الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الأحقاف» (١)

قال تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الآية ٩] والبدع : البديع وهو : الأوّل.

وقال (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الآية ١٢] بالنّصب لأنه خبر معرفة.

وقال سبحانه : (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) [الآية ١٢]. بنصب اللسان والعربي لأنه ليس من صفة الكتاب ، فانتصب على الحال أو على فعل مضمر ، كأنّ السياق : «أعني لسانا عربيّا» وقال بعضهم : إن انتصابه على «مصدّق» جعل الكتاب مصدّق اللسان.

وقال : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) [الآية ٣٥] أي : ذاك بلاغ. وقال بعضهم : «إنّ البلاغ هو القرآن» وإنّما يوعظ بالقرآن. ثم قال (بَلاغٌ) أي : هو بلاغ.

وأما قوله تعالى : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الآية ٣٣] فهو بالباء كالباء في قوله عزوجل (وَكَفى بِاللهِ) (٢) وهي مثل (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون / ٢٠].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). ورد هذا التعبير القرآني في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم ، أوّلها سورة النساء ، الآية ٦ ؛ وآخرها سورة الفتح ، الآية ٢٨.

١٦١
١٦٢

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الأحقاف» (١)

لم يقول تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) [الآية ١٦] ، مع أن حسن ما عملوا يتقبّل عنهم أيضا؟

قلنا : أحسن بمعنى حسن ، وقد سبق نظيره في سورة الروم.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الفريقين (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الآية ١٩] مع أن أهل النار لهم دركات لا درجات؟

قلنا : الدّرجات الطبقات من المراتب مطلقا من غير اختصاص. الثاني أن فيه إضمارا تقديره : ولكل فريق درجات أو دركات مما عملوا ، إلا أنه حذف اختصارا لدلالة المذكور عليه.

فان قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ)؟

قلنا : طابقه من حيث إن قولهم ذلك استعجال للعذاب الذي توعّدهم به ، بدليل قوله تعالى بعده : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) [الآية ٢٤] فقال لهم لا علم لي بوقت تعذيبكم ، بل الله تعالى هو العالم به وحده.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الريح : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الآية ٢٥] وكم من شيء لم تدمّره؟

قلنا : معناه تدمّر كلّ شيء مرّت به

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٦٣

من أموال قوم عاد وأملاكهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الآية ٣١] ولم يقل يغفر لكم ذنوبكم؟

قلنا : لأنّ من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كمظالم العباد ونحوها.

١٦٤

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الأحقاف» (١)

في قوله تعالى : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤). استعارة على أحد التأويلات. وهو أن يكون معنى : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي شيء يستخرج من العلم بالكشف والبحث ، والطّلب والفحص ، فتثور حقيقته ، وتظهر خبيئته ، كما تستثار الأرض بالمحافر ، فيخرج نباتها ، وتظهر نثائلها (٢). أو كما يستثار القنيص من مجاثمه ، ويستطلع من مكامنه.

وسائر التأويلات في الآية تخرج الكلام عن حيّز الاستعارة. مثل تأوّلهم ذلك على معنى خاصّة (٣) من علم. أي بقيّة من علم ، وما يجري هذا المجرى.

وأنشد أبو عبيدة للراعي (٤) في صفة ناقة :

وذات أثارة أكلت عليها نباتا في أكمّته قفارا أي ذات بقيّة من شحم رعت عليها

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). النثائل : جمع نثيلة ونثالة ، وهي التراب المستخرج من الحفر.

(٣). الخاصة : البقيّة من الشيء.

(٤). هو الراعي النميري حصين بن معاوية. ولقب بهذا اللقب لأنه كان يصف راعي الإبل في شعره ، وكان معاصرا للشاعر جرير في العصر الأموي ، ودخل معه في مهاجاة لأنه اتهمه بالميل الى الفرزدق. والبيت في «مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس ج ـ ١ ص ٥٦ بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. وقد ورد في المقاييس هكذا :

وذات أثارة أكلت عليها

نباتا في أكمّته تؤاما

١٦٥

هذا النبات المذكور. وقوله قفارا أي خاليا من الناس ، ليس به راعية غيرها ، فهو أهنأ لها ، وأرفق بها.

وقال صاحب «الغريب المصنف (١)» : يقال سمنت الناقة على أثارة ، أي على سمن متقدّم قد كان قبل ذلك.

__________________

(١). هو أبو عبيد القاسم بن سلام ، اشتغل بالحديث والفقه واللغة والأدب ، وهو صاحب كتاب «غريب الحديث» وكتاب «غريب المصنف» المشار إليه هنا بالتعريف. وقد اشتغل في تأليفه أربعين عاما وتوفي سنة ٢٢٣ ه‍. وأخباره في «وفيات الأعيان» و «الفهرست» و «طبقات الأدباء» و «تاريخ آداب اللغة العربية» ؛ وهناك «الغريب المصنف» أيضا لأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني ، كما في «كشف الظنون» والمقصود هنا كتاب أبي عبيد ، كما في «المجازات النبوية» للمؤلف.

١٦٦

سورة محمّد (ص)

٤٧

١٦٧
١٦٨

المبحث الأول

أهداف سورة «محمّد» (ص) (١)

هي سورة مدنية ، نزلت بعد سورة «الحديد» ولها اسمان : سورة «محمد» (ص) ، وسورة «القتال».

والقتال عنصر بارز في السورة ، بل هو موضوعها الرئيس ، فقد نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة الأحزاب ، أي في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة ، حيث كان المؤمنون يتعرّضون لعنت المشركين ، وكيد المنافقين ، ودسائس اليهود.

يمكن أن نقسم سورة «محمد» (ص) الى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : يحرّض على قتال المشركين ويحثّ عليه ، ويشمل الآيات [١ ـ ١٥].

القسم الثاني : يفضح المنافقين ويكشف نفاقهم ، ويشمل الآيات [١٦ ـ ٣٠] القسم الثالث : يدعو المسلمين الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال ، ويشمل الآيات [٣١ ـ ٣٨].

١ ـ التحريض على قتال المشركين

تبدأ السورة بالهجوم على المشركين ، وتبيّن هلاكهم وضياعهم وضلالهم. لقد سلب الله عنهم الهدى والتوفيق ، فاتّبعوا الباطل وانحرفوا الى الضلال. أمّا المؤمنون ، فقد آمنوا بالله ورسوله ، فكفّر الله ذنوبهم ورزقهم صلاح البال وهدوء النفس ونعمة الرّضا واليقين.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٦٩

وشتان ما بين مؤمن راسخ الإيمان ، صادق اليقين ، معتمد على ربّ كريم حليم ؛ وبين كافر ضالّ يبيع الحق ، ويشتري الباطل ، ويفرّط في الإيمان والهدى ، ويتبع الشرك والضلال.

ثم تحثّ السورة المسلمين على قتال المشركين ، وقطع شوكتهم وهدم جبروتهم ، وإزالة قوّتهم من طريق المسلمين : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) وهذا الضرب بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له ، (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ). والإثخان شدّة التقتيل حتّى تتحطّم قوّة العدوّ وتتهاوى ، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع ؛ وعندئذ يؤسر من استأسر ويشدّ وثاقه ، (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (٤) ، أي إمّا أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل ، وإمّا أن يطلق سراحهم مقابل فدية من مال أو عمل ، أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين ، (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له.

ولو شاء الله لانتقم من المشركين وأهلكهم كما أهلك من سبقهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم ، ولكن الله أراد أن يختبر قوة المؤمنين وأن يجعلهم سبيلا لإعزاز الدين وإهلاك الكافرين. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضيع أعمالهم فهم شهداء ، عند الله يتمتّعون بجنات خالدة ونعيم مقيم ، وأرواحهم في حواصل طير خضر ، تسبح حول الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتقيم في ألوان النعيم. وقد وعد الله الشهداء بحسن المثوبة والكرامة والهداية وصلاح البال ودخول الجنة ، لأنهم نصروا دين الله فسينصرهم الله ويثبّت أقدامهم ، كما توعّد الكافرين بالتعاسة والضلال والهلاك جزاء كفرهم وعنادهم.

وتسوق السورة ألوانا من التهديد للمشركين ، فتأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا ماذا أصاب المكذّبين من الهلاك والدمار. ثم تمضي السورة في ألوان من الحديث حول الكفر والإيمان ؛ فتصف المؤمنين بأنهم في ولاية الله ورعايته ، والكفّار بأنهم محرومون من هذه الولاية.

وتفرّق السورة بين متاع المؤمنين بالطيبات ، وتمتّع الكافرين بلذائذ الأرض ، كالحيوانات : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ

١٧٠

تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢).

ان الفارق الرئيس بين الإنسان والحيوان : أن للإنسان إرادة وهدفا ، وتصوّرا خاصّا للحياة يا قوم على أصولها الصحيحة المتلقّاة من الله خالق الحياة. فإذا فقد الإنسان هذا التصوّر ، فقد أهم الخصائص المميّزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرّمه الله جلّ جلاله.

ثم تمضي السورة في سلسلة من الموازنات بين المؤمن المتيقّن ، والكافر الذي اتّبع هواه وشيطانه ، وزيّن له سوء العمل : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤).

كما تصف الآيات متاع المؤمنين في الجنّة بشتّى الأشربة الشهيّة ، من ماء غير آسن ، ولبن لم يتغيّر طعمه ، وخمر لذة للشّاربين ، وعسل مصفّى ، في وفر وفيض ، في صورة أنهار جارية. ذلك مع شتى الثمرات ومع المغفرة والرّضوان ؛ ثم سؤال : هل هؤلاء المتمتعون بالجنة والرّضوان (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥)؟

٢ ـ خصال المنافقين

تشمل الآيات [١٦ ـ ٣٠] المقطع الثاني من هذه السورة ، وفيها حديث عن المنافقين وصفاتهم ، وحركة النفاق حركة مدنيّة لم يكن لها وجود في مكة نظرا لضعف المسلمين فيها وتفوّق أعدائهم. فلما هاجر المسلمون الى المدينة وبدأ شأن الإسلام في الظهور والاستعلاء ، بدأت حركة النفاق في الظهور والنموّ ، وساعدها على الظهور وجود اليهود في المدينة ، بما لهم من قوّة مادّيّة وفكريّة ، وبما يضمرونه للدّين الجديد من كراهية. وسرعان ما اجتمع اليهود مع المنافقين على هدف واحد ، ودبّروا أمرهم بليل ، فأخذ المنافقون في حبك المؤامرات ودسّ الدسائس في كلّ مناسبة تعرض ، فإن كان المسلمون في شدّة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم ؛ وإذا كانوا في رخاء ظلّت الدسائس سرّيّة ، والمكايد في الظلام ؛ وكانوا ، الى منتصف العهد المدني ، يشكّلون خطرا حقيقيّا على الإسلام والمسلمين. وقد تواتر ذكر المنافقين ووصف دسائسهم ، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدنية ؛ كما تكرّر ذكر اتصالهم

١٧١

باليهود ، وتلقّيهم عنهم ، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة.

والحديث عن المنافقين في سورة «محمد» (ص) يحمل فكرة السورة ويصوّر شدّتها في مواجهة المشركين والمنافقين. بل إن المنافقين هم فرع من الكافرين ، أظهروا الملاينة وأبطنوا الكفر والخداع ؛ أو هم فرع من اليهود يعمل بأمرهم ، وينفّذ كيدهم ومكرهم. فمن هؤلاء المنافقين من يستمع الى النبي (ص) بأذنه ويغيب عنه بوعيه وقلبه. فإذا خرج من مجلس النبي (ص) تظاهر بالحرص على الدين ، فسأل الصحابة عما قاله النبي (ص) سؤال سخرية واستهزاء ، أو سؤال تظاهر ورياء.

أولئك المنافقون قد طمس الله سبحانه على أفئدتهم فلا تفقه ، وقد اتّبعوا أهواءهم ، فقادهم الهوى إلى الهلاك.

أمّا المتقون المهتدون ، فيزيدهم الله هدى ويمنحهم التقوى والرشاد ، ثم يتهدّد القرآن المنافقين بالساعة ، فإذا جاءت ، فلا يملكون الهداية ولا تنفعهم الندامة :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨).

ثم تصوّر الآيات جبن المنافقين وهلعهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلّفهم القتال ، فهم يتظاهرون بالإيمان ، فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها ، وذكرت الجهاد ، رأيت المنافقين ينظرون إليك يا محمد نظرة من هو في النّزع الأخير ؛ تشخص أبصارهم ؛ لذلك كانوا جديرين بأن يهدّدهم الله جل جلاله بالويل والهلاك.

وتحثهم الآيات على الطاعة والصدق والثبات : (فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١).

وبذلك يفتح القرآن الباب لمن يريد الطهارة الحسية والنفسية من المنافقين ومن المخاطبين جميعهم ؛ ثمّ يحثّهم عزوجل على تدبّر القرآن وتأمّله ، لأن ذلك يحرّك المشاعر ، ويستجيش القلوب ، ويخلّص الضمير.

وتمضي الآيات في تصوير حال المنافقين ، وبيان سبب تولّيهم عن الإيمان بعد أن شارفوه ، فتبيّن أنه تآمرهم مع اليهود ، ووعدهم لهم

١٧٢

بالطاعة فيما يدبّرون.

لقد كره اليهود الإسلام وتألّبوا عليه ، فلمّا هاجر النبيّ (ص) الى المدينة شنّوا عليه حرب الدّسّ والمكر والكيد ، وانضمّ المنافقون لليهود يقولون لهم سرا ، كما ورد في التنزيل : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦).

ثم يتهدّد القرآن المنافقين ، بملائكة العذاب لأنهم تركوا طريق الإسلام ، وانضمّوا إلى دسائس الحاقدين عليه.

وفي نهاية المقطع يتهدّدهم جلّ جلاله بكشف أمرهم لرسول الله (ص) وللمسلمين الذين يعيشون بينهم متخفّين ؛ قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠).

٣ ـ حديث عن المشركين

والمؤمنين

المقطع الأخير من السورة يشمل الآيات [٣٢ ـ ٣٨] ، ويبيّن في بدايته أنّ المشركين منعوا الناس من الإيمان بالله تعالى ، وأعلنوا الشقاق والعداوة لرسول الله (ص) ، وهؤلاء لن يضرّوا الله بكفرهم ، وسيحبط الله أعمالهم.

وتتجه الآيات الى المؤمنين فتأمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ، وتأمرهم بالثبات على الحق حتى يأتي نصر الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣).

وهذا التوجيه يوحي بأنّه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يظهر الطاعة الكاملة ، أو من تثقل عليه بعض التكاليف ، وتشقّ عليه بعض التضحيات التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام ، تناوشه من كل جانب ، والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى ، يصعب فصمها والتخلي عنها نهائيّا ، كما تقتضي العقيدة ذلك.

ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفا عميقا في نفوس المسلمين الصادقين ، فارتعشت له قلوبهم ، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم ويذهب بحسناتهم.

وتستمر الآيات في خطاب المؤمنين ، تدعوهم الى مواصلة الجهاد بالنفس والمال دونما تراخ أو دعوة الى مهادنة الكافر المعتدي الظالم ، تحت

١٧٣

أيّ مؤثّر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة ، ودونما بخل بالمال الذي لا يكلّفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة ، مراعيا الشّحّ الفطريّ في النفوس. وإذا لم ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة ، فإنّ الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها ، ويستبدل بهم قوما غيرهم ينهضون بتكاليفها ، ويعرفون قدرها ، وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جوّ السورة ، كما يشي بأنه كان علاجا لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين إذ ذاك ، من غير المنافقين ؛ وذلك الى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات ، فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء. وكان القرآن يعالج ويربّي لينهض بالمتخلفين الى المستوي العالي الكريم.

مقصود السورة اجمالا

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة «محمد» (ص) : «الشكاية من الكفّار في إعراضهم عن الحق ، وذكر آداب الحرب والأسرى وحكمهم ، والأمر بالنصرة والإيمان ، وابتلاء الكفّار في العذاب ، وذكر أنهار الجنة : من ماء ولبن وخمر وعسل ؛ وذكر طعام الكفار وشرابهم ؛ وظهور علامة القيامة ؛ والشكاية من المنافقين ؛ وتفصيل ذميمات خصالهم ؛ وأمر المؤمنين بالطاعة والإحسان ؛ وذم البخلاء في الإنفاق ؛ وبيان استغناء الحق تعالى وفقر الخلق ، في قوله جلّ وعلا (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [الآية ٣٨].

١٧٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «محمّد» (ص) (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «محمد» (ص) بعد سورة «الحديد» ، ونزلت سورة «الحديد» بعد سورة «الزّلزلة» ، ونزلت سورة «الزلزلة» بعد سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة «محمد» (ص) في هذا التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية ٢ منها (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) ، وتبلغ آياتها ثمانيا وثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة تحريض المؤمنين على قتال الكافرين ووعدهم بالنصر عليهم ، وهذا القتال هو عذاب الدنيا الذي أوعد الكفار به في السور السابقة ؛ ولهذا جاء ترتيبها في الذكر بعدها ، لتدلّ على صدق ما أوعدهم الله به.

التحريض على القتال

الآيات [١ ـ ٣٨]

قال الله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) فمهّد عزوجل للتحريض على القتال ببيان وجه استحقاق الكفّار له ، وذكر أنّهم كفروا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٧٥

وصدّوا عن سبيله فأضلّ أعمالهم ، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد (ص) غفر ما كان من شركهم وأصلح بالهم ، لأنّ الكفار اتّبعوا الباطل والمؤمنين اتّبعوا الحق من ربّهم ؛ ثم أمر جلّ وعلا بقتال الكفّار حتّى يثخنوهم بالقتل والجراح ، فإذا أثخنوهم شدّوا وثاقهم بالأسر ، وهم مخيّرون بعد هذا في إطلاقهم بفداء أو من غير فداء ؛ ثم وعد الذين يقتلون منهم في سبيله حسن الأجر في الآخرة ، والذين يبقون منهم بالنصر على أعدائهم ؛ وأوعد الكفّار بالهزيمة والهلاك وضياع الأعمال ، ثم مضى السياق في هذا الترغيب والترهيب إلى أن انتقل منه إلى الحديث عن المنافقين فألحقهم بأولئك الكفّار ، وذكر أنّ الله سبحانه طبع على قلوبهم فاتّبعوا أهواءهم ولم يجاوز إسلامهم حناجرهم ، وأن الذين أخلصوا في إيمانهم زادهم الله هدى الى هداهم ، وأن هؤلاء المنافقين لا يتوقع منهم الإيمان إلّا أن تأتيهم الساعة بغتة ، وها هي ذي قد قربت وجاءت علاماتها ، ولكنّ التوبة عندها لا تنفع صاحبها. ثم ذكر السياق ، أن الله عزوجل أمر النبي (ص) أن يستمر هو والمؤمنون على الإخلاص في توحيده ، لأنه يعلم متقلّبهم ومثواهم ، حتّى لا يكونوا كهؤلاء المنافقين في مخالفة باطنهم لظاهرهم.

ثم أخذ السياق في ذم هؤلاء المنافقين على تقاعسهم عن القتال في سبيل الله جبنا وخوفا ، وذكر أنهم إن تولّوا عن القتال في سبيله سبحانه فإنهم يعودون إلى ما كانوا عليه من الفساد في الأرض ، فيغير بعضهم على بعض ، ويقابل ذوو الأرحام بعضهم بعضا ، كما كان بين الأوس والخزرج ؛ ثم ذكر تعالى أنّه أصمّهم وأعماهم فلا يتدبّرون ذلك ، بل يتّبعون ما يسوّله الشيطان لهم ، وما وعدوا به أهل مكة من الكفّ عن قتالهم ؛ ثم توعّدهم جل جلاله ، بقوله (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) [الآية ٣٠].

ثم ختمت السورة بمثل ما بدئت به من التحريض على القتال ، فذكر تعالى أنه سيبلوهم به ليعلم المجاهدين والصابرين منهم ، ووعدهم بأنه لن يمكّن أعداءهم من أن يضرّوهم ؛ ثمّ نهاهم أن يهنوا في القتال ويدعوا إلى السّلم وهم الأعلون ، وقد وعدهم

١٧٦

بالنصر وحسن الأجر ؛ وهوّن عليهم أمر الدنيا التي يعوق حبّها عن القتال والإنفاق في سبيله سبحانه ، إلى أن قال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨).

١٧٧
١٧٨

البحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «محمّد» (ص) (١)

لا يخفى وجه ارتباط أوّلها بقوله تعالى في آخر الأحقاف :

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) واتصال هذا القول وتلاحمه ، بحيث إنه لو أسقطت البسملة منه ، لكان متّصلا اتّصالا واحدا لا تنافر فيه ، كالآية الواحدة ، آخذا بعضه بعنق بعض (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). أول سورة «محمّد» (ص) : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١) وسورة «القتال» مع هذا متمّمة لموضوع سورة «الأحقاف» قبلها : ف «الأحقاف» فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور ، وفيها دعوتهم الى الإيمان بالتي هي أحسن ؛ وقد استنفدت السورة وسائل الإقناع العقلي ، وأثبتت عتوّ أهل الكفر وجحودهم ؛ فكانت سورة «القتال» بما فيها من جهاد ، وقواعد الحرب ، وتشريعاته متّفقة تماما مع نسخ وسائل الدعوة السلمية ، بآية السيف.

١٧٩
١٨٠