التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبيّ بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه. ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسدّ عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهن جميعا.

كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص وأنها احتوت شبه إيعاز للنبيّ بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حقّ معاشرة إحدى المرجئات تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجىء واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك. والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصحّ أن يكون قرينة على ذلك. ولقد روى الزمخشري في كشّافه أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن.

وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء. والروايات لم ترد في الصحاح. ونصّ الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء لمن أرجأ. بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات والقول إن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بدّ من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم.

ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلقهن فقلن يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا. والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبيّ في تطليق الزائد عن العدد وأن في الرواية لبسا ، لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في

٤٠١

سياق آية التخيير ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع. ولقد روى المفسرون أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته. والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول الآية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن.

ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [٥٠] على مفهوم كونها مطلقة وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات (١). وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه : «خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني. ثم أنزل الله الآية فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء». وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانىء بنت أبي طالب (٢) ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تمّ من زيجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه. ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول. ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده أن الله قد أحلّ في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم.

ولقد كان في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

(٢) انظر التاج ، ج ٤ ص ١٨٦ و ١٨٧ وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومنّ عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعدّ مهاجرا لأن النبي قال : (لا هجرة بعد الفتح). على ما أوردناه في سياق الآية [٧٧] من سورة الأنفال.

٤٠٢

بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن. وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى. ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات (١). وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا.

ولقد احتوت الآية [٥٢] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [٥١] على ما يتبادر لنا. فبعد أن أبيح له في الآية [٥١] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [٥٢] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين. ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن. هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد.

ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية. منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما : «ما مات النبيّ حتى أحلّ الله النساء». ومنها حديث عن أبيّ بن كعب يفيد أن الآية لم تحرّم الزواج على النبي بالمرة وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحلّه الله له في الآية [٥٠] والأحاديث ليست من الصحاح.

ونصّ الآية فيما نرى ، وبخاصة جملة (مِنْ بَعْدِهِ) صريح بالنهي إطلاقا. ولذلك فنحن نتوقف فيها. ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا : إن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [٢٨] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه. هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها

__________________

(١) كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢١ ـ ٣٢٦.

٤٠٣

من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها. فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها. لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ).

ولقد قال بعض المفسرين (١) في مدى تعبير (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له. والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبيّ عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له. أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك اليمين كما قلنا قبل قليل.

وصيغة الجملة (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) صيغة أسلوبية ولا تعني في مقامها على ما يتبادر لنا أن ذلك بالنسبة للمستقبل. ونصّ الآية [٥٠] التي وردت فيها هذه الجملة يفيد بقوة أن المرأة التي وهبت نفسها هي من جملة ما شملته جملة (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ) إلخ.

ولقد تعددت الروايات في شخصية هذه المرأة منها أنها ميمونة بنت الحارث التي تزوجها النبي في ظرف زيارته الكعبة في السنة السابعة من الهجرة بناء على الاتفاق الذي تمّ بينه وبين قريش في الحديبية ومنها أنها زينب بنت خزيمة المعروفة بأم المساكين ومنها أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك بن جابر. والاثنتان الأوليان هما من زوجات النبي فعلا دون الأخريين على ما يستفاد من الأسماء المروية التي أوردناها آنفا. ويبدو أن رواية كونها ميمونة هي الأقدم والأوثق. وقد نبّه المفسرون

__________________

(١) انظر الخازن والبغوي.

٤٠٤

على أن هبة التي وهبت نفسها للنبي ليست بمعنى التملك أو الزواج بدون عقد ومهر. وهو في محله. وقد روى ابن هشام أن العباس عمّ النبي هو الذي زوجها للنبي وأصدقها عنه أربعمائة درهم (١).

ولقد كان استثناء القرآن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحديد الزوجات الوارد في حق سائر المؤمنين موضع انتقاد وغمز من قبل الأغيار بزعم أنه يضع لنفسه قوانين خاصة كما كانت كثرة زوجاته موضع غمز ونقد أيضا بزعم أن ذلك يدلّ على شدة شهوانيته.

ولقد ردّ كتّاب المسلمين على هذا وذاك ردودا متنوعة وجيهة. منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تعدد زوجاته لم يكن شاذّا عن بيئته وعن الطبيعة البشرية. ومنها أن لأكثر زوجاته ظروفا غير دواعي الرغبة الجنسية إذ توخّى في بعضها تكريم صاحبيه أبي بكر وعمر وفي بعضها توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل كزيجته بجويرية المصطلقية التي كان من نتائجها إسلام جميع قبيلتها وفي بعضها تكريم الزوجات التي مات أزواجهن في الحبشة أو استشهدوا في الجهاد مثل أم حبيبة وأم سلمة (٢) وسودة. ومنها أن نصف زوجاته كنّ من المتقدمات في السنّ وأمهات أولاد كبار ممن تقلّ الرغبة الجنسية فيهن عادة. وجوهر ومدى الردود صحيحان كلّ الصحة (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي ثم ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٤ وابن سعد ج ٣ ص ١٦٩.

(٢) أورد ابن كثير في سياق الآية [١٥٥] من سورة البقرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة جاء فيه : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبها بعد انتهاء عدّة حدادها على زوجها أبي سلمة الذي مات شهيدا في حرب ، فقالت له : أنا امرأة قد دخلت السن وأنا ذات عيال وأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به ، فقال : أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبا الله عنك ، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي».

(٣) انظر كتاب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص ٣٠٣ ـ ٣١٧ وتاريخ الإسلام السياسي لحسن

٤٠٥

ومما يصح أن يضاف إلى ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما تزوج لأول مرة في شبابه تزوج بمن تزيد عنه في السن سنين كثيرة. وظلّ مقتصرا عليها طيلة حياتها التي بلغت فيها سنّ الشيخوخة أو كادت. وكان من أسرة رفيعة ويستطيع أن يخطب ويتزوج بالأجمل والأفتى قبل زوجته وبعدها لو كان دافعه شهوانيا وحسب ، رغم أن هذا ما تبرره البيئة والتقاليد والطبيعة كما قلنا. وكان ينبغي على الغامزين لو يشعرون بشيء من الإنصاف والحياء أن يتبينوا كل ذلك في ظرف التخيير الذي شرحناه في سياق الآية [٢٨] والذي بدا فيه رسول الله في أروع صورة من التسامي ونبذ لذائذ الحياة وأن يتذكروا أنه كان في قدرته بعد نبوته ثم بعد هجرته بخاصة أن يتزوج بالأفتى والأجمل والأغنى وليس بالمطلقات والأرامل وأمهات الأولاد والمتقدمات في السن.

ونقول على سبيل المساجلة إن النبي لم يكن في حاجة إلى تشريع خاصّ لو لم يكن هناك ظروف قاهرة. وكان بإمكانه أن يستغني عن المتقدمات في السنّ وذوات الأولاد وغير الجميلات لو كانت دواعيه هي الرغبة الجنسية وحسب. وقد شرحنا هذه الظروف في سياق تفسير الآية [٥١] التي تضمنت إشارة إليها. وهي ظاهرة الصواب والحكمة والسموّ لا يكابر فيها منصف. ولقد تضمنت هذه الآية بالإضافة إلى ذلك إيعازا بعدم مباشرة أكثر من العدد المحدد على ما شرحناه كذلك فكان فيه توفيق بين هذه الظروف والتحديد القرآني. يضاف إلى هذا أن الآية [٥٢] قد حرّمت التزوج على النبي بالمرة بعدها حتى ولو لم يبق في عصمته زوجة من زوجاته بالطلاق أو الموت على ما رجّحنا أنه المتبادر منها. وفي هذا ردّ مفحم آخر على الغامزين.

هذا ، والآيات كما رجحنا قد تضمّنت استدراكا لآية سورة النساء [٣] التي اعتبرت تشريعية في تحديد عدد الزوجات الذي يصحّ للمسلم جمعه في عصمته في

__________________

إبراهيم ج ١ ص ١٣٠ ـ ١٣٦ ، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد ص ١٩٦ ـ ١٩٩.

٤٠٦

وقت واحد. فممّا يرد بالبال أنها نزلت بعد أن تمّ ترتيب آيات سورة النساء وعقب الآية السابقة لها فرأى النبي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه في هذه السورة بإلهام من الله. وفي هذا صورة من صور تأليف آيات وسور القرآن. والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤)) [٥٣ ـ ٥٤]

(١) إلّا أن يؤذن لكم : إلّا أن تدعوا ويؤذن لكم بالدخول.

(٢) غير ناظرين : غير منتظرين.

(٣) إناه : نضجه.

(٤) فانتشروا : انصرفوا وتفرقوا.

(٥) ولا مستأنسين لحديث : ولا تبقوا بقصد الائتناس والتسلّي بالكلام.

(٦) متاعا : شيئا ما.

(٧) حجاب : ستر.

(٨) تنكحوا أزواجه : بمعنى تتزوجوهن.

الخطاب في الآيات موجه إلى المؤمنين :

١ ـ تنهاهم فيه عن عدم دخول بيوت النبي إلّا بدعوة إلى طعام على أن لا يأتوا قبل إيذانهم بنضجه بقصد انتظار ذلك في هذه البيوت. فإذا نضج الطعام

٤٠٧

ودعوا فليدخلوا وإذا أكلوا فليتبادروا إلى الخروج دون إطالة مكث بقصد السمر والحديث.

٢ ـ وتنبههم فيه إلى أن ما كان من تصرف مخالف منهم لهذا كان مما يثقل على النبي ويؤذيه ولكنه كان يستحيي منهم فلا يصارحهم. والله لا يستحيي من الحقّ. ولذلك فهو ينهاهم وينبههم إلى ما يقتضي من الأدب في هذا الباب. وإذا ما كان لهم حاجة ما عند نساء النبي فعليهم أن يسألوهن عنها من وراء ستار. فهذا هو أطهر لقلوبهم وقلوبهن. وعليهم أن يلتزموا هذه الآداب ولا يؤذوا رسول الله بمخالفتها. وليس لهم كذلك أن يتزوجوا بزوجاته من بعده أبدا فإن إثم ذلك عند الله عظيم. وعليهم أن يذكروا دائما أن الله عليم بكل شيء سواء أأظهروه أم أخفوه في صدورهم.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ...) إلخ

والآية التالية لها

وقد روى المفسرون ورواة الحديث في صدد القسم الأول من الآية الأولى بعض أحاديث وروايات. ومما رواه الشيخان والترمذي من ذلك «أن النبي صنع طعاما في مناسبة بنائه على زينب وأمر أنسا أن يدعو الناس فصار يدعوهم فيأتون فيأكلون ويخرجون ثم يجيء غيرهم فيأكلون فيخرجون حتى لم يجد أحدا يدعوه ، فقال : يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه ، فقال : ارفعوا طعامكم. وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج رسول الله فانطلق إلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله ، فقالت : وعليك السلام ورحمة الله ، كيف وجدت أهلك بارك الله لك ، فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي فإذا ثلاثة رهط يتحدثون وكان النبي شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في

٤٠٨

أسكفة الباب داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بينه وبين أنس ونزلت الآية إلى جملة (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ)» (١).

وقد روى الشيخان في صدد القسم الثاني من الآية : «أن عمر قال : قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آيات الحجاب وهي : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ)» (٢).

والحديث الأول أكثر اتساقا مع مضمون الآية. ويفيد الحديث الثاني أن عمر كان يتمنى حجبهن شخصيا بحيث لا يراهن أو يجلس إليهن الناس وفيهم البرّ والفاجر في حين أن مضمون الآية لا ينطوي على هذا القصد تماما.

ولقد روى الطبري حديث عمر ثم روى أن أنس بن مالك قال : أنا أعلم الناس بهذه الآية ثم ساق حديث وليمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مناسبة زواجه بزينب على النحو الذي جاء في الحديث الأول كأنما يصحح المناسبة. وهذا لا ينفي أن يكون عمر اقترح على النبي قبل نزول الآية حجب نسائه وأن يكون اعتبر الآية حين نزلت استجابة لاقتراحه. وقد روى البخاري عن ابن عمر حديثا عن عمر قال : «وافقت أبي في ثلاث. قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) البقرة [١٢٥] وقلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلّمهن البرّ والفاجر فنزلت آية الحجاب. واجتمع نساء النبي في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربي إن طلّقكن أن يبدله خيرا منكن فنزلت آية التحريم (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ...) إلخ الآية». حيث ينطوي في الحديث دليل آخر على هذا الاعتبار.

__________________

(١) انظر التاج فصل التفسير ج ٤ ص ١٨٧ ـ ١٨٨ ، وانظر أيضا تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والخازن والبغوي وابن كثير. ففي كتبهم أحاديث وروايات أخرى بينها بعض التغاير في الصيغ مع الاتفاق في الجوهر فاكتفينا بنقل ما رواه الشيخان والترمذي.

(٢) المصدر نفسه.

٤٠٩

وقد روى المفسرون في صدد القسم الأخير من الآية الأولى أن بعض المسلمين قال إنه إن عاش بعد النبي ليتزوجن بعائشة. والرواية ليست بعيدة الاحتمال والأرجح إن صحت أن يكون القائل من الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم بعد ، لأن في قوله شيئا من التحدي لا يمكن أن يصدر من مخلص صادق الإيمان.

وعلى كل حال فالذي نرجحه أن الفقرة الأخيرة لم تنزل لحدتها وأن الآيتين نزلتا معا. ومن المحتمل أن يكون هذا القول المروي قد صدر قبل نزولهما فاقتضت الحكمة التنبيه على ما فيه من إثم عظيم للمناسبة الموضوعية.

وواضح من نصّ الآية الأولى أنها في صدد بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوجاته بخاصة. كما أن من الواضح منها أن الحجاب المذكور فيها لا يعني نقاب الوجه وإنما يعني ستار الباب أو حجابه ؛ وأن الأمر بسؤالهن من وراء حجاب إذا أريد سؤالهن متاعا مستتبع للأدب الذي تعلمه الآية بعدم الدخول لبيوت النبي إلّا بإذن ودعوة إلى طعام وعدم إطالة المكث للسمر والحديث ، حتى إن حديث عمر لا يفيد ذلك قط. ووجه المرأة ويداها ليسا عورة فهي تصلي وهما مكشوفان. وتؤدي مناسك الحج وهما مكشوفان. بل هناك حديث نهى النبي فيه عن النقاب والقفازين في إحرام المرأة على ما أوردناه في تفسير آيات الحج في سورة البقرة.

وفي سورة النور آيات فيها تعليم عام بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات عامة في صدد دخول بعضهم على بعض وتناول الطعام والدخول على المخادع وما يجوز للمرأة إظهاره من زينتها لمحارمها إلخ مما يقوي الدليل على خصوصية حكم الآية الأولى ببيوت النبي. والمتبادر أن حالة بيوت النبيّ التي لم تكن إلّا حجرات في طرف الساحة المسورة التي اتخذ النبيّ قسما منها للصلاة والاجتماع بالناس هي التي اقتضت هذا النهي. وقد ذكر الطبري في سياق الآيات وسبب نزولها أن زينب كانت موجودة في البيت الذي ظلّ بعض المدعوين سامرين فيه. وتحريم التزوج بنساء النبي بعده في الآية الأولى دليل قطعي على أن حكمها ومداها محصوران

٤١٠

ببيوت النبي ونسائه. وقد يكون فيها دليل على أن ممّا كان جاريا دخول المسلمين لبيوت بعضهم وتناولهم الطعام والسمر فيها ونساؤهم فيها مع رجالهم وذوي محارمهم. وقد ظلّ هذا سائغا بعد قيده بالاستئذان والإذن والاحتشام ووجود ذوي المحرم على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير سورة النور. ومع خصوصية الآية ببيوت النبي ونسائه فإن فيها أدبا يحسن بالمسلمين أن يلتزموه وهو مراعاة حال أهل البيت وعدم إطالة المكث فيه وعدم التحجج بالسؤال عن أمر وطلب متاع ما وكثرة طروق بيوت الناس إذا ما كان ذلك مما يسبب ضيقا وحرجا لأهل البيت ، وهذا كثيرا ما يكون.

أما تحريم التزوج بزوجات النبي من بعده فحكمته ظاهرة ، فقد سماهن القرآن بأمهات المؤمنين وقد جعل الله لهن بعض الخصوصيات بسبب هذه الكرامة التي كرّمهنّ بها فلا يصح لمسلم أن يفعل أو ينوي أن يفعل فيه إخلال. فيها. وصيغة النهي عن التزوج بزوجات النبي من بعده يؤيد ما قلناه. وسياق الآية التي وصفهنّ فيها بأمهات المؤمنين في هذه السورة من أن هذا الوصف هو من باب التكريم ولم ينطو على تحريمهن على المؤمنين في حالة طلاقهن أو ترملهن حيث اقتضت حكمة التنزيل النصّ على ذلك في الآية التي نحن في صددها.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥)) [٥٥]

(١) واتقين الله : أمر موجه لنساء النبي على سبيل الالتفات الخطابي.

وفي هذه الآية استدراك لآداب الحجاب والدخول التي احتوتها الآيات السابقة. والضمائر فيها عائدة بالتبعية إلى نساء النبي فليس من جناح أن يدخل على نساء النبي آباؤهن وأبناؤهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن ونساؤهن

٤١١

وخدمهن الذين هم ملك أيمانهن. وعليهن بتقوى الله والتزام حدوده وملاحظة كونه حاضرا في كل آن وشهيدا على كل شيء.

تعليق على الآية

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ ...) إلخ

ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآية. فإما أن تكون نزلت مع الآيتين الأوليين وإما أن يكون النهي قد أحدث بعض الحرج بالنسبة لمحارم نساء النبي فنزلت للاستدراك. وإذا صحّ الاحتمال الثاني دون الأول فتكون الآية قد وضعت في مكانها للمناسبة الموضوعية.

ويلحظ أن الأعمام والأخوال لم يذكروا في المستدركين. ولقد قال بعض المفسرين (١) إن الأعمام والأخوال في مقام الآباء ولذلك لم يذكروا ولكن حكم الإباحة يجري عليهم كما قال بعضهم (٢) إنهم ممن كره أن يدخلوا بدون إذن وحجاب على نساء النبي حتى لا ينعتوهن لأبنائهن الذين هم غير محارم عليهن. والقول الأول هو الأوجه فيما نرى. ومسألة نعت النساء للأبناء ولغيرهم واردة في حقّ الإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات والنساء جميعا ومهما يكن من أمر ومهما كانت حكمة عدم ذكر الأعمام والأخوال خافية فإننا نقول إن القرآن يتمم بعضه بعضا. والأعمام والأخوال من محارم المرأة بنص آية النساء هذه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) [٢٣] بحيث يكون في هذا تأييد ما لوجاهة ذلك القول. ولقد أورد المفسر القاسمي حديثا عن البخاري عن عائشة رضي الله عنها جاء فيه : «أنها قالت : استأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس بعد ما أنزل الحجاب فقلت لا آذن حتى أستأذن النبي فلما دخل عليّ قلت له : يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.

(٢) المصدر نفسه.

٤١٢

فأبيت أن آذن حتى أستأذنك ، فقال : وما منعك أن تأذني؟ فقالت : إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس. فقال : ائذني له فإنه عمّك تربت يمينك». وأفلح صار عمّها لأنه أخو زوج امرأة أرضعتها فمن باب أولى أن يكون دخول الأعمام والأخوال الأصليين جائزا.

وقد قال المفسرون (١) في تعبير (وَلا نِسائِهِنَ) قولين ، أحدهما أن المقصود به النساء المؤمنات. وأن غير المؤمنات داخلات في النهي. وثانيهما أن التعبير عام يقصد به النساء عامة لوحدة الجنس ، والنفس تطمئن بالقول الثاني أكثر. ويتبادر لنا أن صيغة (وَلا نِسائِهِنَ) قد جاءت للتوافق اللفظي أكثر منها للاختصاص.

كذلك فإن لهم في تعبير (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) قولين (٢) ، أحدهما أن المقصود به الإماء دون العبيد. وثانيهما أن الجنسين سواء في القصد. وإطلاق التعبير يتناول الجنسين كما هو واضح. ولذلك فإن النفس تطمئن بوجاهة القول الثاني أكثر. ولا سيما أن مالكة العبد من محارمها على ما تفيده آية سورة النور [٣١] على ما سوف يأتي شرحها بعد.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦)) [٥٦].

تعليق على الآية

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا

تَسْلِيماً) (٥٦)

في هذه الآية :

١ ـ تقرير تنويهي بما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الله وملائكته من عظيم المنزلة ورفعة

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

(٢) المصدر نفسه.

٤١٣

الشأن : فألله تعالى يصلي عليه بشموله الدائم بعطفه ورحمته. والملائكة يصلون عليه بدعائهم وتأييدهم.

٢ ـ وأمر للمسلمين بأن يصلّوا هم عليه ويسلّموا صلاة وتسليما متناسبين مع رفعة شأنه وعلّو منزلته بالدعاء والتعظيم والإجلال.

والمتبادر أن الآية متصلة بما قبلها وما بعدها معا. ومعقبة على ما جاء قبلها من التعليم والتأديب والنهي وممهدة لما جاء بعدها من الإنذار للذين يتعمدون مكايدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذاه. وأنها استهدفت تلقين المسلمين ما يجب عليهم إزاء النبي من التوقير والإخلاص واجتناب كلّ ما يؤذيه ويحزّ في نفسه قولا وعملا سرا وجهرا واتباع كل ما فيه رضاؤه وقرة عينه وفعله.

ومع خصوصية الآية فإن إطلاق العبارة فيها يجعلها عامة شاملة لكل مسلم ومسلمة في كل وقت ومكان وموجبة عليهم أداء حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوقير والتعظيم والدعاء والترحم وعظيم الشكر في سبيل تسجيل الاعتراف بما له عليهم من فضل خالد الأثر في هداهم إلى الحق والخير وسعادة الدارين وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

ولقد أثرت أحاديث كثيرة مختلفة الرتب في صدد الصلاة على النبي ووجوبها وفضلها من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي جاء فيه : «قيل لرسول الله حينما نزلت الآية : أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلّي عليك؟ فقال : قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد» (١). ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود قال : «إذا صليتم على النبي فأحسنوا الصلاة عليه. قالوا له : علّمنا ، فقال : قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك

__________________

(١) انظر التاج فصل التفسير ج ٤ ص ١٨٩ وهذه الصيغة هي المأثورة التي تتلى في التشهد بعد التحيات في الصلوات.

٤١٤

ورسولك إمام الدين وقائد الخير ورسول الرحمة ، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (١). ومنها حديث رواه ابن ماجه جاء فيه : «قال رسول الله : لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ، ولا صلاة لمن لم يصلّ على النبي ، ولا صلاة لمن لم يحبّ الأنصار» (٢). ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد جاء فيه : «أنّ النبيّ جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه ، فقالوا : يا رسول الله إنّا لنرى السرور في وجهك! فقال : إنه أتاني الملك فقال يا محمّد أما يرضيك أن ربّك عزوجل يقول إنه لا يصلّ عليك أحد من أمتك إلّا صلّيت عليه عشرا ولا يسلّم عليك أحد إلّا سلّمت عليه عشرا» (٣). ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه : «أتاني آت من ربي عزوجل فقال : من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وردّ عليه مثلها» (٤). ومنها حديث جاء فيه : «من صلّى عليّ صلاة صلّت عليه الملائكة ما صلّى ، فليقلل العبد من ذلك أو ليكثر» (٥). ومنها حديث عن ابن مسعود قال : «قال لي رسول الله إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» (٦).

صلوات الله على سيدنا محمد وسلامه صلاة وسلاما متناسبين مع فضله وجهاده وعظمة منزلته ورفعة شأنه وأثر نوره الوهاج الذي سيبقى ساطعا في الخافقين والذي سيزداد سطوعا كلما استقامت عقول الناس وحسنت نواياهم واستنارت بصائرهم فاستبانوا سبل الهدى والسعادة بفضل ذلك النور والقرآن معجزة نبوّته العظمى.

__________________

(١) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير.

(٢) ابن كثير.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) البغوي وهناك أحاديث عديدة أخرى استوعبها ابن كثير من هذا الباب فاكتفينا بما تقدم.

(٦) المصدر نفسه.

٤١٥

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨)) [٥٧ ـ ٥٨].

تعليق على الآية

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧))

والآية التالية لها

عبارة الآيتين واضحة. وفيهما إنذار شديد بلعنة الله في الدنيا والآخرة وعذابه المهين لمن يؤذي الله ورسوله ، وبيان شدّة إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات وينسبون إليهم ما لم يصدر عنهم بقصد أذيتهم.

ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تزوجه صفية اليهودية وروى الخازن في نزول الآية الثانية ثلاث روايات بلفظ (قيل) إنها نزلت في الذين كانوا يؤذون علي بن أبي طالب بالكلام أو في الذين آذوا عائشة أو في الفساق والزناة الذين كانوا يتعرضون للنساء في الليل ويؤذونهم. وإلى هذا فقد قال المفسرون (١) إن أذى الله هو نسبة الولد والشريك والفقر إليه واتخاذ النصارى وعبادتها من دون الله والإلحاد في أسماء الله وصفاته وإن أذى النبي هو تكذيبه ونسبة السحر والشعر والكهانة والجنون والافتراء إليه وما كان من شجّ وجهه وكسر رباعيته في يوم أحد ، كما قالوا إن هناك محذوفا مقدرا في جملة يؤذون الله ، وهو : يؤذون أولياء الله.

وليس شيء من هذه الروايات في الصحاح ، والذي يتبادر لنا استئناسا بمضمونها ومضمون وروح الآيات السابقة واللاحقة أن الآيتين متصلتان موضوعا وسياقا بما قبلهما وما بعدهما ومعقبتان على ما قبلهما وممهدتان لما بعدهما ؛

__________________

(١) انظر أيضا الخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.

٤١٦

حيث احتوت الآيات السابقة تنبيها إلى عظم إثم من يؤذي رسول الله بأي شكل ؛ والآيات اللاحقة تعليما لنساء المؤمنين يجنبهن أذى الناس ، وإنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين إذا لم ينتهوا عن مواقفهم المؤذية. وهذا يوضح أن هذه الفئة هي التي كان يتوقع منها ويقع منها ما فيه أذى الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات فاستحقت ما احتوته الآيتان من اللعنة والإنذار.

والآيتان في حدّ ذاتهما جملة تامة. وإطلاق العبارة فيهما يجعلهما شاملين لكل نوع من أنواع الأذى وسوء الأدب والبذاءة والقذف والإحراج والبغي والغمز واللمز في حق الله وحق رسوله وحق المؤمنين والمؤمنات. وبهذا الاعتبار فإن فيهما تلقينا مستمر المدى في شجب الذين يصدر منهم شيء من مثل ذلك في كل وقت ومكان ومناسبة وفي التشنيع عليهم والدعوة إلى الوقوف منهم موقف الشدّة والتأنيب والتنكيل.

وجملة (بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات تزيد في قوة الإنذار بالإثم كما هو المتبادر.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين أحاديث عديدة. فمما رواه البغوي بطرقه حديث قدسي عن النبي جاء فيه : «قال الله يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار». وحديث قدسي آخر عن النبي جاء فيه : «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ومن أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة». ولقد أورد ابن كثير الحديثين وأورد بالإضافة إليهما أحاديث أخرى منها حديث رواه الإمام أحمد عن النبي جاء فيه : «من آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» (١). وحديث آخر أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة جاء فيه : «قال رسول الله أي الربا أربى عند الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» (٢). وبعض الأحاديث لم ترد في الصحاح ولا مانع من صحتها.

__________________

(١) هذا النص ورد في التاج برواية الشيخين وأبي داود والترمذي انظر ج ٣ ص ٢٧٢.

(٢) في التاج حديث قريب لهذا برواية أبي داود عن أبي هريرة ونصه : (إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق). التاج ج ٥ ص ٢٤.

٤١٧

وبعضها واردة وفيها تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩)) [٥٩]

(١) الجلباب : قيل إنه الملاءة التي تشتمل بها المرأة وقيل إنه المقنعة التي تغطي المرأة بها جبهتها ورأسها وقيل إنه الخمار الذي تستر به شقوق ثيابها.

في هذه الآية خطاب موجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر فيه بالإيعاز إلى أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين بضمّ جلابيبهن على أجسامهن حتى يعرفن بهذا الزيّ فلا يؤذين ببذيء الكلام.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٩)

وقد روى المفسرون (١) أن الفساق كانوا يتعرضون للنساء في الليل حين يذهبن لحاجاتهن بدون تفريق بين الحرائر والإماء والعفيفات وغير العفيفات وأن الآية نزلت لجعل زيّ خاصّ لحرائر المؤمنات يميزهن عن غيرهن حتى يسلمن من التعرض والأذى. ومنهم من قال إن الفساق كانوا إذا رأوا المرأة متجلببة كفوا عنها وقالوا إنها حرة. فأمرت الآية نساء المؤمنين بعدم إهمال الجلباب. وقد روى البغوي في سياق الآية عن أنس قال : «مرّت بعمر بن الخطاب جارية مقنّعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع أتتشبهين بالحرائر ألقي القناع» والروايات ليست في الصحاح ولكنها متسقة مع مضمون الآية وروحها كما هو المتبادر.

وتبدو الآية لأول وهلة مستقلة. غير أن من الممكن أن يلمح شيء من

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير.

٤١٨

الاتصال بينها وبين الآية السابقة لها التي نبهت على عظم إثم الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات ، وبينها وبين الآية التالية لها التي احتوت إنذارا قاصما للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة. وهذا الاتصال الذي نبهنا إليه في شرح الآيات السابقة يؤيد ما قلناه إن هذه الفئة هي التي كان يقع منها ما يؤذي الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات. والإيعاز كما هو واضح قد تناول زوجات النبي وبناته وسائر نساء المؤمنين. ونصّ الآية يفيد أن جميعهن كنّ يخرجن وتقع أعين الناس عليهن. وفي هذا قرينة أخرى على أن الحجاب الذي ذكر في الآية [٥٣] ليس النقاب.

وعلى أن الأمر بقرار نساء النبي الوارد في الآية [٣٣] ليس مطلقا وباتا. والنصّ يؤيد كذلك ما قلناه في سياق الآيات [٢٨ ـ ٣٤] من أن ما في هذه الآيات من أوامر وتنبيهات هو خاصّ بنساء النبي. ففي ذلك المقام اقتصر الكلام عليهن. ولما اقتضت الحكمة تعليم جميع المؤمنات إطلاقا ذكرن في جملتهن في هذا المقام.

وقد اختلف القول في الجلباب ومفهوم إدنائه. وأوجه الأقوال في الجلباب هو الملاءة أو العباءة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار. أما الإدناء فمن المفسرين من قال إنه تغطية الرأس والوجه. ومنهم من قال إنه ليس تغطية تامة للوجه وإنما هو تغطية جزئية بحيث يكشف عن العيون أو عين واحدة أو يغطي شقا من الوجه. وعلى كل حال فجملة (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) لا تفيد أن اتخاذ المؤمنات للجلباب شرعا إسلاميا جديدا وإن الذي تفيده هو أن اتخاذ النساء للجلباب كان زيّا ممارسا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرت بإدنائه كتعليم بزيّ خاص يعرف به المؤمنات ويفرّق به بين الحرائر والعواهر. ليمتنع بذلك أذى الفسقة والفجار عنهن.

وصيغة الآية تشريعية مستمرة الشمول من دون ريب. غير أن الذي يتبادر لنا من روحها وظرف نزولها أن شمول التشريع فيها قياسي أكثر منه شكليا. أي أنه يوجب على المؤمنات زيّا أو مظهرا خاصا يميزهن عن العواهر ويمنع عنهن أذى الفساق دون التقيد بنفس الشكل الذي كان جاريا وقت نزول الآية.

٤١٩

فأشكال اللباس والمعيشة والحياة عرضة للتبدّل والتطور ولقد بدأ هذا التبدل والتطور في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر عبر الأحقاب الإسلامية بدون حرج إلّا مما هو مخالف لروح الآيات القرآنية من الخلاعة والتهتك والتشبه بالعواهر. وهذا هو المتسق مع التشريع القرآني الإلهي ومع طبيعة الأمور التي يراعيها هذا التشريع في رسم المبادئ والقواعد وبيان الأهداف والغايات وعدم التقيد بالأشكال التي هي عرضة للتطور والتبدل حسب المكان والزمان والضرورة. هذا مع القول إن للنساء ولرجال المؤمنين اتخاذ ما يشاؤون من أشكال اللباس وطرق المعيشة في حدود الآداب الإسلامية. وليس من مانع للنساء أن يحتفظن إذا شئن بالجلباب أو الملاءة أو العباءة ، ويدنينها على وجوههن ورؤسهن كما يشأن. والله تعالى أعلم.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)) [٦٠ ـ ٦٢]

(١) المرجفون : من الإرجاف. وهو إشاعة الشائعات السيئة لتخويف الناس وإثارتهم.

(٢) المدينة : يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول.

في هذه الآيات :

١ ـ إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عمّا يبثونه من وساوس ودسائس ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيّه بهم ويسلّطه عليهم ويقدّره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا.

٤٢٠