الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

تعالى أنه جعل كتاب موسى (ع) هدى لبني إسرائيل ، وأنّه سبحانه ، هداهم به وجعل منهم أئمّة يهدون بأمره ، وأنه كافأهم بذلك ، لصبرهم على أذى أعدائهم.

ثمّ ذكر لأولئك المشركين ، أنّ الأمر في هذا ، لا يقتصر على موسى وقومه ، بل هناك قرون كثيرة أهلكهم الله جلّ جلاله ، على تكذيبهم رسلهم ، وأنّهم يمشون في مساكنهم فيشاهدون ما حصل لهم بأعينهم ؛ ثمّ ذكر تعالى لهم ، أنّ تلك النّقم آية لهم على قدرته ، لو تأمّلوا فيها بعقولهم ؛ وحثّهم على التأمّل في نعمه (سبحانه) عليهم ، بسوق الماء إلى الأرض الجرز (١) ، ليخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ؛ فجمع بهذا بين ترهيبهم وترغيبهم.

ثمّ ختمت السورة بذكر سؤال المشركين ، على سبيل الاستهزاء : متى هذا الفتح الّذي يكون للمؤمنين؟ وأجابهم جلّ شأنه ، بأنّه إذا أتى يؤمنون بصدقه فلا ينفعهم إيمانهم ، ولا يمهلون ليستدركوا ما فاتهم ؛ ثمّ أمر النبي (ص) أن يعرض عن استهزائهم ، وينتظر وعده بهلاكهم ، فقال تعالى (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)).

__________________

(١). أي الأرض الجدبة.

٦١
٦٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «السجدة» (١)

أقول : وجه اتّصالها بما قبلها : أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة الّتي ذكرت في خاتمة لقمان.

فقوله تعالى ، هنا : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)).

شرح لقوله سبحانه هناك : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤]. ولذلك عقّب تعالى هنا بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الآية ٦].

وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [الآية ٢٧] شرح لقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) [لقمان : ٣٤].

وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [الآية ٧] شرح لقوله سبحانه : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤].

وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) [الآية ٥] ؛ وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [الآية ١٣] شرح لقوله سبحانه : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) [لقمان : ٣٤].

وقوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [الآية ١٠] إلى قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)) شرح لقوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤]. فلله الحمد على ما ألهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٦٣
٦٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «السجدة» (١)

١ ـ (مَلَكُ الْمَوْتِ) [الآية ١١].

أخرج أبو الشيخ عن وهب : أنّ اسمه عزرائيل (ع).

٢ ـ (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) [الآية ١٨].

أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن أبي ليلى والسّدّي : أنها نزلت في عليّ (ع) ، والوليد بن عقبة. وأخرجه الواحدي (٢) عن ابن عبّاس.

٣ ـ (الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [الآية ٢٧].

قال ابن عبّاس : أرض باليمن. وقال مجاهد : هي أبين (٣).

وقال الحسن : هي فيما بين (٤) اليمن والشّام. أخرجها ابن أبي حاتم.

وقال قوم : هي مصر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). في «أسباب النزول» : ٢٦٣ ؛ و (المؤمن) هو علي. و (الفاسق) هو الوليد بن عقبة.

(٣). نصّ رواية مجاهد ، كما في «الدر المنثور» ٥ : ١٧٩ : «هي الّتي لا تنبت ، هي أبين ونحوها من الأرض». وانظر نحوها في «تفسير الطّبري» ٢١ : ٧٢.

(٤). في «الدر المنثور» ٥ : ١٧٩ : و «هي قرى».

٦٥
٦٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «السجدة» (١)

١ ـ قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) [الآية ٢٧].

«الجرز» : الأرض الّتي جرز نباتها ، أي قطع ، إمّا لعدم الماء ، وإمّا لأنّه رعي وأزيل ، ولا يقال للّتي لا تنبت كالسّباخ : جرز.

أقول : وقد جاء «الجرز» وصفا للصّعيد في قوله تعالى :

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)) [الكهف].

أقول : وإذا كان الجرز هذه صفته ، «فالصعيد الجرز» هو «الصعيد» الموصوف ب «الطيّب» في قوله تعالى.

(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٦٧
٦٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «السجدة» (١)

قال تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) [الآية ٢٦] بالياء يعني «ألم يبيّن وقرأ بعضهم (أولم نهد) (٢) أي : أولم نبيّن لهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). القراءة بالياء في الطّبري ٢١ : ١١٤ ، نسبت الى ابن عبّاس ، وقتادة ، وقرّاء الأمصار ؛ والقراءة بالنون نسبت في الشواذ ١١٨ ، إلى الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ، وابن عبّاس (رض) ، والسّلمي ؛ وفي الجامع ١٤ : ١١٠ الى قتادة ، والسّلمي ، وأبي زيد ، عن يعقوب.

٦٩
٧٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «السجدة» (١)

إن قيل : لم قال تعالى هنا : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)) ؛ وقال تعالى ، في سورة المعارج : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)) [المعارج]؟

قلنا : المراد بالأوّل ، مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى السطح الأعلى من سماء الدنيا ؛ وذلك ألف سنة ، خمسمائة سنة مسافة ما بين السماء والأرض ، وخمسمائة سنة مسافة سمك سماء الدنيا ؛ والمراد بالثاني مسافة عروج الملائكة من الأرض إلى العرش. الثاني : أنّ المراد به في الآيتين يوم القيامة ، ومقداره ألف سنة من حساب أهل الدنيا ، لقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] ومعنى قوله تعالى : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي : لو تولّى فيه حساب الخلق غير الله تعالى. الثالث : أنه كألف سنة في حقّ عوام المؤمنين ، والخمسين ألف سنة في حقّ الكافرين ، لشدّة ما يكابدون فيه من الأهوال والمحن ؛ وكساعة من أيّام الدنيا في حقّ خواصّ المؤمنين. ويؤيّده ما روي أنّه قيل «يا رسول الله يوم مقداره خمسون ألف سنة ما أطوله ، فقال : والّذي نفسي بيده ؛ ليخفّف على المؤمن ، حتّى يكون عليه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ

٧١

أخفّ من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا». وروي أن ابن عبّاس رضي الله عنهما سئل عن هاتين الآيتين؟ فقال : يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه ؛ وإنّي أكره أن أقول في كتاب الله ، بما لا أعلم.

فإن قيل : لم قال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [الآية ٧] على اختلاف القراءتين (١) ومقتضى القراءتين ، أن لا يكون في مخلوقات الله تعالى شيء قبيح ، والواقع خلافه ؛ ولو لم يكن إلّا الشّرور والمعاصي فإنها مخلوقة لله تعالى عند أهل السنة والجماعة ، مع أنها قبيحة؟

قلنا :

كلمة «أحسن» بمعنى : أحكم وأتقن ، وهذا الجواب يعمّ القراءتين. الثاني : أنّ فيه إضمارا تقديره : أحسن إلى كل شيء خلقه. الثالث : أنّ «أحسن» بمعنى «علم» ، كما يقال فلان لا يحسن شيئا. أي : لا يعلم شيئا. وقال عليّ كرّم الله وجهه : قيمة كلّ امرئ ما يحسنه : أي ما يعلمه ؛ فمعناه أنّه علم خلق كل شيء ، أو علم كلّ شيء خلقه ، ولم يتعلّمه من أحد ، وهذان الجوابان يخصّان بقراءة فتح اللام.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨)) وقال في موضوع آخر (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)) [المؤمنون]؟

قلنا : المذكور هنا صفة ذرّيّة آدم (ع) ، والمذكور هناك صفة آدم (ع) ؛ يعلم ذلك من أوّل الآيتين فلا تناف.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) [الآية ٩] والله تعالى منزّه عن الرّوح؟

قلنا : معناه : نفخ فيه من روح مضافة إلى الله تعالى ، بالخلق والإيجاد ، لا بوجه آخر. فإن قيل : لم قال تعالى هنا (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [الآية ١١] وقال تعالى ، في موضع آخر : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] ، وقال تعالى في موضع آخر : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢]؟

قلنا : الله تعالى هو المتوفّي بخلق الموت وأمر الوسائط بنزع الروح ، والملائكة المتوفّون أعوان ملك

__________________

(١). أي بتحريك اللام أو تسكينها في قوله تعالى : (خَلَقَهُ) ..

٧٢

الموت ، وهم يجذبون الروح من الأظفار إلى الحلقوم ؛ وملك الموت يتناول الروح من الحلقوم ، فصحّت الإضافات كلها.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) [الآية ١٥] الآية ، وليس المؤمنون منحصرين فيمن هو موصوف بهذه الصفة ، وليست هذه الصفة شرطا في تحقّق الإيمان؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (ذُكِّرُوا بِها) أي وعظوا ، والمراد بالسجود الخشوع والخضوع والتواضع ، في قبول الموعظة بآيات الله تعالى ، وهذه الصفة شرط في تحقق الإيمان. ونظيره قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧)) [الإسراء]. الثاني : أنّ معناه إنّما يؤمن بآياتنا إيمانا كاملا ، من اتّصف بهذه الصفة ، وقيل المراد بالآيات فرائض الصلوات الخمس ، والمراد التذكير بها بالأذان والإقامة.

فإن قيل : قوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨)) يدل على أنّ الفاسق لا يكون مؤمنا؟

قلنا : الفاسق هنا بمعنى الكافر ، بدليل قوله تعالى بعده : (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)) ، والتقسيم يقتضي كون الفاسق المذكور هنا كافرا ، لا كون كل فاسق كافرا ؛ ونظيره قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)) [القلم] وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١] ولم يلزم من ذلك ، أنّ كلّ مجرم كافر ، ولا أنّ كلّ مسيء كافر.

فإن قيل : ما الحكمة في العدول عن قوله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)) في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) [الآية ٢٢]؟

قلنا : لمّا جعله أظلم الظّلمة ، ثم توعد كلّ المجرمين بالانتقام منه ، دلّ على أن الأظلم يصيبه النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير ، لم يفد هذه الفائدة.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) [الآية ٢٨] سؤال عن وقت الفتح ، وهو يوم القضاء بين المؤمنين والكافرين ، يعنى يوم القيامة ، فكيف طابقه ما بعده جوابا؟

قلنا : لمّا كان سؤالهم سؤال تكذيب

٧٣

واستهزاء بيوم القيامة ، لا سؤال استفهام ، أجيبوا بالتهديد المطابق للتكذيب والاستهزاء ، لا ببيان حقيقة الوقت.

فإن قيل : على قول من فسّر الفتح ، بفتح مكّة أو بفتح يوم بدر ، كيف وجّه الجواب عن قوله تعالى : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) [الآية ٢٩] ، وقد نفع بعض الكفار إيمانهم في ذينك اليومين ، وهم الطلقاء الّذين آمنوا؟

قلنا : المراد أنّ المقتولين منهم ، لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق.

٧٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «السجدة» (١)

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨)).

وهذه استعارة ، لأن المهين لا يكون بحقيقته إلّا الإنسان ، قال الله تعالى حكاية على لسان فرعون : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢)) [الزخرف] ، وقال تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠)) [القلم] ؛ ومهين فعيل من المهنة ، وهي الخدمة ، يقال مهن القوم يمهنهم مهنة إذا خدمهم ؛ والمهنة بكسر الميم خطأ ، فيكون معنى من ماء مهين ، على ما قدّمناه ، أي من ماء مستذلّ ، لأنّ ماهن القوم إذا خدمهم يكون ذليلا لهم ، ومبتذلا بينهم.

ـ وقوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الآية ١٠].

وهذه استعارة ، لأنّها عبارة عن حال الموت ؛ والميت لا يوصف بالضلال ، الّذي هو المتاه والضياع ، فكأن المعن : إذا دفنّا في الأرض ، فكنّا كالشيء الضالّ ، الضائع ، لتفرّق أوصالنا ، وتمزّق أعضائنا ، تستأنف بعد هذه الحال ، إعادتنا ، وتستجدّ حياتنا ؛ كأنهم قالوا على سبيل الاستبعاد ، وأخرجوه مخرج الاستطراف ، والاستغراب ؛ فأعلمهم الله سبحانه ، أنّهم لا يضلّون عن علمه ، ولا يلطفون عن جمعه ، وإن صاروا رميما وترابا ، وفرقا وأوزاعا ؛ وفي عرف كلام العرب أنّ كل شيء غلب عليه شيء حتّى يغيّبه باشتماله عليه ، فقد ضلّ فيه ؛ ويسمّون

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٧٥

الدافنين للأموات مضلّين ، لأنّهم يغيّبونهم في الأرض ؛ قال النابغة الذبياني في ذلك :

فآب مضلّوه بعين جليّة وغودر بالجولان حزم ونائل يريد دافنيه ، وحكى الأصمعي أنه رواه مصلّوه بالصاد ، وفتحها ، والمصلّي الوارد بعد السابق ، قال فكأنّ المعنى أنّ ناعيه الأوّل جاء بنعيه ، فشكّ في قوله ، ثمّ جاء الثاني بجملة الخبر ، فوقع العلم وارتفع الشكّ ، والعين الجليّة ، الواضح الّذي يتجلّى بعد خفائه ، أو يجلو الشك بعد التباسه ؛ وأنشد للمخبّل السعدي يمدح قيس بن عاصم المنقريّ :

أضلّت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدّهر قيس بن عاصم أي دفنته في التراب وغيبته في الأرض.

ـ وقوله سبحانه : (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)).

وقد تقدّم مثل هذه اللفظة ، في بعض السور المتقدّمة ولم نشر إليه إذ كان في الأشهر بيّن التأويل ، خارجا عن الاستعارة ، لأنّه عند عامّة المفسّرين ، بمعنى المنزل والنزول ، فكأنّه تعالى قال كانت لهم جنان الفردوس منزلا ينزلونه ، وقرارا يستوطنونه ، فلمّا بلغنا الى هذا الموضع من هذه السورة ، نظرنا فإذا لهذه اللفظة مجاز آخر يدخلها في حيّز الاستعارة ، فذكرناها لهذه العلّة ، وهو أنّ لفظ النّزل عند بعضهم قد عبّر به عمّا يقرى به الضيف عند طروقه ، ويعدّ له قبل نزوله ، فيجوز أن يكون معنى قوله تعالى : (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)) أي أعدّ لهم في جنّات الله ما يعدّ للضّيوف لأنهم ضيفان الله تعالى في جنّاته ، وجيرانه في داره ؛ ليس أنّ هناك قربا بمسافة ، ولا وصفا في أداء إقامة ، وإنما أوجب هذا الاختصاص ، في قولنا : ضيفان الله ، وجيران الله ، لأنهم نزول في الدار ، الّتي لا يملك الحكم فيها غيره ، ولا يتسلّط عليها إلّا سلطانه ، كما قيل إنّ قريشا كانوا يسمّون قطين الله ، إذ كانوا جيران بيته الّذي اختصّه ، وفرض على الناس حجّه ، ومن الشاهد قول عبد الله بن قيس الرقيّات :

أتانا رسول من رقيّة ناصح

بأنّ قطين الله بعدك سيّرا

٧٦

يريد أهل مكّة ، وحكى ابن الزبير قال ، سمعت حسّان بن ثابت ينشد هذا البيت ، في جملة قصيدته الميميّة ، على قوله :

لنا حاضر فخم وباد كأنّه قطين إله عزّة وتكرّما قال فغيّره الرواة فيما بعد ، حسدا لقريش ، فقالوا :

شماريخ رضوى عزّة وتكرّما وأيّ تكرّم للجبال؟! وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ) [الآية ٢٧].

وقد أشرنا إلى هذه اللفظة أنها مستعارة ، وأطلعنا خبيّها ، ونشرنا مطويّها في سورة الكهف ، فلا حاجة إلى إعادة ذلك.

٧٧
٧٨

سورة الأحزاب

٣٣

٧٩
٨٠