الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث الأول

أهداف سورة «الأحزاب» (١)

سورة الأحزاب مدنيّة وآياتها ٧٣ آية نزلت بعد سورة آل عمران. وتقع أحداث السورة فيما بين السنة الثانية والخامسة من الهجرة. وهي فترة حرجة لم يكن عود المسلمين قد اشتدّ فيها ، إذ كانوا يتعرّضون لدسائس المنافقين واليهود.

وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لذكر غزوة الأحزاب فيها ، في قوله تعالى :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) [الآية ٢٠].

أحداث السّورة

تتناول سورة الأحزاب قطاعا حقيقيّا من حياة الجماعة المسلمة ، في فترة تمتدّ من بعد غزوة بدر الكبرى ، إلى ما قبل صلح الحديبية ، وتصوّر هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة ، تصويرا واقعيّا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث الّتي تشير إليها في خلال هذه الفترة ، والتنظيمات الّتي أنشأتها أو أقرّتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.

ولهذه الفترة الّتي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة. فهي الفترة الّتي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة. ولم يتمّ استقرارها بعد ، ولا سيطرتها الكاملة ، كالذي تمّ بعد فتح مكّة ودخول النّاس في دين الله أفواجا ، واستتباب الأمر للدولة الاسلامية.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٨١

والسّورة تتولّى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة ، وإبراز تلك الملامح ، وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة ، وبيان أصولها من العقيدة والتشريع. كما تتولّى تعديل الأوضاع والتقاليد ، أو إبطالها وإخضاعها في هذا كلّه للتصوّر الإسلامي الجديد. وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم ، يرد الحديث عن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة ، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما ، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة ، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف ؛ كما تعرض ، بعدها ، دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وبيوتهم ونسائهم.

ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث ، هي علاقة هذه وتلك بموقف الكافرين والمنافقين واليهود ، وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة ؛ سواء من طريق الهجوم الحربي ، والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة ، أو من طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقيّة ... ثم ما نشأ في أعقاب الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة ، تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية ؛ ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة ، وتماسك سياقها ، وتناسق موضوعاتها المنوّعة ؛ إلى جانب وحدة الزمن تربط بين الأحداث والتنظيمات الّتي تتناولها السورة.

فصول السورة

يمكن أن نقسم سورة الأحزاب إلى خمسة فصول ، يبدأ الفصل الأول منها بتوجيه الرسول (ص) إلى تقوى الله ، وعدم الطاعة للكافرين والمنافقين ، واتّباع ما يوحي إليه ربّه ، والتوكّل عليه وحده سبحانه.

وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية ؛ مبتدئا ببيان أن الإنسان لا يملك إلّا قلبا واحدا ، ومن ثمّ يجب أن يتّجه إلى إله واحد ، وأن يتّبع نهجا واحدا. ولذلك يأخذ في إبطال عادة الظّهار ، وهو أن يحلف الرجل على

٨٢

امرأته أنّها عليه كظهر أمه ، فتحرّم عليه حرمة أمه ؛ ويقرّر أن هذا الكلام يقال بالأفواه ، ولا ينشئ حقيقة وراءه ، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أمّا بهذا الكلام. ثم من هذا إلى إبطال التبني :

(وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) [الآية ٤].

والدعي هو المتبنّى يدّعي الإنسان بنوّته ، وهو لا يصير ابنا بمجرّد القول ، ثمّ يأمرهم أن يدعوا المتبنّى إلى أبيه ، فإن ذلك أقسط وأعدل من دعوتهم لمن يتبنّونهم.

ثمّ ينشئ الولاية العامّة للرسول (ص) على المؤمنين جميعا ، كما ينشئ صلة الأمومة الشعوريّة ، بين أزواج النبي (ص) والمؤمنين ؛ ويعقّب على هذا التنظيم الجديد ، بالإشارة إلى أنّ ذلك مسطور في كتاب الله القديم ، وإلى الميثاق المأخوذ على النبيّين وعلى أولي العزم منهم بصفة خاصة ، على طريقة القرآن في التعقيب على النظم والتشريعات والمبادئ والتوجيهات ، لتستقرّ في الضمائر والنفوس ؛ ويستغرق هذا الفصل من أول السورة إلى الآية ٨.

غزوة الأحزاب وبني قريظة

نجد الفصل الثاني من السورة ممتدّا من الآية ٩ إلى الآية ٢٧ ، ويتناول هذا الفصل غزوة الأحزاب ، ويصف مشاهدها وملابساتها ، ويصوّر أحوال المسلمين فيها ، وقد جاءتهم قريش من أسفل الوادي ، وغطفان من أعلاه ؛ وأسقط في يد المسلمين : فالأحزاب أمام المدينة ، ويهود بني قريظة نقضوا عهودهم ، وأظهروا الخيانة والغدر للمسلمين ؛ وحفر المسلمون خندقا لحماية المدينة ، وكان المسلمون غاية في الإجهاد والعسرة المادية ، واشتدت الفتن ، وفي وسط هذه المحن بشّر النبي (ص) المؤمنين بالنصر ، ووعدهم كنوز كسرى وقيصر ؛ وظهر النفاق من بعض المنافقين فقالوا : إنّ محمّدا يعدنا كنوز كسرى وقيصر ؛ وأحدنا اليوم لا يستطيع الخروج إلى الخلاء وحده ؛ وفي ذلك يقول القرآن :

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (١٢)).

واستنجد النبي (ص) ربّه سبحانه ، ورفع يديه إلى السماء ، وقال : «اللهم ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب ، اهزم

٨٣

الأحزاب ، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا ربّ العالمين». فأرسل الله جلّ جلاله ريحا عاتية ، في ليلة شاتية مظلمة ، خلعت خيام الكافرين ، وكفأت قدورهم ؛ وانسحبت قريش وأحزابها ، في ظلام الليل يجرّون أذيال الخوف والانكسار ؛ وسجّل الله عزوجل ذلك في القرآن الكريم ، بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)).

وتصف الآيات صدق بعض المؤمنين وبلاءهم الحسن ، وإخلاصهم لله في الجهاد حتى رؤي بعض الشهداء ، وفيه أكثر من سبعين ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ؛ وفي مثل هؤلاء يقول عزوجل :

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤)).

ثمّ تصف الآيات رحيل الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وحماية الله للمسلمين في هذه الموقعة ، وهو سبحانه القويّ العزيز. ولمّا رحلت الأحزاب عن المدينة ، نزل جبريل من السماء وقال : «يا محمد إن الملائكة لم تضع السلاح بعد ، اذهب إلى بني قريظة فإنّ الله ناصرك عليهم ، جزاء خيانتهم وغدرهم» فقال (ص) : «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يصلينّ العصر إلّا في بني قريظة». وهناك حاصر المسلمون بني قريظة ، ثمّ أجلوهم عن ديارهم ، وغنم المسلمون أرضهم ودورهم وأموالهم وحصونهم المنيعة ، بقدرة الله ، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى :

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ

٨٤

فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)).

زوجات الرسول (ص)

تتناول الآيات [٢٨ ـ ٣٦] حديثا عن زوجات الرسول (ص) ، وكانت الغنائم قد جاءت للمسلمين ، وأقبل المال بعد غزوة بني قريظة ، فتطلّعت زوجات الرسول (ص) إلى المتعة والنفقة الواسعة ، وقلن يا رسول الله نساء كسرى وقيصر بين الحلي والحلل ، والإماء والخدم ، ونساؤك على ما ترى من هذه الحال.

فنزلت الآيات تخيّرهن بين متاع الحياة الدنيا وزينتها ، وبين الله ورسوله والدار الاخرة. وخيّر النبي نساءه ، وبدأ بعائشة ، فقال لها : «سأعرض عليك أمرين ، أرجو ألّا تقطعي في اختيار أحدهما ، حتى تستشيري أبويك ؛ وقرأ عليها الآيتين» :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩)).

فقالت عائشة : «أفيك أشاور أبويّ يا رسول الله؟ أختار الله ورسوله» ، وقالت نساؤه كلّهن مثل ذلك ، فجعلهنّ الله أمّهات المؤمنين ؛ وأشارت الآيات التالية إلى جزائهنّ المضاعف في الأجر إن اتّقين ، وإلى العذاب المضاعف إن ارتكبن فاحشة مبيّنة ، لأنهنّ في بيت النبوّة والقدوة والأسوة ، فلهنّ ضعف الأجر إن أحسنّ ، وضعف العقوبة إن أسأن ؛ فزلّة العالم يقرع بها الطبل ، وزلّة الجاهل يخفيها الجهل ؛ ثمّ أمرت الآيات زوجات الرسول (ص) بخفض الصوت ، وجعله مستقيما بدون تكسّر ، حتى لا يطمع الشباب المنافق فيهنّ ، وحثّهنّ على الاستقرار في البيت ، وعدم التبرّج ، وتلاوة القرآن والتفقّه في أحكامه. واستطردت الآيات في بيان جزاء المؤمنين كافّة والمؤمنات ، وكان هذا هو الفصل الثالث في سورة الأحزاب.

قصة زينب بنت جحش

أرسل الله محمّدا (ص) للنّاس كافّة ، فحرّر العبيد ، وعلّم الناس المساواة ، وكرّم إنسانية الإنسان ، وبيّن أن النّاس

٨٥

سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي إلّا بالتقوى.

وخطب النبي (ص) زينب بنت جحش ، لزيد بن حارثة رضي الله عنه ، فاستنكفت وقالت : أنا خير منه حسبا ، وكانت امرأة فيها حدّة ، فأنزل الله تعالى :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)).

فقالت زينب هل رضيته لي يا رسول الله زوجا؟ قال رسول الله : نعم ، قالت : إذن لا أعصي الرسول (ص) قد أنكحته نفسي.

وتمّ هذا الزواج ، ولأمر أراده الله سبحانه لم يدم طويلا ، فقد كانت زينب تفخر على زيد بن حارثة بأنّها حرّة قرشيّة جميلة ، وأنّه عبد لا يدانيها في نسبها وحسبها ؛ فلمّا تكرّر ذلك منها عزم زيد على طلاقها ، وذكر ذلك لرسول الله (ص) ، فقال له النبي أمسك عليك زوجك واتّق الله ، رغبة في إبقاء هذا الزواج ؛ وكان النبي (ص) يعلم بوحي من السماء أنّ زينب ستطلّق ، وأنّها ستكون زوجة للرسول ، ليبطل بهذا الزواج آثار التبنّي بسابقة عمليّة يختار لها رسول الله (ص) بشخصه ، لشدّة عمق هذه العادة في البيئة العربيّة ، وصعوبة الخروج عليها. ولمّا طلّقت زينب من زيد خطبها النبي (ص) لنفسه ، ونزل الوحي من السماء بذلك ، حتّى كانت زينب تفخر على أزواج النبي ، فتقول زوّجكن أهاليكن ، وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سماوات.

ولم تمرّ المسألة سهلة ، فقد فوجئ بها المجتمع الإسلاميّ كله ، كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : «تزوّج حليلة ابنه».

وكانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد ، لأنّ العرف السائد كان يعدّ زينب مطلقة ابن لمحمّد (ص) لا تحلّ له ، حتّى بعد إبطال عادة التبنّي في ذاتها ، ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلّقات الأدعياء ، إنّما كان حادث زواج النبي (ص) بزينب ، هو الّذي قرّر القاعدة عمليّا ، بعد ما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.

وفي هذا ما يهدم كلّ الروايات ، الّتي رويت عن هذا الحادث ، والّتي تشبّث

٨٦

بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير المفتريات. إنّما كان الأمر أمر الله سبحانه ، تحمّله النبيّ (ص) وواجه به المجتمع الكاره لهذا الأمر كل الكراهية ، حتّى ليتردّد النبي في تحمّله ومواجهة الناس به.

قال تعالى :

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧)).

واستمرّت الآيات توضح أنه لا حرج على النبي (ص) فيما فرض الله له ، فقد فرض له أن يتزوّج زينب ، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء ؛ وذكرت الآيات أنّ محمّدا لم يكن أبا أحد من رجال العرب ، حتى يحرم عليه الزواج من مطلّقته ، وإنّما محمد رسول الله وخاتم النبيين ، فهو يشرّع الشرائع الباقية ، لتسير عليها البشريّة إلى يوم الدين ؛ ثمّ حثّت الآيات على ذكر الله وطاعته ...

وقد استغرق هذا الموضوع الرابع ، [الآيات ٣٦ ـ ٤٤].

أدب بيت النبوة

يستغرق الموضوع الخامس الآيات الممتدّة من الآية ٤٥ إلى آخر السورة ، ويبدأ ببيان حكم المطلّقات قبل الدخول ، ثمّ يتناول تنظيم الحياة الزوجية للنبي (ص) ، فيبيّن من يحلّ له من النساء المؤمنات ومن يحرّم عليه ؛ ويستطرد السياق إلى تنظيم علاقة المسلمين ببيوت النبي ، وزوجاته في حياته وبعد وفاته ، وتقرير احتجابهنّ إلّا على آبائهنّ أو إخوانهنّ أو أبناء إخوانهنّ أو نسائهنّ ، أو ما ملكت أيمانهنّ ، وإلى بيان جزاء الّذين يؤذون رسول الله (ص) في أزواجه وبيوته وشعوره ، وهدّدهم باللعن في الدنيا والاخرة ، ممّا يشي بأن المنافقين وغيرهم كانوا يأتون من هذا شيئا كثيرا.

ويعقّب السّياق على هذا بأمر أزواج النبي (ص) وبناته ، ونساء المؤمنين كافّة ، أن يدنين عليهن من جلابيبهن :

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الآية ٥٩].

٨٧

وبتهديد المنافقين والّذين في قلوبهم مرض ، والمرجفين في المدينة ، بتسليط النبي (ص) عليهم ، وإخراجهم من المدينة كما خرج بنو قينقاع من قبل ، وبنو النّضير بعدهم ، أو القضاء عليهم كما وقع لبني قريظة ؛ وكل هذا يشير إلى أنّ هذه المجموعة كانت تؤذي المجتمع الإسلامي ، بوسائل شرّيرة ، خبيثة.

ثم ذكر السّياق من شرور هؤلاء الناس ، أنّهم كانوا يسألون النبيّ متى تكون الساعة على سبيل الاستهزاء والاستخفاف ، وأجابهم بأنّ علم الساعة عند الله ، ولوّح بأنّها قد تكون قريبا ، وأتبع هذا بمشهد من مشاهد القيامة حيث يتقلّب المجرمون في جهنّم ، ويتمرّغون في العذاب والندامة.

ثم تعقّب السورة بنهي المؤمنين عن إيذاء النبي (ص) ، حتى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطعن عليه ، ثم برّأه الله وجعله نزيها وجيها.

تحمل الإنسان للأمانة

في آخر السورة نجد آية شهيرة تكشف عن جسامة العبء الملقى على عاتق البشريّة ، وعلى عاتق الجماعة الإسلاميّة بصفة خاصة ، وهي الّتي تنهض وحدها بعبء الأمانة الكبرى ، أمانة العقيدة والاستقامة عليها.

لقد عرض الله جلّ جلاله حمل الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، فأبين حملها لخطر أمرها ؛ وحملها الإنسان الّذي خلق مزوّدا بالإرادة والكسب والاختيار ، والقدرة على الطاعة والمعصية.

فالسماء والأرض والجبال والبحار والكون كلّه يخضع لله خضوع القهر والغلبة ، ولا يتحمّل التكاليف ، ولا يستطيع أن يتحمّل الأمانة والتكاليف الشرعية ، فيثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية ؛ إنّما الإنسان وحده الّذي ميّزه الله بالعقل والإرادة ، وكرّمه وفضّله بالكسب والاختيار ، له قدرة على الطاعة وقدرة على الظلم والجهل ، وقد استعمر الله الإنسان في الأرض واستخلفه فيها لعلمه ، أنه وحده هو الّذي يصلح خليفة عنه ، لما ركز في غرائزه وطبائعه من حبّ التّنافس ، والتّسابق في عمارة الأرض ؛ فمن أطاع الله من طائفة الإنسان فله

٨٨

الجنّة وله التّوبة عند الخطأ ، ومن كفر ونافق فله العذاب والعقاب ، قال تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)).

٨٩
٩٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأحزاب» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الأحزاب بعد سورة آل عمران ، وكان نزولها بعد غزوة الأحزاب ، فيكون نزولها في أواخر السنة الخامسة من الهجرة ، وتكون من السور الّتي نزلت فيما بين غزوة بدر وصلح الحديبية.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر غزوة الأحزاب فيها ، وتبلغ آياتها ثلاثا وسبعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ذكر أحكام تتعلق بالنبي (ص) ، ولهذا ابتدئت بندائه وأمره بالتقوى ، ليكون هذا تمهيدا لما قصد تكليفه به ؛ وقد شرّعت الأحكام الّتي تضمّنتها هذه السورة في زمن غزوة الأحزاب ، ولهذا جمع بينهما في هذه السورة ليسجّل فيها ما حصل في هذا الزمن من تشريع وغزو. وقد ابتدئت السورة السابقة بإثبات تنزيل القرآن ، وجاءت هذه السورة بعدها مبتدئة بالأمر باتّباعه وحده ، والنهي عن خشية أحد في الأخذ بأحكامه ، وهذا هو وجه المناسبة بينهما.

إبطال تبني زيد بن حارثة

الآيات [١ ـ ٢٧]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩١

وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١)). فمهّد بهذا ، لأمره بإبطال تبنّيه لزيد بن حارثة ، ليتّبعه المؤمنون في إبطال تبنّيهم ؛ وكان التبني عادة مستحكمة في العرب وفي سائر الشعوب ، فلمّا أبطلها النبيّ (ص) شنّع عليه أعداؤه من الكافرين والمنافقين ، فابتدأ هذه السورة بأمره بأن يتّقيه وحده ولا يطيع أعداءه ، وبأن يتّبع ما يوحي إليه ويتوكّل عليه ؛ ثمّ أخبره بأنه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه يجمع بهما بين خوفه وخوف غيره ، وأنّه لم يجعل لرجل أمّين إذا قال لزوجته ـ أنت عليّ كظهر أمي ـ ليتخلّص بذلك إلى المقصود ، وهو إبطال التبنّي ؛ فكأنّه قال : كما لم أجعل لرجل قلبين ولا أمّين لم أجعل لابن أبوين ، فلا يصح أن يكون أدعياؤهم أبناءهم بمجرّد قولهم ذلك بأفواههم ؛ ثمّ أمرهم بأن يدعوهم لآبائهم لأنه أعدل عنده من دعوتهم لمن يتبنّونهم ، فإن لم يعلموا آباءهم فهم إخوانهم في الدّين لا أبناؤهم ؛ ولا جناح عليهم إن سبق لسانهم إلى ذلك من غير قصد ؛ ثم ذكر أنّ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ، فكلّهم سواء في أبوّته وأمومتهنّ لهم ، ولا يصح أن يختصّ بذلك أحد منهم ، والأقرباء بعضهم أولى ببعض في الإرث ، فلا يصح أن يدخل في إرثهم بالتبنّي أجنبي عنهم ؛ ثم أكّد ذلك بتذكيره بأنّه أخذ منه ومن النبيّين قبله ميثاقهم أن يبلّغوا رسالتهم ولا يخشوا فيها أحدا ، ليسأل الّذين يصدقون في تبليغها عن صدقهم ، ويعدّ لمن يكفر بهم عذابا أليما.

ثمّ استطرد السّياق من ذلك إلى تذكيرهم بما حصل لهم في غزوة الأحزاب ، ليؤكّد به ما أمر من تقواه وحده فيما يأمر به ، فأمرهم أن يذكروا نعمته عليهم إذا اجتمعت عليهم جنود أعدائهم من الأحزاب ، ونقضت بنو قريظة عهدها معهم وانضمّت إلى أعدائهم ، وظهرت خيانة المنافقين ومحاولتهم صرفهم عن القتال ، فاشتدّ الأمر بهم وزلزلوا زلزالا شديدا ، ولكنّه سبحانه ثبّتهم فصبروا على قتالهم ولم يتأثروا بتثبيط المنافقين لهم ، حتّى ردّ الأحزاب بغيظهم وكفاهم قتالهم ، وأنزل بني قريظة من حصونهم بعد أن حاصروهم فيها ، فقتلوا منهم فريقا وأسروا فريقا : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ

٩٢

وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)).

أمر النبي بتخيير نسائه

الآيات [٢٨ ـ ٣٦]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)). وقد كان أزواج النبيّ (ص) سألنه من عرض الدنيا ، وطلبن منه زيادة النفقة ، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ؛ فأمره سبحانه أن يخيّرهنّ بين الطلاق إذا أبين إلّا ذلك ، والبقاء في عصمته إذا أردن الله ورسوله والدّار والاخرة ؛ ثمّ وعظهنّ بأنّ شأنهنّ ليس كشأن غيرهنّ ، فمن تأت منهنّ بفاحشة ظاهرة يضاعف لها العذاب ضعفين ، ومن تطع الله ورسوله يؤتها أجرها مرّتين ؛ ثمّ أمرهنّ أن يقرن في بيوتهنّ ويتركن تبرّج الجاهليّة الأولى ، إلى غير هذا ممّا أمرهنّ به ونهاهنّ عنه ؛ ثم عاد السّياق إلى تخييرهنّ ، فذكر سبحانه أنه ليس لهنّ ولا لغيرهنّ خيرة مع ما اختاره من ذلك لهنّ ؛ فقال جلّ وعلا (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦)).

تزويج النبي مطلّقة زيد

الآيات [٣٧ ـ ٤٤]

ثمّ قال تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الآية ٣٧] ، حكاية عن قول النبي (ص) لزيد بن حارثة وكان يتبنّاه : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الآية ٣٧] وهي زينب بنت جحش ، وكان يريد طلاقها لأنّها كانت تفخر عليه بنسبها ؛ ثمّ ذكر تعالى أنّ الرسول يخفي في نفسه إرادة تزوّجها بعد طلاقها ليكون أقوى في إبطال تبنّيه زيدا ، وأنّه يحمله على إخفاء ذلك خشية طعن الناس عليه بأنّه تزوّج امرأة متبنّاه ، والله أحقّ منهم بأن يخشاه ؛ فلمّا طلّقها زيد زوّجها الله له لكيلا يكون على الناس حرج في أزواج من يتبنّونهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنّه لا حرج عل الرسول (ص) في ذلك الزواج لأنه سنّة الله في الرسل قبله ، وأنّه لم يكن أبا أحد منهم حتّى تحرّم عليه زوجه ؛ ثم أمرهم جلّ شأنه أن

٩٣

يذكروه ويسبّحوه سبحانه بكرة وأصيلا ، لأنه يرحمهم بما يشرّع لهم من ذلك وغيره ، ويخرجهم به من الظّلمات إلى النور ، وهو رحيم بهم على الدوام (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤)).

إرشاد النبي إلى آداب عامة

الآيات [٤٥ ـ ٤٩]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥)) فذكر سبحانه أنه أرسله شاهدا على الناس ومبشّرا ونذيرا. فإذا كانوا مؤمنين ، فعليه أن يبشّرهم بما لهم من الفضل عنده ؛ وإذا كانوا كفّارا أو منافقين فإنّه لا يصحّ أن يطيعهم أو يخشاهم في شيء ، وعليه أن يدع أذاهم ويتوكّل عليه سبحانه وحده ؛ ثم أمر المؤمنين إذا طلّقوا أزواجهم من قبل أن يمسّوهنّ أن يتركوا أذاهم ، بمناسبة أمر النبي (ص) بترك أذى أعدائه ، فقال تعالى : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)).

خصائص النبي في أزواجه

الآيات [٥٠ ـ ٥٨]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) [الآية ٥٠].

فذكر ما خصّه به من إحلال أزواجه له ، وإن زاد عددهنّ على أربع. ومن عدم وجوب القسم عليه بينهنّ ، لكي تقرّ أعينهن إذا سوّى بينهن من نفسه ، ومن تحريم طلاقهنّ أو زواج غيرهنّ ليقصرهنّ عليه ويقصره عليهنّ ؛ ثمّ ذكر ما يستتبعه ذلك التشريع من فرض الحجاب عليهنّ وتحريم نكاحهنّ بعده على غيره ؛ واستثنى من فرض الحجاب عليهنّ آباءهنّ ونحوهم من محارمهنّ ؛ ثمّ ذكر ما يوجب احترامه في ذلك من صلاة الله عليه وملائكته ، فيجب على المؤمنين أن يذكروا حرمته في كلّ وقت بالصّلاة عليه ؛ ثم هدّد من يؤذيه في ذلك باللّعن في الدّنيا والاخرة ، وهدّد بمناسبة ذلك من يؤذي الناس عامة ، فقال جلّ وعلا : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)).

٩٤

إرشاد النبي إلى ما يجب ستره

من نسائه وغيرهن

الآيات [٥٩ ـ ٧٣]

ثمّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) [الآية ٥٩].

فأمره سبحانه بأن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ، ليعرفن بالعفّة فلا يطمع الفسّاق من المنافقين فيهنّ ؛ ثمّ هدّد أولئك المنافقين إن لم ينتهوا عن تعرّضهم للنّساء في الطّرق وغير ذلك من شرورهم ، بتسليط النبي (ص) عليهم ، فلا يجاورونه في المدينة إلّا قليلا ، ويحقّ عليهم التقتيل في كلّ مكان يصيرون إليه ، كما فعل ذلك بالذين خلوا من قبلهم ؛ ثمّ ذكر من شرورهم أنهم يسألونه متى يكون ما يوعدون به على سبيل الاستهزاء ، وأجابهم بأنّه سيكون قريبا ؛ وذكر ما يكون لهم من اللّعن والعذاب فيه.

ثمّ ختم السورة بنهي المؤمنين عامّة عن إيذاء النبيّ (ص) بمثل ما يؤذيه المنافقون به من الطّعن عليه ، بنحو ما سبق فيها ، حتّى لا يكونوا كالذين آذوا موسى (ع) بالطّعن عليه بما هو بريء منه ؛ ثمّ أمرهم بالتقوى والقول السّديد بدل الطّعن والفحش ؛ ونوّه بشأن الأمانة الّتي لا يراعيها أولئك الطاعنون بالزّور ؛ فذكر سبحانه أنّه عرض حملها على السماوات والأرض والجبال فأبين ذلك لخطر أمرها ، وأنّ الإنسان لم يشفق على نفسه من حملها لأنّه ظلوم جهول فلا يبالي بالتّهاون في أمرها ، ولأنّه يعاقب على تركها ويثاب على فعلها (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣)).

٩٥
٩٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الأحزاب» (١)

أقول : وجه اتّصالها بما قبلها ، أي بسورة السّجدة : تشابه مطلع هذه ، ومقطع تلك ، فإنّ تلك ختمت بأمر النبي (ص) بالإعراض عن الكافرين ، وانتظار عذابهم (٢) ؛ ومطلع هذه الأمر بتقوى الله سبحانه ، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين ، فصارت كالتّتمّة لما ختمت به تلك ، حتّى كأنّهما سورة واحدة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)) [السّجدة].

٩٧
٩٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الأحزاب» (١)

١ ـ (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) [الآية ٩].

هم الأحزاب : أبو سفيان ، وأصحابه ، وقريظة ، وعيينة بن بدر ، أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد.

٢ ـ (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) [الآية ٩].

هي الصّبا (٢). أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

٣ ـ (وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الآية ٩].

قال مجاهد : هي الملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

٤ ـ (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) [الآية ١٠].

قال مجاهد : عيينة بن بدر ، من نجد.

٥ ـ (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الآية ١٠].

أبو سفيان ومن معه ، وقريظة.

أخرجه ابن أبي حاتم.

٦ ـ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) [الآية ١٢].

سمّى السّدّي منهم : قشير بن معتّب. أخرجه ابن أبي حاتم.

وفي «تفسير جويبر» عن ابن عبّاس : هو معتّب بن قشير الأنصاري.

٧ ـ (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) [الآية ١٣].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات القران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). الصّبا : الرّيح الّتي تهبّ من المشرق. وأخرج البخاري (١٠٣٥) في الاستسقاء عن ابن عبّاس عن النبيّ (ص) قال : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» والدّبور : عكس الصّبا.

(٣). والطبري ٢١ : ٨١.

٩٩

قال السّدّي : هم عبد الله بن أبيّ ، وأصحابه. أخرجه ابن أبي حاتم.

٨ ـ (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) [الآية ١٣].

قال السّدّي : هما رجلان من بني حارثة : أبو عرابة بن أوس ، وأوس بن قيظيّ. أخرجه ابن أبي حاتم ، أيضا.

٩ ـ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) [الآية ٢٣].

نزلت في أنس بن النّضر ، وأصحابه. كما أخرجه مسلم وغيره ، عن أنس بن مالك.

١٠ ـ (مَنْ قَضى نَحْبَهُ) [الآية ٢٣].

أخرج التّرمذيّ ، وغيره عن معاوية : أن النبي (ص) قال : «طلحة ممّن قضى نحبه».

١١ ـ (الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الآية ٢٦].

قال مجاهد : قريظة. أخرجه ابن أبي حاتم (١).

١٢ ـ (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) [الآية ٢٧].

قال السّدّيّ : هي خيبر ، فتحت بعد بني قريظة.

وقال قتادة : كنا نحدّث أنّها مكّة.

وقال الحسن : هي أرض الرّوم وفارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم (٢).

١٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الآية ٢٨].

قال عكرمة : كان تحته يومئذ تسع نسوة ؛ خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة ؛ وكانت تحته : صفيّة بنت حيي الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب

بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق. أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

١٤ ـ (أَهْلَ الْبَيْتِ) [الآية ٣٣].

أخرج التّرمذيّ حديثا : أنّها لمّا نزلت

__________________

(١). والطبري في «تفسيره» ٢١ : ٩٥.

(٢). قال ابن جرير رحمه‌الله : «والصّواب من القول في ذلك أن يقال : إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله (ص) أرض بني قريظة وديارهم ، وأرضا لم يطئوها يومئذ ، ولم تكن مكّة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ممّا كانوا وطئوه يومئذ ، ثمّ وطئوا ذلك بعد. وأورثهموه الله ذلك ذلك كلّه داخل في قوله تعالى : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) لأنه تعالى ذكره لم يخصّص من ذلك بعضا دون بعض». ووقع اختلاف في «تفسير الطّبري» ٢١ : ٩٨ في نسبة الأقوال لأصحابها عمّا ذكره المؤلف هنا.

(٣). انظر أزواجه (ص) في «سيرة ابن هشام» ٢ : ٦٤٣.

١٠٠