التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨).

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)) [٣١]

في الآية تذكير بقول كان يقوله الكفار حينما كان يتلى عليهم القرآن حيث كانوا يقولون إنه أساطير وقصص الأولين ولو شئنا لقلنا مثله.

تعليق على الآية

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ

لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣١)

المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآية أيضا مكية. وبعض المفسرين والسيوطي يؤكدون ذلك أيضا ، وما قلناه في صدد مكية الآية السابقة وترجيح مدنيتها يصحّ قوله هنا ، وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا.

ولقد روى المفسرون أن صاحب هذا القول النضر بن الحرث. وقد كان تاجرا يختلف إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم. ويجتمع اليهود والنصارى ويسمع ما يقولون ويقرأون من الكتب فيأتي فيحدث به الناس ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار يتلو ما أنزله الله عليه من فصول وفيها قصص الأولين صار يقول ما حديث محمد بأحسن من حديثي وإنه استكتبه من أساطير الأولين ولو شئت لقلت مثله.

ولقد ذكر اسم النضر في مناسبات مماثلة عديدة على ما ذكرناه في سياق تفسير السور المكية ، وكثرة ترداد الاسم في هذا المقام قد يجعل العز وصحيحا مع احتمال كون الذين كانوا يقولون مثل هذا القول أكثر من واحد على ما قد يلهمه مضمون الآية والله أعلم.

٤١

وعلى ضوء الآيات القرآنية العديدة يصح أن يقال بجزم إن ما نسب إلى النضر أو غيره من قول هو من قبيل التبجح الناتج عن الظن بأن أسلوب القرآن ليس مما يفوق مدارك الناس ... وإن ما يخاطبون به ليس مما يجهلونه كما هو المتبادر. ومع ما فى هذا من حقيقة فقد تحداهم القرآن في مكة بالإتيان بمثله أو بعشر سور أو بسورة أو بحديث فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما مرّ شرحه في سياق تفسير سور يونس وهود والإسراء والقصص والطور. ثم تحداهم القرآن بعد الهجرة في آيتي سورة البقرة [٢٣ ـ ٢٤] فعجزوا وسجل عليهم العجز على ما شرحنا في سياق تفسيرهما. حيث ينطوي في ذلك تكذيب التبجح المذكور الذي فات قائليه إدراك كون القرآن ليس فقط كلاما ونظما وقصصا يسهل تقليده وإنما هو روحانية ومبادئ وصدق لهجة ودعوة وقوة إيمان وتلقين لا يمكن أن يكون صادرا من بشر وإنما هي وحي رباني فوق مقدرة البشر.

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)) [٣٢ ـ ٣٧]

(١) مكاء : صفير.

(٢) تصدية : تصفيق.

٤٢

في الآيات :

١ ـ حكاية بأسلوب تذكيري لما كان الكفار يقولونه على سبيل التحدي والاستهتار والسخرية حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو عليهم القرآن ويقول لهم إنه وحي من الله تعالى.

٢ ـ ردّ على تحديهم وسخريتهم وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتضمن تقرير ما يلي :

١ ـ إن الله تعالى إذا لم يكن قد صبّ عليهم العذاب الذي تحدوه فإنما ذلك لأن النبي كان بينهم ، كأنه يراد القول إن سنة الله جرت على أن ينزل الله عذابه على الكفار بعد خروج أنبيائه من بين ظهرانيهم. وهو ما قررته آيات كثيرة في السور المكية.

٢ ـ وإن الله لم يكن ليعذبهم أيضا وهم يستغفرون.

٣ ـ وإنهم مستحقون لعذاب الله بعد ما بدا منهم ما بدا من الكفر وبخاصة من الصدّ عن المسجد الحرام بدعوى أنهم أولياؤه وأصحابه في حين أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. لأن أولياءه هم الذين يتقون صاحبه الحقيقي أي الله ويخافونه ويقفون عند حدوده ولا يصدون عن سبيله ولو كان أكثرهم يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها. ولا سيما أن صلاتهم التي يؤدونها عند البيت ويعتبرون أنفسهم أولياءه بسببها ليست إلّا صفيرا وتصفيقا وليس فيها خضوع وخشوع يدلان على أنهم مخلصون لربّ البيت فعلا.

٤ ـ وخطاب موجه إلى الكفار على سبيل التأنيب بعد ما وقع عليهم في بدر ما وقع مما اعتبر عذابا ربانيا : أن ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. كأنما أريد أن يقال لهم إن الله قد صدق وعده واستجاب لدعاء الكفار وتحديهم بالعذاب بعد أن أخرج النبي وأصحابه من بين أظهرهم.

٥ ـ وتقرير ينطوي على تقريع وإنذار وشماتة بما كان ويكون من الكفار.

٤٣

فهم ينفقون أموالهم ويؤلبون الناس للصدّ عن سبيل الله. وسيذهب ما ينفقون هباء. وسيكون عليهم حسرة. وسيغلبون في الدنيا. ثم يحشرون إلى جهنّم في الآخرة. ولقد اقتضت مشيئة الله أن يميز الخبيث من الطيب وأن يجتمع الخبيث بعضه إلى بعض وأن يلقى في جهنّم وأن يكون أصحابه هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

تعليق على الآية

(وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا

حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢)

وما بعدها إلى آخر الآية [٣٧]

المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات أيضا عدا الأخيرة مكيات مثل الآيتين [٣٠ و ٣١] وروى الطبري أن الآية [٣٣] نزلت في مكة ثم خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين أظهرهم فاستغفر لمن بقي فيها من المسلمين ثم خرج هؤلاء فعذب الله الكفار. وهناك حديث يرويه الشيخان عن أنس جاء فيه : «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) إلى جملة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)» (١). هذا في حين أن أسلوب الآية الأولى من الآيات الخمس تذكيري مثل أسلوب الآيتين [٣١ و ٣٢] اللتين رجحنا مدنيتهما لمشابهة أسلوبهما لأسلوب الآية [٢٦] التي لا خلاف في مدنيتها. وفي الآية [٣٦] أمر إنما كان منهم بعد الهجرة وهو الاستعداد للحرب والإنفاق في سبيلها.

وجملة (فَذُوقُوا الْعَذابَ) في الآية [٣٥] هي على الأرجح إن لم نقل الأحسم في صدد ما وقع عليهم في بدر. ولهذا كله لا يمكن التسليم بمكية الآيات

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ١٠٩.

٤٤

بل يمكن الجزم بمدنيتها. ونميل إلى القول إن في الحديث لبسا حيث يتبادر أنه لما نزلت الآية الأولى ذكر اسم الشخص الذي حكت قوله فصار وهم أن الآيات نزلت حين قال هذا الشخص ما قال مع أن الآية التي حكت قوله جاءت بأسلوب تذكيري كما قلنا آنفا.

ولقد روى الطبري أن الآية [٣٦] نزلت في أبي سفيان وغيره ممن وتروا في بدر حيث أخذوا يبذلون جهودهم ويجمعون الأموال وينفقونها في سبيل تحشيد الناس وتحريضهم على الحرب لأخذ الثأر من النبي والمسلمين بعد هزيمتهم في بدر. والرواية محتملة جدا وفيها دليل آخر على أن الآية وما قبلها مدنيات أيضا.

والذي يتبادر لنا على ضوء ما تقدم وعلى ضوء فحوى الآيات والسياق أن هذه الآيات جاءت لتذكر بما كان من تحدي كفار قريش واستعجالهم لعذاب الله على سبيل السخرية ولتبرر عدم إيقاع الله عذابه عليهم قبل هجرة النبي والمؤمنين وإيقاعه العذاب عليهم بعد الهجرة ولتذكرهم بذلك ولتنذرهم بهزائم أخرى بسبب استمرارهم في مواقف الصدّ وتحشيدهم للحرب وبذلهم الأموال في سبيل الله وما سوف يكون من حسرتهم ثم بالعذاب الأخروي الشديد ، والله تعالى أعلم.

والخازن يروي أن جملة (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) نزلت في ظروف وقعة الحديبية لأن كفار قريش منعوا رسول الله وأصحابه من زيارة الكعبة أو أنها تشير إلى ذلك. وهذا غريب. ومقام ورود الآيات وبعد الزمن والمناسبة وبين وقعة بدر ووقعة الحديبية يسوغ التوقف في هذه الرواية والترجيح بأنها قصدت التذكير بما كان من كفار قريش من منع المسلمين وبخاصة ضعفاءهم من الصلاة عند الكعبة في العهد المكي مما وردت الإشارة إليه في آيات سورة الحجج [٢٥ ـ ٢٨] على ما شرحناه في سياق تفسيرها ومما روته روايات أيضا ، ومما أريد به كذلك تبرير ما وقع على المشركين من عذاب يوم بدر.

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة (وَما

٤٥

كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) منها أن الله كما أنه لم يشأ أن يعذبهم والنبي بين ظهرانيهم لم يشأ أن يعذبهم وبعض المسلمين ما زالوا بين ظهرانيهم وكانوا يستغفرون الله فلما خرج هؤلاء عذبهم. ومنها أن القصد من ذلك ما كان يصدر من الكفار من كلمات الاستغفار مثل غفرانك اللهمّ حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الغفار الحقيقي لأنه هو الخالق القادر المدبر. ومنها أن الله لم يكن ليعذبهم لو استغفروه عما بدا منهم وتابوا وأنابوا. ولعل التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع مقاصد الآيات والوقائع. فالمشركون ظلوا يقولون بطبيعة الحال غفرانك اللهمّ ، ولكن الله عذبهم بسبب استمرارهم على الصد عن المسجد الحرام وهو ما انطوى في الآية [٣٤] وليس في الآيات قرينة تبرر صرف الضمير في جملة (يَسْتَغْفِرُونَ) إلى المسلمين الذين بقوا في مكة. والنظم يقتضي أن تكون الجملة حكاية عن الكفار.

هذا ، والآيات قوية محكمة مفحمة في تقريعها وإنذارها وتقريراتها وبخاصة بمجيئها عقب وقعة بدر التي نال الكفار فيها ما نالهم من خسارة وهوان.

ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إنها من قبيل تسجيل واقع أمر الكفار ومواقفهم حين نزولها. ولقد آمن جميع من بقي حيّا منهم تقريبا عقب الفتح المكي وحسن إسلامه وسجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه. فيكون ما فيها إنذارا وتقريرا في صدد العذاب الأخروي قائما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم.

وجملة (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) تدل على كل حال على أن المشركين كانوا يؤدون عند الكعبة طقوسا يسمونها صلاة وإن لم يرد بيان وثيق يزيد الأمر وضوحا.

ولقد أورد ابن كثير وغيره في سياق الآية [٣٣] أحاديث عديدة ، منها حديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) إذا

٤٦

مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» (١). ويفيد الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في الآية منطلقا عاما للمسلمين أيضا بقطع النظر عن كونها في صدد المشركين. ومنها حديث عزاه ابن كثير إلى الإمام أحمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزوجل». وفي هذا الحديث دعم لما قلناه من اعتبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية منطلقا عاما للمسلمين والله أعلم. والتطمين والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث. وفي القرآن آيات كثيرة بالأمر بالاستغفار. وقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)) [٣٨ ـ ٤٠]

تعليق على الآية

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ

وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨)

والآيتين التاليتين لها

عبارة الآيات واضحة ولا يروي المفسرون رواية خاصة بنزولها والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة على نتائج نصر المسلمين في وقعة بدر كما هو المتبادر. وفيها إشعار بما أثاره هذا النصر في المسلمين من عزة وقوة. وفيها مع ذلك دعوة فيها تسامح وتسام ، حيث يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة كفار قريش بعد أن انتصر عليهم إلى الانتهاء من موقف العناد والعداء والجحود فيغفر الله لهم كل ما سلف منهم ، ويوكل أمرهم إلى الله العليم البصير في أمورهم ومقاصدهم ثم

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ١٠٩.

٤٧

فيها إيعاز للمؤمنين فإن الكفار إذا أبوا إلا الاستمرار على ذلك الموقف الباغي فعليهم قتالهم باستمرار إلى أن لا يكون في الأرض فتنة ويكون الدين كله لله ؛ وليعلموا أن الله مولاهم وناصرهم عليهم وهو نعم المولى ونعم النصير.

وفي أسلوب الإنذار والإعلان والدعوة تلقين قرآني جليل رائع ومستمر المدى : فكل ما ينبغي أن يطلبه المسلمون من أعدائهم الذين يقاتلونهم حينما يقابلونهم بالمثل أن يرعووا عن غيّهم وبغيهم وأن يسيروا في طريق الحق الذي فيه خيرهم ومصلحتهم فإذا فعلوا هذا سقط عنهم كل إثم ارتكبوه وصاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وفي إحدى آيات سورة التوبة يأتي هذا المعنى أصرح حيث جاء فيها : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١).

ولقد قال المفسرون في صدد الآيات [٣٨ ـ ٤٠] وفي صدد كلمة (الفتنة) بعض ما قالوه في صدد آيات البقرة [١٩١ ـ ١٩٣] التي تكاد تكون تكرارا لها ، ولقد علقنا على آيات البقرة بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة إلى التكرار والزيادة.

ومن الجدير بالتنبيه أن الآية قد أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بما أمرتهم به بعد أن انتصروا على الكفار حيث ينطوي في هذا بالإضافة إلى ما قلناه من تسامح وتسام اتساق مع الهدف الجوهري القرآني وهو حملهم على الارعواء والاهتداء بنور الله والسير في طريق الحقّ الذي هو مصلحتهم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين وصفهما بالصحيح جاء في أحدهما : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» وجاء في ثانيهما : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها». والحديث الأول من مرويات مسلم (١). وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.

__________________

(١) انظر التاج ، ج ٤ ص ١١٠.

٤٨

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)) [٤١]

(١) يوم الفرقان : المقصود هنا يوم النصر الذي يسّره الله للمؤمنين ففرّق بذلك بين أصحاب الحقّ وأصحاب الباطل.

شرح الآية

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ...)

وما ورد في صددها من تأويلات

وأحاديث وتعليقات عليها

في الآية إعلام للمسلمين على سبيل التشريع ، فإن أي شيء غنموه فإن خمسه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وتوكيد عليهم بالوقوف عند هذا الأمر إذا كانوا قد آمنوا بما أنزل الله على نبيه من النصر يوم التحام المعركة بينهم وبين الكفار. وهو يوم الفرقان الذي فرّق الله به بين الحق والباطل ونصر الحق وأزهق الباطل.

وتخصيص التشريع بالخمس يؤكد كما قلنا الرواية المروية عن مجاهد التي أوردناها في سياق شرح الآيات الأولى من السورة من كون الخلاف والاعتراض كان على إفراز الخمس من الغنائم ، فنزلت هذه الآية التشريعية بأسلوبها القوي لإقرار ذلك.

ومع أن الغنائم التي وقع عليها الخلاف واقتضت حكمة التنزيل إنزال هذا التشريع فيها هي غنائم بدر ، فإن أسلوب التشريع جاء مطلقا ليكون خمس كل غنيمة يغتنمها المسلمون للجهات التي ذكرها التشريع حكما شرعيا مستمرا.

٤٩

وهذا الحكم ذو خطورة عظمى من ناحية كونه أول تشريع قرآني مالي ورسمي محدد يستولي بموجبه السلطان الإسلامي الذي كان يتمثل حين نزوله في شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينفقه على المصالح الإسلامية التي تتمثل حسب نص التشريع في الله ورسوله وذي القربى (١). وعلى الطبقات المعوزة التي تتمثّل في اليتامى والمساكين وابن السبيل. وهكذا جعل التشريع القرآني مساعدة الطبقات المعوزة أساسية في نظام الدولة الإسلامية المالي كما هو واضح ، فكانت الشريعة الإسلامية في ذلك أسبق الشرائع إلى تقرير هذا الأمر على الوجه والشمول والصراحة الذي جاء عليه. ولقد نبهنا على ما لهذا الأمر من خطورة في بيان المجتمع الإسلامية وصلاحه وأمنه وما انطوى فيه من حكمة ربانية في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه.

وقد وصفنا تشريع الخمس بالأولية لأن مصارف الزكاة لم تكن قد حددت بعد تحديدا قرآنيا لأن هذا التحديد إنما ورد في آية سورة التوبة هذه (* إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠) وسورة التوبة مما نزل في أواخر عهد رسول الله. وإن كان هذا لا ينفي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوزع الزكاة ـ وهي الصدقات ـ التي كان يأخذها من الذين عليهم الحق على المصارف المذكورة في الآية.

وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة ومتنوعة في فحوى الآية التشريعي :

أولا : إن المستفاد منها أن الجمهور من أهل السنة يؤولون الغنيمة بما يدخل في حوزة المسلمين من عدوهم من غنائم متنوعة نتيجة لحرب وقتال. أما ما يدخل

__________________

(١) سلكنا (ذي القربى) في هذا السلك لأن التخصيص انتهى بنا إلى ترجيح كون (ذي القربى) هو الذي يقدم خدمة للإسلام والمسلمين على ما سوف يأتي شرحه بعد قليل.

٥٠

في حوزتهم من عدوهم بدون حرب وقتال فهو الفيء الذي ورد فيه تشريع خاص في سورة الحشر التي يأتي تفسيرها في هذا الجزء.

ولقد روى الطبري عن قتادة أن هذه الآية نسخت تشريع سورة الحشر. وفنّد هذا القول. وهو حق وصواب ، وقد يمكن أن يزاد إلى هذا أن سورة الحشر نزلت في صدد غنائم بني النضير التي كانت بعد وقعة بدر حيث يبدو قول النسخ غريبا.

وقد قيدنا الكلام لصفة الغنيمة بأنه مذهب جمهور أهل السنّة لأن من الشيعة من يذهب إلى أن الغنيمة هي كل فائدة وعائدة للمسلمين من تجارة وكنوز فضلا عما يأخذونه من أعدائهم بالحرب ويوجب على كل ذلك الخمس استنادا على ما يبدو إلى إطلاق التعبير في جملة (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) والتعبير وإن كان مطلقا حقا وكلمة الغنيمة وإن كانت تفيد لغة ما لغنيمة المرء مطلقا فإن من اليقين أن التشريع في صدد غنائم حرب بدر ثم صار عاما لغنائم الحرب. وهناك أحاديث صحيحة تحصر الغنائم بغنائم الحرب على ما سوف نورده بعد قليل ولم ترو رواية عن رسول الله وأصحابه فيما اطلعنا عليه بل وتابعيهم غير ذلك عن غير طرق شيعية مما يجعل قول جمهور أهل السنّة هو الوجه الحق. وقد يخطر للبال أن رؤساء الشيعة وأئمتهم قد توسعوا في الأمر لتوفير أكبر جباية ممكنة من مختلف ما يكسبه أتباعهم في الظروف التي كانوا شديدي النشاط فيها في سبيل دعوتهم ودعايتهم ومنافسة خصومهم الأمويين أولا والعباسيين بعدهم والحلول محلهم في السلطان. وقد وصل الأمر في هذا إلى أن يسجلوا حديثا عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال إن جميع خمس الغنائم لأقارب رسول الله وأنه لما قيل له إن الله يقول : (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قال : هم أيتامنا ومساكيننا» (١).

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير.

٥١

وثانيا : يلحظ أن الآية لا تذكر إلّا الخمس ، أما الأخماس الأربعة الأخرى فالمأثورات المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وتابعيهم قد بينت ذلك حيث كانت توزع على الذين يشهدون ويشتركون في الحرب والقتال. ومن ذلك حديث رواه أبو العالية الرباحي جاء فيه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة ، أربعة منها لمن يشهدها ثم يأخذ الخمس» (١). وحديث آخر رواه البيهقي بإسناد صحيح جاء فيه : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب رجلا سأله عن الغنيمة ، فقال : لله خمسها ، وأربعة أخماسها للجيش. فقال له السائل : فما أحد أولى به من أحد؟ قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» (٢) وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال : «صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بعير من المغنم ولما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذا إلّا الخمس والخمس مردود فيكم» (٣). وحديث رواه الأربعة عن ابن عمر قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما ، وفي رواية (أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه)» (٤).

وهناك رواية يرويها الإمامان أبو عبيد وأبو يوسف في كتابيهما «الأموال والخراج» تفيد أن النبي كان يقسم للفرس سهما وللرجل سهما. ومما رواه المفسرون أن جميع النفل كان يؤتى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخرج الخمس منه يرضخ لمن لا سهم له ممن يكونون شهدوا المعركة من النساء والعبيد والصبيان ولمن شاءت حكمته أن يرضخ له من ذوي البلاء المتميز ثم يقسم الباقي سهاما على المجاهدين حسب النسبة المذكورة التي اختلفت رواياتها بين ثلاثة أسهم للفارس وفرسه وسهم للراجل وبين سهمين للفارس وفرسه وسهم للراجل. والأحاديث

__________________

(١) أورد الحديثين ابن كثير.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ، ج ٤ ص ٣٣٧.

(٤) المصدر نفسه.

٥٢

تفيد أن الغنائم كانت تسلّم جميعها لرسول الله فيأخذ الخمس ويرضخ ما يرضخ ثم يقسم الباقي. وهذا يفيد أن هذه المهمة تكون منوطة بولي أمر المسلمين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد روت الروايات الكثيرة أن قواد الفتح بعد النبي كانوا يفرزون الخمس فيرسلونه إلى الخليفة ويقسمون الباقي على المجاهدين ، والراجح أنهم كانوا يفعلون ذلك بتفويض من الخليفة ... ومع ذلك فليس في عملهم شذوذ عن روح التشريع القرآني والنبوي.

ولقد كان المسلمون في زمن النبي والخلفاء الراشدين يتجهزون ويتمونون للجهاد من أموالهم الخاصة. والمتبادر أن حكمة توزيع الأخماس الأربعة عليهم متصلة بذلك عدا ما يخولهم ذلك إقدامهم على الجهاد والتضحية. وقد يرد في المال تجاه ما أخذ يجري في القرون المتأخرة واليوم من التزام بيت المال بتجهيز المحاربين سلاحا ومؤونة وحمولة ونفقة ومرتبات ما إذا يصح أن يكون الأمر موضع نظر واجتهاد تبعا للقاعدة الشرعية بتغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أخذ حكام الدول الإسلامية يجرون على الاستيلاء على جميع الغنائم لبيت المال بناء على ذلك على ما هو المتبادر. وقد يكون الوارد والعمل في محله. وقد يكون التلقين المنطوي في آية الفيء في سورة الحشر التي جعلت جميع الفيء لبيت المال دون المسلمين لأنهم لم يوجفوا بخيل ولا ركاب مما يمكن أن يورد في سبيل تدعيم ذلك. والله تعالى أعلم.

ثالثا : هناك من قال إن عدد مصارف خمس الغنائم خمسة. وهي رسول الله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وإن ذكر الله للتشريف.

وهناك من روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفرز سهما للكعبة ويقول هذا سهم الله وينفقه على شؤونها ، وليس هناك حديث نبوي وثيق وصريح. وفي مصارف الزكاة ذكر (سَبِيلِ اللهِ) من مصارف الزكاة كما جاء في آية سورة التوبة هذه (* إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [٦٠] والمتبادر أن كلمة (اللهُ) في آية الأنفال

٥٣

وكلمة (سَبِيلِ اللهِ) في آية التوبة في معنى وهدف واحد حيث أرادت حكمة التنزيل أن ينفق من خمس الغنائم على شؤون الدين وسبيل الله والدعوة والجهاد إلخ فذكرت كلمة (اللهُ) هنا في مقام كلمة (سَبِيلِ اللهِ) في آية التوبة. وهكذا تكون سهام أو عدد مصارف خمس الغنائم ستة.

رابعا : هناك من روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ سهما من الخمس فينفق منه ما هو في حاجة إليه ويضع الباقي حيث شاء. وهناك من روى أن رسول الله كان يعطي أقاربه ما بقي من سهمه. وليس من تعارض بين الروايتين. وتعددت الروايات في هذا السهم بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها أنه صار لخليفته ومنها أنه من حق أقاربه ومنها أن أبا بكر ردّه إلى بيت المال ومنها أنه جعله لشراء الكراع والسلاح وأن هذا تم بعد تشاور بينه وبين كبار أصحاب رسول الله وأن هذا هو الذي جرى الأمر عليه بعد أبي بكر. والمستفاد من ما أورده جمهور المفسرين من أهل السنة من روايات وأقوال أن سهم رسول الله ينفق على سبيل الله. ولقد اتفق أصحاب رسول الله على تخصيص نفقة لخليفته الأول وصار الخلفاء يأخذون نفقة من بيت المال ، ولم يكن شيء من ذلك للنبي في حياته. فلم يكن من محل لتحويل سهم رسول الله لخليفته. والشيعة يذهبون إلى أن هذا السهم إرث يستحقه ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنهم بخاصة. وهناك أحاديث معتبرة عند أهل السنة تتضمن دلائل قوية ضد هذا المذهب. والأحاديث تورد في صدد سهم رسول الله في الفيء الذي خصص جميعه لما خصص له خمس الغنائم ولكن دلالتها شاملة لسهم رسول الله في حياته وبعد وفاته كما هو المتبادر القوي منها. منها حديث رواه الخمسة عن عمر قال : «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت للنبي خاصة ينفق على أهله منه وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله» (١). ومنها حديث رواه أبو داود عن

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ٣٤٠ و ٣٤١ ، الراجح أن القصد هو سهم رسول الله من الفيء لأن مصارف الفيء هي (الله ورسوله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل).

٥٤

عمر قال : «كانت لرسول الله ثلاث صفايا بنو النضير وخبير وفدك. فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكان حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله ثلاثة أجزاء جزئين بين المسلمين وجزءا لنفقة أهله فما فضل منهم جعله بين فقراء المسلمين» (١). ومنها حديث رواه الأربعة عن عائشة قالت : «إن فاطمة بعد وفاة النبي سألت أبا بكر ميراثها ممّا ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه فقال لها إنّ رسول الله قال لا نورث ما تركناه صدقة ، ولست تاركا شيئا كان النبيّ يعمل به إلّا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا أن أزيغ ، وكانت فاطمة تسأل ميراثها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صدقته بالمدينة ومن خيبر ومن فدك فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ وعباس فغلبه عليها علي. وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقة النبي كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه. وأمرهما إلى من ولي الأمر ، فهما على ذلك إلى اليوم» (٢).

وهناك حديث آخر عن عائشة فيه شيء من هذا الحديث مع بعض فروق. ويظهر أنها قالته في مجلس آخر ونصّه : «إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله يطلبان أرضهما من فدك وسهمهما من خيبر». فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله يقول لا نورث ما تركنا صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال. والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلّا صنعته. قال فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت. وفي رواية : «لا يقتسم ورثتي دينارا مما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» (٣). وهناك حديث يرويه الطبري والبغوي في سياق تفسير آيات سورة الحشر في الفيء جاء فيه : «إن عمر بن الخطاب عهد بسهم

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، والمتبادر أن المقصود في الأحاديث هو سهم رسول الله وليس كل صدقة المدينة وخيبر وفدك فإن الفيء قد جعل الله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

(٢) انظر المصدر نفسه.

(٣) التاج ، ج ٢ ص ٢٤٠ ، وهذا الحديث مروي من الأربعة عن أبي هريرة أيضا انظر التاج ج ٢ ص ٣٤١.

٥٥

رسول الله في الفيء إلى العباس وعليّ رضي الله عنهما بعد أن أخذ عليهما عهدا بأن يجعلاه لجعل مال الله كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أبو بكر من بعده ثم هو في السنتين الأوليين من عهده وقد اختلفا واختصما وراجعاه ليقضي بينهما فقال لهما اتئدوا. أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله قال لا نورث ، ما تركنا صدقة. قالوا قد قال رسول الله ذلك. فأقبل عليهما وقال إني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره. وكانت خالصة لرسول الله ، والله ما احتازها دونكم ولا استأثرها عليكم فقد أعطاكموها وبثّها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم منه ثم يأخذ ما بقي فيجعله مال الله ثم توفي ، فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله فقبضها فعمل فيها بما عمل به فيما رسول الله. وأنتما حينئذ جميع. والله يعلم إنه في ما فعل صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر فقلت أنا وليّ رسول الله وأبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله وأبو بكر. والله يعلم إني فيه صادق بارّ راشد تابع للحق. ثم جئتماني كلا كما فقلت إنكما تعلمان أن رسول الله قال لا نورث نحن الأنبياء ما تركناه صدقة. فإن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل به رسول الله وأبو بكر وما عملت منذ وليت. وإلّا فلا تكلماني فيها ، فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما ... أفتلتمسان قضاء غير ذلك. فو الله الذي تقوم السماء والأرض بإذنه لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فإني أكفيكماها». وفي هذا الحديث توضيح لنقطة مبهمة في حديث عائشة الأول الذي رواه الأربعة وهي تسليم عمر عليا وعباسا رضي الله عنهم جميعا صدقة النبي في المدينة فالحديث يوضح أن هذا بمثابة تولية من عمر لعلي والعباس لإنفاق الصدقة على النحو الذي كان يفعله النبي وأبو بكر من بعده وليس على سبيل كونها إرثا لهما وحقا شخصيا.

والطبري والبغوي من أئمة الحديث والراجح أنهما تثبتا منه (١).

__________________

(١) انظر تفسير آيات الفيء في سورة الحشر في كتابي تفسيرهما.

٥٦

وواضح من كل ما تقدم أن سهم رسول الله قد ردّ بعده إلى بيت المال ولولاية خلفائه لإنفاقه على سبيل الله وصالح المسلمين وفقرائهم ، وهذا هو ما عليه جمهور أهل السنّة ، وهو ما نراه الأوجه الحق ، والمتسق مع روح الحديث النبوي المروي من طرق عديدة بأنه لا يورث وما تركه صدقة. وكل ما يمكن أن يكون أن اجتهادا اجتهده العباس وعلي وفاطمة رضي الله عنهم في أن لهم حقا في إرث سهم رسول الله فلما بان لهم الحق وقفوا عنده ، والله تعالى أعلم.

وخامسا : هناك روايات في سهم (وَلِذِي الْقُرْبى) منها أنه لقريش لأن جميعهم أقارب لرسول الله. ومنها أنه لأقارب رسول الله الأدنين بني هاشم أو بني هاشم وبني المطلب. وعلل الذين قالوا ذلك إن الصدقات كانت محرمة على آل محمد استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث عن رسول الله قال : «إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» (١) ، ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه ، فقال النبيّ : كخ كخ ، ليطرحها. ثم قال : أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة ، وفي رواية : أما عملت أنّا لا تحل لنا الصدقة» (٢) ولذلك اقتضت حكمة الله أن يجعل سهما من خمس الغنائم لأقاربه الأدنين كما قالوا. وروي في صدد تأييد كون (وَلِذِي الْقُرْبى) هم أقارب رسول الله الأدنين حديثان رواهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم جاء في أحدهما : «مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي ، فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ، فقال : إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» (٣). وجاء في ثانيهما : «لم يقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل ، قال ابن إسحق وعبد شمس وهاشم والمطلب أخوة لأم وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم ، ومن الروايات رواية عن

__________________

(١) التاج ، ج ٢ ص ٣٠ و ٣١.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) التاج ، ج ٤ ص ١٣٩.

٥٧

المنهال قال : «سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا فقلت لعلي إن الله يقول واليتامى والمساكين وابن السبيل قال يتامانا ومساكيننا» حيث يعني هذا أن جميع خمس الغنائم وليس خمسه لأقارب رسول الله الأدنين وذريتهم من بعده. ومن الروايات أن عليا طلب من النبي أن يدفع له سهم ذي القربى ليقسمه في بني هاشم حتى لا يزعجهم عنه أحد بعده ، ففعل ثم ولّاه إياه أبو بكر ثم عمر ثم عزله عنه ثم أراد أن يرجعه إليه فقال له ما بنا إليه حاجة. والمسلمون لهم حاجة إليه فقال له العباس إنك حرمتنا شيئا لا يرد علينا أبدا إلى يوم القيامة» (١).

ومن الروايات أن سهم ذي القربى كان رسول الله يضعه حسب ما يرى. وصار بعد موته هو وسهم رسول الله لولي الأمر يضعهما حسب ما يرى أو ينفقهما في معونة الإسلام وأهله وأن هذا كان نتيجة تشاور بين أصحاب رسول الله وجرى عليه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحق قال : «سألت أبا جعفر محمد بن علي فقلت كيف صنع علي في سهم ذي القربى حين ولي الناس؟ قال : سلك به سبيل أبى بكر وعمر». وباستثناء الحديثين اللذين يرويهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم ليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح وليس في الحديثين صراحة أن الذي أعطاه النبي لبني هاشم وبني عبد المطلب هو سهم ذي القربى. وكل ما يفيده أنه أعطاهم شيئا من الغنائم أو الفيء.

وعلى كل حال ليس هناك رواية وثيقة السند صريحة النصّ بأن سهما من خمس الغنائم كان يوزع على أقارب رسول الله أو بني هاشم في زمن النبي وخلفائه الراشدين الأربعة. ومعظم الأقوال تذكر أن الخلفاء جعلوا هذا السهم مع سهم رسول الله في بيت المال لينفق على السلاح ومعونة الإسلام وأهله. ونحن نعرف أن الشيعة يطعنون في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر أصحاب رسول الله الذين

__________________

(١) هذه الرواية رواها الإمام أبو يوسف في كتاب «الخراج».

٥٨

سكتوا على ما كان من أبي بكر وعمر وعثمان من عدم إعطاء فاطمة سهم رسول الله إرثا عن أبيها ، ومن عدم إعطاء سهم ذي القربى لأقارب رسول الله الأدنين. وينكرون أن يكون عليّ سلك مسلكهم. وفي كلامهم على أي حال اعتراف بما جرى عليه الخلفاء الثلاثة على الأقل على ملأ من جمهور أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإقرارهم ، والمؤمن الحق الذي يعرف الخلفاء الثلاثة هم ممن مات النبي وهو راض عنهم وممن سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة [١٠٠] لا يمكن أن يسلم بأنهم فعلوا غير ما عرفوا أنه الحق الموافق لسنة رسول الله وإلهام كتابه. ولا يجوز لمؤمن مخلص أن يقول أو يظن أن جمهرة أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين سجل رسول الله رضاءه عنهم وهم مئات يمكن أن يتواطأوا على صرف هذا الحق عنهم لو كان لهم بنص القرآني أو حديث نبوي. وجملة «إنما يأكل آل محمد من هذا المال» الواردة في الحديث الذي يرويه الخمسة يقوي ذلك. فلو كان لآل محمد سهم في خمس الغنائم أو في الفيء لما كان من حكمة لهذا القول. ولقد روى المفسرون أن الخلفاء الراشدين جعلوا أقارب رسول الله مثل سائر المسلمين فكان الذي يشهد المعركة منهم يأخذ نصيبا من الغنائم أسوة بمن شهدها ، وحين رتبت المرتبات من بيت المال في زمن عمر رتبت لهم وفقا للمراتب التي رتبت عليها وجعل لهم أو لبعضهم ميزة القربى لرسول الله (١). وكان يعطى لفقرائهم من بيت المال أسوة بفقراء المسلمين واستمر ذلك في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ثمّ في زمن الدولة الأموية ثم في نحو الخمسين سنة الأولى من زمن الدولة العباسية أيضا وفي هذا دليل آخر.

ولقد روي أن هذا الحق أقر ووزع لأقارب رسول الله في زمن المأمون سابع الخلفاء العباسيين. ولكن ليس هناك ما يفيد أن ذلك ظلّ معمولا به في هذه الدولة وما بعدها والله أعلم.

__________________

(١) انظر هذه النقطة في تاريخ عمر بن الخطاب للجوزي ص ١٠٨ وما بعدها ، بالإضافة إلى كتب التفسير.

٥٩

ويتبادر أنه لو صحّ قول القائلين بأن جملة (لِذِي الْقُرْبى) من رسول الله تعني سهما لأقارب رسول الله متيقنين من قولهم هذا لما بدا حكمة وسبب لمطالبة أقارب رسول الله من إرث سهم رسول الله في الفيء والغنائم لأن حق أقارب رسول الله يكون قد توطد بأقاربه بكلمة (لِذِي الْقُرْبى) والله أعلم.

ويروي بعض مفسري الشيعة (الطبرسي والطوسي) مثلا أن جملة (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) في آية سورة الإسراء هذه (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٢٦) ، وفي آية سورة الروم هذه : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣٨) هي قصدت أقارب رسول الله في الفيء والغنائم ، والآيتان في سورتين مكيتين ويروي القائلون أن الآيتين أو إحداهما مدنيتان لتبرير قولهما لأن تشريع الفيء والغنائم مدني وليس لما رأوه سند وثيق. والآيتان منسجمتان في سياق الآيات المكية قبلهما وبعدهما كل الانسجام وآية سورة الإسراء في سلسلة طويلة فيها وصايا وأوامر وتحذيرات وبعد الآية الواردة في سورة الروم آية من شاكلتها وهي : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩). وأسلوب الآيتين مثل أسلوب الآيات المكية التي قبلهما وبعدهما حثّ وتحذير وهو أسلوب مكي. ويتبادر لنا والله أعلم أنها بسبيل الحثّ على إعطاء الأقارب المستضعفين حقهم في الميراث حيث كان الأقوياء من رجال الأسر يأكلون حقوق النساء واليتامى والمستضعفين في الميراث أو يجحفون فيه. وفي سورة النساء آية تشير إلى ذلك بصراحة وهي : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧) والله أعلم.

٦٠