى الصبر والثقة بأن وعد الله حق ، سواء أأبقاه حتى يشهد ما يعدهم ، أم توفاه قبل أن يراه ، فسيتحقق الوعد هناك.

الفصل الرابع :

نهاية الظالمين

يشتمل الفصل الرابع على الآيات الأخيرة من السورة [٧٨ ـ ٨٥] ، ويذكر أن الله أرسل رسلا وأنبياء كثيرين لهداية الناس ، منهم من ذكر في القرآن ، ومنهم من لم يذكر :

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) [الآية ٧٨] ، وأن يقدم معجزة لقومه : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [الآية ٧٨].

على أن في الكون آيات قائمة وبين أيديهم آيات قريبة ، ولكنهم يغفلون عن تدبّرها ... هذه الأنعام المسخّرة لهم من سخّرها؟ وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها؟ ومصارع الغابرين ، ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟! وتختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين وهم يرون بأس الله فيؤمنون ، حيث لا ينفعهم الإيمان : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥).

٧
٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «غافر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «غافر» بعد سورة «الزّمر» ، وقد نزلت سورة «الزمر» بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «غافر» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [الآية ٣] وتبلغ آياتها خمسا وثمانين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة كالغرض من السورة السابقة ، وهو الحث على إخلاص العبادة لله. ولهذا ذكرت بعدها ، والفرق بينهما في ذلك أنّ المشركين أخذوا في السورة السابقة بطريق الدليل على فساد اعتقادهم في شفعائهم ، وإن جاء فيه شيء من الترغيب والترهيب ، وأخذوا في هذه السورة بطريق الترغيب والترهيب ، وإن جاء فيه شيء من الطريق الأول.

التمهيد بالترهيب والترغيب

الآيات [١ ـ ١٢]

قال الله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢) فذكر ، سبحانه ، من صفاته أنه عزيز عليم يغفر الذنب ويقبل التوب ، ويأخذ بالعقاب الشديد ، وإليه المصير. وذكر أنه لا يجادل في ذلك إلا الذين كفروا به ، ونهى النبي (ص) أن يغترّ في ذلك

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩

بما اغترّوا به من تقلّبهم في البلاد ، فقد سبقهم إلى هذا الغرور من كان أشدّ منهم من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ، فكذّبوا رسلهم وهمّوا بهم ليأخذوهم فأخذهم الله بعقابه وأهلكهم. ثم شرع السياق في الترغيب بعد الترهيب ، وذلك بالتذكير أن الملائكة يستغفرون لمن آمن به جلّ وعلا ، ويطلبون منه أن يدخلهم ما وعدهم به من جناته. ثم عاد السياق إلى ترهيب الكافرين بعذاب الآخرة بعد ترهيبهم بعذاب الدنيا ، إلى قوله تعالى في بيان السّبب : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (١٢).

الأمر بإخلاص العبادة لله

الآيات [١٣ ـ ٥٤]

ثم قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) (١٣) فذكر الدليل على تفرّده بالألوهية ، وأمر بإخلاص العبادة له ، ثم وصف نفسه ، جلّ وعلا ، بأنه رفيع الدرجات يختار لرسالته من يشاء لينذر يوم التّلاقي. ومضى في ترهيبهم بهذا اليوم إلى أن ذكر أنه ليس للظالمين فيه حميم ولا شفيع ممّا يعدّونه من دونه ، وأنه هو الذي يقضي فيه بالحق ، والذين يعبدون من دونه لا يقضون بشيء. ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل لمن كفر قبلهم ، وكانوا أشدّ منهم قوّة وآثارا في الأرض فلم تغن عنهم قوّتهم شيئا ولا آلهتهم ؛ وذكر من أخبار هؤلاء الكفّار خبر فرعون وهامان وقارون مع موسى. وتمتاز قصتهم هنا بتفصيل ما كان فيها من مؤمن آل فرعون ، إلى أن ذكر ما حاق بهم من سوء العذاب في دنياهم وأخراهم. وختم ذلك بما كان من نصر موسى وقومه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥٤).

ختم السورة

بالترهيب والترغيب

الآيات [٥٥ ـ ٨٥]

ثم قال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٥٥) فأمر النبي (ص) بالصبر على هؤلاء المشركين المغترين بدنياهم ، ووعده

١٠

بالنصر عليهم ، كما نصر موسى وقومه على فرعون وهامان وقارون ؛ وذكر سبحانه أن الذي يحملهم على الجدال في آياته بغير دليل تكبّرهم أن يكونوا مرؤوسين ، وما هم ببالغي ما يريدون من ذلك ، فلا بدّ من تحقّق وعد الله عليهم ، ومهما بلغوا فإنهم لا يعجزون الذي خلق السماوات والأرض ؛ وخلق ذلك أكبر من خلق الناس. ثم ذكر سبحانه ، أنه لا يستوي أمر المؤمنين وأولئك المتكبّرين ، وأن الساعة التي يفصل فيها بين الفريقين آتية لا ريب فيها ؛ وأمر المؤمنين أن يستمرّوا على الإخلاص في عبادته ليستجيب لهم ، ويقيهم ممّا أعدّه لمن يستكبر عن عبادته. ثمّ ذكر ممّا يوجب عبادته عليهم أنه ، جلّ وعلا ، هو الذي جعل لهم الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ، إلى غير هذا مما ذكره من الآيات الدّالّة على قدرته وعظمته وتفضّله وإنعامه. ثم بيّن السّياق العجب ، بعد هذا ، من أولئك المتكبّرين الذين يجادلون في آيات الله. ومضى في تهديدهم على ذلك إلى قوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٦).

ثم أمر تعالى النبي (ص) بالصبر ووعده بالنصر عليهم ، وذكر أنه سيريه في الدنيا بعض الذي يعدهم ، ثمّ يرجعهم إليه فينتقم منهم أشدّ انتقام ، ولكلّ من ذلك أجل يأتي فيه ، وشأنه في ذلك شأن الرسل قبله ، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمره حلّ وعده عليهم. وفي سياق ترغيبهم وترهيبهم ذكر تعالى أنه هو الذي جعل لهم الأنعام لركوبهم وأكلهم ، إلى غير هذا مما ذكره من نعمه عليهم ، ثم أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا عاقبة الذين كفروا من قبلهم ، وقد اغترّوا بقوّتهم فاستهزأوا برسلهم وفرحوا بما عندهم من العلم ، فلمّا أخذهم الله بعذابه قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥).

١١
١٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «غافر» (١)

أقول : وجه إيلاء الحواميم السبع (٢) سورة «الزمر» : تآخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف أبيّ بن كعب : أول الزمر (حم) وتلك مناسبة جليلة.

ثم إنّ الحواميم ترتّبت لاشتراكها في الافتتاح ب (حم) ، وبذكر الكتاب بعد (حم) ، وأنها مكية ، بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة.

وفيها شبه من ترتيب ذوات (الر) الست (٣).

فانظر إلى ثانية الحواميم ، وهي «فصّلت» ، كيف شابهت ثانية ذوات (الر) ، أي «هود» في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب. في «هود» : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) (١) [الآية ١] ، وفي فصّلت : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) [الآية ٣]. وفي سائر ذوات (الر) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) (٤) ، وفي سائر الحواميم : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أو (وَالْكِتابِ) (٥).

وروينا عن جابر بن زيد وابن عباس في ترتيب نزول السور : أن الحواميم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). الحواميم السبع هي : غافر ، وفصلت والشورى ، والزخرف ، والدخان ، والجاثية ، والأحقاف.

(٣). ذوات (الر) الست هي يونس ، وهود ، ويوسف ، والرعد ، (وأولها : المر) وابراهيم ، والحجر.

(٤). ولكن في إبراهيم (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ*) [الآية ١].

(٥). ولكن في فصّلت : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) ، وفي الشورى (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ) [الآية ٣].

١٣

نزلت عقب «الزمر» ، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف : «المؤمن» ، ثم «السجدة» ، ثم «الشورى» ، ثم «الزخرف» ، ثم «الدخان» ، ثم «الجاثية» ، ثم «الأحقاف». ولم يتخلّلها نزول غيرها. وتلك مناسبة جليّة واضحة في وضعها هذا.

ثم ظهر لي لطيفة أخرى ، وهي : أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. فهذه السبع مصدرة ب (حم) وسبع في الربع الذي قبله ذوات (الر) الست متوالية ، و (المص) الأعراف ، فإنها متّصلة ب «يونس» على ما تقدمت الإشارة إليه. وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك ، وأول النصف الثاني بسورتين (١).

وقال الكرماني في «العجائب» (٢) : ترتيب الحواميم السبع لما بينها من التشاكل الذي خصت به ، وهو : أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه ، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر ، وتشاكل الكلام في النظام.

قلت وانظر إلى مناسبة ترتيبها ، فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر ، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود ، التي هي ثانية ذوات (الر) ومطلع الزخرف مؤاخ لمطلع الدخان ، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف (٣).

__________________

(١). كان حق الكلام (بسبع سور) فنصف القرآن بالآيات في سورة الشعراء (الإتقان : ١ / ٢٤٣). وعليه يكون نصف القرآن مفتتحا بالشعراء ، وأولها (طسم) ، والنمل ، (طس) ، والقصص (طسم) ، والعنكبوت (الم) ، والروم (الم) ، ولقمان (الم) ، والسجدة (الم). وإذا اعتبرنا النصف المعروف لنا فالسورتان هما (مريم ، وطه).

(٢). هو كتاب «لباب التفسير وعجائب التأويل» لتاج القراء محمود بن حمزة بن نصر الكرماني (خط). ولم نعثر عليه مخطوطا ولا مطبوعا ، انظر (معجم الأدباء ١٩ / ١٢٥). وقد ذكره الكرماني في (أسرار التكرار في القرآن ص ١٨).

(٣). مطلع الزمر : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ*) (١) ومطلع غافر : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢). ومطلع هود (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود / ١]. ومطلع فصّلت : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [فصّلت / ٣]. وهكذا جميع المطالع التي ذكرها المؤلف.

١٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «غافر» (١)

١ ـ (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [الآية ٢٨] أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي : أنه ابن عم فرعون. وتقدّم الخلاف في اسمه في الآية ٢٠ من سورة القصص.

٢ ـ (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١).

قال زيد بن أسلم : هم النّبيون ، والملائكة ، والمؤمنون.

وقال السّدّي : الملائكة فقط.

أخرجهما ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

١٥
١٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «غافر» (١)

قال تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣).

أقول : ربما استطعنا أن نضع إشارات نقف عندها ، فنقطّع هذه الآية على النحو الآتي :

غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير.

أقول : يتبين لنا من هذه التجزئة جمال هذا النظم البديع ، الذي اتصفت به لغة القرآن ، وعلى هذا يتّفق إحسان النظم مع إحكام المعاني والأغراض.

ألا ترى أنه حين جاء قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ) جاء بعده (التَّوْبِ) وليس «التوبة» ، ليتوفر هذا النحو من المماثلة في الأبنية ، فيحسن بذلك النّظم.

ثم قال : (ذِي الطَّوْلِ) فتمّ بذلك ما ذهبنا إليه من حسن هذه الديباجة العامرة.

٢ ـ وقال تعالى : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ) [الآية ٨].

أردت أن أشير إلى أنّ الفصيح «صلح» مثل كتب ، الذي ورد في الآية ، قد عدل عنه في اللغة المعاصرة خطأ إلى «فعل» مثل «عظم».

٣ ـ وقال تعالى : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) [الآية ٢١].

المراد بقوله تعالى : (وَآثاراً)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٧

الحصون والقصور ..

أقول : وهذا يؤيّد قول المعاصرين في الكلام على مصنّفات أحدهم من الكتب وغيرها : آثاره.

٤ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢).

وهو من قولهم : «سجر التنوّر» إذا ملأه بالوقود.

أقول : وما زال هذا الفعل معروفا في العامية الدارجة في العراق ، وهو بالسين فيقولون سجر التنور ، مرة ، وبالشين ، شجر التنوّر أخرى.

وهم يتوسعون فيه فتقول الخبّازة : خبزت «شجارا» واحدا أو «شجارين» أي : ما يعدل إيقاد التنوّر بالوقود خبزا في كل مرة.

١٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «غافر» (١)

قال تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) فهذا على البدل. وأما (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) فقد يكون معرفة لأنك تقول : «هذا ضارب زيد مقبلا» إذا لم ترد به التنوين. ثم قال سبحانه (ذِي الطَّوْلِ) [الآية ٣] فيكون على البدل وعلى الصفة ، ويجوز فيه الرفع على الابتداء والنصب على خبر المعرفة إلا في (ذِي الطَّوْلِ) فإنّه لا يكون فيه النصب على خبر المعرفة لأنه معرفة. و «التوب» هو جماعة التوبة ويقال «عومة» و «عوم» في «عوم السّفينة». قال الشاعر : [من البسيط وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائتين].

عوم السّفين فلمّا حال دونهم فيد القريّات فالفتكان فالكرم قال تعالى : (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ) [الآية ٥] بالجمع على «الكلّ» لأن الكلّ مذكّر معناه معنى الجماعة.

وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) أي : لأنّهم أو بأنّهم وليس (أَنَّهُمْ) في موضع مفعول. ليس مثل قولك «أحقّت أنهم».

وقال جلّ وعلا : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [الآية ٧] فانتصابه كانتصاب : «لك مثله عبدا» بجعل (وَسِعْتَ) ل (كُلَّ شَيْءٍ) وهو مفعول به ، والفاعل التاء ، وجعل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٩

(الرّحمة) و (العلم) تفسيرا قد شغل عنهما الفعل ، كما شغل «المثل» بالهاء ، فلذلك نصب تشبيها بالمفعول بعد الفاعل.

وقال تعالى : (يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ) [الآية ١٠]. فهذه اللام هي لام الابتداء : كأنه : (يُنادَوْنَ) فيقال لهم ، لأنّ النداء قول. ومثله في الإعراب يقال : «لزيد أفضل من عمرو».

وقال تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) [الآية ١٦] بإضافة المعنى ، فلذلك لا ينون «اليوم» كما : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) [الذاريات] و (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) [المرسلات]. معناه : هذا يوم فتنتهم. ولكن لما ابتدأ الاسم وبقي عليه ، صار الجرّ أولى. وكانت الإضافة في المعنى إلى الفتنة ، وهذا إنّما يكون إذا كان «اليوم» في معنى «إذ» ، وإلّا فهو قبيح.

ألا ترى أنك تقول «لقيتك زمن زيد أمير» أي : إذ زيد أمير. ولو قلت : «ألقاك زمن زيد أمير» ، لم يحسن.

وقال تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) [الآية ١٥] على الابتداء. والنصب جائز لو كان في الكلام على المدح.

وقال سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [الآية ١٦]. فهذا على ضمير «يقول».

وقال تعالى : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) [الآية ١٨]. فانتصاب (كاظِمِينَ) على الحال ، كأنّ المعنى : «القلوب لدى الحناجر في هذه الحال».

وقال تعالى : (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٣٥). فمن نوّن جعل (المتكبّر الجبار) من صفته ، ومن لم ينوّن أضاف (القلب) الى (المتكبر).

وقال تعالى : (يا هامانُ ابْنِ لِي) [الآية ٣٦]. بعضهم يضم النون كأنه أتبعها ضمة النون التي في (هامان) كما قالوا : «منتن» فكسروا الميم للكسرة التي في التاء ، وبينها حرف ساكن فلم يحل. وكذلك لم تحل الباء في قوله تعالى : (ابْنِ لِي).

وقال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) (النَّارُ) [الآية ٤٦]. فإن شئت جعلت (النَّارُ) بدلا من (سُوءُ الْعَذابِ) (٤٥) ورفعتها على (وَحاقَ) ، وإن شئت جعلتها تفسيرا ورفعتها على

٢٠