الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «سبأ» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٩] ، ولم يقل : إلى ما فوقهم وما تحتهم من السماء والأرض؟

قلنا : ما بين يدي الإنسان هو كلّ شيء يقع نظره عليه من غير أن يحوّل وجهه إليه ، وما خلفه هو كلّ شيء لا يقع نظره عليه حتّى يحوّل وجهه إليه ، فكان اللفظ المذكور أتمّ ممّا ذكر.

فإن قيل : لما ذا لم يذكر سبحانه الأيمان والشمائل هنا ، كما ذكرها في قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧]؟

قلنا : لأنّه وجد هنا ما يغني عن ذكرها ، وهو لفظ العموم ، وذكر السماء والأرض ، ولا كذلك ثمّة.

فإن قيل : كيف استجاز سليمان (ع) عمل التماثيل ، وهي التصاوير؟

قلنا : قيل إن عمل الصورة لم يكن محرّما في شريعته ، ويجوز أن تكون صور غير الحيوان كالأشجار ونحوها ، وذلك غير محرّم في شريعتنا أيضا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ) [الآية ١٥] ولم يقل آيتان جنّتان ، وكل جنة كانت آية : أي علامة على توحيد الله تعالى؟

قلنا : لما تماثلتا في الدّلالة واتحدت جهتهما فيها ، جعلتا آية

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٤١

واحدة ، ونظيره قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠].

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) [الآية ٢٢] ، أي الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله ، مع أنّ المشركين ما زعموا غير الله إلها دون الله ، بل مع الله على وجه الشّركة؟

قلنا : النّص لا يدل على زعمهم حصر الالهة في غير الله نصّا بل يوهم ذلك ، ولو دلّ فنقول : فيه تقديم وتأخير تقديره : ادعوا الّذين من دون الله زعمتم أنهم شركاء لله.

فإن قيل : ما معنى التشكيك في قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤))؟

قلنا : قيل إنّ (أو) هنا بمعنى الواو في الموضعين ، فيصير المعنى : نحن على الهدى وأنتم في الضلال. وقيل معناه : وإنّا لضالّون أو مهتدون وإنّكم لكذلك ، وهو من التعريض بضلالهم كما يقول الرّجل لصاحبه إذا أراد تكذيبه : والله إنّ أحدنا لكاذب ، ويعني به صاحبه.

فإن قيل : لم قالت الملائكة (ع) في حق المشركين ، كما ورد في التنزيل : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) [الآية ٤١] ولم ينقل عن أحد من المشركين أنّه عبد الجن؟

قلنا : معناه كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به من عبادتنا : (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)) : أي أكثر المشركين مصدّقون بالشياطين فيما يخبرونهم به من الكذب ، أنّ الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك ؛ فالمراد بالجنّ الشياطين.

١٤٢

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «سبأ» (١)

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) [الآية ٢٣].

هذه استعارة ، فالمراد بقوله تعالى : (فُزِّعَ) ، أي أزيل الفزع عن قلوبهم. كما تقول : قذّيت عينه : إذا أزلت القذى عنها. وهو كقولهم : رغب عنه : إذا رفعت الرغبة عنه. خلافا لقولهم : رغب فيه : إذا صرفت الرغبة إليه. فالرغبة في أحد الأمرين منقطعة ، وفي الاخر منصرفة.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [الآية ٣١]. وهذه استعارة. والمراد بها ما تقدّم القرآن من الكتاب ، فكأنّها كانت مشيرة إليه ، ومصرّفة بين يديه. وقد مضى الكلام على نظائر ذلك فيما تقدّم.

وقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [الآية ٣٣]. وهذه استعارة. والمراد بمكر اللّيل والنّهار : ما يتوقّع من مكرهم في الليل والنهار ، فأضاف تعالى المكر إليهما لوقوعه فيهما. وفيه أيضا زيادة فائدة ، وهي دلالة الكلام على أنّ مكرهم كان متصلا غير منقطع في الليل والنهار ، كما يقول القائل : ما زال بنا سير الليل والنهار حتّى وردنا أرض بني فلان. وهذا دليل على اتّصال سيرهم في الليل والنهار ، من غير إغباب ، ولا إراحة ركاب.

وقوله سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)). وهذه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٤٣

استعارة. والمراد أنّه عليه الصّلاة والسّلام بعث ليقدّم الإنذار أمام وقوع العقاب ، إزاحة للعلّة ، وقطعا للمعذرة. وقد تقدّمت إشارتنا إلى نظائر هذه الاستعارة في عدّة مواضع من هذا الكتاب.

وقوله سبحانه : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)). وهذه استعارة. لأن الإبداء والإعادة يكونان في القول ، ويكونان في الفعل. فأمّا كونهما في الفعل فبقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الروم : ٢٧] ؛ وأمّا كونهما في القول ، فإنّ القائل يقول : سكت فلان فلم يعد ولم يبدئ. أيّ لم يتكلم ابتداء ولا أحار جوابا. وهاتان الصّفتان يستحيل أن يوصف بهما الباطل ، الّذي هو عرض من الأعراض ، إلّا على طريق الاتّساع والمجاز.

وإنّما المراد أنّ الحقّ قوي وظهر ، والباطل ضعف واستتر ، ولم يبق له بقيّة يقوى بها بعد ضعفه ، ويجبر بعد وهنه. أي ما تقوم له قائمة في بدء ولا عود. والبدء : الحال الأولى ، والعود : الحال الأخرى. وكذلك الإبداء والإعادة.

ويجوز أن يكون لذلك وجه آخر ، وهو أن يكون المعنى ، أنّ الباطل كان عند غلبة الحقّ وظهوره ، بمنزلة الواجم الساكت ، والحائر الذاهل ، الّذي لا قدرة له على الحجاج ، ولا قوّة له على الانتصار. كقولهم : «سكت فما أعاد ولا أبدأ» عند وصف الإنسان بالحيرة أو غلبة الفكرة.

وقد قيل أيضا في ذلك وجه آخر ، يخرج به الكلام عن حيّز الاستعارة ، وهو أن يكون المراد أنّ صاحب الباطل لا يبدئ ولا يعيد عند حضور صاحب الحقّ ، ضعفا عن حجاجه ، وضلالا عن منهاجه. فجعل المضاف هاهنا في موضع المضاف إليه. وذلك كثير في كلامهم.

وقوله تعالى : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣)) وهذه استعارة. والمراد بذلك ، والله أعلم ، أنّهم يقولون ما لا يعلمون ، ويظنّون ولا يتحقّقون. فهم بمنزلة الرّامي غرضا بينه وبينه مسافة متباعدة ، فلا يكون سهمه أبدا إلّا قاصرا عن الغرض ، وعادلا عن السّدد.

١٤٤

سورة فاطر

٣٥

١٤٥
١٤٦

المبحث الأول

أهداف سورة «فاطر» (١)

سورة فاطر سورة مكّية نزلت بعد سورة الفرقان ، بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكّة إلى ثلاث فترات : الفترة المبكرة للدعوة ، والفترة المتوسّطة بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، والفترة الأخيرة بين الإسراء والهجرة إلى المدينة ، رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسّطة من حياة المسلمين بمكّة. ولسورة فاطر اسمان : الاسم الأول فاطر ، والاسم الثاني سورة الملائكة ، لقوله تعالى في أول السورة :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)).

موضوعات السورة

قال الفيروزآبادي : مقصود سورة فاطر هو : «بيان خلق الملائكة ، وفتح أبواب الرحمة ، وتذكير النعمة ، والتحذير من إغراء الشياطين ، وتسلية الرسول ، وصعود كلمة الشهادة إلى الله ، وذكر عجائب البحر ، واستخراج الحلية منه ، وسير الليل والنهار ، وعجز الأصنام عن الرّبوبيّة ، وفقر العباد إلى الله ، وفضل القرآن وشرف تلاوته ، وأصناف الخلق في وراثة القرآن ، وخلود الجنّة لأهل الإيمان ، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان ؛ والمنّة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب ...».

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٤٧

سياق السورة

سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وسياقها ، أقرب ما يكون إلى نسق سورة الرعد. «فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها ، وهي إيقاعات موحية مؤثّرة تهز القلب هزّا ، وتوقظه من غفلته ليتأمّل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون ، وليتدبّر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته ، وليتذكّر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته ، وليتصوّر مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ، وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله ، وآثار يده في أطواء الكون ، وأغوار النفس وحياة البشر ، وأحداث التاريخ. وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة. ذلك كله بأسلوب وإيقاع لا يتماسك له قلب يحسّ ويدرك ، ويتأثّر تأثّر الأحياء.

«والسّورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات ، متتالية الإيقاعات يصعب تقسيمها إلى فصول متميّزة الموضوعات فهي كلّها موضوع ، كلّها إيقاعات على أوتار القلب البشريّ ، تستمدّ من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث ، فتأخذ على النفس أقطارها ، وتهتف بالقلب من كلّ مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان.

«والسمة البارزة الملحوظة هي تجميع الخيوط كلّها في يد القدرة المبدعة ، وإظهار هذه اليد تحرّك الخيوط كلّها وتجمعها ، وتقبضها وتبسطها ، وتشدّها وترخيها فلا معقّب ولا شريك ولا ظهير.»

فقرات السورة

رغم أن السّورة كلّها وحدة متماسكة إلّا أنه يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات :

١ ـ رحمة الله وفضله

إذا تأمّلنا الآيات : [١ ـ ٨] من سورة فاطر ، نجد فيضا من أنعم الله الّتي لا تعدّ ولا تحصى على عباده ، فهو خالق السماء والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده ، (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [الآية ٢] لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه ، جعل النار

١٤٨

بردا وسلاما على إبراهيم (ع) ، وأنقذ يوسف (ع) من الجبّ ومن السجن ، واستجاب دعاء يونس (ع) في بطن الحوت ، وآزر موسى (ع) في طريقه إلى فرعون ، وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، وشملت رحمة الله محمدا (ص) في الهجرة ، وهو طريد :

(ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠].

وإذا أمسك الله رحمته عن عبد ، فلن ينفعه مال ولا رجال. وإذا استقرّ اليقين في القلب ، تنبّه إلى كيد الشّيطان وفنّه ؛ فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدوّ لنا يزيّن لنا الشّرّ ليوقعنا في المعصية ، فمن أطاع الشيطان زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ، ووقع في الضلال ، ومن يضلل الله فما له من هاد.

٢ ـ آيات الله في الكون

في الآيات [٩ ـ ١٥] نلحظ القدرة الإلهيّة ، في نفس الإنسان وفي صفحة الكون ، وفي الرياح يسوقها الله ، ثمّ تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحيي الأرض بعد موتها ، وكذلك البعث والحياة بعد الموت. والله خالق الإنسان وبيده رعايته في مراحل تكوينه ، وتخليقه في بطن أمّه ، ثمّ رعايته وليدا وناشئا وزوجا ، وهو عليم بمن يموت مبكرا ، إنّ ذلك على الله يسير.

وتمتدّ قدرة الله سبحانه إلى كلّ مظهر من مظاهر الوجود ، فتراها في مشهد البحرين المتميّزين أحدهما عذب فرات ، والاخر ملح أجاج ؛ وفيهما من نعم الله على النّاس ما يقتضي الشكر والعرفان.

وفي مشهد الليل والنهار ، يتداخلان ويطولان ويقصران ، دليل على التقدير والتدبير ، وكذلك مشهد الشمس والقمر ، مسخّرين بهذا النظام الدقيق.

هذه آثار قدرة الله جلّ وعلا ، والّذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون ، ويوم القيامة يتبوّءون من عبادهم الضّلال. ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير.

٣ ـ الله غني عن عبادتنا

في الآيات [١٥ ـ ٢٦] بيان لحقيقة أساسيّة ، هي أن الله جلّ جلاله غنيّ عن عبادتنا ، فلا تنفعه طاعتنا ، ولا

١٤٩

تضرّه معصيتنا ؛ ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته ، فمن اهتدى بهدى الله سبحانه ، فقد اهتدى إلى كلّ خير ، ووجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس ، والأمل في الغد ؛ ومن لم يهتد فقد خسر كل شيء. ولو شاء الله أن يذهب النّاس لأهلكهم ، وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم.

ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال ، وأنّ الاختلاف بين طبيعتيهما أصل عميق ، كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر ، والظّلمات والنور ، والظّلّ والحرور ، والموت والحياة ؛ وأنّ بين الهدى والبصر والنور والظّلّ والحياة صلة وشبها ؛ كما أنّ بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبها ؛ ثمّ تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذّبين للتنبيه والتحذير.

٤ ـ كتابان إلهيان

عند قراءة الآيات [٢٧ ـ ٣٨] يتّضح أمامنا أن لله عزوجل كتابين يدلّان عليه ، أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل. والمؤمن يقرأ دلائل القدرة في كتاب الكون : في صحائفه العجيبة الرائعة ، المتنوّعة الألوان والأنواع والأجناس ، والثمار المتنوّعة الألوان ، والجبال الملوّنة الشّعاب ، والنّاس والدّواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة. هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح.

والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل ، ويستيقن بما فيه من الحقّ المصدّق لما بين يديه من الكتاب المنزلة ، وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة ، ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ، ومشهدهم في دار النعيم ؛ ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم. وتختم الجولة العجيبة ، المديدة ، المنوّعة الألوان ، بتقرير أنّ ذلك كلّه يكون وفقا لعلم الله ، العليم بذات الصّدور.

٥ ـ دلائل الإيمان

تشتمل الآيات [٣٩ ـ ٤٥] على الفقرة الأخيرة من السّورة ، وفيها دلائل يقدّمها القرآن ليحرّك القلوب نحو الإيمان. وتجول الآيات جولات واسعة المدى ، تشتمل على إيحاءات شتّى : جولة مع البشريّة في أجيالها

١٥٠

المتعاقبة يخلف بعضها بعضا ، «وجولة في الأرض والسّماوات للبحث عن أيّ أثر للشّركاء الّذين يدعونهم من دون الله ؛ وجولة في السّماوات والأرض ، كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا ، وجولة مع هؤلاء المكذّبين بتلك الدلائل والآيات كلها ؛ وهم قد عاهدوا الله من قبل : لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم ، ثمّ نقضوا هذا العهد وخالفوه. فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلّا نفورا ؛ وجولة في مصارع المكذّبين من قبلهم ، وهم يشهدون آثارهم الداثرة ، ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة ، وأن تمضي فيهم سنّة الله الجارية» (١). ثمّ الختام الموحي الموقظ للقلب ، المبين فضل الله العظيم في إمهال العصاة : فإن تابوا قبل توبتهم ، وإن أصرّوا على المعصية عاقبهم وحاسبهم ؛ قال تعالى :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)).

__________________

(١). سيّد قطب : في ظلال القرآن ٢٢ : ١٣٦.

١٥١
١٥٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «فاطر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة فاطر بعد سورة الفرقان ، وقد نزلت سورة الفرقان بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزولها في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١] فسمّيت باسم فاطر الّذي ابتدئت به بعد ذكر اسم الحمد ، ومثل هذا يكفي في تسميتها به ، وتبلغ آياتها خمسا وأربعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات اختصاص الله تعالى بالحمد ، ولهذا يدور الكلام فيها على ذكر ما يوجب حمده على الناس ، ليفوزوا برضاه وينجوا من عقابه ، وقد افتتحت بإثبات اختصاصه تعالى بالحمد ، وتبشير المؤمنين الحامدين بفتح أبواب الرحمة لهم ؛ فاتّصل أوّلها بما جاء في آخر السورة السابقة من قطع رجاء المشركين في ربهم ، لأنّ الضّدّ يدعو إلى ذكر الضّدّ.

اختصاص الله تعالى بالحمد

الآيات [١ ـ ٨]

قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)) فذكر اختصاصه بالحمد لأنه مبدع السماوات

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٥٣

والأرض ، وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وصنعه ؛ فإذا أرسلهم إلى الناس برحمته فلا معارض له في إرسالها ، وإذا أمسكها عنهم فلا مرسل لها من بعده ؛ ثمّ أمر الناس أن يذكروا ما رحمهم به من النعم ، ليعلموا أنه لا خالق لها غيره ، وأنه هو الرازق وحده ، فإذا لم يؤمنوا بذلك فسوف يكون إليه جلّ وعلا مرجعهم ، ليعاقبهم على كفرهم بما أنعم به عليهم ؛ ثم ذكر سبحانه أن ما وعد به من رجوعهم إليه حقّ لا يصحّ أن تغرّهم عنه أسباب دنياهم ، أو الشيطان الّذي هو عدوّ لهم ، ويزيّن ما يزيّنه لأتباعه ليوقعهم في عذاب ربّهم ؛ ثم ذكر استحقاقهم ذلك العذاب ، وذكر استحقاق المؤمنين للمغفرة والأجر ، وأيّد ذلك بقوله جلّ وعلا : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)).

آيات تدل على اختصاصه بالحمد

الآيات [٩ ـ ٤٥]

ثمّ قال تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)) فذكر ، ممّا يدل على اختصاصه بالحمد ، إرساله الرياح بالمطر لإحياء الأرض بعد موتها ، وأنّه كما يحيي الأرض بذلك ينشر الموتى من قبورهم ، لأنّه المتفرّد وحده بالعزّة والقدرة ، وإليه تصعد أعمال الناس فيحاسبهم عليها.

ثم ذكر من ذلك خلقه لنا من تراب ، وجعله لنا أزواجا وتفرّده بعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تضع ، وخلقه بحرين أحدهما عذب سائغ شرابه ، وثانيهما ملح أجاج ، ومن كلّ منهما نأكل لحما طريّا ونستخرج حلية نلبسها.

ثمّ ذكر من ذلك ، أنّه هو الّذي يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل ، ويسخّر الشّمس والقمر كلّ يجرى إلى أجل مسمّى ، وأنّ من يكون هذا شأنه يكون هو المتفرّد بالملك والحمد ؛ وأمّا الّذين يدعونهم آلهة ، فلا يملكون شيئا ، لأنّهم جماد لا يسمعون شيئا ، فإذا جاء يوم القيامة ظهر ضعفهم وكفروا بشرك من يعبدونهم. ثمّ ذكر لهم أنّهم فقراء إليه وهو سبحانه غنيّ عنهم ، وإن يشأ يذهبهم ويأت بخلق غيرهم يعرفون فضله عليهم ؛ وأنّ ما

١٥٤

يزرونه من شرك وغيره لا يحمل وزره غيرهم ، كما أنّ من تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه ، ولا يمكن أن يستويا في ذلك ، كما لا يستوي الأعمى والبصير ، ولا الظّلّ ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات ؛ ثم ذكر ، جلّت قدرته ، أنه لا شيء على النبي (ص) من تكذيبهم ، وأنّهم إن يكذّبوه في ذلك فقد كذّب الّذين من قبلهم ، فأهلكهم بآيات العذاب الّتي أرسلها عليهم.

ثمّ ذكر من ذلك إنزاله ماء المطر الّذي أخرج به ثمرات مختلفا ألوانها ، وتنويعه الجبال إلى جبال ذات طرائق بيض وحمر ، وغير ذلك من ألوانها ، وتنويعه الناس والدّوابّ والأنعام إلى أنواع مختلفة الألوان ؛ وأنّ ذلك إنّما يعرفه العلماء الّذين يخشونه ، ويتلون كتابه فيتدبّرونه ويعملون به ؛ ثمّ ذكر فضل هذا الكتاب ، وأنّه جاء مصدّقا لما قبله من الكتاب ، وأنّه أورثه هذه الأمّة الّتي اصطفاها من عباده ، فانقسمت فيه إلى ظالم لنفسه ترجّحت سيّئاته ، وإلى مقتصد تساوت حسناته وسيّئاته ، وإلى سابق بالخيرات ترجّحت حسناته ، وبيّن ما أعدّ لهم من الثواب ، وما أعدّ للكافرين من العقاب ؛ ثمّ أمر النبيّ (ص) أن يقول لهم : (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) [الآية ٤٠] : ليسجّل عجزها عما يزعمونه من شفاعتها لهم ، لأنّه ، سبحانه ، هو الّذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولا يمكن أن يمسكهما غيره إن زالتا.

ثمّ ختمت السورة ببيان أنهم يكافرون بذلك عنادا ، لأنّهم كانوا يقسمون مجتهدين إن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من اليهود أو النّصارى الّذين كذّبوا رسلهم. فلمّا جاءهم نذير لم يزدهم إلّا نفورا ، فاستكبروا في الأرض ، ومكروا مكرا سيّئا ، ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله ، وتلك سنّته فيمن كذّب قبلهم برسله ، لا تتبدّل ولا تتحوّل ، فلينظروا كيف كانت عاقبتهم ، وقد كانوا أشدّ منهم قوّة ، وما كان الله ليعجزه شيء في السماوات والأرض ، إنّه كان عليما قديرا : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)).

١٥٥
١٥٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «فاطر» (١)

أقول : مناسبة وضعها بعد سبأ : تأخيهما في الافتتاح بالحمد ، مع تناسبهما في المقدار.

وقال بعضهم : افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها ، من قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ : ٥٤].

كما قال سبحانه : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)) [الأنعام] ، فهو نظير اتصال أوّل الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). يعني قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [الآية ١١٩]. وأمّا أوّل الأنعام ، فهو قوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

١٥٧
١٥٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «فاطر» (١)

١ ـ (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ١٤].

أخرج ابن أبي حاتم عن القاسم بن الفضل الحدّاني (٢) قال : أرسل الحجّاج الى عكرمة يسأله عن يوم القيامة ، أمن الدنيا هو أم من الاخرة؟ فقال : صدر ذلك اليوم من الدنيا وآخره من الاخرة.

٢ ـ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [الآية ٣٧].

فسّر في حديث مرفوع ، بالسّتين.

أخرجه الطبراني (٣) من حديث ابن عبّاس. وله شاهد من حديث أبي هريرة في «الصحيح» (٤).

وأخرجه ابن جرير من طريق عن ابن عباس موقوفا.

وأخرج من وجه آخر عنه أنه أربعون سنة.

٣ ـ (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [الآية ٣٧].

هو محمّد (ص) (٥).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين ، وفي آخرها نون ، نسبة الى حدّان وهم من الأزد ، أبو المغيرة البّصري ، من رواة الحديث الثقات ، رمي بالإرجاء ، وتوفي سنة ١٦٧ ه‍. انظر «الأنساب» للسمعاني ٤ : ٧٦ ، ٧٧.

(٣). في «المعجم الأوسط» وفيه إبراهيم بن الفضل المخزومي ، وهو ضعيف ، قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ : ٩٧.

(٤). البخاري في الرقاق ؛ باب : من بلغ ستين سنة ، فقد أعذر الله إليه في العمر برقم (٦٤١٩) عن أبي هريرة ، عن النبيّ (ص) قال : «أعذر الله الى امرئ أخّر أجله حتّى بلّغه ستين سنة».

انظر «تفسير الطبري» ٢٢ : ٩٣.

(٥). انظر «تفسير الطبري» ٢٢ : ٩٣.

١٥٩
١٦٠