الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

والكسر والمسخ ، وكله بكسر الفاء وسكون العين. وعلى هذا يكون «القطّ» القسم ، أي القسط الّذي أرادوه.

٣ ـ وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [الآية ١٧].

قلنا : إن العربية قد أفادت من أعضاء الجسم في توليد المواد المفيدة ، وفي هذه الآية «الأيد» ، وهو مصدر بمعنى القوة من «اليد» عضو الإنسان ، وهكذا أخذ من الضلع والعظم والسن وغيرها فوائد عدة.

٤ ـ وقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ).

أريد أن أنبه إلى أن الخصم ، وإن كان مفردا في لفظه ، فإنه يدل على الجمع في معناه ، والآية شاهد.

وانظر : الآية التاسعة عشرة من سورة الحج.

٥ ـ وقال تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)).

والمعنى : وغلبني.

أقول : وهذا من معاني «عزّ» النادرة الّتي لا نعرفها في عصرنا.

٦ ـ وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [الآية ٢٤].

وقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) للإبهام ، وفيه تعجب من قلّتهم ، و «ما» زائدة.

أقول وزيادة «ما» هذه رشّحت للتركيب الجميل للإبهام والتعجب من قلّتهم.

٧ ـ وقال تعالى : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١)).

والنصب قد يقرأ بفتح النون مع سكون الصاد ، وبفتحهما وضمهما كالرّشد والرّشد. والنصب هو البلاء والشرّ.

وقد نبّهت على هذا ، لأننا لا نعرف من هذه الكلمة إلا النصب ، بفتحتين وهو التعب.

٨ ـ وقال تعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [الآية ٤٢].

والمعنى : وادفع برجلك الأرض.

٩ ـ وقال تعالى : (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) [الآية ٦٣].

أقول : والسّخريّة والسخريّ والسّخريّ كله بمعنى مصدر سخر كالسّخر.

٢٤١
٢٤٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «ص» (١)

قال تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)) فيزعمون أنّ موضع القسم هو في قوله سبحانه : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)).

وقال تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣)) فشبهوا (لات) ب (ليس) وأضمروا فيها اسم الفاعل ولا تكون (لات) إلّا مع «حين» وقرأ بعضهم بالرفع (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) فجعله في قوله مثل (ليس) كأن السياق «ليس أحد» وبإضمار الخبر. وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائتين] :

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء

فجرّ «أوان» وحذف وأضمر «الحين» وأضاف الى «أوان» لأنّ (لات) لا تكون إلّا مع «الحين».

وقال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [الآية ٥] تقول «أتجعل مائة شاهد شاهدا واحدا».

وقال تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً) [الآية ٣٣] أي : يمسح مسحا.

وقال تعالى : (رُخاءً) [الآية ٣٦] والله أعلم ، على «رخّيناها رخاء».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٤٣
٢٤٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «ص» (١)

إن قيل : أين جواب القسم في قوله تعالى (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١))؟.

قلنا : فيه وجوه : أحدها : أنه لما ذكر سبحانه حرفا من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز ، كما قيل في كل سورة مفتتحة بحرف أتبعه القسم ، محذوف الجواب ، لدلالة التحدي عليه ، كأنّ السياق : والقرآن ذي الذكر إنه لكلام معجز ؛ وكذلك إذا كان الحرف مقسما به ، كأنّ السياق :

أقسمت ب «ص» والقرآن ذي الذكر ، إن هذا الكلام معجز.

الثاني : أن «ص» خبر مبتدأ محذوف ، على أنه اسم للسورة ، كأن السياق يقول : هذه «ص» ، يعني : هذه السورة الّتي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر ، كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد : هذا هو المشهور بالسخاء والله.

الثالث : أن جواب القسم : كم أهلكنا ، وأصله لكم أهلكنا ، فلمّا طال الكلام حذفت اللام تخفيفا كما في قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١)) [الشمس](قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩)) [الشمس] الرابع : أنّه قوله تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)) وهو قول الكسائي. وقال الفرّاء : وهذا لا يستقيم في العربية لتأخّره جدا عن القسم.

فإن قيل : ما وجه المناسبة والارتباط بين قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٤٥

[الآية ١٧] وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) [الآية ١٧]؟

قلنا : وجه المناسبة بينهما : أنه أمر أن يتقوّى على الصبر ، بذكر قوة داود عليه‌السلام على العبادة والطاعة. الثاني : أن المعنى عرّفهم أن داود (عليه‌السلام) ، مع كرامته وشهرة طاعته وعبادته ، الّتي منها صوم يوم دون يوم ، وقيام نصف الليل ، كان شديد الخوف من عذابي ، لا يزال باكيا مستغفرا. فكيف حال هؤلاء مع أفعالهم؟

فإن قيل : لم قال الملكان لمّا دخلا على داود (عليه‌السلام) كما ورد في التنزيل : (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) [الآية ٢٢] والملائكة لا يوجد منهم البغي والظلم ، ولم قال تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) [الآية ٢٣] إلى آخره ، ولم يكن كما قال؟

قلنا : إنّما قالا ذلك على سبيل الفرض والتصوير للمسألة ، ومثل ذلك لا يعدّ كذبا كما تقول في تصوير المسائل : زيد له أربعون شاة وعمرو له أربعون ، وأنت تشير إليهما ، فخلطاها وحال عليها الحول كم يجب فيها وليس لهما شيء ، وتقول لي أربعون شاة ، ولك أربعون ، فخلطناها وما لكم شيء.

فإن قيل : لم حكم داود (عليه‌السلام) على المدعى عليه بكونه ظالما قبل أن يسمع كلامه؟

قلنا : لم يحكم عليه إلا بعد اعترافه ، كذا نقله السّدّي ؛ إلا أنه حذف ذكر الاعتراف في القصة ، اختصارا لدلالة الحال عليه ، كما تقول العرب : أمرته بالتجارة فكسب الأموال : أي فاتّجر ، فكسب الأموال.

فإن قيل : ما معنى تكرار الحب في قوله تعالى : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [الآية ٣٢]. وما معنى تعديته ب «عن» وظاهره أحببت حبّا مثل حب الخير ، كما تقول أحببت حبّ زيد : أي أحببت حبّا مثل حبّ زيد؟

قلنا : أحببت في الآية بمعنى آثرت ، كما يقول المخيّر بين شيئين : أحببت هذا : أي آثرته ، وقد جاء استحب بمعنى آثر ، قال الله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]. أي آثروه : لأنّ من أحبّ شيئا فقد آثره على غيره ، و «عن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ)

٢٤٦

[محمد : ٣٨] فيصير المعنى أي آثرت حب الخير على ذكر ربي. الثاني : وهو اختيار الجرجاني صاحب معاني القرآن ، أن «أحببت» بمعنى قعدت وتأخرت ، مأخوذ من أحب الجمل إذا برك ، ومنه قول الشاعر :

دعتك إليها مقلتاها وجيدها

فملت كما مال المحبّ على عمد

فالمحبّ هنا الجمل ، والعمد علّة تكون في سنام الجمل ، وكل من ترك شيئا وتجنّب أن يفعله فقد قعد عنه ، فتأويل الآية : إنّي قعدت عن ربي لحبّ الخير ، فيكون انتصاب حب على أنه مفعول له.

فإن قيل : لم قال سليمان عليه‌السلام ، كما ورد في التنزيل : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [الآية ٣٥] وهذا أشبه بالحسد والبخل بنعم الله تعالى على عبيده ، بما لا يضرّ سليمان عليه‌السلام؟

قلنا : قال الحسن وقتادة رحمهما‌الله : المراد به لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي ، كما فعله الشيطان الّذي لبس خاتمه وجلس على كرسيه ؛ الثاني : أن الله تعالى علم أنه لا يقوم غيره من عباده بمصالح ذلك الملك ، فاقتضت حكمته سبحانه تخصيصه به ، فألهمه أن يسأله تخصيصه به. الثالث : أنه أراد بذلك ملكا عظيما ، فعبر عنه بتلك العبارة ، ولم يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته ، كما تقول لفلان : ليس لأحد مثله من الفضل أو من المال ، وتريد بذلك عظم فضله أو ماله ، وإن كان في الناس أمثاله.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف أيوب عليه‌السلام : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) [الآية ٤٤] مع أن الصبر هو ترك الشكوى من ألم البلوى ، على ما قيل ، وهو قد شكا؟

قلنا : الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ، ولا تسمّى جزعا لما فيها من إظهار الخضوع والعبودية لله تعالى ، والافتقار إليه ؛ ويؤيده قول يعقوب عليه‌السلام ، كما ورد في التنزيل : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) [يوسف : ٨٦] مع قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ٨٣] وقولهم : الصبر ترك الشكوى ، يعني إلى العباد. الثاني : أنه (ع) ، إنما طلب الشفاء من الله تعالى ، بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه ، خيفة على قومه أن يفتنهم الشيطان بما كان يوسوس لهم

٢٤٧

به. ويقول إنه لو كان أيوب نبيّا لما ابتلي بما هو فيه ، ولدعا الله تعالى بكشف ضرّه. وروي أنه عليه‌السلام قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان ، فكشف الله تعالى ضرّه.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)) يدل على أن غاية لعنة الله لإبليس يوم القيامة ثم تنقطع؟

قلنا : كيف تنقطع ، وقد قال تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) [الأعراف : ٤٤] يعني يوم القيامة (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)) [الأعراف] وإبليس أظلم الظلمة ؛ ولكن مراده ، في الآية ، أن عليه اللعنة في طول مدة الدنيا ؛ فإذا كان يوم القيامة اقترن له باللعنة من أنواع العذاب ، ما تنسى عنده اللعنة ، وكأنها انقطعت.

٢٤٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «ص» (١)

قوله تعالى : (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢)) هذه استعارة على بعض الأقوال ، وهو أن قوله تعالى (ذُو الْأَوْتادِ) معناه ذو الملك الثابت ، والأمر الواطد ، والأسباب الّتي بها يثبت السلطان ، كما يثبت الخباء بأوتاده ، ويقوم على عماده.

وقد يجوز أيضا أن (ذُو الْأَوْتادِ) معناه ذو الأبنية المشيّدة ، والقواعد الممهّدة ، الّتي تشبّه بالجبال في ارتفاع الرؤوس ورسوخ الأصول. لأن الجبال تسمى أوتاد الأرض. قال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)) [النّبأ].

وقوله سبحانه : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)). وقرئ : من فواق (٢) بالضم. وقد قيل إنهما لغتان ، وذلك قول الكسائي. وقال أبو عبيدة : من فتح أراد ما لها من راحة ، ومن ضمّ أراد ما لها في إهلاكهم من مهلة ، بمقدار فواق الناقة ، وهي الوقفة الّتي بين الحلبتين. والموضع الّذي يحقق الكلام بالاستعارة على قراءة من قرأ من فواق بالفتح ، أن يكون سبحانه وصف تلك الصيحة بأنها لا إفاقة من سكرتها ، ولا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). الضم هو قراءة حمزة والكسائي. وبقية القرّاء قرءوها بفتح الفاء. وقال الجوهري : الفواق بالفتح والفوق بالضم ما بين الحلبتين من الوقت. وفي الحديث الشريف (العيادة قدر فواق الناقة) انظر «الجامع لأحكام القرآن» ج ١٥ ص ١٥٦.

٢٤٩

استراحة من كربتها ، كما يفيق المريض من علّته ، والسكران من نشوته. والمراد أنه لا راحة للقوم منها. فجعل سبحانه الراحة لها على طريق المجاز والاتساع. ومثله كثير في الكلام.

وقوله سبحانه : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣)). وهذا الكلام داخل في حيّز الاستعارة. لأن النعاج هاهنا كناية عن النساء. وقد جاءت في أشعارهم الكناية عن المرأة بالشاة. وعلى ذلك قول الأعشى :

فرميت غفلة عينه عن شاته فأصبت حبة قلبها وطحالها (١) أي : عن امرأته. وقال عنترة :

يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت عليّ وليتها لم تحرم (٢) وربما سمّوا الظّبية نعجة ، والظبية شبيهة بالمرأة ، فتكون اللفظة مستعارة على هذا التركيب.

وإنما شبّهت النساء بالنعاج ، لأنّ النعاج يرتبطن للاحتلاب والاستنتاج ، والنساء يصطفين للاستمتاع والاستيلاد.

وقوله تعالى في ذكر الخيل حاكيا عن سليمان عليه‌السلام لمّا عرضت عليه فكاد أن يفوته ، للشغل بها ، وقت صلاة كان يصلّيها ، فضرب رؤوسها وعراقيبها بالسيف ، على ما وردت به الأخبار : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣)) وهذه استعارة. لأن المسح هاهنا ـ في أكثر أقوال أهل التأويل ـ كناية عن الضّرب بالسيف. وامتسح رأسه : إذا فعل به ذلك. وهذه الباء هاهنا للإلصاق فكأنّ السّياق : وألصق السيف بسوقها وأعناقها. كما يقول القائل : مسحت يدي بالمنديل.

__________________

(١). هذا البيت من قصيدة للأعشى يمدح بها قيس بن معد يكرب. ومطلعها :

رحلت سميّة غدوة أجمالها

غضبى عليك ، فما تقول بدا لها

وتبلغ أبياتها ٥٤ بيتا ، كما في ديوانه الكبير الّذي نشرته مكتبة الآداب بتحقيق الدكتور م. محمد حسين ـ ص ٢٧. والعرب تكني بالشاة عن المرأة والزوجة. والأعشى من شعراء العصر الجاهلي الّذين اشتهروا بشعر الخمر ، ووصف مجالسها وآلاتها ، ما كان له أثر في الشعراء بعده كالأخطل وأبي نواس.

(٢). قال ابن مطرف الكناني في شرح هذا البيت : (يعرّض بجارية يقول : أيّ صيد أنت لمن حل له أن يصيدك ، فأما أنا فإن حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ). وتجد شرحه في «شرح القصائد العشر» للإمام التبريزي ص ٢٠٠ ؛ وقال بعض النحاة : إن «ما» زائدة والأصل يا شاة قنص.

٢٥٠

أي ألصقتها به. وعلى ذلك قول الشاعر (١).

نمشّ (٢) بأعراف الجياد أكفّنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب أي نلصق أيدينا بأعرافها ، كما نلصقها بالمناديل الّتي تمسح بها الأيدي. وقد صرّح بذلك الشاعر الاخر (٣) فقال :

أعرافهنّ لأيدينا مناديل

والشاهد الأعظم على ذلك ما ورد في التنزيل من قوله سبحانه : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] على قراءة من قرأ : (وأرجلكم) جرّا. أي ألصقوا المسح بهذه المواضع. وهذه الآية يستدل بها أهل العراق على أنّ استيعاب الرأس بالمسح ليس بواجب ، خلافا لقول مالك. وقال لي الشيخ أبو بكر محمد بن موسى (٤) الخوارزمي ـ أدام الله توفيقه ـ عند بلوغي عليه في القراءة ، من مختصر أبي جعفر الطّحاوي (٥) إلى هذه المسألة : سألت أبا علي الفارسي النحوي (٦) وأبا

__________________

(١). هو امرؤ القيس بن حجر الكندي ، أمير شعراء الجاهلية.

(٢). في الأصل «نمس» بالسين المهملة وهو تحريف من الناسخ ، كما أنه ترك كلمة مضهب بدون نقط على الضاد المعجمة. والبيت من بائية امرئ القيس الّتي يقول في مطلعها :

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب

نقض لبانات الفؤاد المعذّب

انظر ديوان امرئ القيس (تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم) ص ٥٤.

(٣). هو عبدة بن الطبيب الشاعر الجاهلي. والبيت كاملا هو.

ثمّت قمنا إلى جرد مسوّمة

أعرافهنّ لأيدينا مناديل

ويقول ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» : إنّه أخذه من قول امرئ القيس :

نمش بأعراف الجياد أكفّنا

إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب

(٤). كدت أيأس من الحصول على ترجمة له إلى أن وجدته «في تاريخ بغداد» ج ٣ ص ٢٤٧. قالوا : ما شاهد الناس مثله في حسن الفتوى والإصابة فيها وحسن التدريس ، وقد دعي إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع منه. توفي سنة ٤٠٣ ه‍ ـ أي قبل وفاة الشريف الرضي بثلاث سنوات.

(٥). هو الإمام أبو جعفر الطّحاوي المصري ، برع في الفقه والحديث ، وإليه انتهت رئاسة الحنفية بمصر ، وتفقّه في مذهب الإمام أبي حنيفة حتى صار إماما. توفي سنة ٣٢١ ه‍ ـ.

(٦). هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي ، كان إماما في النحو والعربية. وتقدّمت ترجمته في الهامش عند الكلام على سورة طه.

٢٥١

الحسن علي بن عيسى الرّمّاني (١) : هل يقتضي ظاهر الآية إلصاق الفعل بجميع المحل أو بالبعض؟ فقالا جميعا : إذا ألصق الفعل ببعض المحل تناوله الاسم. قال : وهذا يدل على الاقتصار ، على مسح بعض الرأس كما يقوله أصحابنا.

وقوله سبحانه : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)) وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ أولي القوى في العبادة ، والبصائر في الطاعة.

ولا يجوز أن يكون المراد بالأبصار هاهنا الجوارح والحواس ، لأن سائر الناس يشاركون الأنبياء عليهم‌السلام في خلق ذلك لهم. ولا يحسن مدح الإنسان بأن له يدا وقدما وعينا وفما. وإنّما يحسن أن يمدح بأن له نفسا شريفة ، وهمّة منيفة ، وأفعالا جميلة. وخلالا محمودة.

وقيل أيضا معنى (أُولِي الْأَيْدِي) : أي أولي النّعم في الدّين ، لأن ورود اليد بمعنى النعمة مشهور في كلامهم ، فإنهم أسدوا إلى الناس أيديا بدعايتهم إلى الإيمان ، وافتلاتهم من حبائل الضّلال.

وأما قوله سبحانه وتعالى في هذه السورة : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [الآية ٧٥] فقد مضى ، من الكلام على قوله تعالى في يس : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)) [يس] ، ما هو بعينه الكلام على هذا الموضع ، فلا فائدة في إعادته. وجملته أنّ المراد بقوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) مزيّة الاختصاص بخلق آدم عليه‌السلام من غير معونة معين ، ولا مظاهرة ظهير.

__________________

(١). هو مفسّر ونحوي كبير ، ولد ببغداد وتوفي بها سنة ٣٨٤ ه‍ ؛ وله كتب «التفسير» و «شرح أصول ابن السّرّاج» و «شرح سيبويه» و «معاني الحروف» وترجمته في بغية الوعاة».

٢٥٢

سورة الزّمر

٣٩

٢٥٣
٢٥٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الزّمر» (١)

سورة «الزّمر» سورة مكية نزلت في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة وآياتها ٧٥ آية.

نزلت بعد سورة «سبأ» ، وقد سميت سورة «الزّمر» بذلك الاسم ، لقوله تعالى في آخرها :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الآية ٧١].

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الآية ٧٣].

وللسورة اسمان : سورة الزمر ، وسورة «الغرف» ، لقوله تعالى :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ) [الآية ٢٠].

أدلّة التوحيد

سورة الزمر تهزّ القلب هزّا ، وتسكب فيه مؤثرات الإيمان بالله ، وتستعرض أمامه أدلّة القدرة الإلهية ، والجزاء العادل في الدنيا والاخرة ، وتفتح باب الرجاء الأمل في رحمة الله ورضوانه ، ومن آياتها الشهيرة قوله تعالى :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)).

ومنذ افتتاح السورة إلى نهايتها وهي تؤكد قضية التوحيد الخالص. ففي مطلع السورة :

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الآية ٣].

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٥٥

وفي خلال السورة نجد لمسات متوالية للقلوب والأفئدة ، تعرض عليها أدلّة القدرة ومشاهد الكون ، وخلق الليل والنهار ، وإنزال المطر وإنبات النبات ، وبدء الخليقة ، ومراحل خلق الجنين ، وطبيعة النفس في اللجوء إلى الله سبحانه في الضّرّاء ، والإعراض عنه في السّرّاء ، مع أن الموت قائم على رؤوس العباد.

ظل الاخرة

مشاهد الاخرة تظلل السورة وتسيطر على ختامها ، حيث نجد الملائكة حافّين من حول العرش ، ونرى المؤمنين يساقون إلى الجنة أفواجا وجماعات في تكريم إلهي ، وسلام ونعيم في الخلود ، ونرى الكفّار يساقون إلى جهنّم زمرا في مهانة وإذلال.

«وظل الاخرة في السورة يتناسق مع جوّها ، وأهداف اللّمسات الّتي تأخذ القلب البشري بها ، فهذه اللمسات أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش ، ومن ثمّ نجد الحالات الّتي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشة وانتفاضة وخشية ، نجد هذا في صورة القانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجو رحمة ربه ، وفي صورة الّذين يخشون ربهم ، حيث تقشعر جلودهم لهذا القرآن ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، كما نجده في التوجيه إلى التقوى ، والخوف من العذاب والتخفيف منه ، ثم نجده في مشاهد القيامة ، وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع».

فقرات السورة

١ ـ التوحيد

في الآيات الأولى من السّورة المكوّنة لفقرتها الأولى ، حثّ على إخلاص العبادة لله سبحانه ، ثم نهي عن اتخاذ الأنداد والأولياء ؛ ثم نجد القرآن يلمس القلوب فيبين قدرة الله جلّ جلاله في خلق الناس من نفس واحدة ، وتزويجها من جنسها ، وخلق الأنعام أزواجا كذلك ، وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث ، ومنحهم خصائص جنسهم البشري أوّل مرة ، ثم منحهم خصائص البقاء والارتقاء. وقد استغرقت هذه الفقرة الآيات [١ ـ ٧].

٢٥٦

٢ ـ أنواع الإنسان وحالته

في الفقرة الثانية نجد أن الآيات [٨ ـ ٢٠] قد لمست القلوب لمسة أخرى ، وهي تعرض على الناس صورتهم في الضّرّاء وصورتهم في البأساء ، وتريهم تقلّبهم وضعفهم وقلّة ثباتهم على نهج إلّا حين يتصلون بربهم ويتطلّعون إليه ، ويقنتون له ، فيعرفون الطريق ، ويعلمون الحقيقة وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان.

ثم وجّهت الآيات النبيّ (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد الخالصة ، وإعلان خوفه من معصية الله ، وإعلان تصميمه على منهجه وطريقه ، وتركهم هم لمنهجهم وطريقهم ، وبيان عاقبة هذا الطريق وذلك يوم يكون الحساب.

٣ ـ في مظاهر القدرة

في الآيات [٢١ ـ ٢٥] لفتة إلى حياة النبات في الأرض عقب إنزال الماء من السماء ، ثم نهاية النبات في فترة وجيزة ، وكذلك شأن الدنيا. ثم تشير الآيات إلى الكتاب المنزل من السماء ، لتحيا به القلوب وتنشرح له الصدور مع تصوير لعاقبة المستجيبين لذكر الله ، والقاسية قلوبهم من ذكر الله.

ثم تضرب الآيات مثالا لمن يعبد إلها واحدا ، ومن يعبد آلهة متعددة ، وهما لا يستويان مثلا ، ولا يتّفقان حالا ، كما لا يستوي العبد الّذي يملكه سادة متنازعون ، والعبد الّذي يعمل لسيد واحد لا يتنازع أحد فيه.

ثم تضع حقيقة واقعة ، وهي تعرّض الناس جميعا للموت والفناء ، الرسول والمرسل إليهم ؛ وسيتنوع الجزاء يوم القيامة ، فيجازى الكافرون في جهنم ، ويجازى الصادقون المصدّقون جزاء المحسنين.

٤ ـ نقاش متنوع

في الآيات [٣٦ ـ ٦١] نلمس قدرة القرآن الفائقة على إقامة الحجّة ، وإقناع الإنسان ، وأخذ السبيل على النفس البشرية حتى لا تجد بدّا من الإذعان والانقياد. وقد تناولت هذه الفقرة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة ، تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن ، وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة ، واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ، ويكل أمره وأمر

٢٥٧

المجادلين له إلى يوم القيامة ، ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستقيما بالمصير.

يتلو هذا بيان الرسول (ص) وأنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم ، وإنما الله سبحانه هو المسيطر عليهم ، الأخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم ، وليس لهم من دونه شفيع فإن الشفاعة لله جميعا ، وإليه سبحانه ملك السماوات والأرض ، وإليه المرجع والمصير.

ثم تتعرّض الآيات لوصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد ، وانبساطها عند ذكر كلمة الشّرك ؛ وتعقّب على هذا بدعوة الرسول (ص) إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة وترك أمور المشركين لله ، وتصوّرهم يوم القيامة يودّون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه ، وقد تكشّف لهم من الأمر ما يذهل ويخيف!

وتعرض الآيات وضع الإنسان في حال الهلع والجزع ، ثم في حال النعمة والرخاء فهو إذا أصابه الضّرّ دعا الله وحده ، فإذا وهبه الله النّعم والرّخاء ادعى دعاوى عريضة ، وقال : إنما أوتيته على علم عندي ؛ هذه الكلمة الّتي قالها من سبق من المتبطّرين والمتكبّرين ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، وهو قادر على أن يبطش بكلّ جبّار عنيد ، وما كان بسط الرزق وقبضه إلّا سنّة من سنن الله تجري وفق حكمته وتقديره ، وهو وحده الباسط القابض بيده الخلق والأمر.

والله سبحانه قد فتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة ، ودعا العصاة إلى الإنابة والاستقامة ، واتّباع منهج الحق والعدل من قبل أن يأتي يوم الحساب فتندم كل نفس ظالمة ، وتتمنى أن تعود إلى الدنيا لتستدرك ما فاتها. وفي هذا اليوم تظهر الكآبة في وجوه الكافرين ، ويظهر الفوز والسرور في وجوه المؤمنين.

٥ ـ الله مستحق للعبادة دون سواه

تعرض الآيات الأخيرة في السورة [٦٢ ـ ٧٥] ألوان قدرة الله وجلاله وتفرّده بالملك والتصرف في كل شيء. وإذا تبيّن لنا آثار هذه القدرة ، ظهرت أمامنا دعوة المشركين للنبي (ص) إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه ، مستغربة مستنكرة ، فكيف يعبد معه

٢٥٨

سبحانه غيره؟ وله وحده مقاليد السماوات والأرض.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ (٦٧)) [الآية ٦٧].

وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر.

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ٦٧].

فهي في تصرفه وملكه كما يتصرف الإنسان فيما هو داخل قبضته.

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). [الآية ٦٧].

وستطوى هذه السماوات وتبدل بقدرته سبحانه. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة ، يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة ، ينتهي بموقف الملائكة حافّين من حول العرش يسبّحون بحمد ربّهم.

(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)).

٢٥٩
٢٦٠