التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

ويلفت النظر بخاصة إلى الأسلوب الاستدراكي الذي تضمنته الآية [١٠]. فهذه الروحانية التي شملتهم وجعلتهم يشعرون ما أخبر الله به بعد المعركة بأن الملائكة يقاتلون معهم إنما كانت للتطمين والبشرى. وإلّا فالنصر هو من الله عزوجل. والمتبادر أن هذا الاستدراك قد استهدف نزع ما قد يمكن أن يعلق في ذهن أحد من المسلمين من عقيدة تأثير الملائكة. وهي العقيدة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام. وكان العرب بقوتها يعبدون الملائكة تقربا بهم إلى الله ، وفي هذا ما فيه من التلقين التوحيدي البليغ المستمر المدى.

وفي صدد ما جاء في الآيات من غشيان النعاس للمسلمين والمطر الذي أنزله الله عليهم من السماء نقول : إن المسلمين كانوا على ما يبدو على شيء من التهيّب والتعب وكانوا في حاجة إلى الماء حتى يشربوا ويغتسلوا وتثبت الأرض تحت أقدامهم وكان في كل هذا مجال لوسوسة الشيطان وتخويفه وإثارته القلق في نفوسهم فكان من عناية الله بهم وتأييده أن سلّط عليهم النعاس فجعلهم يستغرقون في نوم أزال عنهم تعبهم وأنساهم قلقهم وأنزل عليهم المطر ليشربوا ويغتسلوا ويتزودوا بالماء ولتجمد الأرض تحت أقدامهم ، ثم كانت تلك الروحانية التي شملتهم وأنزلت على قلوبهم الطمأنينة والسكينة وأشعرتهم بتأييد الله لهم بملائكته أيضا.

وكل هذا تأييد رباني لرسول الله والصادقين من أصحابه تدخل في نطاق المعجزات ويمكن أن تكرر في كل موقف جهادي إيماني يقفه المؤمنون الصادقون من أعداء الله وأعدائهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ

.

٢١

سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)) [١٥ ـ ١٩]

(١) فلا تولّوهم الأدبار : فلا تقلبوا ظهوركم للعدو وتفروا من أمامه.

(٢) متحرّفا لقتال : قاصدا أسلوبا من أساليب القتال والحركات الحربية.

(٣) متحيّزا إلى فئة : منضما إلى جماعة أخرى للتعاون على القتال.

(٤) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا : ليكون به للمؤمنين عمل فيه النفع والخير والحسنى.

(٥) إن تستفتحوا : إن تطلبوا الفتح والنصر أو إن تطلبوا حكم الله لأن كلمة الفتح جاءت في بعض آيات القرآن بمعنى الحكم. ومن ذلك آية الأعراف (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [٨٩].

في الآيتين الأولى والثانية : خطاب موجّه للمسلمين شدّد فيه التنبيه والإنذار بعدم الفرار من أمام العدو حينما يتزاحفون على بعضهم للقتال. ومن يفعل ذلك بدون قصد حربي مشروع كاستهداف أسلوب من أساليب القتال أو الانحياز إلى فئة مقاتلة أخرى من جماعته فقد باء بغضب الله واستحقّ النار وبئس ذلك من مصير له ولأمثاله.

وفي الآية الثالثة : ١ ـ تقرير رباني موجّه فيه الخطاب أولا إلى المسلمين بأنهم ليسوا هم الذين قتلوا الكفار وإنما الذي قتلهم هو الله. وثانيا إلى النبي بأنه ليس هو الذي رمى فأصاب ولكن ذلك هو الله.

٢ ـ وتنبيه بأن الله عزوجل قد أراد بما جرى أن يكون للمؤمنين فيه البلاء الحسن الذي لهم فيه الخير والثواب وأن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به.

وفي الآية الرابعة : إيذان بأن الله قد ألهم ويسّر ما كان إيهانا لقوة الكافرين

٢٢

وإحباطا لمكرهم وكيدهم.

وفي الآية الخامسة : خطاب موجّه للكفار على سبيل الإنذار والتحدي ، فإذا كانوا ينتظرون حكم الله بينهم وبين المسلمين فقد جاء حكمه عليهم بما كان من نصره للمسلمين. وإذا كانوا ينتهون مما هم فيه من كفر وعناد وعداء فهو خير لهم وأفضل. وإذا عادوا إلى العدوان والبغي فإن الله لهم بالمرصاد ولن تغني عنهم جموعهم مهما كثرت. لأن الله مع المؤمنين دائما.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (١٥)

وما بعدها إلى آخر الآية [١٩]

والآيات كما هو المتبادر استمرار تعقيبي للآيات السابقة وقد نزلت مثل سابقاتها بعد الوقعة وبرغم تنوع الجهات المخاطبة فيها فإنها تبدو وحدة متماسكة. وهذا ما جعلنا نعرضها وحدة تامة.

ولقد روى المفسرون روايات عن بعض أمور حدثت ، وأقوال قيلت كانت سببا لنزول هذه الآيات (١).

منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار قبل الاشتباك قائلا : شاهت الوجوه ، فلم يبق أحد منهم إلّا وأصابه شيء منها وأن الآية [١٧] تشير إلى ذلك ، ومنها أن أبا جهل وقف عند الكعبة قبل خروجه إلى بدر ودعا الله أن ينصر الأهدى والأفضل من الفريقين وأن يفتح عليه وأن يخذل أقطعهما للرحم ، وأن الآية [١٩] تشير إلى ذلك. ومنها أنه كانت مفاخرات بين المسلمين بقتل فلان فلانا وأن الفقرة الأولى من الآية [١٧] في صدد ذلك.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن ، وانظر سيرة ابن هشام مبحث وقعة بدر.

٢٣

ومهما يكن من أمر هذه الروايات فإن الآيات يمكن أن تلهم حدوث شيء مماثل لما ورد فيها. كما أن الآية [١٧] يمكن أن تلهم معنى أشمل من الردّ على ما كان من تفاخر بعض المسلمين وهو أن الله هو الذي نصرهم وهزم أعداءهم وكبتهم وأن هذا لم يكن لو لم يلهمهم الله الدخول في المعركة ويثبت أقدامهم وقلوبهم فيها في حين أن بعضهم كان يتهيب منها. والفقرة الأخيرة من الآية [١٩] قرينة قوية على هذا التوجيه. ولعل فيها تدعيما لما استهدفه مطلع السورة فالله هو الذي ألهم ونصر وقتل ورمى ، والأنفال من أجل ذلك هي منوطة بأمره ولا يحق لأحد أن يدّعيها.

ومع ما في الآية الأخيرة من التحدي والإنذار للكفار فقد احتوت أيضا دعوة من جديد إلى الحق والصواب والكفّ عن الموقف الباغي الجحودي. وقد جاءت الدعوة من جانب الغالب للمغلوب. وفي هذا ما فيه من جليل التلقين ورائعه في صدد مبادئ الجهاد الإسلامي وفي صدد هدف الرسالة المحمدية في هداية الناس على اختلافهم ومختلف مواقفهم ودعوتهم المرة بعد المرة وفي كل مناسبة وظرف إلى الحق والصواب والخير والإسلام مما تكرر في الآيات القرآنية المكيّة والمدنيّة وفي الظروف المماثلة أيضا.

ولم يرو المفسرون شيئا في مناسبة الآيتين الأوليين أي [١٥ و ١٦] وكل ما قالوه أنهما نزلتا في أهل بدر. وكلامهم يفيد أنهما نزلتا قبل المعركة ؛ مع أن كل الآيات السابقة واللاحقة من السورة نزلت بعد انتهاء المعركة على ما يلهمه فحواها ونبهنا عليه قبل.

وقد تلهمان أنه لوحظ على بعض المسلمين حين اشتداد المعركة شيء من الاضطراب أو أن بعضهم كاد ينكشف للعدو فاقتضت الحكمة هذا التنبيه والإنذار الشديدين اللذين احتوتهما الآيتان بالنسبة للمستقبل. والحكمة في هذا التشديد القاصم واضحة. والتلقين فيها مستمر المدى. فإن الجهاد ثبات وجلد. وفرار واحد من الصف قد يخلّ الصف كله. وقد يضيع ثمرة النصر ويقلبه إلى هزيمة

٢٤

وكسرة. ولقد كان من الممكن أن يتغير مجرى تاريخ الإسلام لو انكسر المسلمون في وقعة بدر. وهذا ما عناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه المروي : «اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض».

ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن هاتين الآيتين هما خاصتان بيوم بدر لا قبله ولا بعده ، وأن بعض المؤمنين ولّوا الأدبار يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم كما جاء في آية سورة آل عمران [١٥٥] وآيات سورة التوبة [٢٥ ـ ٢٧] ومعنى هذا أن الآيتين منسوختان. على أن هناك من قال إنهما محكمتان وإن توبة الله وعفوه عن المتولّين يوم أحد ويوم حنين أمر خاص لا يستوجب نسخ حكمهما. وقد رجّح الطبري هذا القول وفي هذا سداد وصواب. وإطلاق الكلام في الآيتين يؤيد ذلك حيث يلهم بقوة أنهما بالنسبة للمستقبل عامة ، ولا سيما نزلتا بعد معركة بدر على ما رجّحناه قبل. ولقد روى الخمسة حديثا عن أبي هريرة يذكر فيه «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف» (١). وروى الطبري عن ابن عباس قولا جاء فيه «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف». والحديثان هما بالنسبة لكل موقف ويدعمان قول محكمية الآيتين وشمولهما لكل موقف.

تعليق على ما قيل في مدى جملة

(وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى)

لقد اتخذ بعض الكلاميين هذه الجملة حجّة على إثبات عدم تأثير أي مؤثر في شيء ما لذاته ، فالنار في رأي القائلين لا تحرق وإنما الحارق الله. والسكين لا تذبح بذاتها وإنما الذابح الله ... إلخ (٢).

وهذا للرد على مذهب كلامي آخر يقول بتأثير عمل الإنسان ومسؤوليته عن الأثر الذي يحدثه ومع تسليمنا بصواب استلهام نصوص القرآن وتلقيناته ومبادئه في

__________________

(١) انظر الحديث في التاج ، ج ٤ ص ٨١.

(٢) انظر تفسير الجملة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.

٢٥

الحجج الأصولية والفقهية والكلامية والاجتماعية والأخلاقية فإن الذي يتبادر لنا أن أسلوب الآية [١٧] التي فيها الجملة هو أسلوب تعبيري اقتضاه المعنى الذي أريد تقريره في الموقف الذي استدعى هذا التقرير على نحو ما ذكرناه في شرحها وما نرجو أن يكون هو الصواب. وإذا لا حظنا أن هناك آيات كثيرة جدا ورد فيها تقرير نسبة الفعل وأثره لفاعله وترتيب مسؤولية هذا الفعل وأثره على الفاعل في الدنيا والآخرة مما هو في غنى عن التمثيل هنا لوروده في معظم السور القرآنية المكية والمدنية ساغ القول إن في تحميل الآية ذلك المعنى واستنباط تلك الحجة منها تجوّزا وابتعادا عن التساوق مع النصوص القرآنية. على أن من المعروف من ناحية البحث الكلامي أن الذين يقولون بطبيعة النار الإحراقية وطبيعة السكين الذابحة يقولون أيضا إن الله قد جعل في النار طبيعة الإحراق وفي السكين طبيعة الذبح كما أودع في الإنسان قابلية العمل وحرية التمييز والاختيار. وهذا على ما هو واضح هو المتّسق مع طبيعة الأشياء ومع حكمة الله ونواميسه في خلقه والمنسجم مع العبارات القرآنية التي تنسب الفعل لفاعله وتقرر مسؤوليته من أجل ذلك عنه وتخاطب الناس على أساس هذا المفهوم.

هذا ، ولبعض الصوفيين شطح آخر في تأويل الجملة حيث يستنتجون منها أن فعل العبد هو عين فعل الله بقصد إثبات كون ذات العبد هو عين ذات الله أو صورته تعالى الله. وقد تصدى الإمام ابن تيمية لذلك فيمن تصدوا له ونبّه على ما فيه من مغالطة ومفارقة بل وكفر إذا أريد القياس عليه فيقال للماشي ما مشيت ولكن الله مشى. وللآكل والشارب والصائم والمصلي بل وللكافر والكاذب والزاني والزانية والقاتل والسارق مثل هذا والعياذ بالله تعالى (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ

__________________

(١) انظر كتاب مصرع التصوف لعبد الرحمن الوكيل.

٢٦

الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)) [٢٠ ـ ٢٦]

(١) الفتنة : هنا بمعنى الفساد والخلاف والنزاع.

في هذه الآيات :

١ ـ نداء موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بإطاعة الله ورسوله وينهون عن الانصراف عنه وعدم الأبوه لأوامره وهم يسمعونها عنه. ويحذرون من أن يكونوا كالذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون فلا يستجيبون إلى ما يسمعون.

٢ ـ ونعي على الذين لا يستجيبون إلى دعوة الحق ولا يقبلونها. فشرّ الناس عند الله هم الذين بعدم استماعهم للحق وانصياعهم له كالدواب والصمّ والبكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم. ولكنهم في حالتهم هذه قد فقدوا كل قابلية للخير والانصياع للحق ، فلو سمعوا لما استجابوا ولا نصرفوا عن النداء وأعرضوا.

٣ ـ ونداء آخر موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه الاستجابة إلى الله ورسوله إذا ما دعاهم الرسول وبلغهم دعوة الله إلى ما فيه حياتهم ومصلحتهم. ويحذرون من أن الله يحول بين المرء وقلبه وينذرون بأنهم محشورون إليه ليؤدوا حساب أعمالهم.

٤ ـ ودعوة للمؤمنين إلى اجتناب الفتنة. والتعاون على درئها. وتخويف من نتائجها فهي لا تصيب بشرّها الظالمين الذين يثيرونها فقط ولكنها كثيرا ما تكون

٢٧

عامة الضرر ، وتنبيه على أن الله شديد العقاب يجب الحذر منه وعدم المخالفة لأوامره.

٥ ـ وتذكير بما كانت عليه حالتهم ، وبما صارت إليه بفضل الله ، تذكيرا ينطوي فيه تدعيم لواجب الاستماع والطاعة عليهم. فلقد كانوا قليلين ضعفاء في خوف دائم من أذى الكفار وبغيهم فآواهم الله إلى ساحة الأمن والطمأنينة ، وجعلهم أقوياء بعد ضعف وأعزّاء بعد هوان. وأيدهم بنصره. ورزقهم من الطيبات. وكل ذلك يتطلب منهم الشكر له وطاعته وطاعة رسوله والانصياع لأوامرهما ونواهيهما.

تعليق على ما روي في صدد الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

وما بعدها إلى الآية [٢٦]

من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات

روى بعض المفسرين أن الآيتين [٢٢ و ٢٣] نزلتا في بني عبد الدار الذين لم يكن أسلم منهم أحد إلّا مصعب بن عمير. أو في النضر بن الحرث الذي كان يقول للناس أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم محمد. وروى بعضهم في صدد الآية [٢٥] أن الزبير بن العوام قال : قد قرأنا هذه الآية زمنا وما نرانا من أهلها فإذا نحن المعنون بها مشيرا بذلك إلى ما تورط به هو وغيره فيه من الفتن في زمن عثمان بن عفان وبعده ، ومما رواه بعضهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حينما نزلت هذه الآية : «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوّة الأنبياء من قبلي» (١).

وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والذي يتبادر لنا أن

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي. والرواية الأخيرة من مرويات الطبرسي الشيعي.

٢٨

الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا وبظروف وقعة بدر وموقف بعض المسلمين فيها ومعقبة عليه. وهذا ما تلهمه روح الآيات التي تؤكد وجوب طاعة الله ورسوله واتقاء الفتن والخلاف وعدم التردد في الاستجابة إلى ما يدعوهم إليه الله ورسوله وفيه خيرهم وحياتهم. وتحذير من عدم الانصياع ومن نتائج ذلك. وإنها لتلهم هي والآيات السابقة أن موقف بعض المسلمين من النبي وأوامره قبل المعركة ثم حول قسمة الغنائم كانا مؤلمين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكادا يثيران فتنة بين المسلمين في الوقت نفسه فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بها بالأسلوب الشديد الذي جاءت به مهددة منذرة منبهة. ونرجح أن تكون نزلت هي وما قبلها دفعة واحدة أو متتابعة.

أما الروايات المروية في صدد صلة الآيات بالفتنة المريرة في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فإن أثر الفتنة ظاهر فيها ويسوغ التوقف في صحتها أو القول إنها أخذت على ذلك بعد وقوع الفتن من قبيل التطبيق ورائحة الهوى والوضع الشيعيين عاقبة في الحديث الذي يرويه الطبرسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن علي رضي الله عنه.

ولقد أورد الطبرسي مع الحديث المذكور حديثا آخر معزوا إلى أبي أيوب الأنصاري ويرويه رواة شيعيون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمّار : «يا عمّار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب. فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي. وخلّ الناس. يا عمار إن عليا لا يردك عن هوى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله». وأثر الصنع الحزبي بارز لذلك بقوة على هذا الحديث أيضا.

ولقد قال بعض المفسرين (١) في تأويل جملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) إن الله قد يميتكم بغتة فتفوتكم فرصة الطاعة والاستجابة لله

__________________

(١) انظر تفسيرها في مجمع البيان الطبرسي.

٢٩

والرسول. وذلك بسبيل الحثّ على المسارعة إلى الطاعة والاستجابة. وقال آخرون إنها من قبيل (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] وإنها بمعنى أن الله يحول بين عقله وماذا يعمل فيتركه في حيرة ، أو أنه يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان (١). والقول الأول هو الأوجه كما يتبادر لنا ، ومما يتبادر لنا أن يكون انطوى في الجملة تنبيه بأن الله قد يبتلي المترددين المتأخرين في الاستجابة والطاعة فتقسو قلوبهم ويفقدون قابلية الخير والانصياع للحق. وعلى كل حال فالجملة تستهدف الحثّ على الإسراع للاستجابة والطاعة كما يتضح من الإمعان في السياق.

وقد قال بعض المفسرين (٢) في تأويل جملة (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) إنها بمعنى لو كان الله يعلم فيهم قبولا للهدى وإقبالا على الحق لأسمعهم ما ينصرفون عن سماعه. وقال بعضهم : إنها بمعنى أن الله لو علم فيهم استعدادا للسمع لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا (٣). وكلا التأويلين وجيه. ومما يتبادر لنا أن الجملة هي بشأن بيان حالة الصمّ البكم الممثلة بهم حالة الفئة المقصودة التي تقول سمعنا وهم لا يسمعون وأنها بسبيل تقرير أن الله يعلم أن الصم البكم لا يمكن أن يسمعوا ولو سمعوا صوتا ما لا يمكن أن يعقلوه ويردوا عليه. وأن هذه الفئة المقصودة مما انطوى في نفوسها خبث وسوء نيّة وعناد لا يمكن أن تسمع ولو سمعت لا يمكن أن تعقل لأنها كالصمّ البكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون. أما الفئة المقصودة فالغالب أنها المنافقون والذين في قلوبهم مرض. فهم الذين يقولون سمعنا وأطعنا. وحقيقة حالهم هي أنهم لم يؤمنوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا.

ومع خصوصية موضوع الآيات وظروفها فإنها تنطوي على حكم جليلة مستمرة التلقين.

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير.

(٢) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي.

(٣) انظر تفسيرها في الطبري والخازن.

٣٠

فمن واجب المؤمنين أن يسيروا في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وألا يكابروا في الحق ويترددوا في تأييده والانصياع له.

ومن واجبهم أن يقفوا في وجه الفتن والمنكرات والفساد ويتعاونوا على درئها وكبح جماح مثيريها لأن نتائجها لا تنحصر في المثيرين لها وإنما تشمل غيرهم ممن ليس له يد فيها ولا دخل.

وجملة (لِما يُحْيِيكُمْ) ذات مغزى تلقيني عظيم بنوع خاص حيث يمكن أن يستنبط منها أنه ليس للسلطان في الإسلام أن يدعو المسلمين لغير ما فيه خيرهم ومصلحتهم وصلاحهم وأنه ليس عليهم واجب الإجابة والطاعة له إذا خرج عن هذا النطاق. وهناك حديث يرويه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد لذلك جاء فيه : «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره. ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (١).

ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية [٢٥] خاصة أحاديث نبوية عديدة بسبيل تأويلها وتوضيح مداها والتحذير من الفتن وعواقبها أخرجها الإمام أحمد منها حديث جاء فيه : «إنّ الله عزوجل لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة». ومنها حديث جاء فيه «إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذاب من عنده» فقالت أم سلمة التي يروى عنها الحديث : «يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال : بلى ، قالت : فكيف يصنع أولئك؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان». ومنها حديث جاء فيه «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيّره إلّا عمّهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب».

وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح قوية المدى في بابها منها حديث

__________________

(١) التاج ، ج ٣ ص ٤٠.

٣١

رواه أصحاب السنن عن أبي بكر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم الله بعقاب» (١). وحديث رواه الترمذي والطبري عن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)) [٢٧ ـ ٢٩]

(١) فتنة : هنا بمعنى ابتلاء واختبار أو سبب للافتتان والانحراف.

(٢) فرقانا : هنا بمعنى الهداية والنصر والتأييد أو القدرة على تمييز الحق من الباطل.

وفي الآيات نداء موجه إلى المؤمنين :

١ ـ يحذرهم وينهاهم من خيانة الله وخيانة رسوله وخيانة أماناتهم عن علم وعمد.

٢ ـ وينبههم إلى ما في أموالهم وأولادهم من سبب لفتنتهم ويشوقهم إلى ما عند الله من عظيم الأجر كأنما يقال لهم : إن ما عند الله أحسن وأفضل من الأموال والأولاد وإن عليهم أن لا يدعوا أموالهم وأولادهم يفتنونهم عن واجبهم ويوقعونهم في إثم خيانة الله ورسوله وأماناتهم فيستحقون غضب الله ويحرمون مما عنده من فضل وأجر.

__________________

(١) التاج ، ج ٥ ص ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٢) المصدر نفسه.

٣٢

٣ ـ ونداء ثان موجه إليهم منطو على التقرير بأنهم إذا اتقوا الله وراقبوه وأخلصوا النية في أعمالهم ومقاصدهم رزقهم الله التأييد وقوة تمييز الحق من الباطل وجنبهم المزالق وكفّر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم. فهو ذو الفضل العظيم الذي يشمل من اتّقاه وراقبه وأخلص النية والصدق في عمله ومقصده.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

والآيتين اللتين بعدها

وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي حذّر يهود بني قريظة من النزول على حكم سعد بن معاذ حينما حاصرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضيّق عليهم عقب انسحاب جيوش الأحزاب التي غزت المدينة وحاصرتها مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق أو الأحزاب ؛ حيث خيروا في النزول على حكم سعد وكان حليفهم وهو زعيم الأوس فأشار إليهم أبو لبابة إشارة معناها أنهم سيذبحون ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد وحلف أن لا يبرح ولا يذوق طعاما وشرابا حتى يموت أو يتوب الله عليه ثم تاب الله عليه. ورووا كذلك أنها نزلت في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان يقول له : إن محمدا يريده فخذ حذرك منه. ولا تذكر الرواية الثانية وقت هذا التحذير. ووقعة الخندق كانت بعد وقعة بدر بمدة طويلة. وأشير إليها إشارات عديدة في سورة الأحزاب. فمن المستبعد أن تكون هذه الآيات نزلت في صدد أبي لبابة ووضعت في سياق سورة الأنفال بدون مناسبة والروايات لم ترد في كتب الصحاح. ويلحظ من جهة أخرى أن الآيات منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها مما يجعلنا نرجّح أنها هي الأخرى متصلة بظروف ومشاهد وقعة بدر. ولقد أقبل بعض المجاهدين بعد الوقعة فاحتازوا بعض الأسلاب بدون علم النبي وإذنه. وكان ذلك من أسباب الخلاف الذي وقع ونزلت الآيات الأولى من السورة فيه فأمر النبي بأن يعيد كل

٣٣

امرئ ما أخذه حتى يقسم بينهم فلا يبعد أن يكون بعضهم تلكأ في ردّ ما في يده فاقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بالآيات في سياق ما أوحي في صدد مشاهد الوقعة محذرة مشوقة منبهة. ولقد ذكرنا في خلاصة وقعة بدر أن أبا سفيان شعر بحركة خروج النبي والمسلمين للتعرّض لقافلته. وقد يسيغ هذا فرض صحة الرواية الثانية. ولعله كان للرجل الذي حذّر أبا سفيان أوشاج من قربى وأموال في مكة ففعل ما فعل ، ليكون له يد عند أبي سفيان بسبيل وقاية أمواله وأقاربه.

ولا عبرة بما جاء في الرواية من وصف الرجل بالمنافق الذي قد يوهم أنه من أهل المدينة فقد يكون ذلك من الراوي على اعتبار أنه لا يفعل ذلك إلّا منافق. ولقد روى البخاري ومسلم في سياق تفسير سورة الممتحنة حادثا مماثلا وقع في ظروف عزيمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الزحف على مكة لفتحها في السنة الثامنة للهجرة. حيث كتب حاطب بن أبي بلتعة وهو من المهاجرين إلى أبي سفيان يخبره بالأمر وعلم النبي بذلك فأرسل فاستردّ الرسول وعوتب حاطب فاعترف وقال إني مؤمن مخلص ولي أموال وأقارب في مكة وليس لهم من يحميهم فأردت أن أتخذ يدا عند أبي سفيان ، وصدّقه الرسول فعفا عنه وقال لعمر الذي طلب أن يضرب عنقه : «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وكان حاطب ممن شهد بدرا. وإلى هذا الحادث أشارت الآية الأولى من سورة الممتحنة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا ...) إلخ (١).

ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ما احتوته من أوامر ونواه وتحذير وتشويق هو عام التوجيه والشمول. وفيها تلقينات أخلاقية واجتماعية ونفسية جليلة مستمرة المدى انطوى مثلها في آيات عديدة مرّ تفسيرها. وننوّه بخاصة بما يعده الله تعالى في الآية [٢٩] من وعود جليلة للمؤمنين إذا ما اتقوا الله توكيدا لوعود كثيرة سابقة.

__________________

(١) انظر التاج ، ج ٤ ص ٢٣٢.

٣٤

وجملة (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)) جديرة بالتنويه كذلك. فخيانة الله ورسوله تعني خيانة الإسلام والمسلمين والانحراف عن أوامر الله ورسوله. والأمانة لذلك هي رأس الأمانات والحالة هذه والخيانة لذلك هي رأس الخيانات بطبيعة الحال. ومن تلقينات الجملة أن مصلحة الإسلام والمسلمين هي مصلحة كل مسلم وأن خيانتها هي بمثابة خيانة المرء لنفسه. ولا يفعل هذا إلّا فاقد الإيمان والعقل والبصيرة.

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)) [٣٠]

(١) ليثبتوك : ليقيدوك أو يحبسوك.

في هذه الآية تذكير موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان من موقف الكفار في مكة إزاءه حيث تآمروا على سجنه أو قتله أو إخراجه فأحبط الله مكرهم بمكر أقوى وأنفذ.

تعليق على الآية

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (١) أَوْ يَقْتُلُوكَ)

لقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مكية. وروى بعض المفسرين ذلك عن بعض التابعين وذكر ذلك السيوطي أيضا (١). والصورة التي احتوتها الآية مكية من دون ريب. غير أن أسلوبها تذكيري مشابه لصورة مكية أخرى في الآية [٢٦] التي يدل مضمونها على مدنيتها دلالة قطعية تسوغ نفي مكية الآية التي نحن في صددها وترجيح مدنيتها هي الأخرى والقول إنها جاءت لتعقب على الآيات السابقة التي نوهت بما كان من نصر الله لنبيه والمؤمنين في بدر ولتذكر بما كان من

__________________

(١) الإتقان ج ١ ص ١٥ وانظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير وغيرهم.

٣٥

نصر الله لنبيه في مكة حينما مكر به كفارها وتآمروا عليه وتنجيته إياه. وجمهور المفسرين يديرون الكلام عن الآية في هذا النطاق.

ويروي المفسرون في صدد جملة (أَوْ يُخْرِجُوكَ) أن المتآمرين قالوا نخرجه من بين أظهرنا ليذهب أنّى شاء لا نبالي بما يصنع. وهذا غريب فالمتآمرون يجتمعون للتشاور في الطريقة المثلى لمنع تفاقم خطر النبي فكيف يقول بعضهم بتركه حرا يذهب أنّى شاء؟ والمعقول أنهم قصدوا بذلك أن يخرجوه بالقوة إلى منفى إجباري يقيم فيه معزولا فتفشل حركته ويؤمن خطره. وليس ثمة معنى يصح أن يتبادر في هذا المقام غير هذا إلّا أن يقال إن مقترح هذا القول من الذين كانوا يميلون إلى بني هاشم أو ينتمون إليهم بنسب أو من الذين كانوا يعترفون في قرارة نفوسهم بأن رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ ويخشون الدمار والاضطهاد من متابعته على ما شرحناه في سياق الآية [٥٧] من سورة القصص. وعلى كل حال فإن ما حكته الآية لا يمكن أن يكون موضع تنفيذ وتحقيق إلّا من قبل من هم قادرون عليه. وهذا يسوغ القول بالتبعية إن أصحاب السلطة الحكومية في مكة كانوا هم المتآمرون أو على رأسهم وقد ذكرت الروايات أن اجتماع المتآمرين كان في دار الندوة ، وهذه الدار كانت مجتمع أصحاب السلطة والشأن من زعماء قريش على ما تذكره الروايات أيضا.

ونرى أن نستدرك أمرا في صدد معنى الإخراج ، ففي السور المدنية آيات عديدة تذكر أن كفار قريش أخرجوا النبي والمسلمين أو أن النبي والمسلمون أخرجوا من ديارهم مثل آيات البقرة [١٩١] وآل عمران [١٩٥] والتوبة [٤١] والحج [٤٠] والحشر [٨] والممتحنة [١] والطلاق [٨] فالمتفق عليه أن هذه العبارات عنت في مقامها الإلجاء أو الاضطرار إلى الخروج بشدّة المضايقة والمناوأة وليست في معنى الإخراج أو الطرد عنوة وبالقوة وهذا غير ما يتبادر لنا من كلمة (يُخْرِجُوكَ) في الآية التي نحن في صددها والله أعلم.

٣٦

استطراد إلى ظروف وكيفية هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين

والمتفق عليه أن تآمر المشركين الذي حكته الآية وذكرت به قد أدّى إلى هجرة النبي والمسلمين من مكة إلى المدينة. فصارت المناسبة واردة لشرح كيفية وظروف هذا الحدث التاريخي العظيم ولقد أسهب المفسرون في سياق هذه الآية ثم في سياق آيات آل عمران [٩٨ ـ ١٠٣] في ذلك وروت تفصيلاتها كتب السيرة القديمة أيضا.

وملخص ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رأى شدة مناوأة زعماء قريش له ويئس منهم ومن استجابة معظم أهل مكة نتيجة لذلك. وتوفّي عمه أبو طالب وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من بعثته والذي كان ينصره عصبيّة ومعه جلّ بني هاشم. ثم توفيت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بعد عمّه بنحو شهر ونصف ، والتي كانت من أقوى مشجعيه ومهدئيه ، فضاقت مكة على نفسه وكاد ييئس منها وأخذ يفكر في مخرج خارج مكة فسافر إلى الطائف لعله يجد فيها سمعا ونصرا فخاب أمله على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٢٩ ـ ٣٢] من سورة الأحقاف. ثم أخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وعرض نفسه في الجملة في السنة العاشرة على جماعة من الخزرج من أهل المدينة ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فانشرحت صدورهم وكانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا في المدينة أنه يوشك أن يبعث الله نبيا من العرب مما أشارت إليه الآية [٨٩] من سورة البقرة على ما شرحناه في تفسيرها. فقالوا لبعضهم : لعله النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه بالتصديق والإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنعرض عليهم أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك (١).

__________________

(١) قصدوا ما كان بين الأوس والخزرج من عداء وأيام حربية أشير إليها في آيات [٩٨ ـ ١٠٣] من سورة آل عمران على ما سوف نشرحه في مناسبتها. ونسجل أسماء هؤلاء النفر لتكريمهم وتخليدهم وهم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله رضوان الله عليهم.

٣٧

ولما رجعوا أخبروا قومهم وأخبروا جماعة الأوس أيضا حيث كانوا آنذاك في تهاون فانشرحت صدورهم فلما كانت السنة القابلة جاء وفد خليط من الخزرج والأوس واجتمعوا برسول الله عند هضبة من هضاب مكة الخارجية فآمنوا وبايعوه على الإسلام. وأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه داعيا وقارئا وإماما. فأخذت دائرة الإسلام تتسع في المدينة. فلما كانت السنة القابلة وهي الثالثة في تاريخ الاتصالات بين النبي والأوس والخزرج جاء وفد كبير مؤلف من نحو سبعين من القبيلتين فاجتمع بهم في المكان الأول (١) وأخذ بيعتهم على الإسلام ورحبوا بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة وعاهدوه على الدفاع عنه ونصرته واختار منهم اثني عشر رجلا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس فسماهم النقباء (٢). ورجعوا دعاة للإسلام مع مصعب داعية النبي الأول فاتسعت دائرة الإسلام حتى لم يبق بيت إلّا دخله وقد أشارت آية سورة الحشر إلى ذلك (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) [٩] ومن ثم أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه بالهجرة فأخذوا يهاجرون فردا بعد فرد وفوجا بعد فوج فيلقون الترحاب والرعاية.

ولقد شعر زعماء قريش بالحركة فاستشعروا بخطر عظيم لم يستشعروا به من قبل حيث كانوا يقولون إن النبي لن يلبث أن يموت فينتهي أمره وهو ما أشارت إليه آية سورة الطور (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)) وحيث حسبوا أن اتفاق النبي مع أهل المدينة وإسلامهم وهجرته مع أصحابه إليهم سوف يفتح عليهم باب خطر عظيم متعدد الوجهات لأن المدينة كانت طريق تجارتهم وكان الأوس والخزرج أولي حرب وبأس. فرأوا أن يدبروا تدبيرا يدرأ هذا الخطر فاجتمعوا في

__________________

(١) يوصف الاجتماع الأول عند الهضبة في تاريخ السيرة بالعقبة الأولى والثاني بالعقبة الثانية ، والعقبة بمعنى الهضبة.

(٢) هذه أسماؤهم للتكريم والتخليد : أسعد بن زرارة ، عبد الله بن رواحة ، رافع بن مالك ، البراء بن معرور ، عبد الله بن حرام ، عبادة بن الصامت ، سعد بن عبادة ، المنذر بن عمرو ، سعد بن الربيع من الخزرج ، وأسيد بن خضير ، سعد بن خيثمة ، رفاعة بن عبد المنذر من الأوس رضوان الله عليهم.

٣٨

دار الندوة فاقترح بعضهم اعتقال النبي وتقييده بالحديد وحراسته حتى يموت. واقترح بعضهم إخراجه ليذهب أنى شاء فيستريحوا منه. واقترح بعضهم قتله بواسطة شباب من مختلف بطون قريش ليفترق دمه ولا تقدر عشيرته على حربهم جميعا ثأرا له فيرضون بديته. ورأوا أن هذا هو الأهم فاتفقوا عليه وندبوا شبابا لرصده وتنفيذ القرار وهذا ما أشارت إليه الآية التي نحن في صددها ... وأخبره الله بواسطة جبريل وحذره من المبيت في بيته وفراشه فأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يعيش معه بالنوم مكانه والتسجّي ببرده الأخضر الذي يستجّى به عادة عند النوم. ثم تسلل إلى دار أبي بكر رضي الله عنه. وكان هذا قد اعتزم الهجرة فقال له رسول الله على رسلك عسى أن يأذن الله بالخروج. فحبس نفسه لصحبة رسول الله وأعد راحلتين واعتنى بعلفهما. فلما دخل إلى بيت أبي بكر قال له إن الله قد أذن لي بالخروج. فركبا الراحلتين بعد الغسق وخرجا إلى جبل ثور من جبال مكة حيث كمنا في غار ثلاث ليال خشية أن يبعث زعماء قريش في طلبه حينما يفتقدونه. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ثم يدلج إلى مكة كأنه بات فيها فيتسمع الأخبار ويعود بها إليهما بعد الغلس. وكان لأبي بكر راع يروح عليهما في الغلس أو الفجر فيجلب لهما الحليب الذي يغذيهما. ولقد صدق ظنّ رسول الله حيث تروي الروايات والأحاديث أنهم أرسلوا من يلتمسونهما في شعاب مكة. ومرّ بعضهم بالغار حتى لقد تسلقه بعضهم وشعر بذلك أبو بكر فارتاع أشدّ الروع وقال للنبي : لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحتهما ، فقال له : يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ مما أشارت إليه آية سورة التوبة هذه : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)).

ولما سكن عنهما الطلب خرجا من الغار واستأجرا دليلا أخذ بهم طريق

٣٩

السواحل. ولقد رصد الكفار جائزة كبيرة لمن يقتله أو يأسره فتصدّى له رجل من بني مدلج اسمه سراقة بن مالك ولكن الله منعه. إذ ساخت أقدام فرسه ورأى من تأييد الله لرسوله ما جعله يوقن أنه ذو شأن عند الله فاستأمن وأعلن مسالمته وأخذ من النبي عهدا له ولقومه. وسمع المسلمون في المدينة بخروجهم فأخذوا ينتظرون من يوم إلى يوم حتى بلغ ضاحية قباء من المدينة فنزل فيها على آل عوف وأنشئوا أول مسجد في الإسلام فيها ولبث بضع ليال ثم سار نحو المدينة. وكان المسلمون مبتهجين فرحين بقدومهم وكل منهم يدعوه للنزول عندهم فطلب منهم أن يدعوا راحلته تسير حتى تبرك في مبرك يشاؤه الله. وقد بركت في مربد ليتامى فاشتراه وهيأه مع أصحابه ليكون له مسجدا وبيتا (١).

ولقد كان حادث نجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكر الكفار وهجرته إلى المدينة ثاني أعظم أحداث السيرة النبوية وأبركها بعد الحدث الأعظم الأول وهو نزول الوحي على رسول الله بأمر الله وقرآنه. حيث انفتح الأفق الواسع أمام الدعوة الإسلامية وانتشارها وانتصارها. وتحقق قول الله تعالى في آية سورة التوبة (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) [٤٠].

والروايات في تاريخ بدء الهجرة النبوية ووصول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة مختلفة وليس هناك أثر وثيق صحيح السند وأشهر الروايات أن خروجه كان في أول شهر ربيع الأول ووصوله في نحو منتصفه ، والله تعالى أعلم.

ولقد كان في إقدام المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله على ترك وطنهم وذوي أرحامهم وأموالهم وبيوتهم في سبيل الله تضحية عظمى فكانت موضوع تنويه الله عزوجل في آية سورة الحشر هذه : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ

__________________

(١) هذا تلخيص ما رواه المفسرون وكتب السيرة والحديث. انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم وسيرة ابن هشام ج ٢ ، ص ٩٢ ـ ١١٠ ، وطبقات ابن سعد ج ١ ، ص ٢١٠ ـ ٢٢٤ ، والتاج ج ٣ ص ٢٣٥ ـ ٢٤٣ وج ٤ ، ص ١١٧.

٤٠