الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «لقمان» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [الآية ٢٢].

قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ) هو من باب جعل الوجه ذاته ونفسه سالما لله أي : خالصا له.

٢ ـ قال تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)).

الختر : أشدّ الغدر.

أقول : ولا نعرف «الختر» ولا «الختّار» في العربية المعاصرة. ومثل الختر «الختل» ، مع خصوصيّة معنويّة في نوع الغدر ، وكذلك الختّال. وهاتان الكلمتان باللام من الكلم المعروف في عصرنا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤١
٤٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «لقمان» (١)

قال تعالى : (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣)) لأن قوله تعالى : (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢)) معرفة ، فهذا خبر المعرفة.

وقال تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) [الآية ١٢] وهي «بأن اشكر الله».

وقال تعالى : (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) [الآية ١٦] أي : «إن تكن خطيئة مثقال حبّة» ؛ ورفع بعضهم فجعلها «كان» الّذي لا يحتاج الى خبر كأنه «بلغ مثقال حبّة».

وقال تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ) [الآية ٢١] هنا ألف استفهام أدخلت على واو العطف.

وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) [الآية ٢٧] رفع على الابتداء ونصب على القطع. ورفع لفظ الأقلام على خبر «أنّ».

وقال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [الآية ٣٤] وقد تقول : «أيّ امرأة جاءتك» و «أيّة امرأة جاءتك».

وقال تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [الآية ١٤] أي في انقضاء عامين ولم يذكر الانقضاء كما قال سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يعني أهل القرية.

وقال تعالى : (إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) [الآية ١٦] يقول «إن تكن المعصية مثقال حبّة من خردل».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤٣
٤٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «لقمان» (١)

إن قيل : كيف يحلّ الغناء بعد قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [الآية ٦] ، وقد قال الواحدي في تفسير وسيطه : أكثر المفسّرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء. وروى هو أيضا عن النبي (ص) أنّه قال : «والّذي نفسي بيده ما رفع رجل قط عقيرته يتغنّى إلّا ارتدّ فيه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتى يسكت». وقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود رضي الله عنهم : لهو الحديث هو والله الغناء واشتراء المغنّي والمغنّية بالمال. وروى أيضا حديثا آخر مسندا ، عن النبي (ص) أنّه قال في هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللعب والباطل كثير النفقة سمح فيه ، لا تطيب نفسه بدرهم يتصدّق به. وروى أيضا حديثا آخر مسندا عن النبي (ص) أنه قال : «من ملأ سمعه من غناء ، لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل : وما الروحانيّون؟ قال قرّاء أهل الجنة». قال أهل المعاني : ويدخل في هذا كلّ من اختار اللهو واللعب والمزامير والمعازف وآثرها على القرآن ، وإن كان اللفظ ورد بالاشتراء ، لأنّ هذا اللفظ يذكر في الاستبدال والاختيار كثيرا. وقال قتادة رحمه‌الله : حسب المرء من الضّلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق. هذا كله نقله الواحدي رحمه‌الله ، وكان من كبار السلف في العلم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤٥

والعمل. وقال غيره : قال ابن عبّاس وابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة : المراد بلهو الحديث الغناء. وعن الحسن رحمه‌الله تعالى أنّه كلّ ما ألهى عن الله تعالى. وفي معنى يشتري قولان : أحدهما أنّه الشّراء بالمال والثاني أنّه الاختيار كما مرّ. وقيل الغناء منفدة للمال ، مفسدة للقلب ، مسخطة للربّ.

قلنا : جوابه أنّهم يؤوّلون هذه الآية ونظائرها ، وهذه الأحاديث ونظائرها فيصرفونها عن ظاهرها متابعة للهوى وميلا إلى الشهوات ؛ ولو نظروا بعقولهم في ما ينشأ عن جمعيّات السّماع في زماننا هذا من المفاسد ، لعلموا حرمته بلا خلاف بين المسلمين ، فإنّ شروط إباحة السّماع عند من أباحه لا تجتمع في زماننا هذا ، على ما هو مسطور في كتب المشايخ وأرباب الطريق ، ولو اشتغلنا بتفصيل مفاسده وعدد شروطه عند من أباحه لخرجنا عن مقصود كتابنا هذا.

فإن قيل : لم وقع قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) [الآية ١٤] ، في أثناء وصيّة لقمان لابنه ، وما الجامع بينهما؟

قلنا : هي جملة وقعت معترضة على سبيل الاستطراد ، تأكيدا لما في وصيّة لقمان من النهي عن الشرك.

فإن قيل : في قوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [الآية ١٤] ، لم اعترض بين الوصيّة ومفعولها؟

قلنا : لمّا وصى سبحانه بالوالدين ذكر ما تكابده الأم خاصة ، وتعانيه من المشاق والمتاعب تخصيصا لها بتأكيد الوصيّة ، وتذكير تعظيم حقّها بإفرادها بالذكر ؛ ومن هنا قال رسول الله (ص) لمن قال له : من أبرّ؟ قال أمّك ثم أمّك ثم أمّك ، ثم قال بعد ذلك : ثمّ أباك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [الآية ١٩] فجمع الأصوات ، وأفرد صوت الحمير.

قلنا : ليس المراد ذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع ، وإنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان الناطق وغيره له صوت ، وأنكر الأصوات من هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب إفراده لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك.

٤٦

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [الآية ٢٧] يطابقه وما في الأبحر من ماء مداد ، فلم عدل عنه إلى قوله : سبحانه (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [الآية ٢٧]؟

قلنا : استغنى عن ذكر المداد بقوله تعالى (يَمُدُّهُ) والفعل مأخوذ من مد الدواة وأمدها. أي : زادها مدادا. فجعل البحر المحيط بمنزلة الدواة ، والأبحر السبعة مملوءة مدادا تصبّ فيه أبدا صبّا لا ينقطع ، فصار نظير ما ذكرتم ، ونظيره قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الكهف : ١٠٩].

فإن قيل : لم قال تعالى : (مِنْ شَجَرَةٍ) ولم يقل «من شجر»؟

قلنا : لأن السّياق اقتضى تفصيل الشجر وتقصّيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر شجرة واحدة إلّا وقد بريت أقلاما.

فإن قيل : الكلمات جمع قلة والمقصود التفخيم والتعظيم ، فكان جمع الكثرة وهو الكلم أشد مناسبة؟

قلنا : جمع القلّة هنا أبلغ فيما ذكرتم من المقصود. لأن جمع القلّة إذا لم يفن بتلك الأقلام وذلك المداد ، فكيف يفنى جمع الكثرة.

فإن قيل : في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الآية ٣٤]. لم أضاف سبحانه العلم إلى نفسه في الأمور الثلاثة من الخمسة المغيّبات ، ونفى العلم عن العباد في الأمرين الآخرين ، مع أن الأمور الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها وانتفاء علم العباد بها؟

قلنا : إنما خصّ الأمور الثلاثة الأول بالإضافة إليه تعظيما لها وتفخيما لأنّها أجلّ وأعظم ؛ وإنّما خصّ الأمرين الآخرين بنفي علمهما عن العباد ، لأنّهما من صفاتهم وأحوالهم ، فإذا انتفى عنهم علمهما كان انتفاء علم ما عداهما من الأمور الخمسة أولى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [الآية ٣٤] ولم يقل بأي وقت تموت ، وكلاهما غير معلوم ، بل نفي العلم بالزمان أولى ، لأنّ من الناس من يدّعي علمه وهم المنجّمون ، بخلاف المكان فإن أحدا لا يدّعي علمه؟

قلنا : إنّما خصّ المكان بنفي علمه لوجهين : أحدهما أن الكون في مكان

٤٧

دون مكان في وسع الإنسان واختياره ، فيكون اعتقاده علم مكان الموت أقرب بخلاف الزمان. الثاني : أنّ للمكان تأثيرا في جنب الصحة والسقم بخلاف الزمان ، أو تأثير المكان في ذلك أكثر.

٤٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «لقمان» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ٦].

وهذه استعارة ، والمراد بالاشتراء هاهنا استبدال الشيء من غيره ، وكذلك البيع للشيء يكون بمعنى استبدال غيره منه. فكأنّ المذموم بهذا الكلام استبدال لهو الحديث من سماع القرآن ، والتأدب بآدابه والاعتلاق بأسبابه. ويدخل تحت لهو الحديث ، سماع الغناء والحداء والإفاضة في الهزل والفحشاء ، وما يجري هذا المجرى. ويروى عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) قال : هو شراء القينات ، وقيل إنّ ذلك نزل في النّضر بن الحارث بن كلدة بن عبد الدار بن قصيّ. وكان يبتاع الكتاب ، وفيها أحاديث الأكاسرة وأنباء الأمم الخالية ، ويقرأها على قريش إلهاء لهم عن سماع القرآن وتدبّره ، بزعمه وحيدا لهم عن تأمّل قوارعه وزواجره.

٢ ـ قال سبحانه : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الآية ٧].

وهذه استعارة ، لأن البشارة في العرف إنما تكون بالخير والسعادة والمسرّة لا بالشّرّ والمضرّة. لكنّ إبلاغهم الوعيد بالعقاب ، لمّا كان كإبلاغهم الوعد بالثواب في تقدم الخبر به ، جاز أن يسمّى لهذه العلّة باسمه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤٩

وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب بذلك مذهبا حسنا ، فيقول : إنّ لفظ البشارة مأخوذ من البشرة فكأنّ المخبر لغيره بخبر النفع والخير ، أو خبر الشّرّ والضّرّ يلقي في قلبه من كلا الأمرين ما يظهر تأثيره في بشرة وجهه : فإن كان خيرا ظهرت تباشير المسرّة ، وإن كان شرّا ظهرت فيه علامات المساءة ، فحسن على هذا المعنى ، أن تستعمل البشارة في الشّرّ والضّرّ ، كما تستعمل في النفع والخير.

٣ ـ قال تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [الآية ١٨].

وقرئ «ولا تصاعر» وهذه استعارة. وأصل الصّعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها حتّى تقلب أعناقها. فكأنّه أمره أن لا يشمخ بأنفه ويعرض بوجهه من الكبر ، تشبيها بالبعير إذا أصابه ذلك الداء ، ومن صفات الكبر رفع الطرف حتّى كأنه معقود بالسماء ، وعلى ذلك قول كثيّر في صفة قوم بالكبر :

تراهم إذا ما جئتهم فكأنّما يشيمون أعلى عارض متراكب أي يرفعون رؤوسهم كبرا ، ويطمحون بأبصارهم عجبا ؛ وقال شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي : أنشدنا أبو علي الفارسي هذا البيت ، وقال يصلح أن يجعل في مقابلة قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] لأنّ البيت في صفة المتكبّرين بالغيرة ، والآية في صفة الخاشعين بالذّلّة ، وهما في طرفين وسبيلين مختلفين. والبيت المتقدم ذكره أنشدنا إياه أبو الفتح عن أبي علي ، على ما ذكرته ، وهو قوله :

يشيمون أعلى عارض متراكب والصحيح «أعلى عارض متنصّب» لأن هذه القصيدة مدح بها كثيّر عبد الملك بن مروان ، وتالي البيت المذكور قوله :

يردون (١) شزرا والعيون طوامح بأبصارهم آفاق شرق ومغرب وأنشده منشد عمر بن عبد العزيز فقال هجانا ورب الكعبة ، يريد أنّه وصفهم بالكبر المفرط والطّماح المشرف (٢).

__________________

(١). نرجح أن يكون الفعل يرودون.

(٢). نظن أن الأصل المسرف.

٥٠

٤ ـ قال سبحانه : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [الآية ١٩].

وهذه استعارة ، لأن أصل «الغض» الحطّ من منزلة عليّة إلى منزلة دنيّة. يقال غضّ فلان من فلان إذا فعل به ذلك قولا وفعلا ، وغضّ طرفه إذا كسره وضعّفه ، أي فكأنّه قال : «وحطّ صوتك من حال الارتفاع إلى حال الانخفاض ، إخباتا لله وتطامنا لأولياء الله».

٥١
٥٢

سورة السّجدة

٣٢

٥٣
٥٤

المبحث الأول

أهداف سورة «السجدة» (١)

سورة السجدة مكّية ، وآياتها ٣٠ ، نزلت بعد سورة غافر ، وقد نزلت سورة السجدة في المرحلة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة ، إذ كان نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة.

أسماء السورة

لسورة السجدة ثلاثة أسماء ، الاسم الأول سورة السجدة ، لاشتمالها على سجدة التلاوة في قوله تعالى :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)).

الاسم الثاني : «سجدة لقمان» ، للتمييز عن حم السجدة ، وهي سورة «فصّلت».

الاسم الثالث : «المضاجع» لقوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [الآية ١٦].

مخاطبة القلوب

سورة السجدة نموذج متميّز ، من نماذج الخطاب القرآني للقلب البشري ، بالعقيدة الصحيحة الّتي جاء القرآن ليوقظها في الفطرة ، ويركزها في القلوب عقيدة الدينونة لله الأحد ، الفرد الصمد ، خالق الكون والناس ومدبّر السماوات والأرض وما بينهما ، وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلّا الله ، والتصديق برسالة محمد (ص) ، الموحى إليه بهذا القرآن ، لهداية البشر إلى الله ، والاعتقاد بالبعث والقيامة ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٥٥

والحساب والجزاء. هذه هي القضية الّتي تعالجها السورة ، وهي القضية الّتي تعالجها سائر السور المكّيّة ، كلّ منها تعالجها بأسلوب خاص ، ومؤثّرات خاصّة ، تلتقي كلّها في أنّها تخاطب القلب البشري ، خطاب العليم الخبير ، المطّلع على أسرار هذه القلوب وخفاياها ، العارف بطبيعتها وتكوينها ، وما يستكنّ فيها من مشاعر ، وما يعتريها من تأثّرات واستجابات. في جميع الأحوال والظروف.

وسورة السجدة تعالج تلك القضية بأسلوب ، وبطريقة مغايرين لأسلوب سورة لقمان السابقة وطريقته. فهي تعرضها في آياتها الأولى ، ثم تمضي بقيّتها ، تقدّم مؤثّرات موقظة للقلب ، منيرة للروح ، مثيرة للتأمّل والتّدبّر ، كما تقدّم أدلّة وبراهين على تلك القضيّة ، معروضة في صفحة الكون ومشاهده ، وفي نشأة الإنسان وأطواره ، وفي مشهد من مشاهد اليوم الاخر حافل بالحياة والحركة ، وفي مصارع الغابرين ، وآثارهم القاطعة الناطقة بالعبرة ، لمن يسمع لها ويتدبّر منطقها.

«كذلك ترسم السورة صورا للنفوس المؤمنة ، في خشوعها وتطلّعها إلى ربّها ، وللنفوس الجاحدة في عنادها ولجاجها ، وتعرض صورا للجزاء الّذي يتلقّاه هؤلاء وهؤلاء ؛ وكأنّها واقع مشهود حاضر للعيان ، يشهده كلّ قارئ لهذا القرآن.

وفي كلّ هذه المعارض والمشاهد ، تواجه القلب البشريّ ، ممّا يوقظه ويحرّكه ويقوده إلى التأمّل والتدبّر مرّة ، وإلى الخوف والخشية مرّة ، وإلى التطلّع والرّجال مرّة ، وتطالعه تارة بالتحذير والتهديد ، وتارة بالأطماع وتارة بالإقناع ... ثمّ تدعه في النّهاية تحت هذه المؤثّرات ، وأمام تلك البراهين ، تدعه لنفسه يختار طريقه ، وينتظر مصيره على علم وعلى هدى وعلى نور» (١).

أفكار السورة ونظامها

تبدأ سورة السجدة بالحديث عن القرآن الكريم ، وتبيّن أنّه حقّ من عند الله ، وتبيّن قدرة الله وعظمته ، فهو خالق السماوات والأرض ، وهو

__________________

(١). في ظلال القرآن ، بقلم سيّد قطب ٢١ : ٩٢.

٥٦

المهيمن على الكون ، وهو المدبّر للأمر كلّه ، وهو الخالق للإنسان ، وهبه السمع والبصر والإدراك ؛ والنّاس بعد ذلك قليلا ما يشكرون. وبذلك عالجت قضية الألوهيّة وصفتها : صفة الخلق ، وصفة التدبير مذكورة في سياق آيات الخلق والتكوين ، وتستغرق هذه المجموعة ، بما فيها صفة الإحسان ، وصفة الإنعام ، وصفة العلم ؛ وصفة الرحمة ، تستغرق من أوّل السورة إلى الآية ٩.

ثمّ تتحدّث الآيات عن إنكار الكافرين للبعث والحساب ، وتجيبهم بأن البعث حقّ ، وتعرض مشهدا من مشاهد القيامة ، يقف فيه المجرمون أذلّاء يعلنون يقينهم بالآخرة ، ويقينهم بالحقّ الّذي جاءتهم به الدعوة المحمّدية.

وإلى جوار هذا المشهد البائس المكروب تعرض السورة مشهد المؤمنين في الدنيا وهم يعبدون الله ، ويسجدون لعظمته ، ويقومون الليل بالصلاة والعبادة ، ثمّ تبشّرهم بحسن الجزاء :

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)).

ثم تشير الآيات ، إلى أن منطق العدالة يأبى أن يستوي المؤمن والفاسق ، فقد اختلفوا في العمل في الدنيا ، فيجب أن يختلف الجزاء في الاخرة ، فللمؤمنين جنّات المأوى ، وللفاسقين «عذاب» جهنم ؛ وتستغرق هذه المجموعة الآيات [١٠ ـ ١٢].

وفي الآيات الأخيرة من السورة ، ترد إشارة إلى موسى (ع) ، ووحدة رسالته ورسالة محمد (ص) والمهتدين من قومه.

وتعقب هذه الإشارة ، جولة في مصارع الغابرين من القرون ، وهم يمشون في مساكنهم غافلين ، ثم جولة في الأرض الميتة ، ينزل عليها الماء بالحياة والنماء.

٥٧
٥٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «السجدة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة السجدة بعد سورة غافر ، وقد نزلت سورة غافر بعد الإسراء قبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة السجدة في ذلك التاريخ أيضا.

وسمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في الآية ١٥ منها : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)).

وهي من الآيات الّتي تحسن السجدة عند قراءتها ، وتبلغ آياتها ثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن ، وهو قريب من الغرض الّذي يقصد من السورة السابقة ، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها ؛ وهذا ، إلى أنّها تشبهها في ما جاء فيها ، من حثّ المؤمنين على الصبر على أذى المشركين ، ومن وعدهم بأن يجازوا على صبرهم كما جوزي الصابرون من بنى إسرائيل قبلهم ، وقد جاء ذلك الغرض فيها على قسمين : أوّلهما في إثبات تنزيل القرآن ، وبيان عاقبة من آمن به ، ومن كذّب به في الاخرة والدنيا ؛ وثانيهما في تأييد ذلك ، بما لا يمكن إنكاره من فطرة العقل ، وبما حصل لمن آمن بالتوراة من بني إسرائيل من رفعة شأنهم ، وجعلهم أئمّة في الدنيا ، يهدون بأمر الله تعالى.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٥٩

إثبات تنزيل القرآن

الآيات [١ ـ ٧]

قال الله تعالى : (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)) فذكر سبحانه ، أنّه لا ريب في تنزيل الكتاب من عنده ، وأنّهم يزعمون أنّ النبي (ص) افتراه ؛ وردّ ذلك بأنّه جاء بالحقّ لينذر به قومه الّذين لم يأتهم نذير قبله ، ويهديهم إلى الإيمان بالله بعد أن ضلّوا عنه ؛ وهو الّذي خلق السماوات والأرض ، وما بينهما في ستّة أيّام ، إلى غير هذا ممّا ذكره سبحانه في الهداية إلى الإيمان به.

ثمّ ذكر لهم شبهة أخرى ، وهي إنكارهم ما أتى به ، من بعثهم بعد أن يصيروا ترابا ، ويضلّوا في الأرض ، ومن لقاء ربهم ليعاقبهم على كفرهم ؛ وردّ عليهم بأنّه لا بدّ من الموت ، ومن لقاء جزائهم بالبعث بعده ، فإذا حاسبهم سبحانه على كفرهم ، نكسوا رؤوسهم ، ودعوه أن يرجعهم إلى الدنيا ليؤمنوا فيها به ، فيجيبهم تعالى بأنّه لو شاء لهداهم في الدنيا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، فلا سبيل إلى تغييره برجوعهم إليها ، ولا بدّ لهم من دخول جهنّم ، ولا بدّ لهم أن يذوقوا عذابها بما نسوا لقاء يومهم هذا ؛ ثمّ ذكر جلّ وعلا أنّ الإيمان لا يكون من قوم متكبّرين مثلهم ، وإنّما يكون من قوم إذا ذكّروا بآيات ربهم خرّوا سجدا ، وتواضعوا لمن يذكّرهم ، إلى غير هذا من صفاتهم : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)).

أخذهم بالترغيب والترهيب

إلى الايمان به

الآيات [١٨ ـ ٣٠]

ثم قال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨)) فذكر سبحانه أنه لا يمكن أن يكون جزاء من يصدّق به كجزاء من يكذّب به ، لدليلين : أوّلهما : أنّه لا يمكن في العقل أن يستوي المؤمن والفاسق في الجزاء ، فالمؤمنون لهم جنّات المأوى جزاء لهم ، والفاسقون مأواهم النار في الاخرة ، ولهم في الدنيا عذاب أدنى من ذلك ، بتسليط المؤمنين عليهم ؛ وثانيهما ، أنّه أتى موسى الكتاب فأظفر من آمن به على من كذّب به ، فلا يصحّ للنبي (ص) أن يشكّ في أنّه سيلقى من ذلك ، مثل ما لقي موسى (ع) ؛ ثمّ ذكر

٦٠