التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

بعيدين عن مسرح الحرب.

(١٣) من قضى نحبه : من مات أو استشهد.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ...) إلخ

وما بعدها إلى آخر الآية [٢٥]

وشرح ظروف ومشاهد وقعة الأحزاب

عبارة الآيات مفهومة. وقد احتوت وصف مشهد زحف من أعداء المسلمين على المدينة أجمعت روايات التفسير والسيرة على أنه الوقعة التي عرفت في تاريخ السيرة النبوية بوقعة الأحزاب أو الخندق. وقد سميت بوقعة الأحزاب لأن الآيات سمّت الزاحفين الغزاة بالأحزاب. وسمّيت بوقعة الخندق لأن النبي والمسلمين قرروا حفر خندق لمنع الأحزاب من اقتحام المدينة.

ولم تقصد الآيات سرد وقائع الوقعة سردا قصصيا كما هو واضح من أسلوبها وإنما أشير فيها إلى بعض المواقف والآثار التي اقتضت حكمة التنزيل الإشارة إليها بقصد الموعظة والتنويه والتنديد كما هو شأن الأسلوب القرآني في القصص وفي الأحداث الجهادية في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصورة عامة.

وملخص ما ذكرته روايات التفسير والسيرة (١) عن هذه الوقعة أن النبي لما أجلى يهود بني النضير عن المدينة ذهب زعماؤهم إلى خيبر وتزعموا يهودها ثم ذهب منهم وفد إلى مكة فحرضوا زعماءها على غزو المدينة واستئصال شأفة النبي والمسلمين قبل أن يتفاقم خطره ووعدوهم بمظاهرة من بقي في المدينة من اليهود لهم والتحالف معهم إذا زحفوا على المدينة. وكان بنو قريظة هم الكتلة الكبيرة الباقية فأجابوهم وتعاهدوا معهم بعد إلحاح وضغط شديدين. ومما يروى أن

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير وانظر ابن هشام ج ٣ ص ٢٢٩ ـ ٢٥٠ وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٨ ـ ١١٦.

٣٦١

زعماء الطرفين ذهبوا إلى الكعبة وأقسموا على الثبات على المخالفة عند الأصنام التي كانت في فنائها وأن زعماء قريش استحلفوهم أن يقولوا إنهم هم الأهدى أم محمد فقالوا لهم هم الأهدى مما احتوته آية سورة النساء هذه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١) إشارة إليه على ما رواه المفسرون (١). ثم ذهب الوفد إلى قبائل غطفان وقيس وغيلان وحرضوهم وتحالفوا معهم. ولما أتمّت هذه الأحلاف أو الأحزاب جهازها زحفوا على المدينة ونزلوا على أطرافها وكان عددهم نحو عشرة آلاف أو أكثر وكانت قيادة قريش والأحزاب في يد أبي سفيان. وسعى زعماء بني النضير حتى جعلوا يهود بني قريظة الموجودين في المدينة ينقضون عهدهم مع المسلمين. وقد أرسل النبي زعيمي الأوس والخزرج ليستطلعا خبرهم فوجدوهم على أخبث حال حيث أنكروا ما بينهم وبين النبي والأنصار من عهود وأسفروا عن عدائهم ولؤمهم. وجرؤ المنافقون فأخذوا يثبطون همم إخوانهم ويثيرون فيهم الفزع ويسيئون أدبهم نحو الله ورسوله. وقد أدّى كل هذا إلى اضطراب المسلمين الذين وجدوا أنفسهم بين نارين من الأعداء من قدامهم وخلفهم ومخامرة من المنافقين بين صفوفهم. وجعل النبي وأصحابه يقررون حفر خندق حول المدينة من ناحية مكة ويعسكرون حوله للدفاع ويرفعون النساء والأولاد إلى الهضاب والجبال. وقد أتموا حفر الخندق برغم ما نالهم من جهد وشارك النبي في العمل وعسكروا وراءه وكان عددهم ثلاثة آلاف. وقد حال الخندق كما كان مقدرا دون اشتباك المسلمين مع الأحزاب في معركة وزحف عام ولم يقع بينهم إلّا حوادث قتال وبراز فردية وتراشق بالنبال. ولم يصب من الطرفين إلّا قليل. وظل الأحزاب يحاصرون المدينة نحو عشرين يوما. وقد جاء في هذه الأثناء شخص من غطفان اسمه نعيم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان مؤمنا يكتم إيمانه عن قومه وسأله عما يجب عليه أن يفعله لصالح المسلمين فأمره بالتخذيل والتثبيط في

__________________

(١) انظر كتب التفسير المذكورة آنفا وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٠.

٣٦٢

صفوف الأعداء. فسعى بين اليهود والأحزاب حتى أوجد شكا في كل من الطرفين نحو الآخر ثم ثارت زوبعة شديدة أزعجت الأحزاب إزعاجا شديدا فاشتدّ فيهم السأم والفتور وألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يلبث أبو سفيان أن قرر الارتحال فارتحل وارتحل معه القرشيون والمكيون ثم ارتحل برحيلهم بقية الأحزاب من القبائل. وهكذا ردّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال. وكانت الوقعة في شهر شوال للسنة الهجرية الخامسة.

وظاهر أن الآيات لا تحتوي إلّا القليل مما جاء في الروايات. ومع ما تتحمله هذه الروايات من بعض الملاحظات فإن ما جاء في الآيات متسق معها إجمالا.

ولقد احتوت الآيات وصفا لآثار الزحف في صفوف المسلمين وحملة تقريع شديدة على المنافقين ، ولمواقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخلصين من المؤمنين بأسلوب قوي يفوق في روعته ما جاء في الروايات. وفيه شيء من التماثل في المعالجة والتقرير والتنديد والتلقين لما في الآيات الواردة في سورة آل عمران في صدد وقعة أحد.

والمستفاد منها :

١ ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قطب الرحى في الموقف وعموده الراسخ الثابت الذي لم يتزلزل مما ينطوي خاصة في الآية [٢١] التي دعت المسلمين ليكون لهم منه الأسوة الحسنة.

٢ ـ أن اضطرابا شديدا ألمّ بالمسلمين بسبب كثرة الغزاة وقوّة جهازهم وموقف اليهود الغادر الذين كانوا من ورائهم. ثم تميزوا فالفئة المخلصة الصادقة التفّت حول النبي وأيدته وأظهرت استعدادها التام للدفاع والقتال واعتبرت الزحف اختيارا ربانيا من نوع ما أخبرهم الله به واعتزمت على الصدق والثبات وازدادت إيمانا وتسليما له فكانت موضع ثناء الله وتنويهه العظيمين في الآيات [٢٢ ـ ٢٣] أما المنافقون ومرضى القلوب فلم يتورعوا من التظاهر بالكفر والجحود وإساءة الأدب مع الله ورسوله في مثل قولهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢) والتثبيط

٣٦٣

ودعوة إخوانهم إلى العودة إلى بيوتهم والفرار من الميدان بحجة كاذبة. ويظهر أنهم كانوا وعدوا النبي بأن لا يفروا من الميدان وأن لا يقعدوا عن القتال ولعل ذلك كان بعد وقعة أحد التي وقفوا فيها موقفا شديد النكاية استحقوا من أجله حملة شديدة في سورة آل عمران فذكرت الآيات [١٥ ـ ١٨] كل ذلك وحملت عليهم حملة شديدة قارعة تدل على ما كان لموقفهم من أثر شديد في نفس النبي والمخلصين وفي الموقف كله ، وقد وصفوا بالفزع الشديد حينما يرون الخطر ، والبذاءة الشديدة حينما يزول ، وبالشح على الخير وعلى كل نفع للمؤمنين المخلصين وبأنهم لم يكونوا يترددون طويلا لو دخل الأعداء المدينة في إعلان كفرهم وارتدادهم عن الإسلام إلى الشرك. وبأنهم لم يصدقوا حينما قيل لهم إن الأحزاب ارتدوا خائبين عن المدينة وظنوا أنهم لن يلبثوا أن يعودوا وتمنوا لو أنهم في البادية يتسمعون أخبار السوء عن المسلمين دون أن يشهدوا معهم الحرب والقتال جبنا وكيدا حيث ينطوي في هذه الأوصاف صور قوية لما كانت عليه حالة المنافقين.

ومع ذلك كله فقد اقتضت حكمة التنزيل بعد أن كشف الله الغمة عن المسلمين أن يظل الباب مفتوحا أمامهم يؤملون منه توبة الله عليهم وعفوه عنهم على ما جاء في الآية [٢٤] حيث انطوى في هذا توكيد لما نبهنا عليه أكثر من مرة لكون ما ورد عن المنافقين في هذه الآيات وغيرها وهو تسجيل لواقعهم ولكون هدف الرسالة المحمدية والدعوة القرآنية هو إصلاح الناس واستصلاحهم وهدايتهم وإبقاء الباب مفتوحا دائما للتائبين والمستغفرين منهم. ولقد تاب كثير من المنافقين وأخلصوا فكان في ذلك مصداق لذلك.

هذا ، ومن الواضح أن الوصف الذي احتوته الآيات للمخلصين والمنافقين ومواقفهم مما يظهر في ظروف النضال والجهاد في كل وقت ومكان. ولذلك فإن ما جاء فيها في صدد كل من الفئتين يظل مستمر المدى في تلقينه وعبرته.

ولقد روى الطبري أن المعنيين في الآية [١٥] هم جماعة بني حارثة الذين

٣٦٤

همّوا أن يفشلوا يوم أحد على ما ذكرته آيات سورة آل عمران. ونحن نتوقف في هذا. فهؤلاء قد ثبتوا وعفا الله عنهم كما جاء في آيات هذه السورة أيضا والسياق في صدد المنافقين ، ونرجح بل نجزم أنهم هم المعنيون في الآية. ولقد كان هؤلاء تخاذلوا يوم أحد ونرجح أنهم عاهدوا رسول الله والمؤمنين على أن لا يكرروا موقفهم فكذبوا وكرروه فاستحقوا ما احتوته الآيات من حملة قارعة مع مقابلة ذلك بما فعله المخلصون من الوفاء بما عاهدوا عليه فكان منهم من استشهد في هذه المعركة وقبلها ومنهم من ينتظر حتى يكون من مصداق ما عاهدوا الله عليه دون انحراف.

ومما رواه ابن هشام (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى قائدي قبائل غطفان يساومهما على الرجوع عن المدينة مقابل ثلث ثمارها فقبلا فاستدعى زعيمي الأوس والخزرج واستشارهما فسألاه هل هذا من الله أم من صنعك قال بل من صنعي حيث رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ لقد كنا وهؤلاء على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا ثمرة منها إلّا من قرى أو بيعا. أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا به وبك نعطيهم أموالنا. والله لا نعطيهم إلّا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فرجع رسول الله حينئذ عن رأيه حيث ينطوي في الخبر صورة رائعة من قوة نفوس المؤمنين وشجاعتهم واعتزازهم بالإسلام. وتلقين مستمر المدى سواء فيما كان من تفكير رسول الله في المساومة كتدبير وقائي ودفاعي في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون أم في رجوعه عنه لأنه كان اجتهادا منه.

ولقد روى البخاري وابن هشام خبر معجزات نبوية حدثت أثناء الخندق (٢). منها إشباع أهل الخندق بثمرات قليلة بسطها رسول الله على ثوب ، وإشباعهم بطعام من صاع برّ وذبيحة صغيرة صنعته زوجة جابر بن عبد الله لما قال لها إنه رأى

__________________

(١) ابن هشام ج ٣ ٢٢٩ و ٢٣٠.

(٢) انظر التاج ، ج ٣ ص ٢٥٠ و ٢٥١ ، وابن هشام ج ٣ ص ٢٣٣ ـ ٢٣٩ وروى الطبري وغيره هذه المعجزات أيضا في سياق تفسير الآيات.

٣٦٥

في رسول الله خمصا شديدا. ومنها خبر صخرة استعصت على الحفارين من أصحاب رسول الله فضربها رسول الله فكانت تبرق تحت ضرباته حتى اقتلعها وسأله سلمان الفارسي عن البرقات فقال إن الله بشرني بالأولى بفتح اليمن وبالثانية بفتح الشام والمغرب وبالثالثة بفتح المشرق.

ولقد روى الشيخان عن أنس قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم.

فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال :

اللهمّ إن العيش عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة

فقالوا له مجيبين :

نحن الذين بايعوا محمّدا

على الجهاد ما بقينا أبدا» (١)

ورويا كذلك عن البراء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوم الأحزاب ينقل معهم التراب ، وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول :

«والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الألى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته أبينا أبينا» (٢)

حيث ينطوي في الحديثين صورة رائعة من مواساة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وتشجيعهم ومشاركتهم فيها عظيم الأسوة والتلقين.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٧٤.

(٢) المصدر نفسه ص ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٣٦٦

وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧)) [٢٦ ـ ٢٧]

(١) ظاهروهم : ناصروهم.

(٢) صياصيهم : حصونهم.

تعليق على الآية

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ ...) إلخ

والآية التالية لها وشرح وقعة بني قريظة

عبارة الآيتين مفهومة. وقد احتوت إشارة إلى مشهد جهادي ضد فريق من أهل الكتاب. وتجمع روايات التفسير والسيرة على أنهم يهود بني قريظة في المدينة.

ومما ذكرته هذه الروايات أن جبريل أتى النبي فور انصراف الأحزاب وبلّغه وجوب الزحف حالا على بني قريظة فأرسل مناديا ينادي «من كان سامعا مطيعا فلا يصلين إلّا ببني قريظة» حيث ينطوي في هذا شدة أثر ما أظهره بنو قريظة من غدر وعداء في الموقف العصيب الذي نجم من زحف أحزاب المشركين من كل صوب. وعبارة (ظاهَرُوهُمْ) تلهم أنه بدا منهم أثناء حصار الأحزاب للمدينة أعمال ضارة بالمسلمين مظاهرة للأحزاب ؛ مما أثار في نفوس النبي وأصحابه الغيظ والسخط فوق ما أثاره إنكارهم لعهد رسول الله وإعلانهم العداء للمسلمين أمام زعيمي الأوس والخزرج على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة.

وملخص ما جاء في الروايات عن هذه الوقعة (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصرهم مع المسلمين خمسا وعشرين ليلة ولم يقبل منهم إلّا الاستسلام بدون قيد وشرط. فلم

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير ثم ابن هشام ج ٣ ص ٢٥٢ ـ ٢٧١ ، وابن سعد ج ٣ ص ١١٧ ـ ١٢١. وبعض ما جاء في هذه الخلاصة ورد في أحاديث صحيحة عديدة أيضا. انظر التاج ج ٤ ص ٣٧٦ و ٣٧٧.

٣٦٧

يكن لهم مناص من ذلك لما ضاق الخناق عليهم.

ولقد كانوا حلفاء الأوس فقال بعضهم لرسول الله إنهم موالينا فارفق بهم كما رفقت بموالي إخواننا الخزرج ـ يعنون بذلك بني قينقاع وبني النضير الذين قبل شفاعة الخزرج فيهم واكتفى بإجلائهم ـ فقال لهم هل ترضون أن يكون الحكم فيهم واحدا منكم قالوا بلى قال فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان زعيمهم. وكان أصابه في حصار الخندق سهم فأمر النبي بنقله إلى خيمة في مسجده ووكل به امرأة مؤمنة من قبيلة أسلم كانت خبيرة بمداواة الجرحى. فجاءه بعض قومه وأبلغوه ذلك وحملوه على حمار وساروا في ركابه وهم يقولون له أحسن يا أبا عمرو في مواليك فقد ولاك رسول الله أمرهم فلما جاء إلى النبي وأبلغه قرار تحكيمه فيهم قال : آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم وإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسّم الأموال فبادره النبي قائلا : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. (أي سموات)» ثم نفذ الحكم فيهم عدا بعض أفراد أعلنوا إسلامهم فعصموا دماءهم وأموالهم.

ومما روي أن ما صادره رسول الله منهم ١٥٠٠ سيف و ٣٠٠ درع و ٢٠٠٠ رمح و ١٥٠٠ ترس وحجفة وخمر عدا كثير من الجمال النواضح والماشية. وكان عدد الذين قتلوا بين ٦٠٠ و ٧٠٠ وفي رواية ٤٠٠ واستثنى من القتل من لم ينبت شاربه وأسروا مع النساء والأطفال واعتبر الجميع رقيقا وأرسل قسم منهم على اختلاف في الروايات في عددهم إلى نجد حيث بيعوا واشتري بثمنهم خيل وسلاح (١).

ومما روي كذلك (٢) أن بني قريظة طلبوا من النبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر الأوسي ليستشيروه في أمرهم فأرسله إليهم فسألوه عما إذا كان ينصحهم أن ينزلوا على حكم النبي وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه

__________________

(١) انظر كتب التفسير وأجزاء وصحف ابن هشام وابن سعد السابقة الذكر.

(٢) المصدر نفسه.

٣٦٨

فرقّ لهم وقال نعم ، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني أن مصيرهم في هذه الحالة هو الذبح ، وأن أبا لبابة شعر أنه قد خان الله ورسوله فانطلق على وجهه إلى مسجد رسول الله فربط نفسه بعمود وقال لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت ، فبلغ ذلك النبي فقال أما إنه لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه وظلّ على حاله أياما ثم هتف النبي لقد تيب على أبي لبابة فبادرت أم سلمة وكان عندها فهتفت من باب حجرتها على أبي لبابة تبشره ، ولما خرج النبي إلى صلاة الصبح أطلقه بيده حيث ينطوي في هذا صورة رائعة من صور العهد النبوي.

ولقد انتقد بعض المستشرقين قسوة الحكم والتنكيل. وليس في نقدهم حق وصدق فالآية صريحة بأن اليهود ظاهروا الأحزاب. وهذا يعني أنه بدا منهم موقف حربي ما في الظرف العصيب الذي واجهه المسلمون والذي تعرضوا فيه لخطر الإبادة والاستئصال والذي وصفته الآيات أشد وصف. وتعجيل النداء للمسلمين بالسير نحوهم يوم انصراف الأحزاب بدون تريث دليل على ما كان من شدّة أثر موقفهم الطارد في نفوس النبي والمسلمين. ولقد غرّهم الموقف واستبشروا بزحف الأحزاب إلى درجة أنهم لم يتورعوا عن إنكار عهدهم وردّ زعيمي الأوس والخزرج ذلك الردّ اللئيم الذي رويناه قبل والذي جرح قلب زعيم الأوس حليفهم أشد جرح ، بل ولقد استمروا في موقفهم بعد انصراف الأحزاب حيث روى الطبري أنهم أخذوا يبذأون في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما دنت طلائعه لحصارهم على مسمع من حامل الراية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فلا جرم أن يكون عقابهم مناسبا مع موقفهم اللئيم الغادر. ولا سيما إنهم لم يعتبروا بإجلاء بني قينقاع وبني النضير قبلهم. ومع ذلك كله فإن القتل اقتصر على المقاتلة بعد أن عرض عليهم الإسلام فأباه أكثرهم وآمن أفراد منهم فسلموا. واستثنى من القتل الأولاد والنساء وفي كل هذا من التسامح والحلم ما يخالف ما سجلته الأسفار من خططهم الرهيبة تجاه أعدائهم حينما ينتصرون عليهم.

ولقد قال المفسرون إن الأرض التي أورثها الله المسلمين دون أن يطؤوها

٣٦٩

على ما جاء في الآية الثانية هي أرض خيبر. وإن عبارة الآية بمثابة بشرى سابقة وهناك من أغرب فقال إنها مكة أو بلاد الروم وبلاد فارس (١). والذي يستلهم من روح الآية ومضمونها أنها أرض كان يملكها بنو قريظة بعيدة عن مساكنهم استولى عليها المسلمون في ظروف الوقعة في جملة ما استولوا عليه من أموالهم وأملاكهم.

هذا ، والذي نرجحه أن الآيتين نزلتا مع الآيات السابقة في سياق واحد. وأن هذه وتلك قد نزلتا بعد الوقعتين بسبيل ما احتوته من تعقيب وتذكير وتنويه وتنديد ومنّ بفضل الله ونصره.

هذا ، والآية [٢٦] وإن كانت حكت ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في بني قريظة فإنها انطوت على إقرار رباني لما فعلوه جزاء الموقف الشديد الخطورة من الغدر والخيانة الذي وقفوه. ولقد كان نزولهم على حكم النبي بمثابة استسلام واستئسار. فبعدما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقرّه الله عليه من قتل بعضهم واسترقاق بعضهم تشريعا يقاس عليه في الظروف المتأتية والله تعالى أعلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي.

٣٧٠

الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤)) [٢٨ ـ ٣٤]

(١) فاحشة : هنا بمعنى المعصية الكبيرة والنشوز وسوء الخلق على ما رواه المفسرون عن ابن عباس وغيره.

(٢) قرن : من القرار أي أسكنّ أو التزمن بيوتكن.

(٣) التبرّج : إظهار المرأة محاسنها للناس عن قصد.

(٤) الرجس : هنا بمعنى ما ليس فيه لله رضا من أعمال ومظاهر منكرة ومريبة وآثمة.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها

فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) (٢٨)

وما بعدها إلى آخر الآية [٣٤]

عبارة الآيات مفهومة. وقد روى المفسرون (١) روايات مختلفة في مناسبة نزولها. منها أنها نزلت في حادث غيرة غارتها عائشة. ومنها أنها نزلت في مناسبة مطالبة بعض نساء النبي بزيادة النفقة وأن هذا قد أزعجه وأحزنه حتى حلف أن يهجر نساءه شهرا. ومسألة الغيرة واليمين رويا في مناسبة الآيات الخمس الأولى من سورة التحريم. وفحوى آيات سورة التحريم يتسق مع ذلك أكثر. ولقد روي أن أبا بكر استأذن على رسول الله والناس على بابه جلوس فلم يأذن. ثم جاء عمر فاستأذن فلم يأذن. ثم أذن لهما فدخلا فوجداه جالسا ساكنا واجما ونساؤه حوله فقال عمر لأقولن شيئا أضحك به رسول الله فقال يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة ـ يعني زوجته ـ سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك رسول الله

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٧١

وقال هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة فوجأ عنقها. وقام عمر إلى حفصة فوجأ عنقها وكلاهما يقول لابنته لا تسألي رسول الله شيئا (١). وترتيب الآيات يلهم بقوة أن هذه الرواية كمناسبة لنزولها هي الأوجه.

فالآيات فصل مستأنف لا صلة موضوعية لها بالآيات السابقة. غير أن مجيئها بعدها مباشرة يورد على البال أن تكون مطالبة نساء النبي كانت بعد أن فتح الله على النبي والمسلمين من أموال بني قريظة. والآيتان الأوليان تلهمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعيش في بيته عيشة شظف وزهد وهو ما أيّدته الروايات التي تبلغ حدّ اليقين كثرة وتواترا. فلما وسّع الله بما وسّع ظنّ نساء النبي أنه آن لهن أن ينعمن بالحياة وتتسع نفقاتهن فطالبن بما طالبن. ولهذا من المحتمل كثيرا أن تكون المطالبة وقعت عقب تقسيم أموال بني قريظة وأخذ النبي خمسها المخصص لله وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل على ما نصّت عليه آية سورة الأنفال [٤١]. وأن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية.

وأسلوب الآيات وبخاصة الأوليين وما ذكرته الروايات من انزعاج النبي من مطالبة نسائه بالتوسع في النفقة يلهم أن الفقر لم يكن هو الذي جعله يعيش عيشة الزهد والشظف وإنما كان ذلك بسبب استغراقه في الله ودعوته وصالح المسلمين استغراقا لم يبق معه محل للتفكير في نعيم الدنيا ومتاعها فلم يلبث الوحي أن نزل بهذا الفصل الرائع في أسلوبه وتلقينه ومداه : فواجبات النبوة أعظم من أن تتسع للحياة الدنيا وزينتها. وإيمان النبي بمهمته واستغراقه فيها يملان كل فراغ منه. وسد الخلّة بالكفاف هو كل الكفاية بالنسبة للمظهر أو الاحتياج الإنساني المادي في النبي. وما دخل في حيازته فهو لصالح المسلمين بعد التصرف بما فيه الكفاف لعيشته. ونساء النبي جزء منه ليس لهن معدى من السير بسيرته إذا كنّ يفضلن البقاء في عصمته والاحتفاظ بشرف الصلة العظيم به. ولسن هن عند الله كسائر النساء

__________________

(١) نقلت الرواية من البغوي وفي كتب التفسير الأخرى نصوص متفقة في الجوهر مع بعض تغاير.

٣٧٢

وبخاصة إذا اتقين. ومن أجل هذا فعذابهن على ما يقترفن من إثم ومعصية وثوابهن على ما يفعلن من صالح ويظهرن من الطاعة لله ولرسوله مضاعفان. وليس يليق بهن كثرة الخروج والتبرّج واللين في القول وإطماع مرضى القلوب بهن. وليذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ففي ذلك من الاختصاص الرباني والفضل ما يغنيهن عن أي شيء. وليعلمن أن الله إنما يريد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن تطهيرا. أما إذا أصررن على مطلبهن فلسن منه وليس منهن. فإن له من واجباته ومهمته ولذائذه الروحية ما يشغله عن ذلك كله. ولا يكون لهن عليه والحالة هذه إلّا أن يسرحهن بعد أن يعطيهن ما يحسن من تعويض يتمتعن به.

وهكذا تكون الآيات قد احتوت الإشارة إلى صفحة رائعة من حياة النبي الخصوصية فيها كل القوة وكل الصميمية. وفيها ردّ مفحم على من حاول أن يغمز النبي ويوهم أنه استغرق في ملاذ الدنيا وشهواتها ونعيمها حينما تيسرت أموره وكثرت الأموال بين يديه. أما مسألة تعدد زوجاته التي غمزوه بها أيضا فليست من هذا الباب وستكون موضوع بحث وشرح في مناسبة أخرى. وعلى ضوء هذا وعلى ضوء آيات أخرى منها آيات سورة الأعراف هذه (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [٣٢] وآية سورة المائدة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (٨٨).

يمكن أن يقال إن الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخيير أزواجه بين الله ورسوله والدار الآخرة وبين الحياة الدنيا وزينتها هو أمر من خصوصيات النبي وأزواجه وليس في ذلك ما يمنع سائر المسلمين من أن يستمتعوا بطيبات ما أحلّ الله لهم وزينة الحياة الدنيا التي أخرج الله لعباده على أن يكون بدون إسراف ولا استغراق.

والروايات مجمعة على أن نساء النبي قد اخترن الله ورسوله وشرف الصلة بالنبي وانتهى الموقف بذلك راضية نفسه وراضية نفوسهن معا. ومما روي في

٣٧٣

صدد ذلك «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما نزلت عليه الآيات بدأ بعائشة رضي الله عنها فقال لها إني أذكر لك أمرا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت وما هو؟ فتلا عليها الآيات فقالت أفيك أستأمر أبويّ بل أختار الله ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال إن الله تعالى لم يبعثني معنتا ولكن بعثني معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلّا أخبرتها. ثم خيّر نساءه واحدة فواحدة فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة» (١).

ولقد روى الشيخان والترمذي هذا الحديث بخلاف يسير حيث رووا عن عائشة أنها قالت : «لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه ثم قال إن الله جلّ ثناؤه قال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلى تمام الآيتين فقلت له ففي أي شيء أستأمر أبويّ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم فعل أزواج النبي مثل ما فعلت» (٢).

ومما ذكره المفسرون أنه كان يومئذ تحت رسول الله تسع زوجات هن عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وسودة وصفية وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وجويرية المصطلقية. مع أن بعض الروايات تذكر أن النبي تزوج صفية بعد وقعة خيبر التي كانت بعد صلح الحديبية أي بعد وقعة الخندق وبني قريظة بنحو سنة ونصف. وتزوج ميمونة أثناء زيارته للكعبة التي كانت بعد سنة من صلح الحديبية. وتزوج أم حبيبة بعد صلح الحديبية حيث كانت في الحبشة إلى هذا الوقت. وقد أرّخ الرواة وقعة بني قريظة بشهر ذي القعدة من السنة الهجرية الخامسة (٣). ولذلك فنحن نتوقف فيما رواه المفسرون من عدد زوجات النبي حين نزول الآيات إذا كان ما يلهمه السياق من أنها نزلت عقب وقعة بني قريظة صحيحا.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ١٨٤.

(٣) انظر كتب التفسير المذكورة وابن هشام ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٣٨ و ٣٨٨ و ٤١٧ و ٤٢٦.

٣٧٤

ويأتي بعد في هذه السورة آيات فيها تشريع إقراري لما تزوجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زوجات وتشريع يمنع تزوجه بزوجات أخرى بعد ذلك فنرجح أن العدد المروي هو في صدد ذلك. أما زوجات النبي في وقت التخيير إذا صحّ أنه عقب وقعة بني قريظة فهن عائشة وحفصة وأم سلمة وسودة وجويرية. ولعلّ اللتين طالبتا بالنفقة هما الأوليان. وقد يستلهم هذا مما روي من شدة أبي بكر وعمر لابنتيهما هاتين حينما قال لهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هن حولي كما ترى يسألنني النفقة على ما أوردناه قبل. والله تعالى أعلم.

هذا ، وكلمة (الرِّجْسَ) في القرآن جاءت بمعنى النجاسة المادية كما هو ملموح في آية الأنعام (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) [١٤٥] وجاءت بمعنى النجاسة المعنوية كما هو ملموح في آيات كثيرة منها آية سورة المائدة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (١) [٩٠] وقد تكون في الآية [٣٤] من الآيات التي نحن في صددها شاملة للنوعين بحيث يكون معنى الجملة التي جاءت فيها أن الله إنما يريد بما وصّى به أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبههم إليه هو أن يجنبهم كل ما فيه نجاسة وقذارة وإثم وانحراف ويطهرهم من ذلك تطهيرا تاما. وفي هذا ما فيه من عظم الرعاية الربانية لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي تأويل جملة (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) روى المفسرون عن ابن عباس أنها عنت النشوز والمعصية وسوء الخلق. ولا بأس في هذا التأويل. وقد يتسق مع الآية التي تلي الجملة التي تنوّه بمن تطيع الله ورسوله وتعمل صالحا. مع القول إنها تتحمل أن يكون معناها (الزنا) أيضا وقد يكون في جملة (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قرينة على ذلك والله أعلم.

__________________

(١) انظر آيات التوبة [٩٦ و ١٢٦] والحج [٣٠] مثلا. وقد جاءت في آيات أخرى بمعنى عذاب الله وغضبه كما هو في آيات الأعراف [٧٠] والأنعام [١٢٥] ويونس [١٠٠].

٣٧٥

وفي تأويل جملة (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) روى المفسرون أنها عنت عدم الليونة في الكلام وترقيقه بأسلوب يثير الشهوة في الفاسقين والمنافقين ويجعلهم يطمعن في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نستبعد ونستغرب هذا. ويتبادر لنا والله أعلم أن في العبارة تحذيرا لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألّا يتجاوزن في أقوالهن وأفعالهن ما رسم رسوله حتى لا يظن مرضى القلوب أن ذلك التجاوز بترخيص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي تأويل النهي عن التبرّج روى المفسرون أنه في صدد النهي عن إظهار الزينة وإبراز المفاتن أمام غير المحارم. وهو تأويل وجيه. وتفيد جملة (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أن نساء العرب قبل البعثة كنّ يفعلن ذلك. ولقد نهى النساء عن إظهار مفاتنهنّ وزينتهنّ أمام غير المحارم في إحدى آيات سورة النور ، وهذا مما يلهم ذاك ، وبسبيل توكيد نهيه لنساء المسلمين عامة.

وهناك من أوّل جملة (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) بمعنى (الزمن الوقار والسكينة في بيوتكن). وهناك من أوّلها بمعنى (المكوث في البيوت وعدم الخروج). وقد يكون التأويل الثاني هو الأوجه مع التنبيه على أن الأمر لم يكن يعني عدم خروجهن بالمرة ، وإنما يعني عدم الإكثار من الخروج على غير ضرورة. وروح العبارة يلهم هذا فيما نعتقد. فهناك حاجات وضرورات ملزمة للخروج. والروايات متواترة على أن نساء النبي كن يخرجن في حاجاتهن وضروراتهن في حياة النبي وبعده ... ولقد روى الشيخان عن عائشة حديثا جاء فيه : «خرجت سودة لحاجتها بعد أن نزل الحجاب وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر فقال يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين. فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي يتعشّى وبيده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» (١). وننبه على كل حال أن الآيات صريحة بأنها

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ١٨٨ و ١٨٩.

٣٧٦

موجهة إلى نساء النبي بخاصة وقد احتوت تعليلا حكيما لما فيها من أوامر وتنبيهات.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة حديثا رواه البزار عن أنس جاء فيه : «جئن النساء إلى رسول الله فقلن يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين فقال من قعدت في بيتها منكن فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله». وحديثا ثانيا رواه البزار أيضا جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها». والحديثان ليسا من الصحاح. والآية [١٩٥] من آل عمران تجمع الرجال والنساء معا في الهجرة والقتال في سبيل الله على ما شرحناه في تفسيرها. وهناك آيات في سورة النور تلهم جواز خروج النساء وقضاء حاجاتهن المتنوعة في نطاق الاحتشام والبعد عن أسباب الفتنة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وهناك أحاديث عديدة صحيحة تذكر أن المؤمنات كنّ يخرجن مع رسول الله وغيره للجهاد. من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس قال : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزو بأمّ سليم ونسوة من الأنصار معه فيسقين الماء ويداوين الجرحى» (١). وحديث رواه الشيخان عن أنس قال : «لمّا كان يوم أحد انهزم الناس عن النبيّ ، وقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمّ سليم مشمّرتين أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم» (٢). وحديث رواه البخاري جاء فيه : «قالت الربيع بنت معوّذ كنّا نغزو مع النبيّ فنسقي القوم ونخدمهم ونردّ الجرحى والقتلى إلى المدينة» (٣). وحديث رواه مسلم جاء فيه : «قالت أمّ عطية غزوت مع النبيّ سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى» (٤). يضاف إلى هذا التواتر الذي لم ينقطع في تردد

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ٣٠٦ و ٣٠٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٣٧٧

النساء كلما شئن على المساجد واشتراكهن بصلاة الجماعة مع الرجال. وهناك حديث رواه الشيخان وأبو داود عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (١). وليس هناك أي حديث صحيح فيما اطلعنا عليه يمنع خروج المرأة للجهاد والصلاة والحاجات الأخرى التي تقتضيها طبائع الحياة وما وهب الله المرأة من مواهب. وما أقرها القرآن والسنة لها من حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية مما مرت منه صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي سبق تفسيرها ومما سوف يمرّ منه من صور وأمثلة ومؤيدات في السور التي يجيء تفسيرها بعد ، بحيث يسوغ التوقف إزاء الحديثين أو حملهما على محمل التحذير والتنبيه بسبيل اتقاء الفتنة ودواعيها إذا صحّا. والله تعالى أعلم.

هذا ، ومع أن مقام النبوة في عظمة أخلاق النبي وإيمانه وروحه واستغراقه في الله ودعوته لا يمكن أن يدانى. ومع أن الآيات متعلقة بخصوصيات النبي وزوجاته موضوعا وظرفا فإن هذا لا يمنع أن تكون منبع إلهام فياض ومدد تلقين جليل لكلّ من يتصدّر للزعامة السياسية والإصلاحية والجهادية استلهاما من الآية [٢١] من آيات السورة التي تحثّ المؤمنين على اتخاذ رسول الله لهم أسوة حسنة. ولقد حمّلت الآيات نساء النبي واجبات مهمة في تقدير مركزهن بالنسبة لخطورة مركز النبي. وفي هذا المعنى تلقين جليل لنساء زعماء المسلمين وقوادهم بل وعامتهم كما هو المتبادر ...

تعليق على تعبير

(الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى)

كتبنا تعليقا على تعبير (الجاهلية) في تفسير سورة آل عمران. وقد رجحنا أن إطلاق هذا التعبير على دور ما قبل الإسلام هو إطلاق قرآني. ولقد أورد المفسرون في سياق تعبير (الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) في الآيات التي نحن في صددها أقوالا معزوة

__________________

(١) التاج ، ج ١ ص ٢١١.

٣٧٨

إلى ابن عباس وغيره مفادها أن دور الجاهلية الذي سبق البعثة دوران الأول هو الذي كان ما بين زمن نوح وإدريس أو قبل عيسى عليهم‌السلام والثاني هو ما بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام.

ويبدو لنا أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات وإظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل البعثة وقد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. وهو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. وعلى كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر لنا هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه ويمارسونه قبل البعثة. لأن ذلك لا ينبغي للمؤمنات وبخاصة لزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تعليق على ما روي من أحاديث

في صدد تعبير (أَهْلَ الْبَيْتِ)

ومع أن دلالة الآيات صريحة كل الصراحة في كون تعبير (أَهْلَ الْبَيْتِ) في الآية [٣٣] هو كناية عن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللائي هن موضوع الخطاب فيها وراجع إليهن فقد رويت بعض أحاديث تدخل في شمولها غير نساء النبي بل ويخرج بعضها نساء النبي من شمولها. منها حديث رواه مسلم والترمذي عن أم سلمة أم المؤمنين جاء فيه : «نزلت الآية (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) في بيتي فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجلّلهم بكساء وعليّ خلف ظهره ثم قال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقلت : وأنا معهم يا رسول الله؟ قال : أنت على مكانك وأنت إلى خير» (١). ومنها حديث عن عائشة أم المؤمنين رواه مسلم والترمذي جاء فيه : «خرج النبي غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ثمّ جاء الحسين

__________________

(١) التاج ، ج ٣ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٣٧٩

فأدخله ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣)» (١). ومنها حديث رواه مسلم عن الحصين عن زيد بن أرقم جاء فيه فيما جاء : «أنّ النبيّ قال : أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي أذكّركم في أهل بيتي. فسأل الحصين زيدا : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه؟ قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم من الصدقة بعده وهم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وفي رواية قال الحصين من أهل بيته ، نساؤه؟ قال زيد : لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا من الصدقة بعده» (٢). وإلى هذا فهناك أحاديث أخرى عن النبي رواها المفسرون في سياق تفسير الآية لم ترد في الكتب الخمسة ، منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن أنس بن مالك جاء فيه : «أن النبيّ كان يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» (٣). ومنها حديث عن عائشة جوابا على سؤال سألتها أم مجمع عن أحبّ الناس إلى رسول الله فقالت : «لقد رأيت رسول الله جمع عليا وفاطمة وحسنا وحسينا بثوب ثمّ قال اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فقلت : يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال : تنحي فإنك إلى خير» (٤). ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة» (٥). ومنها حديث عن سعد قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نزول الوحي عليه بالآية أخذ عليا وابنيه وفاطمة وأدخلهم

__________________

(١) التاج ، ج ٣ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) انظر تفسير الطبرسي وابن كثير والطبري والبغوي.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٣٨٠