الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٥

١

سورة الرّوم

٣٠

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الروم» (١)

سورة الروم سورة مكّيّة نزلت بعد سورة الانشقاق ، وآياتها ٦٠ آية. وقد نزلت سورة الروم في السنة التي انتصر فيها الفرس على الروم ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة.

وسمّيت هذه السورة بسورة الروم لقوله تعالى في أولها : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)).

سبب نزول السورة

قال المفسّرون (٢) : بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يسمّى شهريران ، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم ، فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم ، وكان قيصر قد بعث رجلا يدعى يحنس ، فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهما أدنى الشام إلى أرض العرب. فغلبت فارس الرّوم ، وبلغ ذلك النبيّ (ص) وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم. وكان النبي (ص) يكره أن يظهر الأمّيّون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح كفار مكّة وشمتوا ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنّصارى أهل كتاب ونحن أمّيّون. وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم ، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم.

فأنزل الله تعالى سورة الروم. وفيها يفيد أنّ أهل فارس قد غلبوا الروم في

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

(٢). انظر تفسير الجلالين ، والطبري ، ومقاتل بن سليمان ، وظلال القرآن في أسباب النزول للواحدي.

٣

أرض الأردن وفلسطين وهي أقرب البلاد إلى جزيرة العرب. ثمّ وعد الله جلّ جلاله أن ينتصر الروم على الفرس في جولة أخرى خلال بضع سنين. والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل ، وغلبت الروم فارس.

وعن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتى المسلمين الخبر بعد ذلك ـ والنبيّ والمؤمنون بالحديبية ـ بأن الروم قد غلبوا أهل فارس ففرح المسلمون بذلك ، لانتصار أهل الكتاب على عباد الأوثان ، فذلك قوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)).

فصلان مترابطان

يمضي سياق سورة الروم ، في فصلين مترابطين :

الفصل الأول : يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والاخرة. ويوجّه إلى سنّة الله فيمن مضى قبلهم من القرون ، ويقيس عليها قضيّة البعث والإعادة. ثمّ يعرض عليهم مشهدا من مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ، ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب ، ويضرب لهم من أنفسهم وممّا ملكت أيمانهم أمثالا تكشف عن سخافة فكرة الشرك ، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم. وينتهي هذا الموضوع بتوجيه الرسول (ص) إلى اتّباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح ، طريق الفطرة التي فطر النّاس عليها ، والتي لا تتبدّل ولا تدور مع الهوى ، ولا يتفرّق متّبعوها شيعا وأحزابا ، كما تفرّق الذين اتّبعوا الهوى. ويمتدّ هذا الفصل من أول السورة إلى الآية ٣٢.

الفصل الثاني : يكشف الفصل الثاني من سورة الروم عمّا في طبيعة النّاس من تقلّب لا يصلح أن تقام عليه الحياة ، ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء. ويصوّر حالهم في الرحمة والضّرّ ، وعند بسط الرّزق وقبضه ، ويستطرد السياق في هذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرّزق وتنميته ، ويعود إلى قضية الشّرك والشّركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا

٤

الشركاء لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البرّ والبحر وعمل النّاس وكسبهم ، ويوجّههم إلى السّير في الأرض ، والنّظر في عواقب الناس المشركين من قبل ، ومن ثمّ يذكر السياق توجيهه تعالى رسوله (ص) إلى الاستقامة على دين الفطرة من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كلّ بما كسبت يداه ، ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون ، كما عاد بهم في الفصل الأول. ويعقب على ذلك بأن الهدى هدى الله ، وأن الرسول (ص) لا يملك إلا البلاغ فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم ، ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكّرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها ، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها ، ثمّ ينتهي هذا الموضوع ، وتختم معه السورة بتوجيه الرسول (ص) إلى الصبر على دعوته ، وما يلقاه من الناس فيها ، والاطمئنان إلى أنّ وعد الله حقّ لا بدّ آت ؛ فلا يقلقه الذين لا يوقنون ، ويمتد هذا الفصل من الآية ٣٣ إلى آخر السورة.

الأفكار العامة للسورة

الفكرة الرئيسة في سورة الروم ، هي الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس وأحداث الحياة ، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الوجود ونواميس الكون ، ومن خلال هذه الارتباطات ، يبدو أنّ كلّ حركة وكلّ حالة وكلّ نصر وكلّ هزيمة مرتبطة جميعها برباط وثيق ، محكومة بقانون دقيق ؛ وأنّ مردّ الأمر فيها كلّه لله سبحانه : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الآية ٤]. وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكّدها القرآن كلّه بوصفها الحقيقة الموجّهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها التصوّرات جميعها والمشاعر والقيم والتقديرات ، والتي بدونها لا يستقيم تصوّر ولا تقدير.

وهناك أفكار متعدّدة مبثوثة في ثنايا السورة منها :

ذكر أخبار القرون الماضية ، وذكر قيام الساعة ، وآيات التوحيد والحجج المترادفة الدّالة على الذّات والصّفات ، وبيان البعث يوم القيامة وتمثيل حال المؤمنين والكافرين ، وتقرير المؤمنين على الإيمان ، والأمر بالمعروف

٥

والإحسان إلى ذوي القربى ، ووعد الثواب على أداء الزكاة ، والإخبار عن ظهور الفساد في البرّ والبحر ، وعن آثار القيامة ، وذكر عجائب الصنع في السّحاب والأمطار ، وظهور آثار الرّحمة في إنبات النبات وظهور الربيع ، وذكر إصرار الكفّار على الكفر ، وتخليق الله الخلق مع الضّعف والعجز ، وإحياء الخلق بعد الموت ، والحشر والنشر ، وتسلية الرسول (ص).

عالمية الدعوة الاسلامية

لم يقف القرآن في سورة الرّوم عند حادث هزيمة الرّوم أمام الفرس ، ثمّ الوعد بغلبة الرّوم للفرس. ولكنّه انطلق من ذكر هذه الحادثة ليربط بين سنّة الله تعالى في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما ، وليصل بين ماضي البشريّة وحاضرها ومستقبلها.

ثمّ يستطرد السياق القرآني إلى الحياة الاخرة ومشاهدها ، ثمّ يطوف بالمسلمين في مشاهد الكون ومشاهد النفس وأحوال البشر وعجائب الفطر ، ومن ثمّ يرتفع تصوّرهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير ، ويشعرون بدقّة السّنن التي تحكم هذا الكون وتصرّف أحداث الحياة وتحدّد مواضع النصر ومواضع الهزيمة.

وفي ظل ذلك التصوّر الواسع الشامل ، تتكشّف عالميّة هذه الدعوة ، وارتباطها بأوضاع العالم كلّه من حولها.

ويدرك المسلم موقفه وموقف أمّته في ذلك الخضم الهائل ، ويعرف قيمته هو وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله ، فيؤدّي حينئذ دوره على بصيرة ، وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام.

٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الروم» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الروم بعد سورة الانشقاق ، وكان نزول سورة الروم في السنة التي هزمهم الفرس فيها ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ، فتكون من السور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة.

وقد سمّيت هذه السور بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)) وتبلغ آياتها ستّين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة تسلية المؤمنين فيما يصيبهم من أذى المشركين ، كشماتتهم بهم حين انتصر الفرس على الرّوم ، وذلك بوعدهم بنصر الرّوم على الفرس في الدّنيا ، وبيان ما يكون من حالهم وحال أعدائهم في الاخرة ؛ وقد جاء هذا الغرض فيها على قسمين : أوّلهما في تسلية المؤمنين بوعدهم بنصر الروم على الفرس ، وما إلى هذا ممّا ذكر فيه ، وثانيهما في بيان بعض ما يثبّتهم ويهوّن عليهم ما يلقونه من أعدائهم.

وقد جاءت هذه السورة بعد سورة العنكبوت لأنّ المسلمين وعدوا فيها بالنصر على المشركين ، فجاءت هذه السورة بعدها ، وفي أولها وعده سبحانه بنصر الروم على الفرس ، ليكون مقدّمة لتحقيق وعده جل جلاله للمسلمين ، لأنّ الروم كانوا أهل كتاب ، وكانوا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٧

أقرب إلى المسلمين من الفرس ، ولهذا حزن المسلمون لهزيمتهم وفرح مشركو قريش.

تسلية المؤمنين

الآيات [١ ـ ١٦]

قال الله تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)) فذكر أن الروم غلبوا ، ووعد بنصرهم على من غلبهم ، ليفرح المؤمنون بنصرهم لأنّهم أهل كتاب مثلهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنه إذا وعد لا يخلف وعده ، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ، لأنّ علمهم لا يتعدّى ظاهرا أمور الدنيا من ملاذّها وملاعبها ، ولا يصل إلى باطنها وأسرارها ، وهم إلى هذا غافلون عن الاخرة ولا يصلون إلى علمها ، فهم لهذا كلّه ينكرون وعده بالنصر ولا يصدّقون به ، وينكرون الحشر وما أعدّ لهم فيه ؛ ثمّ حثّهم على ما يوصلهم إلى العلم بذلك من الفكر والنظر ، لأنهم لو فكّروا في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، لعلموا أن الله جلّ جلاله لم يخلقهم إلّا لحكمة وأجل معيّن ، ثمّ يكون بعد ذلك ما ينكرونه من الحشر ، ولو ساروا في الأرض لرأوا عاقبة من كذّب قبلهم من الأمم ، وحملهم ذلك على التصديق بما وعد الله من النصر ؛ ثم ذكر أنه هو الذي بدأ الخلق فهو قادر على إعادته وعلى حشرهم إليه بعد موتهم ، وأنّهم يوم يحشرون إليه لا يجدون إلى الخلاص طريقا ، ولا يكون لهم شفيع من شركائهم ، ويكافرون بهم بعد مشاهدة عجزهم ؛ ويومئذ يتفرّق كلّ من المؤمنين والكافرين إلى ما أعدّ لهم ، فأمّا المؤمنون فهم في روضة يحبرون (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)).

وسائل تثبيتهم

الآيات [١٧ ـ ٦٠]

ثمّ قال تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧)) فأمرهم بالمواظبة على الصلاة في أوقاتها من الصباح والمساء والعشيّ والظّهيرة ، كما أمرهم بذلك في السّورة السابقة ؛ ثمّ ذكر بما يوجب عليهم القيام بتسبيحه وحمده فيها ، أنّه هو الذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ،

٨

إلى غير هذا ممّا ذكره من آياته ونعمه ؛ ثمّ ذكر أنّه هو الذي يتفرّد بما ذكره من ذلك كلّه ، ولا يصحّ أن يكون له فيه شركاء من خلقه يستحقّون العبادة مثله ، كما لا يصحّ أن يكون لنا فيما يرزقنا شركاء ممّا ملكت أيماننا.

ثم أظهر لهم فضل ذلك الدّين الذي يلقون الأذى فيه ، فذكر أنه دين الفطرة التي فطر النّاس عليها ، فيجب أن يتمسّكوا به ولا يكونوا من المشركين الذين تركوه فتفرّقوا شيعا يعادي بعضهم بعضا ؛ ثمّ ذكر أنّ هؤلاء المشركين منهم من إذا مسّه ضرّ رجعوا إلى فطرتهم فدعوا ربّهم ، فإذا كشف الضرّ عنهم رجع فريق منهم إلى شركهم ، وكفروا بما آتاهم من كشف الضرّ عنهم ومنهم من هو على عكس هذا ، فإذا أذاقه رحمة فرح بها ، وإن أصابته سيّئة وقع في القنوط واليأس.

ثمّ أمرهم أن يواسي بعضهم بعضا ، بأن يعطي القريب حقّ النّفقة لقريبه ، ويعطي الغنيّ حقّ الزّكاة للمساكين وابن السبيل ، ونهاهم أن يتعاملوا بالرّبا لأنّه لا يربو عنده كما تربو الزكاة.

ثمّ ذكر لهم أنه لا يترك أعداءهم من غير أن يعجّل لهم بعض العذاب على ما أظهروا من الفساد في البرّ والبحر ، وأمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة الذين أشركوا من قبلهم ، وأن يتمسّكوا بدينهم من قبل أن يأتيهم ذلك العذاب فيتفرّقوا فيه ، فالكافرون يعاقبون على كفرهم ، والمؤمنون يثابون على إيمانهم ، ليجزيهم من فضله بما صبروا على أذاهم ، فيرحمهم بذلك كما يرسل الرياح مبشّرات برحمته ، وينتقم من أعدائهم كما انتقم من الذين أجرموا قبلهم ؛ ثمّ قرّب وعده لهم مع ضعف حالهم بأنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء ثم يخرج المطر من خلاله ، فإذا أصاب به من يشاء من عباده فرحوا به وإن كانوا قبله في يأس منه ، ثم قرّبه أيضا بما يشاهد من آثار رحمته في إحيائه الأرض بعد موتها ، فمن يفعل ذلك يقدر على تقويتهم بعد ضعفهم وهو على كل شيء قدير ، ثمّ ذكر أن أولئك المشركين لو أرسل عليهم ريحا مصفرّا إنذارا لهم بما يوعدهم من ذلك العذاب لظلّوا من بعده على كفرهم ، لأنهم بلغوا من الجهل مالا يتأثّرون معه بإنذار أو دعاء ، فلا يصدّقون وعده بنصر هؤلاء الضعفاء عليهم ، ثمّ ذكر ممّا يثبت

٩

قدرته على ذلك أنّه خلقهم من ضعف في حال طفولتهم ، ثمّ جعل لهم من بعد ضعفهم قوّة في حال شبابهم ، ثمّ جعل لهم من بعد قوّتهم ضعفا في حال شيخوختهم ، فهو قادر على أن يضعفهم وينصر المؤمنين عليهم ؛ ثم ذكر عذابهم الأكبر بعد عذاب الدنيا ، وذلك حين تقوم القيامة فتنسيهم شدّتها مقدار ما لبثوه في دنياهم ، فيقسمون أنهم ما لبثوا فيها غير ساعة ، ويردّ عليهم أهل العلم والإيمان بأنهم لبثوا الأجل الذي ضربه الله لهم إلى يوم البعث. ولكنّهم كانوا لا يؤمنون بذلك ففاتهم العلم به ، ويومئذ يلقون عذابهم ولا ينفعهم معذرة ولا يكون لهم استعتاب ، لأنّه لم يجعل لهم ما يعتذرون به بعد أن ضرب لهم في القرآن من كلّ مثل ، فكانوا لا يؤمنون بما يأتيهم به من الآيات ؛ ثمّ ختمت السورة بالأمر بالصبر الى أن يتحقّق ذلك الوعد ، فقال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)).

١٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الروم» (١)

أقول : ظهر لي في اتّصالها بما قبلها ، أن سورة العنكبوت ختمت بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ٦٩].

فافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر ، وفرح المؤمنين بذلك ، وأنّ الدولة لأهل الجهاد فيه ، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة (٢).

هذا مع تأخيها بما قبلها في المطلع ، فإنّ كلّا منهما افتتح ب (ألم) غير معقّب بذكر القرآن ، وهو خلاف القاعدة الخاصة بالمفتتح بالحروف المقطّعة ، فإنها كلّها عقّبت بذكر الكتاب أو وصفه ، إلّا هاتين السّورتين وسورة القلم ، لنكتة بيّنتها في «أسرار التنزيل» (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ (١) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) الى قوله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) [الآيات ٢ ـ ٥].

(٣). ذكر المؤلّف في المقدّمة : أنه ألّف هذا الكتاب الموسوعي ، ولم نعثر عليه في قوائم المخطوطات ، وأشار اليه في الإتقان : ١ : ٢٨١ ، ٣ : ٣٦٩.

والذي نراه في سبب عدم افتتاح العنكبوت والروم بالكتاب أو وصفه ، والله أعلم : أنّه لمّا تكرّر الحديث عن الكتاب عقب الحروف المقطّعة ، وأنه من عند الله ، وهدى للمتقين ، وتنزيل من رب العالمين ، كان لا بد من ابتلاء المصدّقين به حتّى ينعزل المنافقون عن المؤمنين ، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب ، وهذا بمثابة الاختبار العملي لاستجابة الناس لأمر الكتاب ، ولا سيّما وأن ثمّة حملة تشكيك أثارها الكفّار ضد الايمان. ولذا قال تعالى في العنكبوت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ ـ

١١

__________________

نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) [العنكبوت : ١٠] الى أن قال جلّ وعلا : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢].

أمّا في الروم ، فقد عقبت الحروف المقطّعة باختبار ودليل على صدق وعد الكتاب ، الذي صدّق الكتاب بالإخبار عن المستقبل ، وما يجري فيه من وعد الروم بالنصر بعد الهزيمة. وهذا ابتلاء يميّز الله به المؤمنين من المنافقين عند هذا الوعد ، وموقف الفريقين منه. ودليل على صدق الكتاب ، وأنّه من الله سبحانه حينما تحقق النصر بالفعل.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦)).

أمّا سورة القلم ، فكانت ثالثة السور نزولا بمكّة ، وكان الكفّار قد أرجفوا بأنّ الرسول (ص) مجنون ، أو به مسّ من الجن ، فاقتضى الأمر تسليته وتثبيت فؤاده ، وقدّم هذه التسلية على الدفاع عن القرآن الذي جاءه عقب ذلك في الآيات (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠)) [القلم] الى : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥)) [القلم].

١٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الروم» (١)

١ ـ (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الآية ٣].

قال ابن عبّاس : في طرف الشام (٢).

وقال مجاهد : في الجزيرة (٣) ، وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

٢ ـ (فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الآية ٤].

هي تسع ؛ فيما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود.

وسبع ؛ فيما أخرجه التّرمذيّ من حديث نيار الأسلمي (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مورخ.

(٢). في (أذرعات) ؛ كما في رواية عكرمة في «الطّبري» ٢١ : ١٣ ؛ وهي المسمّاة الآن (درعا) في جنوب سورية.

(٣). الجزيرة : منطقة في سورية تقع بين نهري دجلة والفرات.

(٤). التّرمذيّ (٣١٩٢) في التفسير ، وقال : هذا حديث صحيح ، حسن غريب.

١٣
١٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الروم» (١)

١ ـ قال تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الآية ٩].

وقوله تعالى : (وَعَمَرُوها) معروف من العمارة. وقد استعمل الثلاثي. وأمّا في عربيّتنا المعاصرة فقد دأب المعربون على استعمال المضاعف «عمّر».

٢ ـ وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الآية ٤٣].

أي : يتصدّعون ، أي : يتفرّقون.

أقول : ودلالة التصدّع في عصرنا اختصّت بالشيء يتكسّر ، فتذهب منه أجزاء وليس في دلالاته هذا الدليل الذي ورد في الآية.

٣ ـ وقال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧).

يقال : استعتبني فلان فأعتبته ، أي : استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كنت جانيا عليه ، وحقيقة أعتبته : أزلت عتبة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٥
١٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الروم» (١)

قال تعالى : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)) أي : من بعد ما غلبوا. وقرأ بعضهم (غلبت) و (سيغلبون) لأنهم كانوا حين جاء الإسلام غلبوا ثم غلبوا حين كثر الإسلام.

وقال سبحانه : (أَساؤُا السُّواى) [الآية ١٠] ف «السّوأى» مصدر هاهنا مثل «التقوى».

وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) [الآية ٢٤] فلم يذكر فيها (أن) لأنّ هذا يدل على المعنى. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد السابع بعد المائة] :

الا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي

أراد : أن أحضر الوغى.

وقال تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ) [الآية ٣٠] بالنّصب على الفعل ، كأنّ السّياق «فطر الله تلك فطرة».

وقال سبحانه : (مُنِيبِينَ) [الآية ٣١] على الحال لأنّه حينما قال (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) [الآية ٣٠] قد أمره وأمر قومه ، حتّى كأنّ السياق «فأقيموا وجوهكم منيبين».

وقال تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا) [الآية ٣٤] فمعناه ، والله أعلم ، فعلوا ذلك ليكفروا. وإنّما أقبل عليهم ، فقال «تمتّعوا» (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)) وقرأ بعضهم : (فتمتّعوا فسوف يعلمون)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٧

كأنّه «فقد تمتّعوا فسوف يعلمون».

وقال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)) فقوله تعالى : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)) هو الجواب لأنّ «إذا» معلّقة بالكلام الأوّل بمنزلة «الفاء».

وفي قوله سبحانه : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩)) ورد (مِنْ قَبْلِهِ) للتوكيد نحو (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٤٠)) [الحجر].

وقال تعالى : (مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الآية ٤] بالرفع لأن «قبل» و «بعد» مضمومتان ، ما لم تضفهما لأنهما غير متمكّنتين ، فإذا أضفتهما تمكّنتا.

١٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الروم» (١)

إن قيل : لم ذكر الضمير في قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الآية ٢٧] والمراد به الإعادة لسبق قوله جلّ وعلا : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [الآية ٢٧].

قلنا : معناه : ورجعه ، أو ردّه أهون عليه ، فأعاد الضمير على المعنى لا على اللفظ ، كما في قوله تعالى (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الفرقان : ٤٩] أي بلدا أو مكانا.

فإن قيل : لم أخّرت الصلة في قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الآية ٢٧] وقدمت في قوله تعالى (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩]؟

قلنا : لأن هناك قصد الاختصاص ، وهو يحسّن الكلام ، فكأنّ السّياق : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وإن كان مستصعبا عندكم ؛ وأما هنا فلا معنى للاختصاص فجرى على أصله ، والأمر مبني على ما يعقل الناس من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء ، فلو قدمت الصلة لتغيّر المعنى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الآية ٢٧] والأفعال كلّها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى في السهولة سواء ، وإنّما تتفاوت في السهولة والصعوبة بالنسبة إلى قدرتنا؟

قلنا : معناه «وهو هيّن عليه» ، وقد جاء في كلام العرب أفعل بمعنى اسم الفاعل من غير تفضيل ، ومنه قولهم في الأذان : الله أكبر ، أي : الله كبير في قول بعضهم ، وقال الفرزدق :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا بيتا دعائمه أعزّ وأطول أي عزيزة طويلة ، وقال معن بن أوس المزني :

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل على أيّنا تعدو المنية أوّل أي وإنّي لوجل. وقال آخر :

أصبحت أمنحك الصّدود وإنّني قسما إليك مع الصّدود لأميل أي لمائل ، وقال آخر :

تمنّى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد أي بواحد. الثاني : أنّ معناه ، وهو أهون عليه في تقديركم وحكمكم ، لأنّكم تزعمون وتعتقدون فيما بينكم أنّ الإعادة أهون من الابتداء ، كيف يكون ذلك ، والابتداء من ماء ، والإعادة من تراب ، وتركيب الصورة من التراب أهون عندكم؟ الثالث : أن الضمير في قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الآية ٢٧] راجع إلى المخلوق لا إلى الله تعالى ، معناه : أنه لا صعوبة على المخلوق فيه ولا إبطاء ، لأنه يعاد دفعة واحدة ، بقوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)) [يس] وفي الابتداء خلق نطفة ثم نقل إلى مضغة ثمّ إلى عظام ثمّ إلى كسوة اللحم. الرابع : أنّ الابتداء من قبيل التفضّل الّذي لا مقتضى لوجوبه ، والإعادة من قبيل الواجب لأنها لا بدّ منها لجزاء الأعمال ، وجزاؤها واجب بحكم وعده سبحانه وتعالى.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) [الآية ٣٩] على اختلاف القراءتين بالمد والقصر؟

قلنا : قال الحسن رحمه‌الله : المراد به الربا المحرم. والخطاب لدافعي الرّبا ، لا لآخذيه. معناه : وما أعطيتم أكلة الربا من زيادة لتربو وتزكو في أموالهم فلا تزكو عند الله ولا يبارك فيها ، ونظيره قوله تعالى : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧٦] لا فرق بينهما. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والجمهور : المراد به أن يهب الرجل غيره هبة أو يهدي إليه هديّة على قصد أن يعوّضه أكثر منها. وقالوا : وليس في ذلك أجر ولا وزر ، وإنّما سماه لأنه مدفوع لاجتلاب الربا ، وهو الزيادة ، فكان سببا لها ، فسمّي باسمها ؛ ومعنى قراءة المد ظاهر. وأما قراءة القصر فمعناها : وما جئتم : أي

٢٠