الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «يس» (١)

أقول : ظهر لي وجه اتّصالها بما قبلها : أنّه لمّا ذكر تعالى في سورة فاطر قوله : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر : ٣٧] ، وقوله سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) [فاطر : ٤٢] ، والمراد به محمد (ص) (٢) وقد أعرضوا عنه وكذّبوه ، فافتتح هذه السّورة بالإقسام على صحة رسالته ، وأنّه على صراط مستقيم ، لينذر قوما ما أنذر آباؤهم. وهذا وجه بيّن.

وفي فاطر : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الآية ١٣]. وفي يس (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)). وذلك أبسط وأوضح.

وفي فاطر : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) [الآية ١٢]. وفي يس : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣)) ، فزاد القصّة بسطا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). هو قول السّدّيّ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم. انظر تفسير ابن كثير ٦ : ٥٤٢.

١٨١
١٨٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «يس» (١)

١ ـ (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [الآية ١٣].

قال بريدة (٢) : أنطاكية. أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) [الآية ١٤].

هما : شمعون ويوحنّا. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي ، قال : واسم الثالث : بولس (٣).

وأخرج عن كعب ووهب : أنّ الثلاثة : صادق ، وصدوق ، وشلوم. وأخرج ابن سعد عن ابن عبّاس : أنّ الثالث الّذي عزّز به شمعون.

٣ ـ (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) [الآية ٢٠].

قال ابن عبّاس : هو حبيب النجّار. أخرجه ابن أبي حاتم من طرق عنه ، وعن قتادة ، وكعب ، ووهب ، وغيرهم (٤).

وأخرج عن عمر بن الحكم : أنه كان إسكافا.

وعن السّدّيّ : أنه كان قصّارا.

٤ ـ (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [الآية ٣٨].

أخرج الأئمّة الخمسة (٥) عن أبي ذرّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). انظر «تفسير الطّبري» ٢٢ : ١٠١.

(٣). انظر «الإتقان» ٢ : ١٤٨.

(٤). انظر «تفسير الطّبري» ٢٢ : ١٠٢.

(٥). البخاري (٤٨٠٣) في التفسير ، وفي التوحيد أيضا ، ومسلم في الإيمان (١٥٩) ، والتّرمذي (٣٢٢٥) في التفسير ، وأبو داود (٤٠٠٢) في الحروف والقراآت ، والنّسائي.

١٨٣

قال : سألت النبي (ص) عن قول الله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).

قال : مستقرّها تحت العرش.

٥ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) [الآية ٧٧].

نزلت في العاصي بن وائل ، كما أخرجه الحاكم (١) عن ابن عبّاس.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد ، وعكرمة ، وعروة ، والسّدّيّ : في أبيّ بن خلف.

وأخرج ابن جرير (٢) من طريق العوفي ، عن ابن عبّاس : في عبد الله بن أبيّ. وقيل في أميّة بن خلف. حكاه ابن عساكر.

__________________

(١). في «المستدرك» ٢ : ٤٢٩ وقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه» وأخرجه أيضا الطّبري في «تفسيره» ٢٣ : ٣٠ ط الحلبي.

ووقع لفظ «الحاكم» : «ابن أبي حاتم» ، وذكر السّيوطي في «الدّرّ المنثور» ٥ : ٢٦٩ أنّ «ابن أبي حاتم» قد أخرجه أيضا ، ولكني لا أطمئن الى أن أثبتها أعلاه بجانب «الحاكم» ، إذ ليس ببعيد أن يدمج الروايات ذات المعنى الواحد في روايات أخر ؛ والله تعالى أعلم.

(٢). ٢٣ : ٢١. وسنده ضعيف ، وقال ابن كثير ، بعد ما ذكر أثر ابن عباس هذا في «تفسيره» ٣ : ٥٨١ : «وهذا منكر ، لأن السورة مكّيّة ، وعبد الله بن أبيّ بن سلول ، إنّما كان في المدينة».

١٨٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «يس» (١)

١ ـ وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)).

والمقمح : الّذي يرفع رأسه ويغضّ بصره ، يقال : قمح البعير فهو قامح إذا روي ، فرفع رأسه.

ومنه شهرا قماح ، سمّيا بذلك ، لأنّ الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء ، فقامحت.

أقول : ليقف دارس العربية وقفة طويلة على هذه الأصول البدويّة القديمة ، الّتي أحالها المعربون إلى مواد أخرى ، تبدو كأنّها قطعت الصلة بأصولها القديمة.

٢ ـ وقال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)).

قرئ : بإدغام التّاء في الصّاد ، مع فتح الخاء وكسرها ، وإتباع الياء الخاء في الكسر ، والأصل : يختصمون ، وبها قراءة أيضا.

أقول : وقد تعجب أن القراآت المشهورة تبدو أحيانا غريبة ، وقد تتجاوز المألوف الشائع الّذي درجت عليه العربيّة ، فتأتي أبنية غريبة كهذه الكلمة ، في حين يبتعد عن الأصل الشائع.

٣ ـ وقال تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥)).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٨٥

وقرئ : «فكهون» بكسر الكاف وضمّها ، مثل حدث وحدث ونطس ونطس وغير ذلك.

وقرئ فاكهين وفكهين ، بالنصب على الحال.

أقول : وقوله تعالى : (فاكِهُونَ) ، وهو اسم فاعل ووصف أخذ من الاسم «فاكهة» ، فهي مادة الاشتقاق وأصله ، لشهرتها ومعرفتها ، وقد جاء الفعل وما يتبعه منها.

٤ ـ وقال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)).

وقوله تعالى : (وَامْتازُوا) ، أي : وانفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة ، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنّة.

أقول : إن الفعل «امتاز» ، من الأفعال المهمّة في العربية المعاصرة ، فهو كثير الاستعمال ، يقال : امتاز هذا الشيء بجودته عن سائر الأشياء ، أي : انفرد.

غير أن استعماله يقتصر على الإيجاب ، فإذا امتاز الشيء بشيء ما ، فذلك الشيء الّذي امتاز به من صفات الحسن والجودة ، ولهذا كان «الممتاز» هو الحسن من كلّ شيء ، فالبضاعة «الممتازة» هي العالية في نوعها مثلا. ولا يقال في الصّفات السلبية «امتازت» فلا نقول :

امتاز الكتاب بسوء تأليفه ، بل العكس هو الغالب المستعمل.

٥ ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) [الآية ٦٢].

وقرئ : «جبلّا» ، بضمتين ، وضمة وسكون ، وضمتين وتشديد ، وكسرتين ، وكسرة وسكون ، مع التشديد. وكلها بمعنى الخلق.

وفي قراءة عليّ رضي الله عنه : جيلا واحدا بالياء.

٦ ـ وقال تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢)).

وقرئ : (ركوبتهم) ، وهو ما يركب كالحلوب والحلوبة.

وقيل : «الرّكوبة» جمع.

وقرئ : (ركوبهم) ، أي : ذو ركوبهم.

١٨٦

أقول : وقد ورد «فعول» للاسم كثيرا في العربيّة ، كالوقود والوضوء والغسول والوجور والسّفوف ، وغير ذلك.

٧ ـ وقال تعالى : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [الآية ٧٧].

والمعنى وإذا هو ، أي الإنسان ، بعد ما كان نطفة ، صار رجلا مميّزا قادرا على الخصام.

فالخصيم نعت ، يفيد أنّه يعرف الخصام ، ويحسنه.

١٨٧
١٨٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «يس» (١)

قال تعالى : (يس (١)) ، يقال معناها يا إنسان ، كأنّه سبحانه يعني النبيّ (ص) ، فلذلك قال : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)) لأنه يعني النبي (ص).

وقال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)) [الآية ٦] أي : قوم لم ينذر آباؤهم ، لأنهم كانوا في الفترة. وقرأ بعضهم (ما أنذره آباؤهم فهم غافلون). فدخول الفاء في هذا المعنى ، كأنّه لا يجوز ، والله أعلم ، وهو على الأوّل أحسن.

وقال تعالى : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ) [الآية ١٩] أي : إن ذكّرتم فمعكم طائركم.

وقال سبحانه : (لَا الشَّمْسُ) [الآية ٤٠] بإدخال «لا» لمعنى النفي ، ولكن لا ينصب ما بعدها إلّا أن يكون نكرة ، فهذا مثل قوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) [الكافرون : ٣ و ٥].

وقال تعالى : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) [الآية ٧٢] أي : «منها ما يركبون» لأنّك تقول : «هذه دابّة ركوب». و «الرّكوب» : هو فعلهم.

وقال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً) [الآية ٥٨] فانتصب «قولا» على البدل من اللفظ بالفعل ، كأنّه قال «أقول قولا» ؛ وقرأه ابن مسعود (سلاما) وعيسى (٢) وابن

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو عيسى بن عمر الثّقفي ، وقد مرّت ترجمته.

١٨٩

أبي إسحاق (١) كذلك نصباها على خبر المعرفة ، على قوله تعالى (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)) (٢).

__________________

(١). هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، أحد أوائل النّحاة ، وترجم له في أخبار النحويين البصريين ١٩ ، ومراتب النحويين ١٢ ، ونزهة الألباء ١٠ ، وطبقات اللغويين ٣١ ، وإنباه الرّواة ٣ : ١٠٤.

(٢). القراءة بالنصب ، هي في معاني القرآن ٢ : ٣٨٠ الى عبد الله ؛ وفي المصاحف ٦٩ ، والطبري ٢٣ : ٢١ ، والجامع ١٥ : ٤٥ كذلك ، وفي البحر ٧ : ٣٤٣ ؛ الى أبيّ وعبد الله ، وعيسى ، والغنوي.

١٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «يس» (١)

إن قيل : لم قال تعالى أولا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)) وقال سبحانه ثانيا : (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦))؟

قلنا : لأن الأوّل ابتداء إخبار ، فلم يحتج إلى التّأكيد باللّام ، بخلاف الثاني فإنّه جواب بعد الإنكار والتّكذيب ، فاحتاج إلى التّأكيد.

فإن قيل : لم أضاف الرجل الّذي جاء من أقصى المدينة الفطر إلى نفسه ، بقوله كما ورد في التنزيل : (فَطَرَنِي) [الآية ٢٢] وأضاف البعث إليهم بقوله ، كما ذكر القرآن ذلك (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الآية ٢٢] ، مع علمه أنّ الله تعالى فطره وفطرهم ، وسوف يبعثه ويبعثهم ، فلم لم يقل فطرنا وإليه نرجع ، أو فطركم وإليه ترجعون؟

قلنا : لأنّ الخلق والإيجاد نعمة من الله تعالى توجب الشّكر ؛ والبعث بعد الموت وعيد وتهديد يوجب الزّجر ، فكان إضافته النعمة إلى نفسه أظهر في الشّكر ، وإضافته البعث إليهم أبلغ في الزّجر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [الآية ٣٠] والتحسّر على الله تعالى محال؟

قلنا : هو تحسير للخلق ، معناه قولوا يا حسرتنا على أنفسنا ، لا تحسّرا من الله تعالى.

فإن قيل : لم نفى الله سبحانه وتعالى عن الشمس أن تدرك القمر دون عكسه وهو : ولا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩١

قلنا : لأنّ سير القمر أسرع ، فإنّه يقطع فلكه في شهر ، والشمس لا تقطع فلكها إلّا في سنة ، فكانت الشمس جديرة بأن توصف بنفي الإدراك لبطء سيرها ، والقمر خليقا بأن يوصف بالسّبق لسرعة سيره ؛ هذا سؤال الزّمخشري رحمه‌الله وجوابه. ويردّ عليه أن سرعة سير القمر يناسب أن ينفى الإدراك عنه ، لأنّه إذا قيل لا القمر ينبغي له أن يدرك الشمس مع سرعة سيره ، علم بالطريق الأولى أنّ الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر مع بطء سيرها : فإذا قيل : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر أمكن أن يقال إنّما لم تدركه لبطء سيرها ، فأمّا القمر فيجوز أن يدركها لسرعة سيره.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَآيَةٌ لَهُمْ) [الآية ٤١] ، أي لأهل مكّة ، (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ (٤١)) أي ذرّيّة أهل مكّة ، أو ذرّيّة قوم نوح (ع) (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الآية ٤١] ، والذّرّية اسم للأولاد ، والمحمول في سفينة نوح (ع) آباء أهل مكّة ، لا أولادهم؟

قلنا : الذّريّة من أسماء الأضداد تطلق على الآباء والأولاد بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران]. وصف جميع المذكورين بكونهم ذرّية وبعضهم آباء وبعضهم أبناء ، فمعناه حملنا آباء أهل مكّة ، أو حملنا أبناءهم ، لأنهم كانوا في ظهور آبائهم المحمولين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)) يعنون الوعد بالبعث والجزاء ، والوعد كان واقعا لا منتظرا؟

قلنا : معناه إنجاز هذا الوعد وصدقه ، بحذف المضاف أو بإطلاق اسم الوعد على الموعود ، كضرب الأمير ونسيج اليمن.

فان قيل : قولهم ، كما ورد في التنزيل : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [الآية ٥٢] ، سؤال عن الباعث ، فكيف طابقه ما بعده جوابا.

قلنا : معناه بعثكم الرّحمن الّذي وعدكم البعث ، وأنبأكم به الرّسل ، إلا أنه جيء به على هذه الطريقة ، تبكيتا لهم وتوبيخا.

١٩٢

فإن قيل : لم قال تعالى في صفة أهل الجنة : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [الآية ٥٦] والظلّ إنّما يكون حيث تكون الشمس ، ولهذا لا يقال لما في الليل ظلّ ، والجنّة لا يكون فيها شمس ، لقوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣)) [الإنسان]؟

قلنا : ظل أشجار الجنة من نور العرش ، لئلّا تبهر أبصار أهل الجنة ، فإنه أعظم من نور الشمس ، وقيل من نور قناديل العرش.

فإن قيل : لم سمّى سبحانه وتعالى ، نطق اليد كلاما ، ونطق الرجل شهادة ، في قوله سبحانه : (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) [الآية ٦٥]؟

قلنا : لأن اليد كانت مباشرة ، والرّجل حاضرة ، وقول الحاضر على غيره شهادة ، وقول الفاعل على نفسه ليس بشهادة ، بل إقرار بما فعل.

قلت : وفي الجواب نظر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) [الآية ٦٩] مع أنه (ص) قد روي عنه ما هو شعر ، وهو قوله (ص) :

أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب وقوله (ص) :

هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت قلنا : هذا ليس بشعر ، لأن الخليل لم يعدّ مشطور الرّجز شعرا ، وقوله (ص) «هل أنت إلا إصبع دميت» من مشطور بحر الرجز ، كيف وقد روي أنه (ص) قال : «دميت ولقيت» بفتح الياء وسكون التاء ، وعلى هذا لا يكون شعرا ، وإنّما الرّاوي حرّفه فصار شعرا ؛ الثاني أن حدّ الشعر قول موزون مقفّى مقصود به الشعر ؛ والقصد منتف فيما روي عنه (ص) ، فكان كما يتّفق وجوده في كلّ كلام منثور من الخطب والرسائل ومحاورات الناس ، ولا يعدّه أحد شعرا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [الآية ٧١] والله تعالى منزّه عن الجارحة؟

قلنا : هو كناية عن الانفراد بخلق الأنعام ، والاستبداد به بغير شريك ؛ كما يقال في الحبّ وغيره من أعمال القلب ، هذا ممّا عملته يداك ؛ ويقال لمن لا يد له يداك أو يديك ، وكذا

١٩٣

قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥].

فإن قيل : لم سمّى تعالى قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [الآية ٧٨] مثلا ، وهو ليس بمثل ، وإنّما هو استفهام إنكار؟

قلنا : سمّاه ، سبحانه ، مثلا ، لما دلّ عليه من قصة عجيبة شبيهة بالمثل ، وهو إنكار الإنسان قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، مع أنّ العقل والنّقل كليهما يشهدان بقدرة الله ، جل جلاله ، على ذلك.

١٩٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «يس» (١)

قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)).

وهاتان استعارتان. ومن أوضح الأدلّة على ذلك ، أنّ الكلام كلّه في أوصاف القوم المذمومين. وهم في أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة.

ألا ترى قوله تعالى بعد ذلك : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)). وإذا كان الكلام محمولا على أحوال الدّنيا دون أحوال الاخرة ، وقد علمنا أنّ هؤلاء القوم الّذين ذهب الكلام إليهم ، كان النّاس يشاهدونهم غير مقمحين بالأغلال ، ولا مضروبا عليهم بالأسداد ، علمنا أنّ الكلام خرج مخرج قوله سبحانه : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة : ٧] ؛ وكأنّ ذلك وصف لما كان عليه الكفّار عند سماع القرآن ، من تنكيس الأذقان ، وليّ الأعناق ، ذهابا عن الرّشد ، واستكبار عن الانقياد للحقّ ، وضيق صدر بما يرد عليهم من مواقع البيان ، وقوارع القرآن. وقد اختلف في معنى الإقماح. فقال قوم : هو غضّ الأبصار ؛ واستشهدوا بقول بشر بن أبي (٢) خازم في ذكر السفينة :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). البيت في «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج ١٥ ص ٨ منسوبا إلى بشر ، فقط من غير ذكر لأبيه. وفي كتاب «القرطين» لابن مطرّف ج ٢ ص ٨٧ لم ينسب لقائله. ولكن مصحّح الكتاب نسبه في الهامش إلى بشر بن أبي حازم بالحاء المهملة كما جاء مثل ذلك في كتاب «الحماسة» لابن الشّجري طبع حيدر أباد ص ٥ ، ٣٠٤ أما في ـ

١٩٥

ونحن على جوانبها قعود نغضّ الطّرف كالإبل القماح وقال قوم : المقمح : الرافع رأسه متعمّدا. فكأنّ هؤلاء المذمومين شبّهوا على المبالغة في وصف تكارههم للإيمان ، وتضايق صدورهم لسماع القرآن ، بقوم عوقبوا فجذبت أذقانهم بالأغلال إلى صدورهم مضمومة إليها أيمانهم ، ثمّ رفعت رؤوسهم ، ليكون ذلك أشدّ لإيلامهم ، وأبلغ في عذابهم.

وقيل : إنّ المقمح الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، فكأنّه جامع بين الصّفتين جميعا.

وقيل : إنّ قوله تعالى : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) يعني به أيمانهم المجموعة بالأغلال إلى أعناقهم ، فاكتفي بذكر الأعناق من الأيمان ، لأن الأغلال تجمع بين الأيمان والأعناق.

وكذلك معنى السّدّ المجعول بين أيديهم ومن خلفهم ، إنّما هو تشبيه بمن قصر خطوه وأخذت عليه طرقه. ولما كان ما يصيبهم من هذه المشاقّ المذكورة والأحوال المذمومة ، إنّما هو عقيب تلاوة القرآن عليهم ، ونفث قوارعه في أسماعهم ، حسن أن يضيف سبحانه ذلك إلى نفسه ، فيقول : إنّا جعلناهم على تلك الصفات.

وقد قرئ «سدّا» بالفتح ، و «سدّا» بالضم. وقيل إن السّدّ بالفتح ما يصنعه الناس ، والسّدّ بالضمّ ما يصنعه الله تعالى.

وقال بعضهم : المراد بذكر السّدّ هاهنا : الإخبار عن خذلان الله سبحانه إيّاهم ، وتركه نصرهم ومعونتهم ، كما تقول العرب في صفة الضّالّ المتحيّر : فلان لا ينفذ في طريق يسلكه ، ولا يعلم أمامه أم وراءه خير له. وعلى ذلك قول الشاعر :

فأصبح لا يدري وإن كان حازما

أقدّامه خير له أم وراءه

وأمّا قوله سبحانه : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الآية ٩] ، فهو أيضا في معنى الختم والطّبع ، وواقع على الوجه الّذي يقعان عليه. وقد تقدّم إيماؤنا إليه.

__________________

ـ صفحة ١٠٣ ، ٢٦٩ فجاء بغير ذلك. والصواب بالحاء المعجمة والزّاي. وله ترجمة في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة ص ٢٢٧ ، والخزانة ج ٢ ص ٢٦١ ـ ٢٦٤ ، ومختارات ابن الشجري ج ٢ ص ١٩ ـ ٣٣ ، والمفضّليّات بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام هارون.

١٩٦

وقوله سبحانه : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)).

وهذه استعارة. والمراد نخرج منه النّهار ، ونستقصي تخليص أجزائه ، حتّى لا يبقى من ضوء النهار شيء مع ظلمة الليل ، فإذا النّاس قد دخلوا في الظلام. وهذا معنى قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) كما يقال : أفجروا ، إذا دخلوا في الفجر ، وأنجدوا ، وأتهموا ، إذا دخلوا نجدا وتهامة.

والسّلخ : إخراج الشيء ممّا لابسه ، والتحم به. فكلّ واحد من اللّيل والنّهار ، متّصل بصاحبه اتّصال الملابس بأبدانها ، والجلود بحيوانها. ففي تخليص أحدهما من الاخر ، حتّى لا يبقى معه منه طرف ، ولا عليه منه أثر ، آية باهرة ، ودلالة ظاهرة. فسبحان الله ربّ العالمين.

وقوله سبحانه في ذكر البعث : (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)) وهذه استعارة. لأن المرقد هاهنا عبارة عن الممات ، فشبّهوا حال موتهم بحال نومهم ، لأنها أشبه الأشياء بها. وكذلك قوة شبه حال الاستيقاظ بحال الأحياء والإنشار ، وعلى ذلك قوله (ص) : «إنّكم تموتون كما تنامون ، وتبعثون كما تستيقظون» (١). وقال بعضهم : الاستعارة هاهنا أبلغ من الحقيقة. لأنّ النوم أكثر من الموت ، والاستيقاظ أكثر من الإحياء بعد الموت. لأن الإنسان الواحد يتكرّر عليه النوم واليقظة مرات ، وليس كذلك حال الموت والحياة.

وقوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦)). وهذه استعارة. والمراد بالطّمس هاهنا : إذهاب نور الأبصار حتّى يبطل إدراكها ، تشبيها بطمس حروف الكتاب ، حتّى تشكل قراءتها.

وفيه أيضا زيادة معنى ، لأنه يدلّ على محو آثار عيونهم ، مع إذهاب أبصارها ، وكسف أنوارها. وقيل معنى الطّمس إلحام الشّقوق الّتي بين الأجفان حتّى تكون مبهمة ، لا شقّ فيها ، ولا

__________________

(١). هذا الحديث من خطبة له (ص) ، وهي أوّل خطبة بمكّة حينما دعا قومه إلى الإسلام. وهي في كتاب «جمهرة خطب العرب» ج ١ ص ٥١. وقد نقلها عن «السيرة الحلبية» ج ١ ص ٢٧٢ ، وعن «الكامل» لابن الأثير ج ٢ ص ٢٧.

١٩٧

شفر لها. يقولون : أعمى مطموس وطميس ، إذا كان كذلك.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)) وقرئ : ننكسه بالتخفيف ، وهذه استعارة. والمراد ، والله أعلم ، أنّا نعيد الشّيخ الكبير ، إلى حال الطّفل الصّغير ، في الضّعف بعد القوّة ، والتّثاقل بعد النّهضة ، والأخلاق (١) بعد الجدّة. تشبيها بمن انتكس على رأسه ، فصار أعلاه سفلا ، وأسفله علوا.

وقوله سبحانه : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠)) وهذه استعارة. والمراد بالحيّ هاهنا : الغافل الّذي يستيقظ إذا أوقظ ، ويتّعظ إذا وعظ.

فسمّى سبحانه المؤمن الّذي ينتفع بالإنذار حيّا لنجاته ، وسمّى الكافر الّذي لا يصغي إلى الزّواجر ميتا لهلكه.

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١)) وهذه استعارة. والمراد بذكر الأيدي هاهنا ، قسمان من أقسام اليد في اللغة العربية. إمّا أن تكون بمعنى القوّة ، وبمعنى تحقيق الإضافة. فكأنّه سبحانه قال : أولم يروا أنّا خلقنا لهم أنعاما ، اخترعناها بقوّة تقديرنا ، ومتقن تدبيرنا.

أو يكون المعنى أنّ هذه الأنعام ، ممّا تولّينا خلقه ، من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين ؛ لأنّ المخلوقين قد يعملون سفائن البحر ، ولا يعملون سفائن البرّ ، الّتي هي الأنعام المذلّلة ظهورها ، والمحلّلة لحومها. فهذا وجه فائدة الإضافة في قوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) والله أعلم.

__________________

(١). الأخلاق : كون الشيء خلقا باليا بعد جدّته.

١٩٨

سورة الصّافات

٣٧

١٩٩
٢٠٠