التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)) [١١ ـ ١٧].

(١) جدر : جمع جدار والراجح أن الكلمة هنا بمعنى السور أو الحواجز الحجرية التي تكون حول الدور.

(٢) بأسهم بينهم شديد : عداوتهم فيما بينهم شديدة.

(٣) تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى : تظنهم في ظاهرهم متّحدين مع أن قلوبهم متخالفة متفرّقة.

تعليق على الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ...) إلخ

وما بعدها لغاية الآية [١٧]

في الآيات وصف لمشهد من مشاهد وقعة بني النضير وإجلائهم وموقف المنافقين حلفائهم في ذلك وحالة اليهود النفسية والاجتماعية :

١ ـ فقد حاول المنافقون تشديد عزيمتهم ووعدوهم بعدم إطاعة أحد فيهم وبالقتال إذا قوتلوا وبالخروج معهم إذا أخرجوا. فاحتوت الآيات تكذيبا لهم فيما قالوه ووعدوا به ، وقررت أنهم حتى لو قاتلوا معهم لولّوا الأدبار ولما انتصروا ، وبأن مثلهم كمثل الشيطان الذي يزيّن للإنسان الكفر ثمّ يتخلّى عنه قائلا له إني بريء منك إني أخاف الله. وبأن عاقبة الفريقين النار خالدين فيها وهو جزاء الظالمين.

٣٢١

٢ ـ ولقد استولى الرعب على اليهود حينما حاصرهم النبي حتى صاروا يخافون المسلمين أكثر مما يخافون الله ولا يجرؤون على مواجهتهم في الحرب ، وقصارى أمرهم أن يقاتلوا وهم متحصنون في قرارهم المحصنة أو من وراء جدرها وأسوارها. وإن عداوتهم لبعضهم شديدة وقلوبهم متفرقة وإن بدا في الظاهر أنهم مجتمعون متفقون. وأنهم في حالتهم هذه كحالة جماعة من قبلهم لم يلبثوا حين حوصروا أن خارت عزائمهم وذاقوا شرّ ما صنعوا.

والآيات تعقيب على ما كان في ظروف حادث بني النضير وموقف اليهود والمنافقين. بل المتبادر أن آيات السورة من مطلعها إلى آخر هذه الآيات قد نزلت بعد انتهاء الحادث تعقيبا عليه من جهة وتوضيحا لحالة اليهود والمنافقين من جهة ، وتشريعا لما اقتضت حكمة التنزيل تشريعه من جهة ، وتبريرا وتعليلا لكل ذلك من جهة في آن واحد. ويتبادر لنا أن بعض الأفعال التي جاءت في صيغة المضارع أو الاستقبال هي أسلوبية ولا تعني أن تكون الآيات قد نزلت قبل انتهاء الحادث.

ولقد قلنا قبل إن حلفاء بني النضير هم الخزرج أو قوم عبد الله بن أبي كبير المنافقين منهم. ولقد كان الجمهور الأكبر من الخزرج مخلصين مؤيدين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موقفه من اليهود ؛ فكان في ذلك خذل وخزي لعبد الله بن أبي ومن تابعه من عشيرته في نفاقه وموقفه وصاروا كما حكت الآيات أعجز وأجبن من أن يفوا بوعودهم لليهود. وعاد تحريضهم وتثبيطهم على هؤلاء بخسارة أشدّ مما كان ينالهم لو لم يفعلوا.

أما ما أشير إليه تلميحا في الآية [١٥] من المثال القريب الذي حلّ في غيرهم فهو حادث إجلاء بني قينقاع على ما ذكره بعض المفسرين عزوا إلى ابن عباس وقد قال بعض آخر إنه مثل ما حلّ بالمشركين في بدر (١). والقول الأول هو الأرجح بقرينة ضمير (قَبْلِهِمْ) العائد لبني النضير والذي يعني حادثا لليهود ولأن المشركين عادوا فكرّوا على المسلمين وأخذوا ثأرهم في وقعة أحد. ولقد شرحنا

__________________

(١) انظر الطبري.

٣٢٢

حادث إجلاء بني قينقاع في سياق تفسير سورة الأنفال فنكتفي بهذه الإشارة هنا إلى ذلك الحادث.

وقد قال بعض المفسرين إن جملة (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) إنها في صدد اليهود والمنافقين معا (١). وقال بعضهم هي في صدد اليهود فقط (٢). وهذا هو الأوجه فيما نرى ولذلك صرفناها إلى اليهود فقط ، فاليهود فقط هم الذين كانوا يقيمون في قرى محصنة في ضاحية منعزلة عن مساكن العرب.

وفي الجملة تأييد لما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٨٤ ـ ٨٥] من سورة البقرة وهو أن اليهود في المدينة لم يكونوا كتلة متضامنة وأن بعضهم كانوا أعداء لبعض. ولقد نكّل النبي ببني قينقاع حينما أسفروا عن عدائهم وعدوانهم فلم يتحرك بنو النضير وبنو قريظة لنصرتهم. ثم نكّل ببني النضير فلم يتحرك بنو قريظة مما فيه تأييد آخر من الوقائع.

والآيات وإن تكن في معرض مشهد من مشاهد السيرة فإن فيها تلقينات جليلة تظل مستمد إلهام وقوة للمخلصين من المسلمين تجاه أعدائهم وتجاه المخامرين منهم مع الأعداء إذا هم كانوا أشداء أقوياء القلوب والعزائم والإيمان لأن الأعداء والمخامرين في هذه الحالة لن يلبثوا أن يخزوا ويخذلوا إزاء مثل هذا الموقف. وتظل كذلك مستمد إلهام في تقبيح مواقف المخامرين والمنافقين والمتضامنين بأي أسلوب مع الأعداء وفي عدم قبول أي عذر لهم قد يعتذرون به باسم الصداقة والواقع أو المصلحة أو المحالفة. لأن المصلحة العامة العليا هي التي يجب أن يكون لها الاعتبار الأول.

ولقد ساق المفسرون (٣) قصصا مختلفة الصيغ والأسماء متفقة المغزى مسبهة

__________________

(١) انظر الطبرسي.

(٢) انظر الطبري والبغوي وابن كثير.

(٣) انظر ابن كثير والبغوي والخازن.

٣٢٣

البيان عن ابن عباس وغيره في سياق الآية [١٦] خلاصتها أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر هو شخص كان ناسكا أعيا الشيطان فاحتال عليه وكسب ثقته وعلمه اسم الله الأعظم فصار يشفي به المجانين والمصروعين والمرضى ، ثم خالط الشيطان فتاة جميلة حتى جنّت فجاءوا بها إلى هذا الناسك فأعجبته وحينئذ استطاع الشيطان أن ينفذ إليه ويزيّن له مواقعتها ثم قتلها لإخفاء جريمته وجاء أهلها لتفقدها فشعر الناسك بالورطة التي تورط بها فظهر له الشيطان وقال له إن سجدت لي أنقذتك من ورطتك فسجد له وحينئذ قال له إني بريء منك إني أخاف الله!.

وقد تكون هذه القصص مما كان يتداوله الناس في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى كل حال فالآية إنما جاءت في معرض التمثيل والتنديد والإفحام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)) [١٨ ـ ٢٠].

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...) إلخ

والآية التالية لها

لم يرو المفسرون مناسبة لنزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة التي ندّد فيها بالمنافقين ومواقفهم وباليهود الكافرين لتوصي المؤمنين المخلصين بتقوى الله ومراقبته والتكفير فيما يقدمونه لغدهم من أعمال يجزون عليها خيرا كانت أم شرا. وتحذرهم من أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا تقوى الله وواجباتهم نحوه وتمردوا على أوامره وانحرفوا عن جادة الحق فأهملهم نتيجة لذلك ولم يوقفهم إلى ما ينجي أنفسهم فوقعوا في شرّ أعمالهم. وفيها

٣٢٤

تشجيع وتنويه وتطمين للمخلصين ، وتنديد وإنذار للمنافقين والكفار من أهل الكتاب موضوع الآيات السابقة.

ولقد روى ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى حديثا أخرجه الإمام أحمد ومسلم جاء فيه : «أنه جاء إلى رسول الله قوم من مضر حفاة عراة شديدي العياء فتغير وجهه لما رأى بهم من الفاقة ، فأمر بلالا فأذّن وأقام الصلاة فصلّى بالناس ثم خطبهم فقرأ آية سورة النساء هذه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) ، ثم قرأ الآية الأولى من هذه الآيات ثم وقف عند جملة (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) وقال هو تصدّق الرجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه من صاع تمره حتى قال ولو بشقّ تمرة ، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل عجزت ثم تتابع الناس حتى تكوّم كومان من طعام وثياب فتهلّل وجه رسول الله ثم قال من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء». حيث ينطوي في هذا الحديث الرائع كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستخرج العبرة والموعظة من الآيات ويوجّه الناس بها نحو الخير والبرّ ويشجع عليهما بمثل هذه القوة وكيف كان أصحاب رسول الله يسارعون في الاستجابة ابتغاء رضوان الله ورسوله رضي الله عنهم.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي

٣٢٥

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)) [٢١ ـ ٢٤].

(١) القدوس : المبالغ في التنزّه والطهارة.

(٢) السلام : المرجو للأمن والسلام.

(٣) المؤمن : واهب الأمن والطمأنينة. وقرئت (المؤمن) بمعنى المعتمد الذي يركن إليه ويؤمن له.

(٤) المهيمن : المراقب والمسيطر على عباده.

(٥) الخالق : قيل إن معنى الكلمة المقدّر لما يوجده على ما اقتضته حكمته.

(٦) البارئ : قيل إن معناها الموجد لما يخلقه من العدم أو المنشئ له أو المميز لأنواعه.

تعليق على الآية

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)

والآيتين التاليتين لها

لم يرو المفسرون مناسبة لنزول هذه الآيات أيضا والمتبادر أنها استمرار للتعقيب على الآيات السابقة وبقصد تقرير كون ما في القرآن من الآيات والمعاني والحكمة والموعظة والقوّة الروحانية والهداية لو نزل على جبل لخشي الله وتصدّع من خشيته. وكون الذي أنزله هو الله ذو الأسماء الحسنى الذي يسبّح له ما في السموات والأرض ويعنون لعظمته وقدرته ، المقدّس المنزّه عن كل شائبة الذي لا يعزب عن علمه وإحاطته شيء ظاهر وخفي وحاضر وغائب ، العظيم في رحمته واهب الأمن والسلام ، القوي الذي أوجد كل شيء من العدم وميّز أنواعه. الذي لا يفعل إلّا ما فيه الحكمة. المتعالي عن كلّ شريك وندّ. وكون ذلك يستوجب تأثر الناس بالقرآن وخشيتهم وخضوعهم جميعا لله اعترافا وعبادة وطاعة. وكون ذلك مما ينبّه الله تعالى إليه الناس لعلّهم يتنبهون ويتفكرون فيما يجب عليهم نحوه ويؤدونه له.

٣٢٦

وقد انطوى فيها معنى التأنيب والتنديد للذين لا يتأثرون بالقرآن ولا يخلصون لله وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، الذين حذّرت الآيات السابقة المؤمنين من أن يكونوا مثلهم.

ولقد احتوت الآيات مجموعة رائعة من أسماء الله الحسنى لم تجتمع في مجموعة قرآنية أخرى مع التنبيه على أنها وردت متفرقة في آيات متعددة. وأسلوبها نافذ من شأنه أن يثير في النفس الطيبة الشعور بهيبة الله وعظمته وقوّة القرآن الروحية.

ولقد أورد ابن كثير في سياق تفسير هذه الآيات حديثا أخرجه الإمام أحمد عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال حين يصبح ـ ثلاث مرات ـ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الحشر وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يسمي كان بتلك المنزلة».

وفي الحديث تنويه قوي بفضل الآيات وقوّة روحانيتها. ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب بحديثه أصحابه المؤمنين المخلصين الصالحي الأعمال حيث يسوغ هذا أن يقال إن الشخص الذي يعمل به ويريد أن يحصل على المنزلة المذكورة فيه لا بد من أن يكون متحققا بالإيمان والإخلاص والصلاح في الوقت نفسه.

ولقد أورد المفسر نفسه في سياقها أيضا حديثا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه أسماء الله الحسنى أوردناه وأوردنا الأسماء الحسنى المذكورة فيه وعلقنا عليه في سياق تفسير الآية [١٨٠] من سورة الأعراف فنكتفي بهذا التنبيه.

٣٢٧

سورة الجمعة

هذه السورة فصلان. في أولهما تنديد باليهود بسبب تفاخرهم باختصاص الله إيّاهم بالفضل على غيرهم وتكذيبهم وتحدّ لهم. وبيان ما كان من فضل الله على العرب الأميين في إرسال نبي منهم إليهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وفي ثانيهما تنديد بفريق من المسلمين كانوا يتركون النبي يوم الجمعة وهو يخطب ويخرجون من المسجد إذا ما رأوا لهوا أو تجارة. وحظر للبيع في وقت صلاة الجمعة. وإيجاب للسعي إليها. وإباحة ابتغاء فضل الله بالتجارة بعدها.

ولا يبدو تناسب موضوعي وظرفي بين فصلي السورة مع اقتصارها عليهما. ولا يبدو حكمة ذلك واضحة إلى أن يكون اليهود قد أنكروا بعث الله تعالى نبيّا من الأميين ثم فاخروا المسلمين بأن توراتهم احتوت تحديد يوم لله من أيام الأسبوع ثم تفاخروا بأنهم هم وحدهم أولياء الله. فأوحى الله بفصول السورة على سبيل الردّ والتنديد والتحدي. ولقد روى البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة سنورده في سياق تفسير الآيات الأولى من السورة تفيد عبارته أن سورة الجمعة نزلت دفعة واحدة. وقد يدعم هذا ما خمنّاه وما هو نتيجة ذلك من ترابط فصلي السورة. والله تعالى أعلم.

وترتيب هذه السورة في ترتيب النزول الذي يرويه المصحف الذي اعتمدناه هو الرابع والعشرون. والتراتيب المروية الأخرى مقاربة لذلك (١). مع أن محتوى السورة يدل على أنها نزلت في وقت كان في المدينة فيه فريق من اليهود وكانوا على شيء من القوة والاعتداد. ولما كان يهود بني قريظة هم آخر من بقي من

__________________

(١) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص ٩.

٣٢٨

اليهود في المدينة وقد نكّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم في السنة الهجرية الخامسة بعد وقعة الخندق. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأحزاب. فعلى أقل تقدير تكون سورة الجمعة قد نزلت قبل ذلك وبالتبعية قبل سورة الأحزاب. وهذا ما يبرر تقديم تفسيرها على هذه السورة. والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)) [١ ـ ٤]

(١) الأمّيين : الذين لا كتاب عندهم من الله. وهي هنا تعني العرب.

(٢) ولما يلحقوا بهم : الضمير في (بهم) عائد إلى الأميين موضوع الكلام في الآية الأولى كما تلهمه روح الآية وسياقها. وبخاصة كلمة (منهم) قبل الجملة.

الآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. احتوت تقرير خضوع كل من في السموات والأرض لله وتقديسهم له. وهو العظيم القدسية. العزيز الحكيم.

والآيات الثلاث احتوت تقريرا لما كان من عناية الله تعالى بالعرب وفضله عليهم وهو صاحب الفضل الذي يؤتي فضله من يشاء بعد أن كانوا في ضلال مبين وذلك :

١ ـ بإرساله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهّر نفوسهم ويعلمهم كتاب الله وكل ما فيه من حكمة وسداد.

٢ ـ وبعدم اقتصار ذلك على الحاضرين منهم وشموله لأناس أو أجيال منهم لم يلحقوا بهم بعد.

٣٢٩

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة

وما فيه من التنويه بفضل الله على العرب

في تكريمهم بإرسال نبيه منهم

ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات التالية وتمهيد لها.

وقد انطوت في حدّ ذاتها على معاني التنويه والمنّ الرباني بما كان من فضل الله على العرب وتكريمهم وتشريفهم بنبيه العربي وكتابه العربي. وفي هذا تلقين قوي بما يجب عليهم من إخلاص واستمساك شديدين بدين الله وكتابه وسنّة رسوله التي هي الحكمة التي علّمهم إياها النبي. ثم بما يجب عليهم من الدفاع عن هذا التراث المجيد وحفظه نقيّا صافيا طاهرا شكرا لله على ما كرّمهم به من عروبة نبيه وكتابه التي كان لهم فيها رفعة الذكر وعلوّ القدر وخلود الاسم وقوة السلطان الروحي بين أمم الأرض عامة والأمم الإسلامية خاصة.

وهذه المعاني كلّها مما انطوى في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سابقة (١) وعلّقنا عليها بما يقتضي ، حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك وتذكير العرب به في المناسبات المختلفة والمتجددة.

ولقد ورد في فصل التفسير من صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : «كنّا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه رسول الله وسلمان الفارسي فينا فوضع يده عليه وقال : والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» (٢). وقد أورد الطبري وغيره بالإضافة إلى هذا الحديث الذي أوردوه أقوالا معزوة إلى مجاهد

__________________

(١) انظر تفسير آيات سورة الأنبياء [١٠] والزخرف [٤٣ ـ ٤٤] والحج [٧٨] والبقرة [١٤٣].

(٢) التاج ، ج ٤ ص ٢٣٤.

٣٣٠

وغيره منها أن المقصودين هم الأعاجم ومنها أنهم الذين يدخلون الإسلام إلى يوم القيامة من عرب وعجم.

ولا يبدو الحديث تفسيرا حاسما للجملة ولا حاصرا للفئات التي ذكرت الآيات أنهم لما يلحقوا بهم. وكل ما يمكن أن يفيده الحديث هو بشرى تحققت باعتناق أهل فارس الدين الإسلامي في جملة من اعتنقه من العرب وغير العرب. وكلمتا (منهم وبهم) يجعلان صرف المعنى إلى الأميين موضوع الكلام والمعطوف عليهم هو الأولى والمعقول. وكلمة الأميين رادفت في القرآن العرب. وجاء مفردها وصفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آيات سورة الأعراف [١٥٧ و ١٥٨] والسورة نزلت في أواسط العهد المدني على الأرجح ثم أخذ العرب يدخلون في الإسلام جماعة بعد جماعة حتى إذا تمّ فتح مكة واعتنق أهلها الإسلام أخذ العرب يدخلون في دين الله أفواجا من كل صوب بحيث يصح القول إن الجملة قد تضمنت تطمينا أو بشرى ربانية تحققت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله أعلم.

هذا ، وحديث أبي هريرة في حدّ ذاته يفيد كما قلنا في تعريف السورة أن السورة نزلت دفعة واحدة وأن فصولها مترابطة. والله تعالى أعلم.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)) [٥ ـ ٨]

(١) أسفار : جمع سفر وهو الكتاب.

٣٣١

في الآيات :

١ ـ تنديد لاذع باليهود. فقد أتاهم الله التوراة وأمرهم بالسير عليها وتدبر ما فيها وتنفيذه ، وهذا معنى حمّلوا التوراة ، فلم يفهموها ولم يقوموا بحقها وانحرفوا عنها ، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل كتبا لأنه لا ينتفع بما فيها. وبئست حالة قوم مثل حالتهم بتكذيبهم آيات الله. ولن ينالوا توفيق الله وتسديده لأن الله لا يوفق الظالمين أمثالهم.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحدّيهم. فإذا كانوا صادقين في زعمهم أنهم أولياء الله وأصحاب الحظوة لديه دون سائر الناس فليتمنوا الموت الذي يقرّبهم إلى الجزاء الأخروي العظيم الذي يمنّون النفس به.

٣ ـ وتقرير بحقيقة واقعهم. فإنهم لا يتمنون الموت أبدا لأنهم يخافون المصير الرهيب بسبب ما اقترفوه وقدموه بين أيديهم من الآثام. وإن الله لهو العليم بالظالمين.

٤ ـ وإنذار لهم. فالموت الذي يخافونه ويتهربون منه ملاقيهم لا محالة. وإنهم لراجعون إلى الله عالم الحاضر والمستقبل والمغيب ومنبّأون بما عملوا ومحاسبون عليه.

تعليق على الآية

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ...) إلخ

والآيات الثلاث التالية لها

ولم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآيات أيضا. والمتبادر أنها والآيات السابقة لها سلسلة واحدة. نزلت دفعة واحدة. وفي سياق موقف جدلي قام بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واليهود. وتفاخر اليهود فيه وتبجحوا بأنهم أولياء الله وأحباؤه وموضع حظوته وأن الدار الآخرة خالصة لهم دون سائر الناس. بل ويستلهم من روح آيات السورة الأربع الأولى أنهم قالوا فيما قالوه إن الله جعل النبوة فيهم خاصة

٣٣٢

وأنكروا ـ بناء على ذلك ـ نبوة النبي لأنه عربي. فنزلت الآيات تكذبهم وتندد بهم وتتحداهم وتفحمهم بأسلوب قوي نافذ ولاذع.

وننبّه على أن مثل هذه المزاعم والأقوال والمواقف قد حكيت عن اليهود في آيات عديدة في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّتا وفي سورتي النساء والمائدة اللتين تأتيان بعد مما يدل على أنها كانت تتكرر منهم في المناسبات المختلفة.

وهذا الموقف من اليهود لا يمكن أن يكون منهم إلّا في ظرف كانوا فيه في المدينة على شيء من القوة والاعتداد. وهذا يصدق عليهم في السنين الخمس الأولى من الهجرة. وهو ما جعلنا نقدم السورة على ما شرحناه في مقدمتها.

ولقد جاء في آية سورة الأعراف [١٥٧] التي سبق تفسيرها أن أصحاب التوراة والإنجيل يجدون النبي الأمّي مكتوبا في كتابيهما المذكورين وقلنا في سياق تفسيرها إن الآيات كانت تتلى علنا ولا ريب في أنها كانت تعبر عن حق وحقيقة يسلم بهما أصحاب الكتابين. ولقد جاء في آية سورة الأحقاف [١٠] التي سبق تفسيرها أن من الإسرائيليين من شهد وآمن برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي ذلك تقرير لواقع لا شك فيه. ولقد جاء في آية سورة الأنعام [١١٤](وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) وهذا تقرير لواقع لا شكّ فيه. ولقد جاء في آيات سورة الإسراء [١٠٧ و ١٠٨] وآيات سورة القصص [٥٢ ـ ٥٥] أن الذين أوتوا العلم والكتاب اعترفوا وآمنوا بصدق القرآن ورسالة النبيّ. وجاء في آية سورة آل عمران [١٩٩] وسورة النساء [١٦٢] أن من أهل الكتاب ومن الراسخين في العلم من بني إسرائيل من اعترف وآمن بصدق رسالة النبي. وهذا وذاك تقرير لواقع لا شكّ فيه فيكون تنديد الآية الأولى التي نحن في صددها وتمثيل المنكرين لنبوة النبي من اليهود بالحمار الذي يحمل الأسفار محلّين ملزمين مفحمين لأن الذين أنكروا نبوة النبي الأمي أنكروا ما هو وارد في توراتهم الذي جعل بعضهم يسلّمون به ويؤمنون بالقرآن وبالنبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٣٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)) [٩ ـ ١١]

(١) إذا نودي : إذا أذّن لأنّ في الأذان دعوة للمسلمين إلى الصلاة (حيّ على الصلاة ـ حيّ على الفلاح). وقد استعمل هذا الفعل في مثل هذا الموقف في إحدى آيات سورة المائدة (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) [٥٨].

في الآيات :

١ ـ أمر موجّه للمسلمين بترك البيع والسعي إلى ذكر الله في المساجد حين يؤذّن المؤذن وينادي للصلاة يوم الجمعة.

٢ ـ وإباحة لهم بالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله بالكسب والعمل بعد انقضاء الصلاة.

٣ ـ وتنديد بفريق منهم كانوا يتركون النبي قائما في المسجد يوم الجمعة ويخرجون إذا ما رأوا أو سمعوا بتجارة أو لهو. ويغفلون بذلك عن أن ما عند الله هو خير من اللهو والتجارة وأنه خير الرازقين.

تعليق على آيات صلاة الجمعة وتنويه

بخطورتها الدينية والاجتماعية

ولمحة عن تاريخ الجمعة قبل الإسلام ومسألة اتخاذ يوم الجمعة

يوم عيد وعطلة عامّا للمسلمين

والآيات فصل مستقل عن الآيات السابقة. ولا تبدو حكمة وضعه بعدها

٣٣٤

واقتصار السورة عليه وعلى الفصل السابق له إلّا إذا صحّ ما ذكرناه في المقدمة. ونرجو ذلك.

وقد روى البخاري والترمذي في مناسبة نزول الآية الأخيرة فقط من هذه الآيات حديثا عن جابر قال : «أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فثار الناس إلا اثني عشر رجلا فأنزل الله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً)» (١).

ولقد أورد الطبري وغيره هذا الحديث ورووا زيادة مهمة لم ترد في الصحاح. ومن ذلك ما رواه البغوي أن الانفضاض كان بسبب سماع طبل صاحب القافلة. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضب من ذلك حتى قال : «والذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا». وفي رواية : «أنه سأل كم بقي في المسجد فقالوا اثنا عشر رجلا وامرأة فقال لو لا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء». وفي رواية رواها الطبري : «أن الانفضاض تكرّر ثلاث مرات على ثلاث جمع لم يكن يبقى في كلّ جمعة إلّا اثنا عشر رجلا وامرأة وأن النبي قال في الثالثة والذي نفسي بيده ولو اتّبع آخركم أولكم لالتهب عليكم الوادي نارا ، وأنزل الله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...) إلى آخر الآية».

والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث نزلت دفعة واحدة في مناسبة تسلل المسلمين من المسجد. وقد احتوت الأولى والثانية بيانا تمهيديا بخطورة شهود صلاة الجمعة. وترك البيع في وقتها كمقدمة للتنديد. وفي هذا إذا صح صورة من صور المسلمين في العهد المدني. والراجح أنها صورة للمسلمين المستجدين من غير الرعيل الأول من المهاجرين والأنصار الذين تواترت الروايات على أنهم كانوا مستغرقين في الله ورسوله ، وأيّدت ذلك الآيات العديدة التي مرّت أمثلة منها.

وروح الآيات تلهم أن صلاة يوم الجمعة والقيام للخطبة بين يديها مما كان جاريا ومفروضا قبل نزولها وأنها نزلت للحثّ على شهودها وبيان خطورتها

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٤ ـ ٢٣٥ وكلمة (عير) بمعنى القافلة ومن ذلك في سورة يوسف (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢).

٣٣٥

والتنديد بالمنفضين عنها أو المهملين فيها. وهذا المعنى يكون صحيحا وحاسما إذا صحّ ترجيحنا بأن الآيتين الأولى والثانية نزلتا مع الآية الثالثة دفعة واحدة وهو ما نرجوه.

وهناك روايات وآثار تؤيد ذلك حيث روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل في قباء حينما جاء من مكة مهاجرا فأقام فيها أياما وأن صلاة الجمعة أدركته في بني سالم بن عوف فصلّاها في مسجدهم الذي أسّسه لهم في بطن وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلّاها بالمدينة (١). وهذه الرواية تدل على أن صلاة الجمعة كانت تقام في مكة أيضا قبل الهجرة. وقد يؤيد هذا حديث رواه أبو داود وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن مالك وكان يقود أباه بعد ذهاب بصره قال : «كان أبي إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة فسألته عن ذلك فقال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة قلت كم أنتم يومئذ؟ قال أربعون» (٢). وأسعد بن زرارة هو أحد زعماء الأوس الذين بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة وتعاقدوا معه. ولا ريب أنه تلقى واجب صلاة الجمعة عنه كما تلقى عنه واجبات الإسلام الأخرى ...

ولقد روي فيما روي (٣) أن أهل يثرب رأوا أن يتخذوا لهم يوما يجتمعون فيه كما كان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فاختاروا يوم الجمعة. كما روي (٤) أن كعب بن لؤي رتّب أو سنّ اجتماعات عامة تقوم في هذا اليوم وبدّل اسمه من (العروبة) إلى يوم الجمعة. والمتبادر أن اسم اليوم وما توخّي منه أعمّ من نطاق يثرب وأقدم. وأن للاسم دلالة ظاهرة على معناه. وأن لرواية سنة كعب وتغييره اسم اليوم من العروبة إلى الجمعة أصلا وحقيقة مع ترجيحنا أن يكون الاجتماع المسنون ذا صبغة أو غاية دينية طقسية واجتماعية معا. وقد تكون فكرة

__________________

(١) سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١١١ ـ ١١٢.

(٢) التاج ، ج ١ ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨ ومعنى جمع بنا صلّى بنا صلاة الجمعة.

(٣) تاريخ العرب قبل الإسلام ، جواد علي ج ٥ ص ٢٤٦.

(٤) المصدر نفسه.

٣٣٦

التفرغ للصلاة أو لبعض الطقوس الدينية أو عقد اجتماعات عامة في يوم الجمعة في الجاهلية مقتبسة من اليهود والنصارى في الأصل أو قد لا تكون. فهناك أمم قديمة كثيرة كان لها أيام أسبوعية خاصة للاجتماعات الدينية والاجتماعية العامة لا تمتّ إلى النصرانية ولا إلى اليهودية كما لا يخفى.

على أن سكوت الروايات عن الإشارة بشيء هام إلى هذا الاجتماع الأسبوعي الجاهلي القديم يدلّ على أنه لم يظلّ على خطورته الأولى أو بالأحرى على أنه قد أهمل في عهد الجاهلية المتأخر ولم تبق له إلّا ذكرى الاسم فأحياها الإسلام ليكون هذا اليوم العربي الأسبوعي يوما مشهودا لذكر الله واجتماع المسلمين للصلاة في وسطه وسماع الخطبة والموعظة من رسول الله والأئمة من بعده.

وظاهر مما تقدم أن تشريع صلاة الجمعة في الإسلام كان في بدئه مكّيا ونبويا ثم صار بالآيات التي نحن في صددها قرآنيا ولعلّ في إيراد الآيات الثلاث بعد فصل التنديد باليهود ردّا على ما خمّناه من تفاخر هؤلاء بيوم معين في الأسبوع كله عندهم. فالله سبحانه قد جعل للمسلمين أيضا يوما معينا له هو يوم الجمعة ولقد رويت أحاديث عديدة في تعيين الله يوم الجمعة للمسلمين وفي فضلها وفضل صلاتها ووجوب شهودها والاحتفال لذلك ، منها حديث عن أبي هريرة رواه الشيخان والنسائي جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا تبع فيه. اليهود غدا والنصارى بعد غد» (١). وحديث عن أبي هريرة رواه مسلم والنسائي وأحمد جاء فيه : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على أعواد منبره لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» (٢). وحديث عن أبي الجعد الضّمري رواه أصحاب السنن والحاكم جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك ثلاث جمع تهاونا بها

__________________

(١) التاج ، ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٦٢.

(٢) المصدر نفسه.

٣٣٧

طبع الله على قلبه» (١). وحديث عن ابن عباس رواه الشافعي جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على كلّ محتلم رواح الجمعة وعلى كلّ من راح الجمعة الغسل» (٢). وحديث رواه أبو داود والبيهقي عن طارق بن شهاب جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقا في كتب لا يمحى ولا يبدل» (٣) وحديث رواه أبو داود والنسائي عن حفصة جاء فيه : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم في جماعة إلّا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبيّ أو مريض» (٤). وحديث رواه الشيخان وأبو داود عن سلمان الفارسي وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويطّهر ما استطاع من الطهر ويدّهن من دهنه ويمسّ من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرّق بين اثنين ثم يصلّي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلّم الإمام إلّا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» (٥). ولفظ أبي داود : «من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ثم أتى الجمعة فلم يتخطّ أعناق الناس ثم صلّى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من صلاته كانت كفّارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها» (٦). وحديث رواه ابن ماجه وعبد السلام عن عبد الله بن سلام قال : «سمعت رسول الله يقول على المنبر في يوم الجمعة ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته» (٧). وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «على كلّ مسلم حقّ أن يغتسل في كلّ سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده». ولفظ النسائي «على كلّ رجل مسلم في كلّ سبعة أيام غسل هو يوم

__________________

(١) التاج ، ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٦٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه. ـ وهذا الحديث والله لم يجعل شهود صلاة الجمعة جماعة واجبا على المرأة والصبي والعبد المملوك فهو لا يمنع ذلك لمن أراد واستطاع منهم كما هو المتبادر.

(٥) المصدر نفسه وتفسير ابن كثير.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

٣٣٨

الجمعة» (١). وحديث رواه الترمذي جاء فيه : «من تخطّى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنّم» (٢). وحديث رواه الخمسة إلّا أبا داود جاء فيه : «إنّ رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها غير مسلم وهو قائم يصلّي يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إيّاه وأشار بيده يقلّلها» (٣). وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي موسى عن وقت هذه الساعة أن رسول الله قال : «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» (٤). وحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» (٥).

وهناك أحاديث أخرى اكتفينا بما تقدم حيث تدل كثرتها على ما كان من اهتمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصلاة الجمعة وشهودها والتطهر والتزين والتجمّل لها وحيث ينطوي في هذا ما ينطوي من تعليم وتأديب رائعين. وخطورة واجتماع الجمعة الاجتماعية أيضا واضحة بالإضافة إلى خطورته الدينية. حيث يجتمع المسلمون جميعهم في المساجد في المدن والقرى في مشهد رائع عظيم فيذكرون اسم الله ويصلّون له ويستمعون لوعظ الخطباء. وقد يدخل هذا في حكمة التنبيه والإنذار القرآنية والنبوية. ولقد كانت هذه الخطورة أشدّ وأعظم في زمن رسول الله وخلفائه الراشدين حيث كانوا هم الذين يخطبون الناس خطبا تتناول أمور المسلمين العامة الحاضرة سياسية واجتماعية وجهادية وأخلاقية حثّا وزجرا وتعليما وإرشادا وإخبارا واستشارة. ومن الواجب حتما على المسلمين وخطبائهم أن يلتزموا بالأمر الرباني والنبوي والسنّة النبوية والراشدية.

ولقد استدل الفقهاء والمفسرون من جملة (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلقي خطبة الجمعة وهو واقف. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :

__________________

(١) المصدر السابق وتفسير ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٣٣٩

«كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ثمّ يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن» (١). وفي رواية : «كان للنبيّ خطبتان يجلس بينهما» (٢).

وهناك بعض أحكام فرعية للفقهاء فيها بعض الخلاف ليس هنا موضع التبسّط فيها غير أننا نرى أن نشير إلى نقطة هامة كثر القول فيها وهي فكرة اتخاذ يوم الجمعة يوم عطلة وراحة للمسلمين. فالذي يتبادر لنا أن الأمر بترك البيع والسعي إلى الصلاة كان من مقتضى الواقع أو بسبب كون البيع هو الذي كان يشغل الناس عن السعي إلى صلاة الجمعة أكثر. ولا يعني أن الذين لا يبتاعون مسموح لهم أن يتابعوا ما هم فيه من عمل وغير مأمورين إلى تركه والسعي إلى صلاة يوم الجمعة حينما يؤذن لها. بحيث يصحّ القول إن الآيات هي في صدد شهود الصلاة وسماع الخطبة في وقتها المعيّن ، وحظر البيع والاشتغال بأمور الدنيا المباحة في هذا الوقت وإباحة ذلك بعد انقضاء الصلاة. وليس فيها ما يمنع اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية كما أنه ليس فيها ما يوجب ذلك. وهذا شأن كسائر الشؤون الاجتماعية المباحة متروك لما يراه المسلمون ويتفقون عليه فيما يتبادر لنا. وإذا كان رأي أولي الأمر وعاداتهم المباحة مما يكون مرجحا في شؤون مسلمين التي لم يرد فيها نصّ فإن ذلك في جانب اتخاذ هذا اليوم يوم راحة وعطلة أسبوعية عام لأن الأولي الأمر ومصالح الحكومة جرت على هذا منذ الأمد الطويل. ولقد رأينا المفسر القاسمي يقول إن جملة : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) تدل على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة الذي فيه تشبيه بأهل الكتاب. ولسنا نرى هذا محلّه. فالآيات انطوت على تقرير كون الممنوع هو البيع والشراء وقت الصلاة ثم إباحتهما بعدها. والإباحة لا تعني الإيجاب. وفي الأحاديث السابقة حثّ نبوي على الاحتفال بيوم الجمعة من لبس ثوب نظيف غير ثوب المهنة والاغتسال والتطيّب مما يمكن أن يكون فيه تدعيم لفكرة اتخاذ هذا اليوم يوم عيد وعطلة وراحة للمسلمين ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٦٢ ، وتفسير ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

٣٤٠