التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

كلمة في حالة اجتماع العيد

والجمعة في يوم واحد

لقد قرأنا في كتاب مبادئ الفقه الإسلامي في العبادات للشيخ الفاضل محمد سعيد الوفي طبعة ثالثة الصفحة ٨٩ حديثا : رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن زيد بن أرقم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في يوم جمعة كان يوم عيد أيضا : «أيّها الناس إنّ هذا اليوم قد اجتمع لكم فيه عيدان فمن أحبّ أن يشهد معنا الجمعة فليفعل ومن أحبّ أن ينصرف فليفعل». ولم نجد هذا الحديث في كتاب التاج الجامع للكتب الخمسة التي منها كتابا أبي داود والنسائي. وإنما قرأنا حديثا قريبا منه في مجمع الزوائد هذا نصّه : «عن ابن عمر قال : اجتمع عيدان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فطر وجمعة فصلّى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العيد ثم أقبل عليهم بوجهه فقال يا أيّها الناس قد أصبتم خيرا وأجرا. وأنا مجمعون فمن أراد أن يجمع معنا فليجمع ومن أراد أن يرجع إلى أهله فليرجع». رواه الطبراني في الكبير من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد بن راشد أبي محمد السماك ولم أجد من ترجمها. ومجمعون مأخوذ من الجمعة. وجملة ولم أجد من ترجمهما لمؤلف الزوائد وعنى على الأغلب الراويين إسماعيل وزياد. ونقول تعليقا على ذلك إن الإجابة لنداء الجمعة فرض قرآني واجتماع وصلاة العيد سنّة. ولا يصح فيما يتبادر والله أعلم أن يستغنى عن الفرض بالسنّة مع عظم خطورة هذا الفرض وما ورد في تركه من أحاديث صحيحة عديدة أوردناها قبل قليل ... حتى ولو قيل إن الاستغناء هو عن حضور اجتماع وخطبة الجمعة ولا يعني سقوط صلاة الظهر. وهذا ما يجعلنا نتوقف في هذا الحديث إلّا إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لأناس لا يسمعون نداء الجمعة أو لا تجب عليهم لعذر ما ، والله تعالى أعلم.

استطراد إلى الأذان في الإسلام

إن تعبير (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) يعني الأذان وقد عبّر به بذلك في آية أخرى في سورة المائدة. وقد رأينا من المناسب أن

٣٤١

نستطرد هنا فنقول إن هناك بعض الآثار في أوليته وكيفيته. فهناك حديث يرويه الطبراني عن ابن عمر جاء فيه : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان» (١). وقال الطبراني إن من رواة هذا الحديث طلحة بن زيد الذي ينسب إليه الوضع ، وكونه موضوعا واردا لأن مقتضاه أن يكون الأذان مكّيا وهو ما لا يعقل لأن المسلمين كانوا في مكة ضعفاء وفي قلة ويجتمعون للصلاة سرّا. وفي طبقات ابن سعد روايات عن الزهري عن سعيد بن المسيب وفي موطأ مالك حديث عن يحيى بن سعيد. ويستفاد منهما أنه كان ينادي منادي النبي الصلاة جامعة فيجتمع الناس فلما صرفت القبلة نحو الكعبة أمر بالأذان ، وهذا يفيد أنه كان في العهد المدني وهو الأوجه الأرجح. ومما ذكرته الروايات أن النبي قد أهمّه هذا الأمر فاقترح بعضهم الضرب بخشبتين وبعضهم الضرب بالبوق وبعضهم الضرب بناقوس. فبينما هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد الخزرجي في منامه رجلا مرّ وعليه ثوبان خضراوان وفي يده ناقوس فسأله أن يبيعه له فقال له ماذا تريد به فقال لجمع الناس للصلاة فقال له أنا أحدثك بخير من ذلك تقولون الله أكبر. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة ، حي على الفلاح. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلّا الله. فلما أفاق أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال له قم مع بلال فالق عليه ما قيل لك وليؤذن بذلك ففعل. وجاء عمر فقال رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلله الحمد فذلك أثبت. وفي رواية أن مما ألقي عليهما جملة (الصلاة خير من النوم) لأذان الصبح) (٢).

ومهما يكن من أمر فإن هناك حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي محذورة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علّمه الأذان والإقامة. وصيغة الأذان هي : الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. زاد في رواية ترفع صوتك فيها ثم تقول : أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. زاد في رواية تخفض بها صوتك ثم ترفع صوتك بالشهادة : أشهد أن لا

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ١ ص ٣٢٩.

(٢) انظر موطأ مالك ج ١ ص ٣٦ ، وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ١١ و ١٢.

٣٤٢

إله إلّا الله. أشهد أن لا إله إلّا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حيّ على الصلاة. حيّ على الصلاة. حيّ على الفلاح. حيّ على الفلاح. فإن كان لصلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله. وصيغة الإقامة بعد حيّ على الفلاح قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله» (١). وهناك حديث يرويه الخمسة عن أنس قال : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلّا الإقامة» (٢). وهناك حديث يرويه الطبراني عن بلال : «أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم» (٣). ونبّه الطبراني على أن أحد رواة هذا الحديث ضعيف. وتبقى جملة (الصلاة خير من النوم) من تعليم النبي الأول على ما جاء في الحديث الأول. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي جحيفة قال : «رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وأصبعاه في أذنيه ورسول الله في قبة حمراء من أدم» (٤). وفي رواية «لما بلغ حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر» (٥). وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي سعيد قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» (٦). وزاد غير البخاري «ثم صلّوا عليّ فإنه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا. ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلّا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» (٧).

__________________

(١) التاج ، ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨ ، ومعنى ما جاء في الحديث الثاني أن الجمل في الأذان تكون شفعا وفي الإقامة وترا إلا كلمات (قد قامت الصلاة) فتكون شفعا.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) مجمع الزوائد ج ١ ص ٣٣٠.

(٤) التاج ، ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

٣٤٣

وهناك حديث رواه الخمسة إلّا مسلما عن جابر قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قال حين سمع النداء اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلّت له شفاعتي يوم القيامة» (١). وهناك حديث رواه أصحاب السنن عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يردّ الدعاء بين الأذان والإقامة» (٢). وحديث رواه أبو داود جاء فيه : «قال رجل يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا. فقال قل كما يقولون فإذا انتهيت فسل تعطه» (٣).

والأذان الإسلامي فريد رائع في بابه. وفيه هتاف متكرر بأعلى الصوت على ملأ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ونحلهم بأن الله أكبر من كل شيء فتمتلىء النفس المؤمنة قوة بذلك واستغناء عن غير الله واستصغارا لغير الله. وفيه دعوة متكررة إلى الفلاح والنجاح بالصلاة والتي يعبد بها المؤمن ربّه الأكبر عبادة خاضعة فيتلو فيها قرآنه المجيد ويسبّح باسمه ويحمده على نعمه ويلتمس منه الرشد والهداية بالإضافة إلى الشهادة المتكررة بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي شاء الله أن يكون خاتم أنبيائه وأن يكون الدين الذي جاء به دين الإنسانية جميعا. ويتكرر هذا كل يوم خمس مرات ليلا ونهارا في جميع أقطار الدنيا التي ينتشر فيها المسلمون.

والله أكبر والعزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.

__________________

(١) التاج ، ج ١ ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٣٤٤

سورة الأحزاب

في هذه السورة مواضيع عديدة ومتنوعة. منها ما هو تشريعي في صدد إلغاء أحكام التبني والظهار. ومنها ما هو حربي في صدد وقعتي الأحزاب وبني قريظة. وفيها فصل في تخيير نساء النبي ومواعظ لهن وفيها ما فيه استدراك لمسألة طلاق الزوجة قبل المسيس. ومنها ما له علاقة بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيوته وزواجه بمطلقة ابنه بالتبني. وفيها حملات على الكفار والمنافقين.

والمصحف الذي اعتمدناه يذكر ترتيب نزولها بعد سورة آل عمران. وقد ذكر ذلك في تراتيب عديدة أخرى. وهناك رواية تذكر أنها نزلت بعد الأنفال وأخرى بعد سورة النور. والتدقيق في مضامين فصول السورة وما روي من ظروف نزولها يسوّغ القول إنها نزلت في فترات متباعدة ثم ألّف بينها. ولقد احتوت مثلا فصلا في أنكحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلّ فحواه وما روي في نزوله على أنه نزل بعد نزول الآية التي فيها تحديد لعدد الزوجات في سورة النساء التي ذكر الرواة ترتيبها بعد هذه السورة. وفيها آيات في صدد تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمطلقة ابنه بالتبني زيد ولا بد من أن ذلك كان قبل نزول آية النساء في تحديد عدد الزوجات ، لأن في السورة آية تحرّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزواج بعد تحديد العدد وإقراره على زوجاته اللاتي في عصمته. ولقد ذكرت الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج بعض زوجاته في أثناء زيارته للكعبة في السنة السابعة للهجرة حيث يسوغ هذا القول أن تأليفها قد تأخر إلى وقت متأخر من العهد المدني. أما ترتيب المرتبين لها في النزول بعد سورة آل عمران أي كرابعة سورة فلم نر له مبررا إلا احتمال كون مطلعها قد نزل مبكرا على بعده لأن مطلعها الذي فيه تسفيه لتقاليد التبني والظهار متصل بحادث زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمطلقة متبنيه

٣٤٥

كما نرجح. ولأن في الروايات ما قد يفيد أن هذا الحادث لم يقع مبكرا. ولم نر أي مبرر لرواية نزولها بعد الأنفال أو بعد النور.

ومهما يكن من أمر فإننا بعد تقديمنا سورة الحشر صار وضعها بعدها سائغا لأن وقعتي الأحزاب وبني قريظة قد وقعت بعد قليل من وقعة بني النضير التي نزلت فيها سورة الحشر وبذلك نكون قد راعينا التسلسل الزمني للسيرة النبوية.

هذا ، ولقد روي عن عائشة أم المؤمنين : «أن هذه السورة كانت تقرأ مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر إلّا ما هو الآن» (١). وقد روى المفسر النسفي : «أن أبيّ بن كعب سأل أبا ذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين فقال والذي يحلف أبي به إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول». ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم). وقد حمل النسفي ـ راوي الحديث ـ كلام أبي على أن المقصد منه هو الإشارة إلى ما نسخ من القرآن في عهد النبي. غير أن حديث عائشة صريح بأنها تقصد أن إسقاط معظم السورة كان في زمن عثمان.

والحديثان غير موثقين ولم يردا في كتب الأحاديث الصحيحة والتوقف فيهما أولى. ومن الجدير بالذكر أن مصحف عثمان إنما نقل عن المصحف الذي حرر في زمن أبي بكر رضي الله عنهما فلم يكن أي احتمال لإسقاط معظم السورة من مصحف عثمان. ولقد كانت عائشة ذات شخصية قوية ومن مراجع القرآن والسنّة ولا يعقل أن تسكت عن هذا الإسقاط لو كان واقعا ولا يعقل أن يهمل اعتراضها.

ومع ما في تعليل النسفي لحديث أبي بن كعب من وجاهة فإننا نشك في أن يكون قد وقع نسخ آيات أو فصول كثيرة من السورة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن مثل هذا الحادث الخطير لا يعقل أن لا يرد فيه روايات وثيقة تحتوي بيانات وافية.

__________________

(١) الإتقان ج ٢ ص ٢٦.

٣٤٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣)) [١ ـ ٣].

في الآيات : نداء موجه إلى النبي يؤمر فيه بتقوى الله وعدم إطاعة الكافرين والمنافقين والاستجابة إلى ما يقولونه واتباع وحي الله فقط والاتكال عليه وحده. فالله أعلم بمقتضيات الأمور ولا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والصواب. وهو الخبير بكل ما يفعله الناس. وهو نعم الكافي لمن توكل عليه.

تعليق على الآيات الثلاث الأولى من السورة

لقد روى المفسرون (١) أن الآيات نزلت بمناسبة قدوم وفد من قريش فيهم أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل إلى المدينة بأمان من النبي فنزلوا على عبد الله بن أبي ، ثم ذهبوا معه إلى النبي فطلبوا منه الموادعة ، ويدع آلهتهم بدون سبّ وعقائدهم بدون تسفيه ويدعونه وشأنه فأثار ذلك عمر واستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتلهم فقال له إني أعطيتهم أمانا. ورووا كذلك أنها نزلت في وفد ثقيف الذي طلب من النبي أن يمتعهم باللات والعزّى سنة حتى تعلم قريش منزلة ثقيف عنده.

والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ أن الآيات التي تلي هذه الآيات قد نزلت في صدد وقعة الأحزاب التي كانت نتيجة لزحف عظيم من قبل قريش وحلفائهم على المدينة لاستئصال شأفة النبي. ومن المحتمل أن تكون آيات وقعة الأحزاب قد وضعت في موضعها القريب من هذه الآيات بسبب تناسب الظروف. وهذا يجعلنا نستبعد أن يكون وفد من قريش قد قدم إلى المدينة في هذا الظرف لعرض الموادعة على النبي مما روته الرواية الأولى. إلّا أن يقال إن أبا سفيان قدم

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبرسي.

٣٤٧

لاستطلاع أحوال النبي والمسلمين مع استبعادنا لذلك نظرا لحالة العداء الشديدة القائمة بين النبي والمسلمين من جهة وبين أهل مكة أو زعمائها المشركين من جهة ثانية. ولقد كان ما ذكرته الرواية الثانية في السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة بعام (١) فليس لذكره محل في مطلع سورة يرجح أنه نزل في وقت مبكر من العهد المدني.

والذي يتبادر لنا أن الآيات إمّا أن تكون نزلت في مناسبة مراجعة فريق آخر من الكفار والمنافقين في صدد التساهل في بعض الشؤون ، وإما أن تكون مقدمة للآيات التالية التي فيها حملة على بعض التقاليد الجاهلية الراسخة وأمر بإلغائها على سبيل التثبيت والتشجيع والتنبيه على وجوب تنفيذ وحي الله وأمره وعدم المبالاة باعتراض الكفار والمنافقين. وهذا ما نرجحه.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥)) [٤ ـ ٥]

(١) تظاهرون : هنا من الظهار وهو قول الزوج لزوجته أنت حرام عليّ كظهر أمي بقصد تحريم وطئها على نفسه.

(٢) أدعياءكم : كناية عن الأبناء بالتبني.

في هاتين الآيتين :

١ ـ نفي تقريري بأن الله لم يجعل قلبين في جوف أي إنسان. ولم يجعل زوجة الرجل أمّه بمجرد استعماله صيغة الظهار. ولم يجعل دعي الرجل ابنا له

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٧٧ ـ ٧٨ ، وابن هشام ج ٤ ص ١٩٤ ـ ١٩٧.

٣٤٨

بمجرد تبّنيه. وبأن هذا ليس من الحقّ والصدق في شيء. وهو مردود على أصحابه. وبأن الله يقرر الحق والصدق ويهدي إلى سبيلهما.

٢ ـ وأمر بتسمية الأبناء بالتبني باسم آبائهم الحقيقيين ونسبتهم إليهم. فهو الأقسط عند الله والمتفق مع الحقّ والحقيقة. فإذا لم يعرف آباؤهم فهم إخوان متبنيهم في الدين ومواليهم وكفى.

٣ ـ وتنبيه على أن الله غفور رحيم لا يؤاخذ المسلمين فيما أخطأوا به من غير علم وعمد. وإنما يؤاخذهم بما يصدر منهم من أخطاء عن عمد وعلم.

تعليق على الآية

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ ...) إلخ

والآية التالية لها

روى المفسرون أن الفقرة الأولى من الآية الأولى نزلت لتكذيب شخص اسمه دهية أو أبو معمر على اختلاف الرواية كان يزعم أن له قلبين في جوفه. كما رووا أنها نزلت تكذيبا للمنافقين الذين كانوا يقولون إن للنبي قلبين قلبا معنا وقلبا معهم. أو تكذيبا لرجل كان يقول إن لي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد.

رواية قول المنافقين رواها الترمذي عن ابن عباس بسند حسن ونصها : «قيل لابن عباس أرأيت قول الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ما عنى بذلك. قال قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله الآية» (١).

ولقد روى البغوي عن الزهري ومقاتل أن الجملة مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته وللمتبني لولد غيره ، ومعناها أنه كما لا يكون للرجل قلبان فإن زوجة

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ١٨٣ ، وخطر خطرة بمعنى سها سهوا ما.

٣٤٩

المظاهر لا تكون أمه ، ووالد المبتنى لا يكون أباه الحقيقي. لأنه لا يكون للإنسان أمّان ولا والدان. وهذا يفيد أن حديث ابن عباس لم يثبت عند الزهري ومقاتل. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا لأننا نراه الأوجه في توضيح مدى الجملة.

ولقد اكتفى السياق هنا في صدد الظهار بالتسفيه وتقرير النفي. ثم بيّن الحكم فيه في سورة المجادلة. في حين أن الحكم في التبني قد بيّن هنا. حيث يلهم هذا أن الظرف الذي نزلت فيه الآيات لم يكن يقتضي غير ذلك.

وننبه على أن في سورة المجادلة ما قد يلهم أنها نزلت قبل هذه الآيات على ما سوف نشرحه في تفسيرها. وإذا كان ما نستلهمه في محله فيكون تسفيه الظهار هنا تدعيما لتسفيه تقاليد التبني وتقريرا لكونها سخيفة مثل تقليد الظهار. وقد روى الطبري عن مجاهد ما يؤيد ذلك حيث روى أن هذا قال إن الآية قد نزلت في قضية زيد بن حارثة متبنّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي ورد ذكرها في آيات أخرى في هذه السورة.

ولقد انطوى في الآية الثانية تلقينات جليلة مستمرة المدى في توطيد الأخوة الدينية بدون اعتبار لأي فارق طبقي. ثم في تقرير كون مسؤولية المرء عن أخطائه إنما تكون فيما يقع منه من ذلك عن علم وعمد وهو ما تكرر تقريره في مواضع عديدة في القرآن ونبهنا عليه.

وجملة (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)) وإن كانت جاءت في معرض تدعيم ما سفهته ونفته الآية من دعاو وتقاليد فإنها شاملة مستمرة الفيض والإشعاع في صدد تقرير كون الله إنما يأمر دائما بما هو حق وإنما يهدي بما يأمر إلى سبيل الحقّ والخير. وداعمة لوجوب التزام حدود أوامر الله تعالى ونواهيه والإيمان بأنها تهدف دائما إلى ما فيه الحق والخير.

تقليد الظهار في الجاهلية

وظهار الزوجات الذي أشير إليه في الآيات عادة جاهلية لتحريم الزوج على نفسه وطء زوجته مع إبقائها في عصمته. حيث يقول لها أنت عليّ كظهر أمي.

٣٥٠

وكان الأزواج يعمدون إلى ذلك إذا كرهوا زوجاتهم أو كنّ ولودات بنات فقط أو أرادوا مكايدتهن أو ابتزاز أموالهن وحملهن على التنازل عن مهورهن وحقوقهن أو استبقائهن حاضنات لأولادهن ، وكانوا كذلك يتفادون تطليقهن أنفة من أن يتزوجن غيرهم. وهذا التقليد يشبه من ناحية ما تقليد الإيلاء الذي ورد ذكره وحكمه في آيات سورة البقرة [٢٢٥ ـ ٢٢٦] وفي هذا التقليد كما في ذلك ظلم وبغي فلذلك سفّهه القرآن هنا وقرر حكما في صدده في سورة المجادلة.

تقليد التبني في الجاهلية ومداه

والتبنّي هو اتخاذ رجل ما طفلا أو صبيا غريبا ابنا له. وكان هذا من تقاليد العرب في الجاهلية. وكان يجري بشيء من المراسم حيث يعلن المتبني في ملأ من الناس تبني الطفل أو الصبي فيصبح في مقام ابنه من صلبه في كل الواجبات والحقوق فيرث كل منهما الآخر ويحرم على كل منهما ما يحرم بين الأب والابن من أنكحة. فلا يصح للمتبنّى أن يتزوج إحدى بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا يصح للمتبنّى أن يتزوج بنات متبنّيه ولا أخواته ولا عماته ولا خالاته ولا أرملته ولا مطلقته. وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن على هذه الطريقة وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي. وكان مملوكا لزوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنهما فاستوهبه منها وأعتقه. وجاء أبوه فخيره بين البقاء عنده أو الالتحاق بأبيه فاختار البقاء فأعلن أبوه براءته منه فأعلن النبي تبنّيه له. وكان ذلك قبل نبوّته. وصار يدعى زيد بن محمد. وظل الأمر على ذلك إلى أن نزلت هذه الآيات فصار يدعى زيد بن حارثة (١).

ولقد ظلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّه ويرعاه وقد عهد إليه بقيادة سرايا عديدة أكثر من أي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الخازن والبغوي والطبرسي وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، وفي فصل التفسير من صحيح البخاري حديث عن ابن عمر جاء فيه : (ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ). وانظر التاج ج ٤ ص ١٨٣.

٣٥١

صحابي آخر (١). ولما استشهد في مؤتة كان ابنه أسامة محل رعاية النبي ومحبته وعطفه. ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عيّن أسامة قائدا لجيش أراد أن يسيره إلى مؤتة لأخذ ثأر أبيه وجيشه ، قال الناس أمر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار وكان النبي وجعا فخرج فخطب في الناس فقال : «انفذوا بعث أسامة. فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله. وإنه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليقا بها» (٢). ولقد روى البلاذري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما أنشأ ديوان العطاء جعل أسامة في جملة أصحاب الأربعة آلاف وجعل ابنه عبد الله في جملة أصحاب الثلاثة آلاف فاعترض عبد الله قائلا إني شهدت ما لم يشهد أسامة فقال له أبوه : زدته عليك لأنه كان أحبّ إلى رسول الله منك وكان أبوه أحبّ إلى رسول الله من أبيك (٣).

ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثا لم يذكر راويه رواه البغوي بطرقه عن سعد وأبي بكرة أنهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ادعى إلى غير أبيه متعمدا حرّم الله عليه الجنّة». ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الإنذار النبوي هو في صدد الدعوى الجدية التي تناقض ما سنّه الله وأبطله. أما أن يقول رجل لآخر أصغر منه يا بني أو يقول رجل لآخر أكبر منه يا أبي من قبيل التحبّب والتكريم فليس من هذا الباب. ولقد أورد ابن كثير في هذا المقام والمعنى حديثا رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له يا بني. وهذا من هذا الباب.

هذا ، ولقد جرت عادة الناس ومن جملتهم المسلمون على تبنّي بعض الأيتام فينشئونهم في كنفهم ويعتنون بهم ويعاملونهم كأبنائهم وقد يكون هذا جائزا بل ومأجورا إذا لم يتجاوز الأمر نطاق البرّ والتربية والتنشئة والعناية. أما إذا تجاوز إلى الدعوة الجدية بالبنوّة والأبوّة وما يترتب عليهما من حقوق ومعاملات تحلّ ما حرّم الله وتحرّم ما أحلّ وتمنح وتسمح ما لم يمنحه الله ويسمح به ، وتمنع ما لم يمنعه

__________________

(١) تصفّح الجزء الثالث من طبقات ابن سعد.

(٢) ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٩.

(٣) ص ٤٥٦.

٣٥٢

الله فيكون ذلك حراما كما هو المتبادر. والله تعالى أعلم.

تعليق على تعبير (وَمَوالِيكُمْ)

هذا التعبير الوارد في الآيات يفيد على الأرجح مدلولا تقليديا خاصّا. حيث كان من الجاري عند العرب قبل الإسلام أن يطلب شخص أو عشيرة أو قبيلة من العرب أن يلتحق بشخص أو عشيرة أو عشيرة أو قبيلة أخرى بقصد الحماية والاستنصار. فإذا قبل ذلك الملحق به أعلنه على الملأ حتى يعرف الناس وحينئذ يدعى مولى الشخص الملحق به إذا كان فردا أو موالي القبيلة الملحق بها إذا كانوا جماعة ويسمى ذلك مولى ولاء أو موالي ولاء. ويصبح المولى أو الموالي من عصبية الملحق به الاجتماعية لهم ما لهم وعليهم ما عليهم حتى إنهم كانوا يتوارثون (١). وما يصادفه قارئ الكتب العربية القديمة من تعابير فلان مولى فلان أو مولى بني فلان أو القبيلة الفلانية موالي القبيلة الفلانية هو من هذا الباب. ومن هنا جاء إطلاق تعبير (موالي) على المسلمين من غير العرب فكأنهم بدخولهم الإسلام قد التحقوا بالعرب واندمجوا في عصبياتهم. وكلمة (مولى) تطلق كذلك على المملوك ، غير أن تقليد الولاء الذي نشرحه هنا ليس من ذلك. والآية [٥] أرادت أن تقول إنه إذا لم يعرف آباء الأبناء بالتبنّي فهم إخوان المسلمين في الدين ومواليهم. لهم ما لهم وعليهم ما عليهم استمدادا من العرف الجاري في دلالة التعبير.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦)) [٦]

في هذه الآية :

__________________

(١) انظر تفسير الآيات وتفسير الآية [٣٣] من سورة النساء في تفسير الخازن.

٣٥٣

١ ـ تقرير بحقّ النبي على المؤمنين فهو أولى بهم من أنفسهم.

٢ ـ وتقرير بحقّ أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا.

٣ ـ وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم.

٤ ـ وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم. وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم.

تعليق على الآية

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) إلخ

ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا (١). وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين (٢). وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهم حين قدومه إلى المدينة أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام (٣).

ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات ، كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر.

والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة ، ومستدركة من جهة ، ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الخازن والبغوي والطبرسي.

(٣) انظر المصدر نفسه.

٣٥٤

فقد ألغي التبني وما يترتب عليه من أحكام وكان للنبي ابن بالتبني فقررت الفقرة الأولى من الآية أن النبي هو بمثابة أب لجميع المسلمين وأنه أولى بهم من أنفسهم وأن زوجاته أمهاتهم فلا محلّ ليكون له ابن خاص بالتبني. وكان التبني يكسب حقا في الإرث فقررت الفقرة الثانية أنّ حق التوارث إنما هو بين ذوي الأرحام وأمرت الآية [٥] اعتبار الأبناء بالتبني الذين أبطل تبنيهم ولم يعرف آباؤهم الحقيقيون إخوانا وموالي وأولياء لمتبنيهم بسبب اندماجهم السابق فيهم فقررت الفقرة الثالثة أن إبطال حق التوارث في التبني ليس من شأنه أن يمنع المتبنين السابقين من مساعدة متبنيهم الذين غدوا موالي أو أولياء لهم. وبهذا يستقيم السياق والمعنى والمدى كما هو المتبادر.

ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة «وهو أبوهم» بعد كلمة (أنفسهم) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) وقد تكون الجملة تفسيرية ، وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية. مع ترجيحنا أنها تفسيرية وليست أصلية إذا صحت الرواية. فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان ، ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس. وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات.

وجملة (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البرّ وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء.

ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من

__________________

(١) انظر تفسير الطبرسي.

٣٥٥

كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه» (١). وفي الحديث توضيح نبوي متصل بمدى الآية كما هو المتبادر.

تعليق على مدى تعبير

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ)

وتعبير (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين. ولعلّ اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزالون كفارا. وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية. وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك. وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم» (٢).

ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد. فلعل الأمر ظلّ ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث. أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [٧٢] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مرّ شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٨٣. وقد فسّر الشارح كلمة (ضياعا) بالأولاد القاصرين. وهذا صواب على ضوء مدى الحديث.

(٢) انظر التاج ، ج ٢ ص ٢٢٩.

٣٥٦

تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي

للمؤمنين في الآية

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ)

وننبّه على أن النصّ على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [٥٣ ـ ٥٥] من هذه السورة حيث منعت هذه الآيات رجال المسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن. وحرّمت نصّا التزوج بهن من بعد رسول الله ؛ حيث يفيد هذا أن النصّ على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل. وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبنّي. والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب التنبّه إليه.

الخلاصة

وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم إن جملة (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حبّ وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه

٣٥٧

تفسير وزيادة عظيمة الشأن وهو أن المال للورثة وأن من مات من المؤمنين وعليه دين فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسدّ دينه. وأن من مات وترك أيتاما بلا مال فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرعى أيتامه أيضا وهكذا تبدو الولاية والأبوية النبوية السامية في أروع مثاليتها وعظمتها ، صلّى الله على سيدنا محمد وسلّم تسليما.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨)) [٧ ـ ٨].

في هاتين الآيتين :

١ ـ تذكير على سبيل التقرير بأن الله قد أخذ من الأنبياء وبخاصة من النبي نفسه ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ميثاقا قويا مؤكدا على حمل رسالته وتبليغها للناس.

٢ ـ وتقرير بأن الله تعالى سوف يسأل الذين صدقوا في التبليغ ويستشهدهم على أممهم ، وبأنه أعدّ للذين كفروا برسالات أنبيائه ولم يصدقوهم عذابا أليما.

ولم نطلع على رواية في مناسبة الآيتين ولا على تعليل لوضعهما في مكانهما لأنهما يبدوان وحدة مستقلة لا علاقة لها بما سبق وبما هو آت.

وقد تبادر لنا مع ذلك أن يكون فيهما معنى التعقيب على الآيات السابقة جميعها بدءا من مطلع السورة الذي احتوى تثبيتا للنبي وأمرا له بتقوى الله وعدم إطاعة الكفار والمنافقين واتباع وحيه والاعتماد عليه وحده. فالله في تحميله إياه رسالته قد أخذ عليه عهدا بالقيام بالمهمة قياما تاما لا تساهل فيه ولا هوادة ودون تأثر بأي اعتبار كما أخذ مثل ذلك من الأنبياء السابقين وعليه أن يقوم بها وأن يعرف أنه مسؤول عنها يوم القيامة.

واختصاص النبي ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر قد تكرر في

٣٥٨

القرآن. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير سورة الشورى بما يغني عن التكرار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)) [٩ ـ ٢٥].

٣٥٩

(١) إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر : في الجملة وصف لشدة الخوف. فالعيون من شدة الخوف تتحرك زائغة يمينا وشمالا. والقلوب يشتد خفقانها حتى كأنها ترتفع من مكانها إلى الحناجر.

(٢) وتظنون بالله الظنونا : تذهبون مذاهب في إساءة ظنكم بالله.

(٣) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا : حينئذ استشعر المؤمنون بالبلاء العظيم الذي ابتلوا به واضطربوا اضطرابا شديدا.

(٤) يثرب : اسم المدينة التي هاجر إليها رسول الله القديم وصارت تعرف باسم المدينة والمدينة المنورة. وقد أشير إليها باسم المدينة في آيات منها آية في هذه السورة.

(٥) بيوتنا عورة : أي مكشوفة في متناول العدو.

(٦) ولو دخلت عليهم من أقطارها : لو دخل العدو عليهم من أطراف المدينة.

(٧) ثم سئلوا الفتنة لأتوها : ثم طلب منهم الارتداد عن الإسلام لفعلوا.

(٨) وما تلبثوا بها إلّا يسيرا : وما كانوا يقاومون ذلك الطلب إلّا مقاومة خفيفة وظاهرة.

(٩) المعوّقين : المعطلين والمثبطين عن القتال.

(١٠) ولا يأتون البأس : ولا يشهدون الحرب والقتال أو يشتركون فيهما.

(١١) سلقوكم بألسنة حداد : طعنوكم وهاجموكم بألسنة ماضية بالبذاءة والأذى.

(١٢) يودوا لو أنهم بادون في الأعراب : يتمنوا لو أنهم كانوا في البادية

٣٦٠