الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

وما فعلتم من إعطاء ربا كما تقول أتيت خطأ وأتيت صوابا : أي فعلت ، وقوله تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)) ، أي ذوو الأضعاف من الحسنات ، وهو التفات عن الخطاب إلى الغيبة.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) [الآية ٤٩] بعد قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) [الآية ٤٩].

قلنا : فائدته التأكيد كما في قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)) [الحجر]. وقيل الضمير لإرسال الرياح أو السحاب فلا تكرار.

فإن قيل : لم قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الآية ٥٤] والضعف صفة الشيء الضعيف ، فكيف يخلق الإنسان من تلك الصفة ، مع علمنا أنه خلق من عين ، وهو الماء أو التراب ، لا من صفة.

قلنا : أطلق المصدر وهو الضعف ، وأريد به اسم الفاعل وهو الضعيف كقولهم : رجل عدل ، أي : عادل ونحوه ؛ فمعناه من ضعيف وهو النطفة. وقيل : معناه على ضعف ، «فمن» بمعنى «على» كما في قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧] والمراد به ضعف جثّة الطفل في طفولته.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الآية ٥٦] وهم إنّما لبثوا في الأرض في قبورهم؟

قلنا : معناه لقد لبثتم في قبوركم على ما في علم كتاب الله ، أو في خبر كتاب الله. وقيل معناه : في قضاء الله. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره : وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله الّذين عملوه وفهموه ، وذلك كقوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠)) [المؤمنون].

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)) وقال في موضع آخر : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)) [فصّلت] فجعلهم مرّة طالبي الإعتاب ، ومرّة مطلوبا منهم الإعتاب؟

قلنا : معنى قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)) أي ولا هم يقالون عثراتهم بالردّ إلى الدنيا ، ومعنى قوله تعالى (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)) [فصلت] أي : وإن يستقيلوا فما هم من المقالين ، هذا ملخّص الجواب وحاصله.

٢١
٢٢

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الروم» (١)

قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)) (٢).

هذه استعارة والمراد بقيام الساعة حضور وقتها والأجل المضروب لها. وعلى هذا قولهم : قد قامت السوق أي حضر وقتها الّذي يتحرّك فيه أصحابها ويستمرّ بيعها وشراؤها. وعلى هذا المعنى سمّيت القيامة. وقد يجوز أيضا أن تكون تسميتها بذلك لقيام الناس فيها على أقدامهم ؛ قال سبحانه : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)) [المطفّفين] : فأمّا قوله تعالى في هذه السورة (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الآية ٢٥] ، فمعناه أنها تتماسك بأمره في مناطاتها وتقف على مستقرّاتها ، ومثل ذلك قول القائل : إنّما يقوم أمر فلان بكذا ، يريد أنّه إنّما يتماسك به ، وليس هناك في الحقيقة قيام يشار إليه. فأمّا قوله تعالى في هذه السورة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الآية ٣٠] ، فالمراد به اتّبع طرائق الدين قاصدا إلى سمته غير منحرف عنه إلى غيره ، ومنه قول العرب : قد استقام المنسم إذا سارت الإبل في طريق واضح لا جوانح له ولا معادل فيه ؛ والمعنى قوّم وجهك على الدين اللّاحب (٣) ومنهج الحق الواضح ؛ وقوله تعالى في هذه الآية دليل على أنّ الدّين القيّم راجع في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). من بلس : انكسر وحزن. قلّ خيره. تحيّر في أمره. يئس من رحمة الله.

(٣). من لحب ، لحب الطريق : سلكه. أوضحه.

٢٣

المعنى إلى ما ذكرناه ، والمراد به أنه مستقيم بغير اعوجاج ، ومنتصب بغير اضطراب ، وقوله تعالى من بعد : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)) قريب في المعنى ممّا تقدم ، لأنّ المراد بذلك لا يخلو من أحد الأمرين : إمّا أن يكون أراد تعالى بإقامة الصلاة القيام لأوقاتها ، لأنّ القيام من أعظم أركان الصلاة ؛ وإمّا أن يكون أراد تأديتها على واجبها وإخلاصها من كلّ ما يعود بفسادها ، وذلك كقولهم : أقام فلان قناة الدّين أي أظهر أمره ، ووالى نصره ، ورمى الأعداء عنه ، ووقم (١) الأضداد دونه ، وجميع هذه الألفاظ المذكورة نظائر ، وهي بأجمعها استعارات لا حقائق ، وإنّما أوردناها في نسق واحد ، لاتّفاق ورودها في سورة واحدة.

٢ ـ قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الآية ٣٢].

وهذه استعارة ، لأن الدّين على الحقيقة لا يتأتّى فيه التفريق ؛ وإنّما المراد ، والله أعلم ، أنّهم لمّا افترقوا في دينهم بمذاهب مختلفة وطرائق متباينة ، كانوا كأنّهم قد فرّقوه فرقا ، وجعلوه شيعا ، فحسن وصفهم بذلك.

٣ ـ قال تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)).

وهذه استعارة. والمراد بالسلطان هاهنا البرهان على أحد التأويلين ؛ وهو الحقّ الّذي يتسلّط به الإنسان على مخالفه ، ويظهر على منازعه ، وإنّما وصفه سبحانه بالكلام ، لظهور حجّته وقوّة دعوته ، فكأنه ناطق ومدافع مناضل.

٤ ـ قال سبحانه : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) [الآية ٣٩].

وهذه استعارة ؛ والمراد بالرّبا هاهنا ، المال الّذي يعطيه الإنسان غيره ليعطيه أكثر منه على الوجه المنهي عنه. وأصل الرّبو الزيادة والكثرة ، وإنّما سمّي المال المعطى الّذي يلتمسون به الزيادة ربا ، لأنه جعل غرضه لطلب الزيادة ، ووصلته إليها علّة لها ، فحسن تسميته بذلك ، للسبب الّذي ذكرناه ، ومعنى قوله تعالى : (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ

__________________

(١). من وقم ، أوقم الرجل : قهره. وردّه عن حاجته أقبح الردّ.

٢٤

النَّاسِ) أي ليزيد في أموال الناس ، وليس قوله سبحانه هاهنا بمعنى ليكون مددا لأموال الناس فتزيد به. وإنّما المعنى يزيد هو بدخوله في أموال الناس ؛ ودخوله فيها ، هو أنّ صاحبه يعطيه الناس ليأخذ منهم أكثر منه ؛ فإذا ما كره وأراد التعويض عنه بالقدر الزائد عليه ، كان كأنّه قد ربا أي كثر بحصوله في أموال الناس ، لأنّ كثرته وإضعافه كان السبب فيهما ، كونه في أموال الناس على الوجه الّذي بيّنّاه ، وهذا من غوامض المعاني. ومن الشواهد على بيان ربا ، بمعنى الزيادة والكثرة في كلامهم قول يزيد بن مفرغ الحميري :

وكم عطايا له ليست مكدّرة لا بل تفيض كفيض المسبل الرّابي يريد البحر ، فسمّاه رابيا ، لكثرة مائه وارتفاع أمواجه.

٥ ـ قال سبحانه : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)).

وهذه استعارة. ومعنى يمهدون هاهنا ، أي يوطّئون لجنوبهم ، ويمكّنون لأقدامهم عند مصارع الموت ومواقف البعث. وذلك كناية عن تقديم العمل الصالح والمتجر الرابح ، تشبيها بمن وطّأ لمضجعه بالفرش الوثيرة والنمارق (١) الكثيرة.

٦ ـ قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الآية ٤٦].

وهذه استعارة. والمراد بها ما جرت به العادة من هبوب الرياح أمام الغيوث ، وأنّ ذلك يقوم مقام النطق البشّار ، والوعد بالأمطار المتوقعة بين يدي الرحمة. والرحمة في كثير من الآيات كناية عن الغيث ، وعلى ذلك قوله تعالى في هذه السورة (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) [الآية ٥٠] أي الى ما كان يعقب الغيوث ، من منابت الأعشاب واكتساء القيعان.

٧ ـ قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) [الآية ٤٨].

وهذه استعارة. والمراد بإثارتها السحاب أنها تلفق قطعه ، وتوصل منقطعه ، وتستخرجه من غيوبه ، وتظهره بعد غيوضه ؛ تشبيها بالقانص أي ينهضه من مجاثمه ، ويبرزه عن مكانه ، لتراه عينه فيتأتّى لقنصه ، ويتمكّن من فرصه.

__________________

(١). من النمرق : الوسادة الصغيرة يتّكأ عليها.

٢٥
٢٦

سورة لقمان

٣١

٢٧
٢٨

المبحث الأول

أهداف سورة «لقمان» (١)

سورة لقمان سورة مكّيّة وعدد آياتها ٣٤ آية. نزلت بعد سورة الصّافات ، وسورة لقمان من أواخر ما نزل في مكة. فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة. وقد سمّيت بسورة لقمان لورود قصة لقمان فيها ، الّذي كان من الحكماء الأقدمين ، ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن.

وسورة لقمان رحلة بعيدة الاماد والآفاق ، تطوف بالقلب في جولات متعدّدة ، لتأكيد قضيّة العقيدة وترسيخها في النفوس ، وهي القضيّة الّتي تعالجها السور المكّيّة بأساليب شتّى ، ومن زوايا متنوّعة ، تتناول القلب البشريّ من جميع أقطاره ، وتلمس جوانبه بشتّى المؤثّرات الّتي تخاطب الفطرة وتوقظها.

هذه القضيّة الواحدة ، قضية العقيدة ، تتلخّص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده ، وشكر آلائه ، وفي اليقين بالآخرة ، وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل ، وفي اتّباع ما أنزل الله والتخلّي عمّا عداه من مألوفات ومعتقدات.

والسورة تتولّى عرض هذه القضيّة ثلاث مرّات في ثلاث جولات ، تطوف كل منها بالقلب البشري فتعرض عليه دعوة الهدى من جانب الوحي ومن جانب الحكمة ؛ ومن جانب الكون الكبير سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره وأجوائه وبحاره ، وأمواجه

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٩

وأمطاره ، ونباته وأشجاره ؛ وأخيرا من جانب القدرة الإلهية المحيطة بكل شيء ، صاحبة الملك في الأولى والاخرة.

فقرات السورة

يمكن أن نقسم سورة لقمان إلى ثلاث فقرات أو جولات :

الجولة الاولى :

تبدأ الجولة بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطّعة ، فتقرّر أنّ هذه السورة من جنس تلك الأحرف ، هي آيات الكتاب الحكيم ، وهي هدى ورحمة للمحسنين. وهؤلاء المحسنون هم :

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)).

فتقرر قضيّة اليقين بالآخرة ، وقضيّة العبادة لله ، ومعها مؤثر نفسيّ ملحوظ :

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)).

ومن ذا الّذي لا يريد أن يكون من المفلحين؟ ... وفي الجانب الاخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ، ويتّخذ تلك الآيات هزوا. وهؤلاء يعاجلهم بمؤثّر نفسيّ مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦)).

ثمّ يمضي السّياق في وصف حركات هذا الفريق :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) [الآية ٧].

ومع الوصف مؤثّر نفسي منفّر من هذا الفريق :

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) [الآية ٧].

ومؤثّر آخر يخيفه مع التهكّم الواضح في التعبير :

(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧)).

والبشارة هنا فيها من التهكّم الملحوظ ... ثمّ يعود السّياق إلى المؤمنين يفصّل شيئا من فلاحهم الّذي أجمله في أوّل السورة ، ويبيّن جزاءهم الحسن في الاخرة. ثمّ يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان القاطع الّذي يطالع الفطرة من كل جانب ، ويخاطبها بكل لسان ، ويواجهها بالحقّ الهائل الّذي يمرّ عليه النّاس غافلين ... وأمام هذه الأدلّة الكونيّة

٣٠

الّتي تهزّ الحسّ وتنبّه الشعور ، وتأخذ بتلابيب القلوب الشاردة الّتي تجعل لله شركاء ، وهي ترى خلقه العظيم :

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)).

وتمتد هذه الفقرة من أوّل السورة إلى الآية ١١.

الجولة الثانية :

تبدأ الجولة الثانية من خلال نفوس آدميّة ، وتتناول القضيّة ذاتها بأسلوب جديد ومؤثّرات جديدة : إنّها نصيحة من رجل حكيم يعظ ابنه ، فيقدّم له خلاصة تجاربه وحكمته ، فيأمره بالتوحيد وينهاه عن الشرك ، ويحثّه على برّ الوالدين وطاعتهما فيما يأمران به ، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه ، وينبّه لقمان ولده إلى إحاطة علم الله بكل شيء ، إحاطة يرتعش لها الوجدان البشري.

ثمّ يتابع لقمان وصيّته لابنه فيأمره أن يقوم بتكاليف العقيدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن يصبر ويحتمل فإنّ الصبر من أمّهات الفضائل.

ويحثّ لقمان ولده على مكارم الأخلاق ، وآداب النفس والسلوك فينهاه عن الكبر والبطر ، ويأمره أن يعتدل في مشيته وأن يغضّ من صوته ، وأن يلزم الرفق والهدوء والاعتدال.

وقد استغرقت هذه الجولة الآيات ١٢ ـ ١٩.

الجولة الثالثة :

تستغرق الجولة الثالثة بقية السورة من الآية ٢٠ إلى الآية ٣٤ ، بعرض أدلة التوحيد في خلق السماء والأرض ، وفي تسخير الكون ، وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة. وفي ظل النّعم الظاهرة والأدلّة الملموسة يبدو الجدل في الله مستنكرا للفطرة تمجّه القلوب المستقيمة.

ثمّ يتابع السّياق استنكار موقف الكفر والجمود ، وتقليد الآباء دونما تبصّر ورويّة ، ومن ثمّ يعرض قضيّة الجزاء في الاخرة مرتبطة بقضيّة الكفر والإيمان.

ثمّ يقف الكافرون وجها لوجه أمام منطق الفطرة ، وهي تواجه هذا الكون فلا تملك إلّا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير. وتعرض الآيات مشهدا كونيا

٣١

يهزّ القلب البشري ، مشهد اللّيل وهو يطول فيدخل في جسم النّهار ويمتدّ ، والنّهار وهو يطول فيدخل في جسم اللّيل ويمتدّ ، ومشهد الشّمس والقمر مسخّرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلّا خالقهما. ويتّخذ من هذا المشهد الكونيّ دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة ، وهي قضيّة التّوحيد.

ثمّ يلمس القلوب بمؤثّر آخر من نعمة الله على الناس ، في صورة الفلك الّتي تجري في البحر ، ثمّ يوقفهم أمام منطق الفطرة حينما تواجه هول البحر مجرّدة من غرور القدرة والعلم ، الّذي يبعدها عن بارئها ، ويتّخذ من هذا المنطق دليلا على قضيّة التوحيد.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)).

وبمناسبة موج البحر وهوله ، يذكّرهم بالهول الأكبر ، وهو يقرّر قضيّة الاخرة ، الهول الّذي يفرّ فيه الوالد من ولده ، والولد من والده :

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الآية ٣٣]. وتختم السورة بآية تقرّ القضايا الّتي عالجتها في إيقاع قويّ عميق مرهوب ، فتذكّر أن الله جلّ جلاله ، استأثر بخمس لا يعلمهنّ سواه :

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)).

هذه الجولات الثلاث بأساليبها ومؤثّراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب ، هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب ، العليم بمداخليها ، الخبير بما يصلح لها ، وما تصلح به من الأساليب.

٣٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «لقمان» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة لقمان بعد سورة الصّافّات ، وهي من السور الّتي نزلت في مكّة بعد الإسراء ، فيكون نزول سورة لقمان بعد الإسراء وقبيل الهجرة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود قصّة لقمان فيها ، وكان من الحكماء الأقدمين ؛ ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن الكريم ، وتبلغ آياتها أربعا وثلاثين آية.

الغرض منه وترتيبها

الغرض من هذه السورة بيان الموافقة بين ما جاء به القرآن من الحكمة المنزلة ، وما جاء به لقمان الحكيم من الحكمة المأثورة عنه ، إذ كان يدعو فيها كما يدعو القرآن إلى الإيمان بالله وحده ، ويأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن الفواحش ، وقد جاء هذا الغرض في هذه السّورة على ثلاثة أقسام : أوّلها في التنويه بحكمة القرآن ، وثانيها في بيان شيء من حكمة لقمان ، وثالثها في دعوة المشركين إلى الإيمان بما اتّفقت عليه الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة عن الحكماء.

والمقصود من هذا تسلية النبي (ص) ببيان فضل ما أنزل إليه من هذه النّاحية ، ليعلم أنّ قومه لا يخالفون ما جاء به هو وغيره من الأنبياء فقط ، بل يخالفون ما جاء به لقمان وغيره من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣٣

الحكماء أيضا ، فيهون عليه أمر كفرهم ، ولا يحزن لعنادهم وتعنّتهم ، وهذا هو وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الروم.

التنويه بحكمة القرآن

الآيات [١ ـ ١١]

قال الله تعالى : (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢)) فذكر أنّ القرآن يشتمل على آيات حكيمة يقصد منها الهداية والرّحمة ، وأنه قد أصلح بذلك من حسنت طباعهم وأفعالهم ممّن يقيمون الصّلاة ويؤتون الزّكاة ويؤمنون بالآخرة ، ولم ينكر فضله في ذلك إلّا من قبح طبعه فأثر الاشتغال بلهو الحديث على الاشتغال بحكمته ، ثمّ أوعده على ذلك بما أوعده به من العذاب ، ووعد من آمن به بنعيم الجنّات ، وذكر أن وعده حقّ لا يتخلّف لأنه عزيز حكيم ، يعذّب من يعرض عن حكمته ويثيب من يقبل عليها بكامل قدرته ، ثم بيّن عزّته وقدرته بخلقه السماوات بغير عمد مشاهدة ، إلى أن قال : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)).

بيان حكمة لقمان

الآيات [١٢ ـ ١٩]

ثمّ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢)). فذكر أنّه آتى لقمان الحكمة ، وأنه كان يدعو فيها إلى ما يدعو إليه القرآن من الإيمان بالله ، وطاعة الوالدين في ما يأمران به ، إلّا إذا أمرا بالشّرك ونحوه ، إلى غير هذا ممّا جاء في وصاياه لابنه ، وقد ختمها بقوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)).

الدعوة إلى ما اتفقت

عليه الحكمتان

الآيات [٢٠ ـ ٣٤]

ثمّ قال تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الآية ٢٠] ، فدعاهم إلى ما اتّفقت عليه الحكمتان من الإيمان به. وعاب عليهم أن يجادلوا فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. والعلم إشارة إلى الحكمة المأثورة ؛ والكتاب إشارة إلى الحكمة

٣٤

المنزّلة ؛ وإنما هو تقليد لآبائهم من غير اعتماد على دليل.

ثمّ نهى النبي (ص) أن يحزن لهذا الكفر الصادر عن عناد وجهل ، وأخبره بأنه سيرجعهم إليه بعد أن يمتّعهم قليلا ، ثم يضطرّهم إلى عذاب غليظ ، ثمّ أثبت له عنادهم وجهلهم في كفرهم بأنه إن سألهم من خلق السماوات والأرض فإنهم يعترفون بأن الّذي خلقهما هو الله ، ولكنّهم جهلاء معاندون فلا يحملهم ذلك على الإقلاع عن شركهم ؛ ثم ذكر أنّ له سبحانه ما. في السماوات والأرض فلا يقتصر أمره على خلقهما ، وأنّ ملكه لا يقتصر على ذلك وحده لتناهيه ، بل إن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [الآية ٢٧] ، أي عجائبه ، وما خلقنا وبعثنا إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها ، فالقليل والكثير سواء في قدرته. ثمّ ذكر من عجائب قدرته وعلمه أنّه يولج النّهار في اللّيل ، وأنّه سخّر الشمس والقمر كلّ يجري إلى أجل مسمّى ، وأنّه سخّر الفلك تجرى في البحر بنعمته ليريهم ما في البحر من عجائبه وأهواله ، فإذا غشيهم موجه كالظلّ دعوا الله ليخلّصهم منه ، فإذا نجّاهم إلى البرّ رجعوا الى ما كانوا عليه من كفر ، فمنهم من يقتصد فيه بتأثير ما شاهده ، ومنهم من يجحد ما شاهده من العجائب لمبالغة في الكفر.

ثمّ ختم السورة بأمرهم بتقواه كما جاءت به الحكمة المنزلة والحكمة المأثورة ، وبأن يخشوا يوم الاخرة الّذي لا ينفع الإنسان فيه إلّا عمله ، وأخبرهم بأن وعده حق ، فلا يغرّنّهم بالله الغرور (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)).

٣٥
٣٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «لقمان» (١)

أقول : ظهر لي ، من اتّصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح ب (الم) ، أن قوله تعالى هنا : (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)) متعلّق بقوله في آخر سورة الروم :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦].

فهذا عين إيقانهم بالآخرة ، وهم المحسنون الموقنون بما ذكر.

وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الأديان وبدء الخلق (٢).

وذكر في الروم : (فِي رَوْضَةٍ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). ذكرت جملة الأديان في سورة الروم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) إلى قوله تعالى : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)) [الروم] وقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الروم : ٣٢] وبدء الخلق في قوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الروم : ٢٠] وما بعدها.

وذكرت جملة الأديان في سورة لقمان في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [الآية ٦] وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠)) وما بعدها. وبدء الخلق في قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الآية ١٠]. وقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [الآية ٢٨].

٣٧

يُحْبَرُونَ (١٥)) وقد فسّر بالسّماع (١) وفي لقمان : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [الآية ٦]. وقد فسّر بالغناء ، وآلات الملاهي (٢).

__________________

(١). هو قول يحيى بن أبي كثير. أنظر (تفسير ابن كثير ٦ : ٣١٣).

(٢). هو قول ابن مسعود سمعه منه أبو الصهباء البكري (تفسير الطبري ٢١ : ٣٩). وهو قول ابن عبّاس ، وجابر ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومكحول ، والحسن. وانظر صحيح التّرمذي : ٤ : ٥٠٢ ، ٥٠٣ بتحفة الأحوذي.

٣٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «لقمان» (١)

١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [الآية ٦].

قال ابن عبّاس : نزل في النّضر بن الحارث (٢). أخرجه جويبر (٣).

٢ ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) [الآية ١٠].

قال ابن عبّاس هي الجبال الشّامخات ، من أوتاد الأرض. وهي سبعة عشر جبلا ، منها : قاف ، وأبو قبيس ، والجودي ، ولبنان ، وسينين ، وثبير ، وطور سيناء. أخرجه جويبر.

٣ ـ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) [الآية ١٣].

اسم الابن : تاران (٤).

وقيل : أنعم.

وقيل : مشلم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). كان النّضر يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ، ويحدّث فيها قريشا ، ويقول لهم : إن محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وأسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ، ويتركون استماع القرآن ؛ فنزلت فيه. نقله الواحدي في «أسباب النزول» : ٢٥٩ عن مقاتل والكلبي.

(٣). جويبر هو ابن سعيد الأزدي ، أبو القاسم البلخي ، ضعّفه الكثير من المحدثين ، وعدّه يحيى القطّان ممّن لا يحمل عنهم الحديث ، ويكتب التفاسير عنهم ، وذكره السيوطي ممّن أسندوا التفسير إلى ابن عبّاس وهي غير مرضية ورواتها مجاهيل. انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر ٢ : ١٢٤ و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي ٢ : ١٨٨ ، و «الدر المنثور» ٥ : ١٥٩.

(٤). كذا في الأصول وفي «الإتقان» ٢ : ١٤٧ : «اسمه باران بالموحّدة ، وقيل واران».

٣٩
٤٠