الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث الأول

أهداف سورة «الصافات» (١)

سورة «الصّافات» سورة مكّية ، وآياتها [١٨٢] آية. نزلت بعد سورة «الأنعام» في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكّة ، فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة إلى المدينة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لابتدائها بالقسم بالصّافات. والمراد بها الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة ، أو تصفّ أجنحتها في الهواء امتثالا للطّاعة ، وانتظارا لوصول أمر الله إليها.

مقصود السورة

قال الفيروزآبادي : معظم ما تقصد إليه السورة هو : الإخبار عن صفّ الملائكة والمصلّين للعبادة ، ودلائل الوحدانيّة ، ورجم الشياطين ، وذلّ الظّالمين ، وعزّ المطيعين في الجنان ، وقهر المجرمين في النّيران ، ومعجزة نوح وحديث إبراهيم وفداء إسماعيل في جزاء الانقياد ، وبشارة إبراهيم بإسحاق ، والمنة على موسى وهارون بإيتاء الكتاب ، وحكاية الناس في حال الدّعوة ، وهلاك قوم لوط ، وحبس يونس في بطن الحوت ، وبيان فساد عقيدة المشركين في إثبات النسبة ، ودرجات الملائكة في مقام العبادة ، وما منح الله الأنبياء من النصر والتأييد ، وتنزيه حضرة الجلال عن الأنداد والأضداد في قوله سبحانه :

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)).

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٠١

سياق السورة

تميّزت سورة «الصافات» بقصر الآيات ، وسرعة الإيقاع ، وكثرة المشاهد والمواقف ، وتنوّع الصور والمؤثّرات.

وهي تستهدف ، كسائر السور المكّيّة ، بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشّرك في كلّ صوره وأشكاله ، ولكنّها بصفة خاصّة تعالج صورة معيّنة من صور الشّرك ، الّتي كانت سائدة في البيئة العربيّة الأولى ، وتقف أمام هذه الصورة طويلا ، وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتّى. تلك هي الصورة الّتي كانت جاهليّة العرب تستسيغها ، وهي تزعم أنّ هناك قرابة بين الله سبحانه والجنّ ؛ وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنّه من التّزاوج بين الله ، سبحانه ، والجن ، ولدت الملائكة. ثمّ تزعم أنّ الملائكة إناث ، وأنهنّ بنات الله!

هذه الأسطورة تتعرض لحملة قويّة في هذه السّورة ، تكشف عن تفاهتها وسخفها ، ونظرا لأنّها هي الموضوع البارز الّذي تعالجه السّورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣)).

ويتلوها حديث عن الشّياطين المردة ، وتعرّضهم للرّجم بالشّهب الثاقبة ، كي لا يقربوا من الملأ الأعلى ، ولا يتسمّعوا لما يدور فيه ، ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة.

وبمناسبة ضلال الكافرين وتكذيبهم ، تعرض السورة سلسلة من قصص الرّسل : نوح وإبراهيم وابنه ، وموسى وهارون ، وإلياس ولوط ويونس صلوات الله عليهم جميعا ، تتكشّف فيها رحمة الله ونصره لرسله ، وأخذه للمكذّبين بالعذاب والتنكيل. ويمكننا أن نقسم سورة الصّافّات إلى ثلاثة موضوعات رئيسة :

١ ـ وصف الملائكة

ومشاهد الاخرة

يستغرق الموضوع الأوّل من السورة الآيات [١ ـ ٧٠].

ويتضمّن افتتاح السّورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢)

٢٠٢

فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣)) ، على وحدانية الله ربّ المشارق والمغارب ، مزيّن السّماء بالكواكب ، ثمّ تجيء مسألة الشّياطين ، وتسمّعهم للملأ الأعلى ، ورجمهم بالشّهب الثاقبة ، يتلوها سؤال لهم :

(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) [الآية ١١] ، من الملائكة والكواكب والشّياطين والشّهب؟ ، للتوصّل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزءون بوقوعه ؛ ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطوّل للبعث والحساب والنعيم والعذاب ، وهو مشهد فريد ، حافل بالصورة والحركة ، والمقابلة بينه وبين منازل الأبرار ، وآلام الفجار.

٢ ـ قصص الأنبياء

تتعرّض الآيات [٧١ ـ ١٤٨] لبيان أن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السّابقين ، الّذين جاءتهم النّذر فكان أكثرهم من الضالّين ، ويستطرد السّياق في قصص أولئك المنذرين ، من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس (ع) ، وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين.

ومن الظواهر المؤثّرة في هذا القصص ، تجرّد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لربهم جلّ وعلا ، وإخلاصهم له ، فيونس (ع) يسبّح بحمد ربه ويناجيه في بطن الحوت ، وإبراهيم (ع) يطيع الله ويستسلم لأمره ، في قصة الذبح والفداء ؛ ونشاهد من الذابح والذبيح التجرّد والامتثال لأمر الله تعالى ، في أعمق صورة ، وأروعها ، وأرفعها.

وقد كانت الإشارة إلى قصص الأنبياء لمحات سريعة في آيات قصيرة ، تحتوي على عبرة القصة ، والتذكير بمضمونها.

٣ ـ أسطورة تعقبها الحقيقة

تناولت الآيات الممتدّة من ١٤٩ إلى الآية ١٨٢ ، حيث آخر السورة ، الحديث عن الأسطورة الكاذبة ، أسطورة نسبة الجنّ والملائكة إلى الله سبحانه ، ثمّ فنّدت هذه الأسطورة ، ونزّهت الله سبحانه عنها ، وبيّنت أنّ الملائكة خلق من خلق الله ، ملتزم بطاعته.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)).

٢٠٣

وقرّرت الآيات وعد الله لرسله بالظفر والغلبة :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)).

وتنتهي السورة بتنزيه الله سبحانه ، والتسليم على رسله عليهم الصلاة والسلام ، والاعتراف بربوبيّته ؛ وهي القضايا الّتي تناولتها السورة في الصميم.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٢٠٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الصافات» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الصافّات» بعد سورة «الأنعام» ، وقد نزلت سورة الأنعام بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «الصافّات» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم به ، والمراد به الملائكة الّتي تقف صفوفا للعبادة ، أو تصفّ أجنحتها في الهواء ، منتظرة وصول أمر الله إليها ؛ وتبلغ آيات هذه السورة اثنتين وثمانين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة إبطال الشرك ، وقد كانوا يعبدون الملائكة ويزعمون أنّها بنات الله ، ويتّخذون من الشّياطين قرناء يطيعونهم ، ويزعمون أنّ بينهم وبين الله نسبا ، وأنّهم يصعدون إلى السماء فيطّلعون على أسرارها ويخبرونهم بها ، فابتدأت السّورة بإثبات وحدانيته تعالى ، وأشارت إلى أن الملائكة عباد مسخّرون للعبادة وحراسة السماء من الشياطين ؛ وذكر السّياق أنّ الشياطين عباد مدحورون لا يعرفون شيئا من أخبار السماء ، وأنّ الله تعالى أمر النبيّ (ص) أن يستفتيهم فيما يكون من أمرهم ، وهم أضعف منهم خلقا ، لينذرهم بقدرته على بعثهم وحسابهم مع شياطينهم وآلهتهم ، وبما قصّ عليهم من أخبار الماضين ليكون فيها

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٥

عبرة لهم ؛ ثم أمره جلّ جلاله أن يستفتيهم ثانيا في صحّة ما زعموه من أن الملائكة بنات الله ، ومن أنّ بينه وبين الجنّة نسبا ؛ وبهذا يدور السياق في هذه السورة على هذا الترتيب ، وقد ختمت السّورة السابقة بالاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرته سبحانه على بعثهم ؛ وقد جاء في أوّل هذه السّورة أنهم أضعف من غيرهم خلقا ، فيكون بعثهم أهون عليه جلّ وعلا من غيرهم ، وهذا هو وجه ذكر هذه السّورة بعد سابقتها ، إلى ما بينهما من الشّبه في الإنذار بعذاب الله تعالى.

إبطال الشرك

الآيات [١ ـ ١٠]

قال الله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤)) فأقسم بالملائكة الّتي تصطفّ لعبادته ، وتزجر الشياطين عن معرفة أسرار سمائه على وحدانيّته ؛ وأشار بهذا إلى عبوديّتها له عزوجل ؛ ثمّ وصف نفسه بما يدل على تفرّده بالألوهية ، فذكر سبحانه ، أنّه ربّ السماوات والأرض ، وأنه زيّن السماء الدنيا بالكواكب ، وحفظها من الشّياطين الّتي يزعمون أنّها تصعد إليها ، فتعرف أسرارها وتلقيها إليهم ، فهم يدحرون عنها كلّما اقتربوا منها ، ولهم عذاب يترقّبهم دائما كلّما حاولوا ذلك : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)).

أخذ المشركين بالترهيب والترغيب

الآيات [١١ ـ ١٤٨]

ثمّ قال تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١)) فأمر النبي (ص) أن يستفتيهم في أمرهم ، وقد سخّر لعبادته وطرد من رحمته من هو أشدّ منهم خلقا ، ومن اتّخذوهم قرناء وآلهة ، فلا يعجزه أن يبعثهم ويحشرهم مع قرنائهم وآلهتهم ؛ ثم ذكر جلّ وعلا أنهم عند بعثهم لا يتناصرون كما يزعمون ، بل يلقي بعضهم التّبعة على بعض ، ويشتركون في العذاب جميعا ؛ ثمّ ذكر ما أعدّه للمؤمنين بعد ذكر عذابهم ، وذكر ما كان من عصيانهم لقرنائهم حينما كانوا يغوونهم بالكفر وإنكار البعث والجزاء ، ووازن بين ما أعدّه للفريقين ، إلى أن ذكر أن السبب في ضلال المشركين أنهم ألفوا آباءهم

٢٠٦

ضالّين : (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)).

ثمّ أخذ السّياق في ذكر حال من يقلّدونهم ليعتبروا بما حصل لهم ، ويوازنوا بين من كفر ومن آمن منهم ؛ فذكر أخبار نوح وقومه ، وأنّ الله تعالى ناداه فأجابه هو ومن آمن معه ، فنجّاهم وجعل ذرّيّتهم هم الباقين ، وترك على نوح سلاما في العالمين ، وأغرق من كفر به فبادوا وذهبت آثارهم ؛ ثمّ ذكر السّياق أخبار إبراهيم وقومه ، وأنّه جلّ وعلا رفع شأنه على من كفر به منهم ، ورزقه ذرّية صالحة مباركة ، وترك عليه سلاما باقيا في الآخرين ؛ ثم ذكر السّياق أخبار موسى وهارون ، وأنّه جلّ وعلا نجّاهما وقومهما من ظلم فرعون ، وترك عليهما سلاما باقيا في الآخرين ؛ ثم ذكر السّياق أخبار إلياس وقومه ، وأنّ إلياس دعاهم إلى عبادة ربّهم وترك عبادة صنمهم بعل ، فكذّبوه فاستحقّوا العذاب إلّا من آمن منهم ، فإنّ الله سبحانه نجّاهم وترك عليهم سلاما في الآخرين ؛ ثم ذكر السّياق أخبار لوط وقومه ، وأخبار يونس وقومه ؛ وذكر في يونس أنّ الله سبحانه أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨)).

إبطال نبوة الملائكة والجن

الآيات [١٤٩ ـ ١٨٢]

ثم قال تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)) فأنكر عليهم أن يكون له بنات من الملائكة ، وهم إنّما يرضون البنين لأنفسهم ويكرهون البنات ؛ وذكر جلّ وعلا أنهم لم يشهدوا خلق الملائكة إناثا حتّى يصحّ لهم أن يذهبوا إليه ، وإنّما هو إفك لا دليل لهم عليه ، ثمّ ذكر أنهم جعلوا بينه وبين الجنّة نسبا ، وهم المجوس من العرب والفرس ، وكانوا يقولون بإلهين ، إله للخير ، وإله للشّرّ ، وأنّ إله الخير هو الله ، وإله الشّرّ هو إبليس ؛ ثم ردّ عليهم بأنّ الجنّة يعلمون أنهم عباد محضرون للعذاب ، ونزّه نفسه سبحانه عمّا يصفونه به من النّسب بينه وبين الجنّة ، وبيّن بطلان جعلهم الجن آلهة ؛ وذكر سبحانه أنهم يعجزون عن إغواء المخلصين من عباده ، ولا يغوون إلا من سبق في علم الله أن يكون من أهل الجحيم ؛ ومن يكن هذا شأنه لا يكون إلها ؛ ثم ذكر سبحانه تفرّده بعلوّ الشأن فقال : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)).

٢٠٧

ثم ختمت السّورة بتوبيخهم على شركهم ، مع أنّهم كانوا يقولون لو أنّ عندنا كتابا منزّلا مثل الكتاب المنزّلة على الأوّلين لأخلصنا العبادة لله ؛ ثم ذكر السياق تهديده سبحانه الكفّار على كفرهم بعد أن أجيبوا إلى قولهم ؛ وذكر أنه جلّ شأنه كتب النصر لرسله وأتباعهم ، وأمر النبي (ص) أن يعرض عنهم إلى أن يحين عذابهم ، فسوف يبصرون منه ما يبصرون : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢)).

٢٠٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الصافات» (١)

أقول : هذه السورة بعد «يس» ك «الأعراف» بعد «الأنعام» ، وك «الشعراء» بعد «الفرقان» ، في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم ، كما أنّ تينك السّورتين تفصيل لمثل ذلك ، كما تقدّم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٢٠٩
٢١٠

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الصافات» (١)

١ ـ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣)) ..

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود : أنّ المراد بالثلاثة الملائكة (٢).

٢ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١)).

قال السّدّيّ : هما شريكان في بني إسرائيل : أحدهما مؤمن ، والاخر كافر. أخرجه ابن أبي حاتم.

وفي «العجائب» للكرماني : أنّهما يهوذا ، وفطروس.

٣ ـ (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١)).

إلى آخر القصة : فيه قولان شهيران : إسماعيل أو إسحاق ، وقد أفردت في ذلك تأليفا ضمّنته حجج كلّ من القولين (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). ورواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ : ٩٨.

(٣). الّذي عليه علماء السلف أنّ الذبيح هو إسماعيل ؛ ويكفي دليلا أنّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنهى قصة الذبيح قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) [الآية ١١٢] ، فهذا يدلّ على أن إسحاق هو غير الّذي انتهت قصته لتوّها ، وقد أشار ابن كثير إلى هذا في «تفسيره» ٤ : ١٤.

وفي «زاد المعاد» لابن قيّم الجوزيّة ١ : ٧١ : «وأما القول بأنّه إسحاق فباطل ، بأكثر من عشرين وجها ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة قدس الله روحه ، يقول : هذا القول إنما هو متلقّى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنصّ كتابهم ، فإنّ فيه : إنّ الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفي لفظ : وحيده ، ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده : والّذي غرّ أصحاب هذا القول أنّ في التوراة الّتي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق قال ـ

٢١١

(بِذِبْحٍ) [الآية ١٠٧].

هو الكبش ؛ الّذي قرّبه ابن آدم فتقبّل منه. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عن الحسن : أن اسمه حرير.

(إِلْ ياسِينَ (١٣٠)).

هو محمّد (ص) ، وآله : أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطّلب.

وقيل : كلّ مؤمن تقيّ.

وقيل : «ياسين» اسم كتاب من كتب الله. حكاه الكرماني في «عجائبه».

٤ ـ (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) [الآية ١٤٢].

قال قتادة : يقال له لخم. أخرجه ابن أبي حاتم.

٥ ـ (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) [الآية ١٤٥].

قال جعفر : بشاطئ دجلة. أخرجه ابن أبي حاتم.

وقيل : بأرض اليمن. حكاه ابن كثير.

٦ ـ (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)).

في حديث مرفوع : (يَزِيدُونَ (١٤٧)) : عشرين ألفا (١).

أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبيّ بن كعب.

وأخرج عن ابن عبّاس : ثلاثين ألفا.

وفي رواية : أربعين ألفا (٢).

__________________

ـ [أي ابن تيمية] : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم». ثمّ قال أيضا : «وكيف يسوّغ أن يقال : «إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشّر أمّ إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة : إنّهم قالوا لإبراهيم لمّا أتوه بالبشرى : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)) [هود] ، فمحال أن يبشّرها بأنه يكون لها ولد ، ثمّ يأمر بذبحه ، ولا ريب في أن يعقوب (ع) داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللّفظ الواحد ، وهذا ظاهر الكلام وسياقه». وأما مصنّف السّيوطي الّذي أورد فيه حجج كلّ من القولين ، فهو : «القول الفصيح في تعيين الذبيح» ، وقد ضمّنه في كتابه «الحاوي للفتاوي» ١ : ٣١٨ ، ٣٢٢ ؛ وقال فيه بعد أن أورد حجج كلّ من القولين : «وكنت ملت إليه ـ يقصد أنّه مال إلى القول بأنّ الذبيح هو إسحاق ـ في علم التفسير ، وأنا الآن متوقّف في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم». انظر للوقوف على مزيد من التحقيق في هذه المسألة ، إضافة للمراجع المذكورة أعلاه : «كشف الخفاء» للعجلوني في حديث رقم (٦٠٦) ، و «جنى الجنتين في تمييز نوع المثنيين» للمحبيّ ص ٥٠.

(١). والتّرمذي في «سننه» رقم (٣٢٢٧) في التفسير ، وقال : هذا حديث غريب ، والطّبري في «تفسيره» ٢٢ : ٦٧.

(٢). انظر «تفسير الطّبري» ٢٢ : ٦٦.

٢١٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الصافات» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)).

والاستسخار : المبالغة في السّخرية. أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.

٢ ـ وقال تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)).

الغول : مصدر غاله يغوله ، إذا أهلكه وأفسده.

أقول : لعلّ الغول ، وهو المصدر ، قد أخذ من كلمة «الغول» ، وهي من أوهام العرب وأباطيلهم!

والغريب أن جماعة من العرب في عصرنا ، أطلقت «الغول» على ما يسمّى في العلم الحديث المادة «الرّوحية» في المخدّرات ، الّتي أسموها : «الكحول» ، وذلك توهّما وخطأ. وكان ذلك بسبب أن كلمة «الغول» قد وردت في هذه الآية ، توصف بها الخمر في الجنّة ، أي : أنّ خمرة الجنة لا تهلك ولا تفسد العقول ، كخمرة الدنيا.

وقوله تعالى : (يُنْزَفُونَ (٤٧)) بالبناء للمفعول من : نزف الشارب إذا ذهب عقله ، ويقال للسّكران : نزيف ومنزوف.

٣ ـ وقال تعالى : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣)).

وقوله تعالى : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) ، أي : فذهب إليها في خفية (٢) ، والأصل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). ويقال أيضا : «خفية» بضمّ الخاء.

٢١٣

روغ الثعلب. وكذلك قوله سبحانه : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣)) ، أي : فأقبل عليهم مستخفيا.

واستعمال «الجار والمجرور» : «عليهم» بعد «راغ» يشعرنا أنّ الفعل تضمّن معنى «ضربهم» ، أو فراغ عليهم يضربهم ضربا قويّا.

٤ ـ وقال تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)).

وقوله تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) ، أي : صرعه على شقّه ، فوقع أحد جبينيه على الأرض ، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد ، ليرضيا الرّحمن ويخزيا الشّيطان.

أقول : والفعل «تلّ» يؤدّي في عصرنا معنى جذب بقوّة.

٥ ـ وقال تعالى : (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)).

والمليم : الداخل في الملامة ، ويقال : ربّ لائم مليم ، أي : يلوم غيره ، وهو أحق منه باللوم.

أقول : ونحن محتاجون الى الفعل «ألام» في عربيّتنا المعاصرة ، لأننا نعبر عن معناه بجملة لإيضاح ما نريد : أن فلانا مثلا ، أحقّ باللوم قبل أن يلوم غيره.

٢١٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الصافات» (١)

قال تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٥] على «إنّ إلهكم ربّ» ونصب بعضهم (رَبُّ السَّماواتِ) [الآية ٥](وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥)) فجعله صفة للاسم الّذي وقعت عليه «إنّ» ، والأوّل أجود ، لأنّ الأوّل في هذا المعنى ، وهو متناول بعيد في التفسير.

وقال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الآية ٦] بجعل «الكواكب» بدلا من «الزّينة» وبعضهم قرأ : (بزينة الكواكب) وليس يعني بعضها ، ولكن زينتها حسنها.

وورد قوله تعالى : (وَحِفْظاً) [الآية ٧] بالنصب ، باعتباره بدلا من اللفظ بالفعل ، كأنّ السّياق : «وحفظناها حفظا».

وقال تعالى : (لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)) وثقّل بعضهم ، وليس للتثقيل معنى ، إنّما معنى التثقيل «المتصدّقين» وليس هذا بذاك المعنى. انّما معنى هذا من «التّصديق» وليس من «التصدّق» ، وإنّما تضعّف هذه ويخفّف ما سواها ، «والصّدقة» تضعّف صادها ، وتلك غير هذه. إنّما سئل رجل : من صاحبه؟ فحكى عن قرينه في الدّنيا ، فقال كما ورد في التنزيل : (كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)) إنّا لنبعث بعد الموت. أي : أتؤمن بهذا؟ أي : تصدّق بهذا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢١٥

وقال تعالى : (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)) تقول : «أكبّه لوجهه» و «أكببته لوجهه» لأنّه في المعنى شبه «أقصيته».

وقال تعالى : (مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)) يقول : كانوا كذلك عندكم.

٢١٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الصافات» (١)

إن قيل : لم جمع تعالى لفظ «المشارق» هنا ، وثنّاهما في سورة الرّحمن ، ولم اقتصر هنا على ذكر «المشارق» ، وذكر ثمّة المغربين أيضا ، وذكر المغارب مع المشارق ، مجموعين في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] وذكرهما مفردين في قوله تعالى (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨)) [الشعراء]؟

قلنا : لأنّ القرآن نزل بلغة العرب على المعهود من أساليب كلامهم وفنونه ، ومن أساليب كلامهم وفنونه : الإجمال والتفصيل والبسط والإيجاز ، فأجمل تارة بقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)) [الرّحمن] أراد مشرقي الصّيف والشتاء ، ومغربيهما على الإجمال ؛ وفصّل تارة بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] أراد جمع مشارق السنة ومغاربها ، وهي تزيد على سبعمائة ؛ وبسّط مرّة ، بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] ، وأوجز واختصر مرّة بقوله تعالى : (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) [الآية ٥] لدلالة المذكور ، وهي المشارق ، على المحذوف ، وهي المغارب ، وكانت المشارق أولى بالذكر لأنها أشرف ؛ إمّا لكون الشروق سابقا في الوجود على الغروب ، أو لأنّ المشارق منبع الأنوار والأضواء.

فإن قيل : لم خصّ سبحانه وتعالى سماء الدنيا ، بقوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٧

السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦)) مع أنّ غير سماء الدنيا مزيّنة بالكواكب أيضا؟

قلنا : إنّما خصّها بالذّكر لأنّا نحن نرى سماء الدنيا لا غير.

فإن قيل : لم مدح سبحانه نوحا (ع) بقوله : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)) مع أنّ مرتبة الرّسل فوق مرتبة المؤمنين؟

قلنا : إنّما مدحه بذلك ، تنبيها لنا على جلالة محلّ الإيمان وشرفه ، وترغيبا في تحصيله والثبات عليه ، والازدياد منه ، كما قال تعالى في مدح إبراهيم (ع) : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)).

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨)) والنّظر إنّما يعدّى بإلى ، قال الله تعالى (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) [الأعراف : ١٤٣] وقال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) [الروم : ٥٠].

قلنا : «في» هنا بمعنى «إلى» كما في قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩] الثاني : أنّ المراد به ، نظر الفكر لا نظر العين ، ونظر الفكر إنّما يعدّى بفي ؛ قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] فصار المعنى ففكّر في علم النجوم أو في حال النجوم.

فإن قيل : لم استجاز إبراهيم (ع) أن يقول ، كما ورد في التنزيل : (إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)) ولم يكن سقيما؟

قلنا : معناه سأسقم ، كما في قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) [الزمر : ٣٠] فهو من معاريض الكلام ، قاله ليتخلّف عنهم إذا خرجوا إلى عيدهم ، فيكيد أصنامهم. وقال ابن الأنباري : أعلمه الله تعالى أنّه يمتحنه بالسّقم إذا طلع نجم كذا ، فلمّا رآه علم أنه سيسقم. وقيل معناه : إنّي سقيم القلب عليكم ، إذا عبدتم الأصنام ، وتكهّنتم بنجوم لا تضرّ ولا تنفع. وقيل إنّه عرض له مرض ، وكان سقيما حقيقة. وقال الزّمخشري : قد جوّز بعض الناس الكذب في المكيدة في الحرب ، والتقيّة ، وإرضاء الزوج ، والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين. قال : والصحيح أن الكذب حرام إلّا إذا عرّض وورّى ؛ وإبراهيم صلوات الله عليه ، عرّض بقوله وورّى ، فإنه أراد أنّ من في عنقه الموت سقيم ، كما قيل في المثل «كفى بالسلامة داء» ؛ وقال لبيد :

ودعوت ربّي بالسّلامة جاهدا

٢١٨

ليصحّني فإذا السلامة داء

وروي أن رجلا مات فجأة ، فاجتمع عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح ، فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه؟

فإن قيل : لم لا يجوز النظر في علم النجوم ، مع أنّ إبراهيم (ع) قد نظر فيه ، وحكم منه؟

قلنا : ليس المنجّم كإبراهيم (ع) ، في أن الله تعالى أراه ملكوت السماوات والأرض ؛ فأبيح له النظر في علم النجوم والحكم منه.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)) أي يسرعون ، يدلّ على أنهم عرفوا أنّه هو الكاسر لها ؛ وقوله تعالى في سورة الأنبياء (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٥٩] ، وما بعده يدلّ على أنّهم ما عرفوا أنّه الكاسر ، فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : يجوز أن يكون الّذي عرفه وزفّ إليه بعضهم ، والّذي جهله وسأل عنه بعض آخر ؛ ويجوز أن الكلّ جهلوه وسألوا عنه ، فلما عرفوا أنه الكاسر لها زفّوا إليه كلّهم.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى على لسان ابراهيم صلوات الله عليه (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الآية ٩٩].

قلنا : معناه إلى حيث أمرني ربّي بالمهاجرة ، وهو الشّام. وقيل : إلى طاعة ربّي ورضاه. وقيل : إلى أرض ربّي ؛ وإنّما خصّها بالإضافة إلى الله تعالى ، تشريفا لها وتفضيلا ، لأنّها أرض مقدّسة مبارك فيها للعالمين ، كما في قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجنّ : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣].

فإن قيل : ما المقصود بقوله تعالى : (سَيَهْدِينِ (٩٩)) وهو كان مهتديا؟

قلنا : المقصود : سيثبّتني على ما أنا عليه من الهدى ، ويزيدني هدى. وقيل : (سَيَهْدِينِ (٩٩)) إلى الجنّة. وقيل إلى الصّواب في جميع أحوالي. ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام ، كما ورد في التنزيل : (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)) [الشعراء].

فإن قيل : كيف شاور إبراهيم ولده ، عليهما‌السلام ، في ذبحه بقوله كما نصّ القرآن : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الآية ١٠٢] ، مع أنّه كان حتما على إبراهيم ،

٢١٩

لأنه أمر به ، لأنّ معنى قول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الآية ١٠٢] : أنّه أمر بذبحه في المنام ، ورؤيا الأنبياء حقّ ؛ فإذا رأوا شيئا في المنام ، فعلوه في اليقظة ، كذا قاله قتادة ؛ والدليل على أنّ منامه كان وحيا بالأمر بالذبح ، قوله تعالى حكاية على لسان ولد ابراهيم (ع) : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الآية ١٠٢]؟

قلنا : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه في ذلك ، ولكن ليعلم ما عنده من الصّبر ، فيما نزل به من بلاء الله تعالى ، فيثبّت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه الزّلل إن صبر وسلّم ، وليعلم القصّة فيوطن نفسه على الذّبح ، ويهوّنه عليها ، فيلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب الثواب بالانقياد والصبر لأمر الله تعالى قبل نزوله ، وليكون سنّة في المشاورة ؛ فقد قيل لو شاور آدم الملائكة في أكل الشجرة ، لما فرط منه ذلك.

فإن قيل : لم قيل له : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الآية ١٠٥] وإنّما يكون مصدّقا لها ، لو وجد منه الذّبح ، ولم يوجد؟

قلنا : معناه قد فعلت غاية ما في وسعك ، ممّا يفعله الذابح ، من إلقاء ولدك ، وإمرار الشفرة على حلقه ؛ ولكنّ الله تعالى منع الشفرة أن تقطع. وقيل : إنّ الّذي رآه في المنام معالجة الذبح فقط ، لا إراقة الدم ؛ وقد فعل ذلك في اليقظة ، فكان مصدّقا للرؤيا.

فإن قيل : أين جواب «لمّا» في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما) [الآية ١٠٣]؟

قلنا : قيل هو محذوف تقديره : استبشرا ، واغتبطا ، وشكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهما من الفداء ؛ أو تقديره : سعدا ، أو أجزل ثوابهما. وقيل الجواب هو قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ) [الآية ١٠٤] والواو زائدة كما في قول امرئ القيس :

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أي فلمّا أجزنا ساحة الحي انتحى ، كذا نقله ابن الأنباري في شرحه.

فإن قيل : لم قال تعالى في قصة إبراهيم (ع) : (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠)) وفي غيرها من القصص قبلها وبعدها : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)).

قلنا : لمّا سبق في قصة إبراهيم (ع) مرة : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)) طرحه في الثاني تخفيفا واختصارا

٢٢٠