الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٨

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩

سورة الجاثية

٤٥

١٢١
١٢٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الجاثية» (١)

سورة «الجاثية» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، وآياتها ٣٧ آية نزلت بعد سورة «الدخان» ، ولهذه السورة اسمان :

سورة «الجاثية» لقوله تعالى :

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ).

وسورة «الشريعة» لقوله :

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨).

الغرض من السورة

تحمل سورة الجاثية الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى ، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به ، وينكرون البعث بعد الموت ، وقد دعت السورة إلى هذا تارة بالدليل ، وتارة بالترهيب والترغيب ، شأنها في ذلك شأن السورة السابقة ، وشأن السورة التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض ، كما وافقتها في الحروف التي ابتدأت بها ، ولهذا ذكرت هذه السورة معها ، وسميت مجموعة هذه السور بالحواميم ، نسبة إلى بدايتها بقوله تعالى : (حم) (١).

وقال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة «الجاثية» هو : بيان حجة التوحيد ، والشكاية من الكفار والمنكرين ، وبيان النفع والضر

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٢٣

والإساءة والإحسان (١) وبيان شريعة الإسلام والإيمان ، وتهديد العصاة والخائنين من أهل الإيمان ، وذم متابعي الهوى ، وذل الناس في المحشر ، ونسخ كتب الأعمال من اللوح المحفوظ ، وتأبيد الكفار في النار وتحميد الرب المتعال بأوجز لفظ وأفصح مقال (٢) ، في قوله جلّ وعلا :

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٦).

سمات السورة

لاحظنا أن سورة الدخان تتميز بقصر الآيات ، وعنف الإيقاع فيها كأنه مطارق تقرع القلوب. وسورة الجاثية بجوارها تسير في يسر وهوادة وإيضاح هادئ وبيان دقيق عميق.

والله سبحانه خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن ، يأخذ القلوب تارة بالقرع والطرق ، وتارة باللمس الناعم الرفيق ، وتارة بالبيان الهادئ الرقيق ، حسب تنوّعها هي وأخلافها. فمن الناس من ينفع معه الزجر والوعيد ، ومنهم من يأسره التوجيه الهادي الرشيد ، والقلب الواحد يتقلّب على حالات متعدّدة ، والله يختار له ما يناسب ، وهو سبحانه اللطيف الخبير ، السميع البصير. وقد كان من دعاء النبي (ص) : «اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ، ثبّت قلبي على دينك» ، فقالت عائشة : يا رسول الله أراك تكثر من هذا الدعاء ... فقال النبي : يا عائشة ، إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلبها كيف يشاء.

منهج السورة

تصوّر سورة الجاثية جانبا من استقبال المشركين للدعوة الإسلامية ، وطريقتهم في مواجهة حججها وآياتها ، وتعنّتهم في مواجهة حقائقها وقضاياها ، واتّباعهم للهوى اتّباعا كاملا ، في غير ما تحرّج من حقّ واضح ، أو برهان ظاهر. كذلك تصوّر كيف كان القرآن يعالج قلوبهم الجامحة ، الشاردة مع الهوى ، المغلقة دون الهدى. وهو يواجهها بآيات الله القاطعة ، العميقة التأثير والدلالة ، ويذكّرهم بعذابه ،

__________________

(١). لعلّه يقصد الإشارة إلى آيات الله الكونية في نفع العباد في الدنيا ثم في عقوبة الكفّار في الآخرة.

(٢). بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ١ / ٤٢٦.

١٢٤

ويصوّر لهم ثوابه ، ويقرّر لهم سننه ، ويعرّفهم بنواميسه الماضية في هذا الوجود.

درسان في السورة

سورة الجاثية وحدة في علاج موضوعها ، وهذه الوحدة تشتمل على درسين :

الدرس الأول : يتناول أدلّة الشرك بالتفنيد ، وأدلة الإيمان بالتوضيح والتأييد.

والدرس الثاني : يعرض عناد الكافرين في الدنيا ، ثم يذكر أحوالهم في مشاهد القيامة.

شبهات الكفر وأدلة الإيمان

تبدأ سورة الجاثية بهذين الحرفين حم. والملاحظ أن هذه الأحرف التي تفتتح بها السور يتبعها عادة الحديث عن القرآن ، مما يشير إلى أنها نزلت للتنويه به ، وتلفت الأنظار إلى خصائصه المتميّزة ، وتبرهن بذلك على أنه ليس من صنع البشر ، وإنّما هو من عند الله :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢).

وتعرض أدلة الإيمان والتوحيد ، وتلفت الأنظار إلى جلال الله سبحانه ، ودلائل قدرته جلّ وعلا في السماء والأرض ، والخلق والدوابّ ، والليل والنهار ، والمطر والزرع والرياح ، حتى تأخذ على النفس أقطارها ، وتواجهها بالحجج والبراهين ساطعة واضحة فتقول :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦).

ومن خلال الآيات التالية ، نرى فريقا من الناس مصرا على الضلالة مكابرا في الحق ، شديد العناد ، سيّئ الأدب في حق الله وحق كلامه.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨).

ونرى جماعة من الناس ، ربما كانوا من أهل الكتاب ، سيّئي التصوير والتقدير ، لا يقيمون وزنا لحقيقة الإيمان الخالصة ، ولا يحسّون الفارق

١٢٥

الأصيل بينهم وهم يعملون السيئات ، وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات ؛ والقرآن يشعرهم بأن هناك فارقا أصيلا في ميزان الله بين الفريقين :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١).

ونرى فريقا من الناس لا يعرف حكما يرجع إليه إلّا هواه فهو إلهه الذي يعبده ، ويطيع كل ما يراه ؛ نرى هذا الفريق مصوّرا تصويرا فذا في هذه الآية التي تبدي العجب من أمره ، وتشهّر بغفلته وعماه.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣).

أرأيت كيف تناولت هذه السورة الهادئة ، أصناف المشركين وفرقهم المناوئة للدعوة؟ وربما كان هؤلاء جميعا فريقا واحدا من الناس يصدر منه هذا وذاك ، ويصفه القرآن في السورة هنا وهناك ، كما يجوز أن يكونوا فرقا متعددة.

وعلى أي حال فقد واجه القرآن هؤلاء الناس بصفاتهم تلك وتصرفاتهم ، وتحدث عنهم في هذه السورة ذلك الحديث ، كذلك واجههم الله تعالى بآياته في الآفاق ، وفي أنفسهم ، وفي البر والبحر ؛ يقول سبحانه :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣).

ويستغرق الدرس الأول من السورة الآيات [١ ـ ٢٣].

عناد الكافرين وعقابهم يوم الدين

يشمل الدرس الثاني من السورة الآيات [٢٤ ـ ٣٧].

ويبدأ بعرض أقوال المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب ، ودعواهم أنّ الأيام تمضي ، والدهر ينطوي ، فإذا هم أموات ، والدهر في ظنهم هو الذي ينهي آجالهم ، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون ؛ وقد فنّد القرآن هذه الدعوى وبيّن أنّها لا تستند إلى حقيقة أو يقين ، وإذا قرعتهم

١٢٦

الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجة إلا أن يقولوا :

(ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥).

والله سبحانه له حكمة في خلق الناس ، فقد خلقهم للاختبار والابتلاء في الدنيا قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا.

والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت ؛ فلا عجب ، إذا ، في أن يحيي الناس ويجمعهم الى يوم القيامة ، وهو سبحانه مالك السماوات والأرض ، وهو القادر على الإنشاء والإعادة.

مشاهد القيامة

تعرض الآيات الأخيرة من سورة «الجاثية» مشاهد الآخرة ظاهرة ملموسة للعين ، ومن خلال الآيات ترى المشركين وقد جثوا على الرّكب متميّزين أمّة أمّة في ارتقاب الحساب المرهوب.

ثم يأخذون كتابهم وقد سجّل كلّ شيء فيه ، ونسخت فيه كلّ أعمالهم.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩).

ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة على مدى الأجيال إلى فريقين اثنين : الذين آمنوا ، وهؤلاء يدخلهم ربهم في رحمته ؛ والذين كفروا ، وهؤلاء يلقون التشهير والتوبيخ جزاء عنادهم ؛ وعندئذ يظهر أمام الذين كفروا سيئات ما عملوا ، ويحيق بهم المهانة والعذاب ، ويسدل الستار عليهم ، وقد أوصدت عليهم أبواب النار :

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥).

وهنا ينطلق صوت التحميد يعلن وحدة الربوبية في هذا الكون سمائه وأرضه ، إنسه وجنّه ، طيره ووحشة ، وسائر ما فيه ومن فيه ؛ فكلّهم في رعاية رب واحد ، له الكبرياء المطلقة في هذا الوجود ، وله العزة القادرة والحكمة المدبرة :

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧).

١٢٧
١٢٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الجاثية» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الجاثية» بعد سورة «الدّخان» ، ونزلت سورة «الدخان» بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الجاثية» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٨) وتبلغ آياتها سبعا وثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى ، والرد على الدهرية الذين لا يؤمنون به ، وينكرون البعث بعد الموت. وقد دعي فيها إلى هذا تارة بالدليل ، وتارة بالترهيب والترغيب ، وشأنها في ذلك شأن السورة السابقة ، وشأن السّور التي ذكرت قبلها ووافقتها في هذا الغرض ، كما وافقتها في الحروف التي ابتدئت بها ، ولهذا ذكرت هذه السورة معها.

إثبات وجود الله تعالى

الآيات [١ ـ ٢٣]

قال الله تعالى : (حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) فاستدل سبحانه على وجوده بآياته في السماوات والأرض ، وفي خلق الإنسان والدوابّ إلى غير هذا مما ذكره

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٢٩

من الآيات ، ثم أنذر بالهلاك من لا يؤمن بها ، ويصرّ على الكفر مستكبرا بعد سماعها ، وأخذ السياق في هذا إلى قوله تعالى : (هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١).

ثم عاد السياق إلى الاستدلال على وجوده تعالى بتسخيره لنا البحر تجري الفلك فيه بأمره ، ولنبتغي من فضله ونشكره على تسخيره ذلك لنا. وترقى السورة من تسخير ذلك لنا إلى تسخيره ، جلّ وعلا ، لنا كل ما في السماوات وما في الأرض جميعا ، ثم أمر الذين آمنوا بهذا أن يغفروا للذين يكفرون به ولا يرجون أيام الله ، فأخذهم في هذا بالترغيب بعد ذلك الترهيب ، وهوّن عليهم أمر كفرهم بأنّ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، ثم إلى ربهم مرجعهم فيحكم بينهم ، وأتبعه ببيان مشابهة طريقتهم في ذلك لطريقة بني إسرائيل قبلهم ، ليهوّن عليهم أيضا بذلك أمرهم ، فذكر سبحانه أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة ، إلى غير هذا مما أنعم به عليهم ، فاختلفوا فيما آتاهم من ذلك بغيا وظلما ، ثم ذكر للنبي (ص) أنه آتاه مثلهم شريعة من أمر الدين ، وحذّره أن يختلف فيها كما اختلفوا باتّباع أهواء الجاهلين ، فلا يغنوا عنه من عذابه شيئا ، لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض ، وهو وليّ المتقين وحدهم ، وهذا تبصرة لمن يتبصّر ، وهدى ورحمة لقوم يوقنون. ثم عاد السياق إلى تفصيل ما أجمله من الحكم بينهم ، فذكر سبحانه أنه لا يسوّي في الحكم بين الذين اجترحوا السيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأنه خلق السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كلّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣).

الرد على الدهرية

الآيات [٢٤ ـ ٣٧]

ثم قال تعالى : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) فذكر أنهم لا يؤمنون إلا بالحياة الدنيا ، ويزعمون أن الدهر هو الذي يهلكهم ، وينكرون وجود إله يحييهم بعد موتهم

١٣٠

ويحاسبهم. ورد عليهم بأنهم لا يستندون في ذلك إلى علم ودليل. فإذا قرعتهم الآيات الدالة على ثبوت البعث لم يجدوا لهم حجّة إلا أن يقولوا (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن الله يحييهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ثم ذكر ، سبحانه ، أنه يوم تقوم الساعة يخسر المبطلون ، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يدخلهم في رحمته ، وأنّ الذين كفروا يقال لهم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١) إلى غير هذا ممّا يقال لهم ، وحينئذ تبدو لهم سيئات ما عملوا ، ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم ذكر ، جلّ جلاله ، استحقاقه الحمد على ذلك ، وختم السورة به : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧).

١٣١
١٣٢

المبحث الثالث

لغة التنزيل في سورة «الجاثية» (١)

قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩).

أي : إنّا كنّا نستكتب الملائكة أعمالكم.

فالاستنساخ : طلب النسخ ، أي : الكتابة ، لا كما هو شائع في اللغة المعاصرة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣٣
١٣٤

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «الجاثية» (١)

قال تعالى : (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) ، [الآية ٢١]. من فسر «المحيا» و «الممات» للكفّار والمؤمنين فقد يجوز في هذا المعنى نصب «السواء» ورفعه : لأن من جعل «السواء» مستويا فينبغي له أن يرفعه : لأنه الاسم ، إلّا أن ينصب المحيا والممات على البدل. ونصب «السواء» على الاستواء.

وقال : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) [الآية ٩] ثم قال : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) [الآية ١٠]. فجمع لأنه قد قال : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (٧) ؛ فهو في معنى جماعة مثل الأشياء التي تجيء في لفظ واحد ، ومعناها معنى جماعة ؛ وقد جعل «الذي» بمنزلة «من» في قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) [الزمر] ف «الذي» في لفظ واحد. ثم قال (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) [الزّمر].

وقال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) [الآية ٣١] أي : فيقال لهم : «ألم تكن آياتي تتلى عليكم» ودخلت الفاء لمكان «أمّا».

وقال تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) (٣٢) [الآية ٣٢] أي : ما نظنّ إلّا ظنّا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣٥
١٣٦

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «الجاثية» (١)

إن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ).

قلنا : وجه المطابقة أنهم ألزموا بما هم مقرّون به من أنّ الله تعالى هو الذي أحياهم أوّلا ثمّ يميتهم ؛ ومن كان قادرا على ذلك كان قادرا على جمعهم يوم القيامة ، فيكون قادرا على إحياء آبائهم.

فإن قيل : لم أضيف الكتاب إلى الأمّة ثم أضيف إليه سبحانه ، في قوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) [الآية ٢٨] وقوله : (هذا كِتابُنا) [الآية ٢٩].

قلنا : الإضافة تصح بأدنى ملابسة. وقد صحت إضافة الكتاب إليهم ، بكون أعمالهم مثبتة فيه. وصحت إضافة الكتاب إليه تعالى ، بكونه مالكه الحقّ ؛ وكونه آمر الملائكة أن يكتبوا فيه أعمالهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٣٧
١٣٨

المبحث السادس

المعاني المجازية في سورة «الجاثية» (١)

في قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) [الآية ١٨] استعارة ، لأن الشريعة في أصل اللغة اسم للطريق المفضية إلى الماء المورود ، وإنما سمّيت الأديان شرائع لأنها الطرق الموصلة إلى موارد الثواب ، ومنافع العباد ، تشبيها بشرائع المناهل التي هي مدرجة إلى الماء وموصلة إلى الرّواء.

وفي قوله سبحانه : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الآية ٢٩] ، استعارة ، وقد مضت الإشارة إلى نظيرها فيما تقدم. والمعنى : الكتاب ناطق من جهة البيان ، كما يكون الناطق من جهة اللّسان. وشهادة الكتاب ببيانه ، أقوى من شهادة الإنسان بلسانه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣٩
١٤٠