الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الزّمر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الزّمر» بعد سورة «سبأ» ، ونزلت سورة «سبأ» بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الزّمر» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في آخرها : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الآية ٧١] إلى قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الآية ٧٣]. وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية.

الغرض منها وترتيبها

ما يبرز لنا من أغراض هذه السورة الحثّ على إخلاص العبادة لله تعالى ، والنهي عن اتخاذ الوسائل من الأولياء والأولاد ونحوهم ، ولهذا يدور السياق فيها على إقامة الأدلة والآيات على بطلان هذا الاعتقاد. ووجه ارتباطها بسورة «ص» أنه ذكر فيها أن مشركي مكة اعتمدوا على ما جاء في النصرانية من التثليث واتخاذ الولد ، فجاءت هذه السورة بعدها لإبطال ما اعتمدوا عليه من ذلك ، والحث على إخلاص العبادة لله وحده.

إبطال الوسائل

من الأولياء والأولاد

الآيات [١ ـ ٧٥]

قال الله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)) فذكر سبحانه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٦١

وتعالى ، من قدرته وحكمته ، ما يستغنى معه عن الأولياء والأولاد. ثم أمر النبي (ص) أن يخلص العبادة له ، وأوعد من يتّخذون من دونه أولياء يعبدونهم ليقربوهم إليه بحكمه بينهم يوم القيامة ؛ ثم ذكر جلّ وعلا ، أن كل ما عداه مخلوق له فيستحيل أن يكون له ولد منهم ، لأن الولد يجب أن يجانس والده في الألوهية ، فهو خالق السماوات والأرض ، ومكوّر الليل على النهار والنهار على الليل ، إلى غير هذا مما ذكره من خلقه ؛ ثم ذكر أنهم ، إن يكفروا بعد ذلك ، فهو غني عنهم ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، فلا شفاعة لولي أو ولد أو غيرهما مما يعبدونهم.

ثم ذكر ، سبحانه ، أنه إذا مسّ الإنسان ضرّ لجأ إليه وحده ، ونسي أولياءه وشفعاءه إليه ، فإذا كشف الضّر عنه وصار في نعمة ، نسيه واتّخذ له أندادا من الأولياء والشفعاء ، ثم هدّد هذا الإنسان الجاحد الكافر بأنه سيتمتّع بكفره ثم يكون من أصحاب النار ، لأنه لا يصح أن يستوي هو ومن يقنت إلى ربه ويعمل لآخرته ، ولا يصح أن يستوي من يعلم أن العبادة لله وحده بمن لا يعلم ذلك ، فيجب على المؤمنين أن يتّقوا ربهم وحده ، وأن يكونوا أول المسلمين له ، وليعبد غيرهم ما يشاءون من دونه ، فسيكون لهم من العقاب ما يكون ، وسيكون للّذين يخلصون العبادة له من الثواب ما يكون.

ثم ذكر أنه ، جلّت قدرته ، هو الّذي أنزل المطر فسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ، ثم يهيج فتراه مصفرّا ، ثم يجعله حطاما ؛ ففي ذلك دليل أيضا على تفرّده سبحانه بالألوهية ، وأنه لا يشاركه في ألوهيّته ما يتخذونه من الشفعاء والأولاد ، ثم ذكر أنه لا يعرف هذا إلا من استنار قلبه بالإسلام ؛ ثم نوّه السياق بشأن القرآن الّذي يأتي بمثل هذا البيان ، مما تقشعرّ منه الجلود ، وتلين منه القلوب ، وجمع في هذا بين الوعد والوعيد على نحو ما سبق.

ثم ضرب مثلا لمن يتّخذ معه آلهة من الأولاد والأولياء بعبد فيه شركاء متشاكسون ، فلا يمكنه أن يرضيهم كلهم ؛ وضرب مثلا لمن يعبد الله وحده بعبد خالص لرجل واحد ،

٢٦٢

فيسهل عليه أن يرضيه ؛ وذكر أن ما ضربه مثلا في الحالين يفهمه كل من عنده حظ من العلم ، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون. ثم أكمل السياق ، بعد هذا ، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق.

ثم ذكر سبحانه أنه فيه وحده الكفاية لعبيده ، فلا يصح أن يخاف من الشفعاء الّذين يخوّف المشركون بهم ، وذكر أنهم لو سئلوا عن خالق السماوات والأرض لأجابوا بأنه هو الّذي خلقها ، وإذا كان هذا شأنه فإنه إذا أراد أحدا بضرّ لا يكشفه شفعاؤهم ، وإذا أراد أحدا برحمة لا يمكنهم أن يمسكوها عنه. ثم أكمل السياق ، بعد هذا ، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق.

ثم ذكر جلّ وعلا أنهم يتخذون هؤلاء الشفعاء من الأصنام ، لأنها تماثيل لأشخاص كانوا من المقربين عنده ، لينفعوا بشفاعتها وشفاعة أصحابها لهم ؛ ورد عليهم بأن أولئك المقربين عبيد لا يملكون من أمره شيئا ، وتلك الأصنام من الجماد الّذي لا يعقل ، فلا شفاعة إلا لله وحده. ثم ذكر أنهم ، مع هذا ، إذا ذكر سبحانه وحده اشمأزّت قلوبهم ، وإذا ذكر الّذين يتخذونهم شفعاء من دونه فرحوا واستبشروا ، وهذا تناقض عجيب منهم ، وأوعدهم على ذلك بما أوعدهم به ، وبيّن أنهم يفعلون ذلك في حال النعمة والرخاء ، فإذا مسّهم ضرّ توجّهوا إليه جلّ جلاله وحده بالدعاء ، ولا يلبثون ، إذا كشفه عنهم ، أن يعودوا إلى ما كانوا عليه ، فينسبوا ما أوتوه من نعمة إلى علمهم بالأفلاك. ولا يعلمون أنه سبحانه هو الّذي يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقبضه عمّن يشاء. ثم تلطف في دعوتهم ، فذكر أنهم أسرفوا بذلك على أنفسهم ، ونهاهم أن يقنطوا مع ذلك من رحمته ، لأنه يغفر الذنوب جميعا بالتوبة عنها ، إلى غير هذا مما ذكره في ذلك الأسلوب من دعوتهم.

ثم ذكر سبحانه أنه خالق كل شيء وله مقاليد السماوات والأرض ، وأمر النبيّ (ص) أن يخبرهم بأنه لا يصحّ مع هذا أن يطيعهم فيما يأمرونه به من عبادة أوليائهم وشفعائهم. ثم أكمل السياق ، بعد هذا ، نسق الوعد والوعيد على نحو ما سبق ، إلى أن ذكر سبحانه

٢٦٣

أن الّذين كفروا يساقون إلى جهنم زمرا فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به ، وأن الّذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمرا ، فيقابلهم خزنتها بما يقابلونهم به ، ويحمدون الله الّذي صدقهم وعده ، وأورثهم الأرض يتبوّءون من الجنّة حيث يشاءون ، فنعم أجر العاملين (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)).

٢٦٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الزّمر» (١)

لا يخفى وجه اتصال أولها باخر «ص» ، حيث قال سبحانه في «ص» : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧)) ثم قال هنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) [الآية ١] فكأنه قيل : هذا الذكر تنزيل. وهذا تلاؤم شديد ، بحيث أنه لو أسقطت البسملة لالتأمت الآيتان في السورتين كالآية الواحدة.

وقد ذكر الله تعالى في آخر «ص» قصة خلق آدم (ع) (٢) ، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه ، وخلق الناس كلّهم منه ، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ، ثم ذكر أنهم ميّتون ، ثم ذكر وفاة النوم والموت ، ثم ذكر القيامة ، والحساب ، والجزاء ، والنار ، والجنة (٣). وقال جلّ وعلا : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)).

فذكر أحوال الخلق ، من المبدأ إلى المعاد ، متّصلا بخلق آدم المذكور في السورة الّتي قبلها.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). قصّة خلق آدم في ص في قوله تعالى :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)) [ص] إلى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)) [ص].

(٣). بدأ ذكر هذه الموضوعات في الزمر ، بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الآية ٦] ، وقوله سبحانه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)) وقوله جلّ وعلا : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الآية ٤٢]. وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الآية ٧١] ، الى آخر السورة. فلو قدّمت الزمر على «ص» ، لاختل النسق القرآني الّذي أحكمه الله تعالى.

٢٦٥
٢٦٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الزّمر» (١)

١ ـ (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) [الآية ٣٣].

قال قتادة : هو النبي (ص).

وقال السّدّي : هو جبريل.

٢ ـ (وَصَدَّقَ بِهِ) [الآية ٣٣].

هو النبيّ (ص) أخرجهما ابن أبي حاتم.

٣ ـ (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الآية ٣٦].

قال السّدّي : هو محمد (ص) أخرجه ابن أبي حاتم.

٤ ـ (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الآية ٦٨].

قال كعب الأحبار : هم اثنا عشر : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، وحملة العرش ثمانية.

أخرجه ابن أبي حاتم. ورد ذلك من حديث أنس مرفوعا أخرجه الفريابي.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

٢٦٧
٢٦٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الزّمر» (١)

قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الآية ٢٣].

قوله تعالى : (مَثانِيَ) جمع مثنى ، وهو بيان لكونه متشابها ، لأنّ القصص المكرّرة لا تكون إلّا متشابهة ، فكأن المراد : مردّدة ومكررة.

٢ ـ وقال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) [الآية ٢٩].

أي : متنازعون.

أقول : والتشاكس والمشاكسة في لغة العصر ضرب من الشّغب والشّقاق والفتنة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٦٩
٢٧٠

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الزّمر» (١)

قال تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) [الآية ١٢] أي : وبذلك أمرت.

وقال : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) [الآية ١٧] لأنّ (الطاغوت) في معنى جماعة. وقال أيضا : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ (٢٥٧)) [البقرة] وإن شئت جعلته واحدا مؤنّثا.

وقال سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الآية ١٩] أي : أفأنت تنقذه.

وقال أيضا : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الآية ٢٢] بجعل قوله سبحانه : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) [الآية ٢٢] مكان الخبر.

وقال : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) [الآية ٢٤] فهذا لم يظهر له خبر في اللفظ ، ولكنه في المعنى ، والله أعلم ، كأن السياق «أفمن يتّقي بوجهه أفضل أم من لا يتّقي».

وقال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الآية ٢٨] لأن قوله سبحانه : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الآية ٢٧] معرفة فانتصب خبره.

وقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) [الآية ٣٣] ثم قال (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)) بجعل (الّذي) في معنى جماعة بمنزلة «من».

وقال تعالى : (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الآية ٦٠] بالرفع على الابتداء ، ونصب بعضهم على البدل. وكذلك (وَيَجْعَلَ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٧١

الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) [الأنفال ٣٧] بجعله بدلا من (الخبيث) ومنهم من قرأ (بعضه على بعض) فرفع على الابتداء. أو شغل الفعل بالأول. وقرأ بعضهم : (مسوادّة) وهي لغة لأهل الحجاز يقولون : «اسوادّ وجهه» و «احمارّ» يجعلونه «افعالّ» كما تقول للأشهب «قد اشهابّ» وللازرق «قد ازراقّ». وقال بعضهم لا يكون «افعالّ» في ذي اللون الواحد ، وإنّما يكون في نحو الأشهب ، ولا يكون في نحو الأحمر ، وهما لغتان.

وقال تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الآية ٦٤] أي «أفغير الله أعبد تأمرونني» كأن السياق أراد الإلغاء ، والله أعلم ، كما تقول «هل ذهب فلان. تدري» جعله على معنى «ما تدري».

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الآية ٦٥].

وقال : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الآية ٧٥] ف (مِنْ) أدخلت هاهنا توكيدا ، والله أعلم ، نحو قولك : «ما جاءني من أحد» وثقّلت (حَافِّينَ) لأنها من «حففت».

وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الآية ٧٣] فيقال إن قوله سبحانه (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) [الآية ٧٣] في معنى «قال لهم» كأن السياق يلقي الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة فيه. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس بعد المائة] :

فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن

إلّا كلمّة حالم بخيال

فيشبه أن يكون يريد «فإذا ذلك لم يكن». وقال بعضهم : «أضمر الخبر» وإضمار الخبر أحسن في الآية أيضا ، وهو في الكلام.

وقال تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الآية ٦٧] أي : «في قدرته» نحو قوله جلّ وعلا (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (٢٥)) [النساء] أي : وما كانت لكم عليه قدرة ، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر البدن. وأما قوله سبحانه (قَبْضَتُهُ) فنحو قولك للرجل : «هذا في يدك وفي قبضتك».

٢٧٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الزّمر» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)) وكم من كاذب كفّار قد هداه الله تعالى فأسلم وصدق؟

قلنا : معناه لا يهديه إلى الإيمان مادام على كفره وكذبه. وقيل معناه : لا يهديه إلى حجّة يلزم بها المؤمنين.

فإن قيل : كيف نستنتج أن في قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ (٤)) [الآية ٤] ردّا لقول من ادّعى أن له ولدا ، وإبطالا لذلك ، مع أنّ كل من نسب إليه سبحانه ولدا قال إنه اصطفاه من خلقه بجعله ولدا ؛ فاليهود يدّعون أنه عزير ، والنصارى يدّعون أنه المسيح بن مريم عليهما‌السلام ، وطائفة من مشركي العرب يدعون أن الملائكة بنات الله تعالى؟

قلنا : هذا إن جعل ردّا على اليهود والنصارى كان معناه لاصطفى الولد من الملائكة لا من البشر ، لأنّ الملائكة أشرف من البشر بلا خلاف بين اليهود ولا بين النصارى ؛ وإن كان ردّا على مشركي العرب كان معناه لاصطفى له ولدا من جنس يخلق كل شيء يريده ليكون ولدا موصوفا لصفته ، ولم يصطف من الملائكة الّذين لا يقدرون على إيجاد جناح بعوضة ؛ ولا يردّ على هذا خلق عيسى (ع) الطير لأنه ليس بعام ، أو لأن معنى خلقه التقدير من الطين ، ثم إنّ الله تعالى يخلقه حيوانا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٧٣

بنفخ عيسى عليه‌السلام وإظهارا لمعجزته.

فإن قيل : لم قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الآية ٦] وخلق حواء من آدم (ع) سابق على خلقنا منه ، فكيف عطفه عليه بكلمة «ثمّ»؟

قلنا : «ثم» هنا للترتيب في الإخبار لا في الإيجاد ، كما تقول لصاحبك أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس أكثر منه : أي ثم أخبرك بكذا ، ومنه قول الشاعر :

إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه

ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه

الثاني : أن «ثم» متعلقة بمعنى (واحِدَةٍ) وعاطفة عليه لا على (خَلَقَكُمْ) ، فمعناه خلقكم من نفس واحدة ، وأفردت بالإيجاد ثم شفعت بزوج. الثالث : أن «ثم» على ظاهرها ، لأن الله تعالى خلق آدم ثم أخرج أولاده من ظهره كالذّر ، وأخذ عليهم الميثاق ثم ردهم إلى ظهره ، ثم خلق منه حواء ؛ فالمراد بقوله تعالى خلقكم خلقا يوم أخذ الميثاق دفعة واحدة ، لأن هذا الخلق الّذي نحن فيه بالتوالد والتناسل.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الآية ٦] مع أن الأنعام مخلوقة في الأرض لا منزلة من السماء؟

قلنا : قيل إن الله تعالى خلق الأزواج الثمانية في الجنّة ثم أنزلها على آدم (ع) بعد إنزاله. الثاني : أن الله تعالى أنزل الماء من السماء ، والأنعام لا توجد إلا بوجود النبات ، والنبات لا يوجد إلا بوجود الماء ، فكأن الأنعام منزلة من السماء ، ونظيره قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) [الأعراف : ٢٦] وإنما أنزل الماء الّذي لا يوجد القطن والكتان والصوف إلّا به.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الّذي جاء بالصدق وصدق به : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)) مع أنه سبحانه وتعالى يكفّر عنهم سيّئ أعمالهم ويجزيهم بحسنها أيضا؟

قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة التوبة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الآية ٤٤] مع أنه جاء في الأخبار أن للأنبياء والعلماء

٢٧٤

والشهداء والأطفال شفاعة يوم القيامة؟

قلنا : معناه أن أحدا لا يملكها إلّا بتمليكه ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وقال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى (٢٨)) [الأنبياء : ٢٨].

فإن قيل : لم ذكّر الضمير في أوتيته وهو للنعمة في قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) [الآية ٤٩]؟

قلنا : إنما ذكّره نظرا إلى المعنى ، لأن معنى «نعمة» : «شيئا من النعمة وقسما منها» ، أو لأن النعمة والإنعام بمعنى واحد.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الآية ٥٥] والقرآن كلّه حسن؟

قلنا : معناه اتّبعوا أحسن وحي أو كتاب أنزل إليكم من ربّكم ، وهو القرآن كله. وقيل أحسن القرآن الآيات المحكمات. وقيل أحسنه كل آية تضمنت أمرا بطاعة أو إحسان ؛ وقد سبق نظير هذه الآية في سورة الأعراف في قوله تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥] والأجوبة المذكورة ثمّة تصلح هنا ، وكذا الأجوبة المذكورة هنا تصلح ثمّة ، إلا الجواب الأول.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ) [الآية ٦٥] مع أن الموحى إليهم جماعة ، ولما أوحي إلى من قبله لم يكن في الوحي إليهم خطابه؟

قلنا : معناه الأول : ولقد أوحي إلى كل واحد منك ومنهم : لئن أشركت. الثاني : أن فيه إضمارا تقديره : ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك التوحيد ، ثم ابتدئ فقيل لئن أشركت. والثالث : أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره : ولقد أوحي إليك لئن أشركت ، وكذلك أوحي إلى الّذين من قبلك.

فإن قيل : لم عبّر سبحانه عن الذهاب بأهل الجنة والنار بلفظ السّوق في قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ٧١] ؛ وفي قوله سبحانه (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) [الآية ٧٣] والتعبير في الآيتين يحمل ضربا من الإهانة؟

قلنا : المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف ، كما يفعل

٢٧٥

بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل ؛ والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم حثّا وإسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان ، كما يفعل بمن يشرّف ويكرم من الوافدين على السلطان ، فشتان ما بين السّوقين.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف النار : (فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الآية ٧١] بغير واو ، وقال في صفة الجنة : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الآية ٧٣] بالواو؟

قلنا : فيه وجوه : أحدها أنها زائدة ، قاله الفرّاء وغيره. الثاني : أنها واو الثمانية وأبواب الجنة ثمانية. الثالث : أنها واو الحال ، معناه : جاءوها وقد فتحت أبوابها قبل مجيئهم ، بخلاف أبواب النار فإنها إنّما تفتح عند مجيئهم. والحكمة في ذلك من وجوه : أحدها أن يستعجل أهل الجنة الفرح والسرور إذا رأوا الأبواب مفتّحة ، وأهل النار يأتون النار وأبوابها مغلّقة ليكون أشدّ لحرّها. الثاني أنّ الوقوف على الباب المغلق نوع ذل وهوان ، فصين عنه أهل الجنة لا أهل النار. الثالث : أن الكريم يعجّل المثوبة ويؤخّر العقوبة ، فلو وجد أهل الجنة بابها مغلقا لأثّر انتظار فتحه في كمال الكريم ، بخلاف أهل النار.

٢٧٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الزّمر» (١)

قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الآية ٥].

هذه استعارة. والمعنى يعلي هذا على هذا. وذلك مأخوذ من قولهم : كار العمامة على رأسه يكورها : إذا أدارها عليه. وقد قالوا : طعنه فكوّره ، أي صرعه. ومنه قول أبي كبير الهذلي : (٢) متكوّرين على المعاري بينهم ضرب كتعطاط المزاد الأنجل ومنه الحديث المأثور : (نعوذ بالله من الحور بعد الكور) (٣) أي من الإدبار بعد الإقبال. وقيل من القلة بعد الكثرة. لأنهم يسمّون القطيع الكثير من البقر وغيرها كورا. ومنه قول أبي ذؤيب (٤) في صفة الثور :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). أبو كبير الهذلي هو عامر بن الحليس. وهو شاعر جاهلي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» و «الإصابة» والخزانة» واللئالي». وزعموا أنه تزوج أم الشاعر «تأبّط شرّا» ، وكان هذا غلاما صغيرا ، فلمّا رآه يكثر الدخول على أمه تنكّر له. والقصة كاملة في كتاب «ديوان الهذليين» ج ٢ ص ٨٨ ؛ ومتكوّرين أي بعضهم على بعض ، والمعاري السوآت. والتعطاط من العط ، وهو الشق ، والأنجل الواسع.

(٣). في «أساس البلاغة» : «وأعوذ بالله من الحور بعد الكور». والباطل في حور ـ بالضم ـ وهما النقصان ، كالهون والهون. والحديث كاملا في «المجازات النبوية» طبع القاهرة. صفحة ١١٣ ، ونصه : «اللهمّ إنّا نعوذ بك من وعثاء السفر. وكابة المنقلب ، والحور بعد الكور. وسوء المنظر في الأهل والمال».

(٤). هو أبو ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد ، جاهلي إسلامي ، وكان راوية للشاعر الهذلي ساعدة بن جؤيّة. وقالوا : إنه خرج مع عبد الله بن الزّبير في مغزى نحو المغرب فمات. وهو صاحب العينية المشهورة الّتي يرثي بها سبعة من ـ

٢٧٧

ولا شبوب من الثيران أفرده عن كوره كثرة الإغراء والطّرد أي عن سربه الكثير.

فيجوز أن يكون معنى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) على قول من يقول : طعنه فكوّره ، يريد : فصرعه. أي يلقي الليل على النهار ، ويلقي النهار على الليل.

ويكون المعنى على قول من يذهب إلى أن الكور اسم للكثرة ، أي يكثر أجزاء الليل على أجزاء النهار ، حتى يخفي ضوء النهار وتغلب ظلمة الليل. ويكوّر النهار على الليل : أي يكثر أجزاء النهار ، حتى تظهر وتنتشر وتتلاشى فيها أجزاء الليل وتضمحل.

وقوله سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الآية ٤٢] وفي هذا الكلام استعارة خفيّة. وذلك أنّ قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ (٢) مَوْتِها) أي يقبضها (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) منسوق تعبير. فظاهر الخطاب يقتضى أنه سبحانه يتوفّى الأنفس الّتي لم تمت في منامها أيضا. ونحن نجد أمارة بقاء نفس النائم في جسده بأشياء كثيرة. منها ظهور التنفس والحركة وحذف لسانه بالكلمة بعد الكلمة ، وغير ذلك مما يجري مجراه. فيكون معنى توفّي النفس النائمة هاهنا اقتطاعها عن الأفعال التمييزية ، والحركات الإرادية ، كالعزوم (١) والقصود وترتيب القيام والقعود ، إلى غير ذلك ممّا في معناه.

وقال بعضهم : الفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضادّ اليقظة وقبض الموت يضادّ الحياة. وقبض النوم تكون الروح معه في البدن ، وقبض الموت تخرج الروح معه من البدن.

وقوله سبحانه : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)) وهذه

__________________

ـ أبنائه ماتوا في يوم واحد ، ومطلعها :

أمن المنون وريبها نتوجع

والدّهر ليس بمعتب من يجزع

وشعره في «ديوان الهذليين» طبع دار الكتاب المصرية.

(١). جمع عزم وهو ما يعزم الإنسان عليه من قصد ونيّة.

٢٧٨

استعارة. وقد اختلف في المراد بالجنب هاهنا. فقال قوم : معناه في ذات الله.

وقال قوم : معناه في طاعة الله ، وفي أمر الله. لأنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم : هذا الأمر مغال في جنب ذلك الأمر أي في جهته. لأنه إذا عبّر عنه بهذه العبارة دل على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته.

وقال بعضهم : معنى (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في سبيل الله ، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته ، بل الأوصل إلى طاعاته.

ولمّا كان الأمر كلّه يتشعّب إلى طريقين : إحداهما هدى ورشاد ، والأخرى غيّ وضلال ، وكلّ واحد منهما مجانب لصاحبه ، أو هو في جانب ، والاخر في جانب ، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد ، حسنت العبارة هاهنا عن سبيل الله بجنب الله ، على النحو الّذي ذكرناه.

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٦٣] وهذه استعارة. والمقاليد : المفاتيح. قال أبو عبيدة : واحدها مقليد ، وواحد الأقاليد إقليد. وهما بمعنى واحد وقال غيره : واحدها قلد على غير قياس.

وقال أبو عمرو بن العلاء (١) : وجهه في العربية أن يكون الواحد على لفظ مقلد ، ثم تجمع على «مقالد» فمن شاء أن يشبع كسرة اللام قال : «مقاليد» كما قالوا : درهم ودراهيم.

قال : وسمعت أبا المنذر يقول : واحد المفاتيح مفتاح. وواحد المفاتح مفتح والمعنيان جميعا واحد.

والمراد بمقاليد السماوات والأرض هاهنا ، والله أعلم ، أي مفاتيح خيراتهما ، ومعادن بركاتهما ، من إدرار الأمطار ، وإيراق الأشجار ، وسائر وجوه المنافع ، وعوائد المصالح.

وقد وصف سبحانه السماء في عدة مواضع بأنّ لها خزائن وأبوابا ، فحسن على مقتضى الكلام أن توصف بأن لها مقاليد وأغلاقا.

قال سبحانه : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) [الأعراف : ٤٠] وقال تعالى :

__________________

(١). هو زبّان بن عمار التميمي البصري. كان إماما في اللغة والأدب والشعر ورواية الأخبار. وقد تلقى أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية. توفي بالكوفة سنة ١٥٤ ه‍.

٢٧٩

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١)) [القمر] وقال عزّ من قائل : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [المنافقون : ٧].

وقالوا : خزائن السماوات الأمطار ، وخزائن الأرض النبات. وقد يجوز أن يكون معنى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي طاعة السماوات والأرض ومن فيهن. كما يقال : ألقى فلان إلى فلان مقاليده ، أي : أطاعه ، وفوّض إليه أمره.

وعلى ذلك قول الأعشى : (١) فتى لو ينادي الشّمس ألقت قناعها أو القمر السّاري لألقى المقالدا أي لسلّم العلوّ إليه ، واعتراف له به.

وقال بعض العلماء : ليس قول الشاعر هاهنا : ينادي الشمس ، من النداء الّذي هو رفع الصوت ، وإنّما هو من المجالسة. تقول : ناديت فلانا ، إذا جالسته في النادي. فكأنه قال : لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به ، وتبرّجا له. وهذا من غريب القول.

وقوله سبحانه : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الآية ٦٧] وهاتان استعارتان. ومعنى قبضته هاهنا أي ملك له خالص ، قد ارتفعت عنه أيدي المالكين من بريّته ، والمتصرّفين فيه من خليقته. وقد ورث تعالى من عباده ما كان ملّكهم في دار الدنيا من ذلك ، فلم يبق ملك إلّا انتقل ، ولا مالك إلّا بطل.

وقيل أيضا : معنى ذلك أن الأرض في مقدوره ، كالذي يقبض عليه القابض ، فتستولي عليه كفّه ، ويحوزه ملكه ، ولا يشاركه فيه غيره.

ومعنى قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي مجموعات في ملكه ، ومضمومات بقدرته. واليمين هاهنا بمعنى الملك. يقول القائل : هذا ملك يميني. وليس يريد اليمين الّتي هي الجارحة. وقد يعبّرون عن القوة أيضا باليمين. فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله سبحانه : (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي يجمع أقطارها ويطوي انتشارها بقوته ، كما قال سبحانه : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ

__________________

(١). البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها «هوذة بن علي الحنفي» ويذم «الحارث بن وعلة بن مجالد الرقاشي». ومطلعها :

أجدّك ودّعت الصّبا والولائدا

وأصبحت بعد الجور فيهنّ قاصدا

٢٨٠