التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

هريرة أنه يفسر الرباط بما صار يفهم منه في زمن الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين وبعده وقد عاش إلى زمن خلافة معاوية بن أبي سفيان.

وعلى كل حال فما زلنا نرجح أن معنى الآية هو تأويل جمهور المفسرين الذي تابعناهم فيه. وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضل المرابطة وأجرها والحثّ عليها. ويستفاد منها أنها متصلة بالجهاد الحربي في سبيل الله وظروفه. وأكثر من استوعبها ابن كثير في سياق تفسير الآية. ومنها ما روي بصيغ متقاربة من طرق مختلفة ومنها ما ورد في الصحاح أيضا. من ذلك حديث رواه البخاري عن سهل بن سعد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» (١). وحديث رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عينان لا تمسّهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» (٢). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلّ الميت يختم على عمله إلّا المرابط فإنّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمّن من فتّان القبر» (٣). وحديث رواه الترمذي والنسائي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رباط يوم في سبيل الله أفضل أو خير من صيام شهر وقيامه. ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة» (٤) ولفظ النسائي : «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم في ما سواه من المنازل» (٥).

وهناك أحاديث أخرى فاكتفينا بما أوردناه وفي الأحاديث صور من السيرة النبوية تفيد أن الرباط الجهادي كان مما يمارس في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها تلقينات مستمرة المدى في وجوب التيقظ والاستعداد والمرابطة في سبيل الله تجاه أعداء الإسلام والمسلمين وعدوانهم الواقع أو المرتقب.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٩٩ و ٣٠٠.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٣٠١

سورة الحشر

جلّ هذه السورة في صدد إجلاء فريق من اليهود عن المدينة. وما كان من مواقف المنافقين فيه وتشريع للفيء ومداه وما كان من تشادّ حوله. وفيها أكبر مجموعة لأسماء الله الحسنى والمرجح أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة حسب ما جاءت في المصحف.

والمفسرون وكتّاب السيرة متفقون (١) على أن الفريق اليهودي هم بنو النضير إحدى قبائل اليهود الإسرائيليين الذين كانوا يقيمون في المدينة. ومتفقون (٢) كذلك على أن حادثهم وقع بعد نحو خمسة أشهر من وقعة أحد. والمعقول أن يكون ترتيبها بعد سورة آل عمران التي احتوت مشاهد وظروف هذه الواقعة. غير أن الذين يروون ترتيب السور المدينة حسب النزول يجعلونها الخامسة عشرة ويجعلون سورة الممتحنة التي احتوت الإشارة إلى أحداث وقعت بعد صلح الحديبية مكانها بعد سورة آل عمران ثم يجعلون بعد الممتحنة سورة الأحزاب التي احتوت الإشارة إلى وقعتي الأحزاب أو الخندق وبني قريظة اللتين وقعتا بعد مدة ما من وقعة بني النضير وليس في هاتين السورتين ما يبرر تقديمهما على سورة الحشر وليس في سورة الحشر ما يبرر تأخيرها عنهما بل وعن غيرهما حتى تكون الخامسة عشرة في الترتيب. ومن العجيب أن رواة الترتيب لم ينتبهوا إلى ما في ذلك من شذوذ واستحالة. ويبدو لنا أنهم خلطوا بين سورتي الحشر والممتحنة وبدلا من أن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي والزمخشري وابن كثير وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٩٨ ـ ١٠٠ ، وابن هشام ج ٣ ص ١٩١ ـ ١٩٨.

(٢) المصدر نفسه.

٣٠٢

يجعلوا الحشر بعد آل عمران جعلوا الممتحنة غلطا (١).

ولما كان هذا عندنا في درجة اليقين لأنه قائم على واقع متفق عليه فقد رأينا أن نخلّ بالترتيب الذي تابعنا فيه المصحف الذي اعتمدناه وجلّ روايات الترتيب معا ، فنجعل سورة الحشر بعد آل عمران بدلا من سورة الممتحنة ونقدم سورة الفتح التي يؤخرها الرواة كثيرا حتى يجعلوها الثانية والعشرين أو السادسة والعشرين والتي نزلت في حادث صلح الحديبية بدون أي مبرر ثم نجعل بعدها سورة الممتحنة لأن ذلك يتسق مع التسلسل الزمني لوقائع السيرة النبوية. وهو الذي قصدنا إليه حينما اعتزمنا على جعل تفسيرنا للسور وفق روايات ترتيب النزول.

هذا ، ويسمي المفسرون سورة الحشر باسم بني النضير عزوا إلى ابن عباس وغيره (٢) لأنها نزلت في صدد وقعتهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤)) [١ ـ ٤]

(١) من حيث لم يحتسبوا : من حيث لم يظنوا ويحسبوا حسابه.

__________________

(١) انظر كتابنا «سيرة الرسول» ج ٢ ص ٩ ، و «الإتقان» ج ١ ص ١٠ ـ ١٢.

(٢) انظر تفسيرها في تفسير البغوي وابن كثير والخازن.

٣٠٣

الآية الأولى من المطالع التي تكررت في عدّة سور مدنية كمقدمة تمهيدية لما بعدها وقد جاءت هنا كذلك. أما مطلع سورة الأعلى فليس من هذه المطالع لأنه أمر بالتسبيح.

وقد تضمنت الآيات تقرير ما يلي :

١ ـ إن الله الذي يسبح له ما في السموات والأرض القوي الجانب الحكيم التقدير هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من موطنهم لأول الحشر في حين لم يكن المؤمنون يظنون أن يتم ذلك وكان المخرجون يظنون أن حصونهم ما نعتهم من الله. ولكن بلاء الله أتاهم من حيث لم يخطر ببالهم ويحسبوا حسابه وقذف في قلوبهم الرعب حتى إنهم خربوا أو هدموا بيوتهم بأيديهم فضلا عن أيدي المؤمنين. وإن في ذلك لعبرة يعتبر بها أولو الأبصار والعقول.

٢ ـ لقد اقتضت حكمة الله أن يكتفى بإخراجهم وجلائهم مع أنهم مستحقون لعذاب أشدّ في الدنيا. ولسوف يكون لهم في الآخرة عذاب النار. وذلك بسبب ما كان منهم من مشاقة لله ورسوله ومناوأة وعداء ، ومن يفعل ذلك يتعرض لغضب الله الشديد العقاب.

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة

وحادث إجلاء بني النضير

والمفسرون وكتّاب السيرة (١) متفقون على أن هذه الآيات نزلت في صدد إجلاء يهود بني النضير الذين كانوا مقيمين في إحدى ضواحي المدينة. وعلى أن الحادث كان بعد وقعة أحد وقبل وقعتي الأحزاب وبني قريظة.

وأسلوب الآيات يدل على أنها جاءت للعظة والعبرة وتذكير المسلمين بما

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري وانظر ابن هشام ج ٣ ص ١٩١ وما بعدها.

٣٠٤

يسّر الله لهم بحيث لو لم يكن تيسيره لما تمّ لهم ما تمّ. ولم تأت للسرد القصصي وهو شأن سائر حوادث الجهاد في القرآن. ولما كانت الآيات التالية لها قد احتوت تشريع تخصيص الفيء جميعه لبيت مال المسلمين والفئات المحتاجة بأسلوب قوي حاسم فمن السائغ أن يقال إن هذه الآيات قد جاءت بأسلوبها الذي جاءت به لتبرير ذلك التشريع.

ويتضمن هتاف الآيات (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) بشرى ربانية تمدّ المسلمين بالروح والقوة والأمل في ظرفهم الحاضر المشابه للظروف الذي كان فيه المسلمون تحت راية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حيث يحتلّ الذين كفروا من أهل الكتاب الصهيونيون اليهود جميع فلسطين عدوانا واغتصابا بعد أن شرّدوا معظم أهلها عنها بمساعدة وتأييد طواغيت الاستعمار الطامعين بالسيطرة على بلاد العرب وثرواتها. فالمسلمون الآن يظنون كما كان يظن المسلمون الأولون أنهم غير قادرين على استرداد الأرض المغتصبة. والمغتصبون يظنون أنهم لن يغلبوا ولن يقدر المسلمون على استرداد ما اغتصبوه منهم بسبب ما هم عليه من قوة تمدهم بها أميركا طاغوت الاستعمار الأكبر اليوم وبسبب تأييد هذا الطاغوت لهم. ولكن الله أتى الذين كفروا من أهل الكتاب الأعداء من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب وجعلهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وأجلاهم عن الأرض المقدسة. وهو قادر على أن يفعل ذلك مع الصهيونية وأنصارهم الطغاة المعتدين. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن على المسلمين أن يقوموا بما أوجبه عليهم كتاب الله في آيات عديدة أخرى فيتضامنوا أشد تضامن ويتخلوا عن ما هم فيه من تمزّق وتخاذل وتهاون وكل هذا مما مكّن عدوهم وأنصاره من بلادهم ولا يهنوا في كفاحه ويعدوا له كل ما يستطيعون من قوة وقد منحهم الله نعمه العظيمة التي فيها قوّة عظمى لو عرفوها وقدروها واستعملوها حق معرفتها وقدرها واستعمالها.

أما حادث إجلاء بني النضير فخلاصة ما ذكرته روايات السيرة والتفسير (١)

__________________

(١) انظر الكتب السابقة الذكر ، وانظر أيضا طبقات ابن سعد ، ج ٣ ص ٩٨ ـ ١٠٠.

٣٠٥

هي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب مع بعض أصحابه إلى حي بني النضير ليستعين بهم على ديّة قتيل كان بين قومه وبين النبي ، وبين قومه وبين بني النضير في الوقت نفسه حلف وعهد وجوار جريا على التقاليد الجارية فتظاهروا بالاستعداد لتلبية طلبه وقالوا لبعضهم إنكم لن تجدوا فرصة أحسن من هذه الفرصة لاغتياله وأخذوا يدبرون طريقة لذلك فارتاب النبي في حركتهم فانسحب بسلام وأرسل إليهم في اليوم التالي إنذارا بالجلاء في ظرف عشرة أيام على أن يأخذوا أموالهم المنقولة ويقيموا وكلاء على أراضيهم وبساتينهم. وكانوا حلفاء لقوم كبير المنافقين عبد الله بن أبي فاستشاروهم فحرضوهم على الرفض ووعدوهم بالنصر فاغتروا ورفضوا فحاصرهم النبي وضيّق عليهم وأمر بقطع بعض نخيلهم إرغاما وإرهابا. ولم يجد المنافقون من حلفائهم وفاء بما وعدوهم به من النصر فاستولى الرعب عليهم ورضوا بالجلاء بشروط أشدّ من الأولى بسبب تمردهم وعنادهم وهي تسليم سلاحهم وتنازلهم عن أراضيهم وبساتينهم وحمل منقولاتهم فقط.

وفي آيات آتية من السورة إشارة إلى ما كان من قطع النبي لبعض نخيلهم وإلى ما كان من مواقف المنافقين حلفائهم حيث يتسّق ذلك مع الروايات التي أوجزناها.

ومما روته الروايات أن بني النضير أرادوا إظهار الزهو والخيلاء وهم يخرجون حيث كانت قيانهم يعزفن وأصحاب الدفوف والمزامير يضربون بدفوفهم ومزاميرهم وأنهم هدموا بيوتهم وحملوا سقفها وعضائدها وأبوابها وأن اثنين منهم أسلما فبقيا حيث هم سالمة لهم أموالهم وأن منهم من ذهب إلى بلاد الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر فأقام مع يهودها ، ومن هؤلاء زعماؤهم الذين تزعموا يهود خيبر. وقد هدموا بيوتهم ونزعوا الأعمدة والأبواب الخشبية منها وحملوها لئلا ينتفع بها المسلمون ، جاء المسلمون فأتموا تخريب هذه البيوت وهذا ما تضمنته جملة (بُيُوتَهُمْ

٣٠٦

بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) على ما رواه المفسرون.

ومما روته الروايات كذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتاز من سلاحهم ثلاثمائة وأربعين سيفا وخمسين درعا وخمسين بيضة.

ولقد تعددت تأويلات المفسرين ورواياتهم لجملة (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (١) فقيل إنهم سألوا النبي إلى أين نخرج فقال لهم إلى أول الحشر في الشام وقيل إن معناها (هذا هو الحشر الأول أي الجلاء الأول ويعقبه حشر ثان وهو ما تمّ في زمن عمر بن الخطاب) وقيل إن معناها أنهم لم يلبثوا أن استسلموا وقبلوا الخروج لأول ما حشر النبي عليهم واستعدّ لقتالهم. ولعلّ التأويل الأخير هو الأوجه لأنه لم يقع قتال بينهم وبين المسلمين ، وهو المتّسق مع روحه الآية الثانية التي هي بسبيل تقرير ما كان من تيسير الله بخروجهم بسهولة وسرعة لم تكونا متوقعتين لأحد. وتأويل الجملة بأنها أول جلاء يهودي يتناقض مع ما هو متفق عليه من أن بني قينقاع كانوا أول من أجلي من اليهود على ما شرحناه في سياق سورة الأنفال.

وجملة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) واسعة المدى والشمول وتدل على أنه كان من يهود بني النضير مواقف عديدة مؤذية ومزعجة تجاوزت مواقف الجدل والمناظرة في شؤون الدعوة بل وتجاوزت مواقف التشكيك والاستهتار والاستخفاف والطعن وأن محاولتهم اغتيال النبي كانت السبب المباشر. ولقد كان كعب بن الأشرف منهم وكان شاعرا فكان يهجو النبي والمسلمين بقصائده المقذعة ويشبّب بنسائهم حتى إن النبي انتدب المسلمين إلى اغتياله فلبّى الطلب بعضهم وذهبوا فاغتالوه. وكان ذلك قبل هذه الوقعة (٢).

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير إلخ.

(٢) ابن سعد ج ٣ ص ٧٠ ـ ٧٢ ، وابن هشام ج ٢ ص ٤٣١ وما بعدها.

٣٠٧

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)) [٥]

(١) لينة : نخلة ، وقيل إنها نوع خاص من جيد النخل. وقيل إنها غرسة النخل الفتية.

الخطاب في الآية موجّه إلى النبي والمؤمنين على سبيل تبرير ما فعلوه من قطع بعض نخيل بني النضير لإرهابهم وإرغامهم. فهي تقرر أن ما قطعوه إنما قطعوه بإذن الله وما أبقوه إنما أبقوه بإذن الله. وما كان من إذن الله إنما كان لخزي العاصين المتمردين وإرغامهم.

والآية استمرار للسياق السابق كما هو المتبادر. وقد روي أن بني النضير عيّروا النبي بتقطيعه النخل وأن المنافقين من حلفائهم شاركوهم في هذا التعبير فاقتضت حكمة التنزيل إنزالها لتثبّت النبي والمسلمين وللردّ على اليهود والمنافقين. وقد يكون في التبرير القرآني إجازة لأي عمل من نوعه يؤدي إلى إرغام العدو حينما تقوم حالة حرب وعداء بين الكفار والمسلمين والله تعالى أعلم.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)) [٦ ـ ٧]

(١) أفاء : جعله فيئا أو ساقه.

(٢) أوجفتم : هيّأتم ، ومعنى جملة (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ)

٣٠٨

لم تسيروا مسيرة تحتاج إلى خيل وركائب ولم تقاسوا حربا ولا مشقة في سبيل ما أفاء الله عليكم.

(٣) كيلا يكون دولة بين الأغنياء : لئلا يكون المال العائد من هذا الفيء مما يصحّ أن يتداوله الأغنياء.

تضمنت الآيات :

١ ـ مقدمة تبريرية لتشريع الفيء. فأملاك وبساتين اليهود المجليين إنما هي هبة الله وتيسيره لرسوله. ولم يكن على المسلمين في إحرازها مشقة وكلفة من حرب وإعداد خيل ومؤونة ، وقد مكّن الله رسوله من ذلك وهو الذي يسلط رسله على من يشاء وهو القدير على كل شيء.

٢ ـ تشريعا بشأن هذه الأملاك والبساتين : فما أفاء الله على رسوله والحالة هذه فهو لله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وليس للأغنياء فيه نصيب حتى لا تبقى الثروة محصورة التداول بين الأغنياء.

٣ ـ تدعيما لهذا التشريع : فعلى المؤمنين أن يسمعوا ويطيعوا. فما آتاهم الرسول أخذوه. وما نهاهم عنه ومنعهم منه وجب عليهم أن ينتهوا عنه ويمتنعوا. وعليهم بتقوى الله والوقوف عند أوامره. فإنه شديد العقاب على من يخالف ويتجاوز حدوده المرسومة. والجملة الأخيرة تتضمن تقرير كون ما يفعله الرسول من مثل ذلك هو من وحي الله وأمره.

تعليق على الآية

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ...) إلخ

والآية التالية لها وتشريع الفيء

وقد روى المفسرون (١) أن بعض المسلمين طالبوا النبي بقسمة أملاك

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والخازن والطبري. والمفسرون الأولان ذكرا (بعض المسلمين) أما الطبري فقد روى أن الذين نكلوا في الموضوع وطلبوا قسمة الفيء هم جماعة من الأنصار.

٣٠٩

وبساتين بني النضير أسوة بغنائم بدر وغيرها أي بعد إفرازه الخمس لبيت المال والمعوزين من المسلمين ، فكان رأي النبي أن جميعها لبيت المال والمعوزين لأنهم لم يوجفوا على إحرازها خيلا ولا ركابا. وأن الآيات قد نزلت بسبيل تأييد رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والرواية محتملة الصحة كما هو ظاهر مع التنبيه إلى أن أسلوبها القوي الحاسم الذي تضمن فيما تضمنته إنذارا شديدا يدل على أن الذين طالبوا بالقسمة كانوا متشددين في موقفهم. وفي ذلك مشهد من مشاهد السيرة النبوية والتشريع القرآني وظروفه. بل وأنه ليتبادر لنا والله أعلم أن جميع هذا الفصل بل السورة جميعها نزلت بسبيل ذلك.

وأسلوب الآية الثانية يجعل التشريع فيها عاما شاملا لكل ما يدخل في حوزة رسول الله وخلفائه من بعده بالتبعية من أموال العدو بدون تكلّف المسلمين نفقة ومشقة ليكون لبيت المال وينفق على مصالح الإسلام والمسلمين العامة وعلى فقراء المسلمين ومحتاجيهم معا.

وهذا ثاني تشريع قرآني مالي ورسمي بعد تشريع الغنائم الحربية. وقد عرف باسم الفيء اقتباسا من نصّ الآيات وروحها. ولقد نبهنا على ما في تشريع الغنائم من خطورة وجلال. وتشريع الفيء أعظم خطورة وأبعد مدى لأنه يتضمن تخصيص جميع ما يأتي من هذا المورد للصالح العام وفقراء المسلمين.

والجهات والفئات التي خصص لها الفيء هي التي خصص لها خمس الغنائم في آية سورة الأنفال [٤١] ولقد كتبنا تعليقا وافيا على آية سورة الأنفال وأوردنا الأحاديث والروايات التي أورد المفسرون كثيرا منها أيضا في سياق آيات الفيء هذه. وكل ما ذكرناه في تعليقنا المذكور يصح أن يساق هنا فلا نرى ضرورة إلى الإعادة والزيادة.

٣١٠

تعليق على جملة

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

مع أن هذه الجملة جاءت لتدعم تشريع الفيء الذي احتوته الجملة السابقة لها ثم لتوطيد سلطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فإنها جاءت في صيغة مطلقة فصارت تشريعا عام الشمول بوجوب اتباع أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه وسننه القولية والفعلية كجزء من العقيدة الإسلامية. وقد أكد هذا في آية أقوى في سورة النساء وهي : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠) بالإضافة إلى آيات أخرى فيها تدعيم مثل آيات آل عمران [٣١ و ٣٢] والنساء [٥٩ و ٦٨] والنور [٥٢] والأحزاب [٧١] والفتح [١٧]. والجملة التي نحن في صددها والآيات التي أوردناها أو أشرنا إلى أرقامها تتضمن إيذانا من الله عزوجل بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يأمر به وينهى عنه عن الأمر إلّا بما هو صالح وخير وعن النهي إلّا بما هو ضارّ وباطل.

وتنبيه على أن هذا ليس من شأنه أن يتناقض مع ما تضمنته بعض الآيات من عتاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعض ما فعله. فهذا كان منه اجتهادا بأنه خير وصالح. ولم يكن يعلم ما هو الأولى في علم الله بدون وحي. ولقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر وينهى كثيرا باجتهاد منه فكان القرآن يسكت عن ذلك مقرّا أو يؤيده نصّا أو يعاتب عليه ويوحي بما هو الأولى حسب مقتضى حكمة الله على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

وهناك أحاديث نبوية رواها أصحاب الصحاح في دعم ذلك وتوضيحه. من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي وأورده الأئمة والمفسرون في سياق الجملة التي نحن في صددها قال : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم

٣١١

كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» (١). وحديث أورده الخازن في سياق الجملة جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول ما أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (٢). والأمر في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميسور بالاستماع منه والرجوع إليه شخصيا. أما بعد وفاته فقد أصبح السير واجبا وفق ما روي وصحّ عنه من أوامر ونواه وسنن قولية وفعلية.

وهذا بطبيعة الحال يستتبع وجوب التثبيت فيما ينسب إليه من ذلك. ولقد يسّر الله رجالا مخلصين لله ورسوله محّصوا ما نسب إليه من أحاديث ودونوا ما صحّ عندهم منها فصارت مرجعا عظيما من مراجع التشريع الإسلامي. ومن أهم الضوابط التي وضعها العلماء أن لا يكون بين ما نسب إليه وبين أحكام ومبادئ القرآن الثابتة والمحكمة الواضحة تعارض وتناقض. لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمكن أن يأمر وينهى بما يتعارض مع الأحكام والمبادئ القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في شؤون وأحكام قرآنية تدور على الأغلب حول تخصيص ما فيه إطلاق ، وتوضيح ما فيه غموض ، وإتمام ما يحتاج إلى إتمام ، وبيان ما سكت القرآن عن جزئياته وأشكاله وفروعه مثل عدد ركعات الصلوات وكيفياتها وأركانها ونصاب الزكاة على أنواع الأموال وبقية أنصبة الإرث التي تبقى في حالة وراثة النساء لآبائهن وإخوانهن وطقوس الحج إلخ .. إلخ .. وقد مرّ من ذلك أمثلة كثيرة وسيأتي أمثلة أخرى في المناسبات الآتية.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٣١.

(٢) في التاج حديث فيه مثل هذا الحديث مع زيادة مهمة رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «ألا لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه. ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهلي. ولا كلّ ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلّا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه» ، التاج ج ٣ ص ٨٧.

٣١٢

تعليق على جملة

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ)

هذه الجملة وإن كانت في صدد منع الأغنياء من نصيب من الفيء وتداول ما يفيئه الله تعالى على المسلمين من الأعداء بين الأغنياء والأقوياء وحسب ، فإنها تنطوي فيما يتبادر لنا والله أعلم على معنى جليل بعيد المدى ، وهو أنه لا ينبغي أن تكون الثروة محصورة التداول في أيدي فئة قليلة من الناس ، وإن من حقّ السلطان الإسلامي أن يتخذ من التدابير ما يكفل توزيعها بين أكبر فئة منهم ولو بطريق تخصيص الفقراء ببعض موارد الثروة دون الأغنياء استئناسا بالآية التي فيها هذه الجملة حيث شاءت حكمة الله أن تخصص مورد الفيء جميعه لمصالح المسلمين العامة وفئاتهم المحتاجة دون الأغنياء. ولقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين» (١). وعمر رضي الله عنه كان من أقرب الناس إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالتبعية من أكثرهم فهما لتوجيهات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وروحه. ولا شك في أنه صدر في قوله هذا عما اعتقد أنه يتسق مع ذلك. ولقد تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأنه رتّب المرتبات لمختلف فئات المسلمين وكان يهتم كثيرا لمساعدة ونجدة المحرومين والضعفاء والفقراء (٢) مما فيه توثيق لصحة صدور ذلك القول عنه.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٩١.

(٢) انظر تاريخ عمر بن الخطاب للإمام ابن الجوزي حيث استوعب كثيرا من أقواله وأفعاله في هذا الصدد.

٣١٣

مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)) [٨ ـ ١٠]

(١) الذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم : الجمهور على أن الجملة كناية عن الأنصار والدار هي دار الهجرة أي المدينة ؛ حيث كانوا مقيمين فيها وقد آمنوا قبل قدوم المهاجرين إليها.

(٢) لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا : الجمهور على أن الضمير في الكلمتين الأوليين عائد إلى الأنصار وفي كلمة (أُوتُوا) عائد إلى المهاجرين. ومعنى الجملة لا يشعر الأنصار بحسد أو غيرة مما أوتي المهاجرون.

(٣) يؤثرون على أنفسهم : من الإيثار أي يؤثرون الغير على أنفسهم.

(٤) خصاصة : فاقة وحاجة.

تعليق على الآية

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨)

والآيتين التاليتين لها

عبارة الآيات واضحة. وتبدو أنها بيان توضيحي للمستحقين للفيء من الفقراء حيث شمل أولا الفقراء المهاجرين الذين اضطروا إلى الخروج من ديارهم والتخلي عن أموالهم فيها ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة دينه ورسوله. وثانيا فقراء الأنصار الذين آمنوا برسالة النبي في دار الهجرة قبل أن يأتي إليها المهاجرون ورحبوا بالذين هاجروا إليهم وأحبوهم والذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان

٣١٤

بهم فاقة وحاجة ولا يحسدون المهاجرين على ما أوتوا ولا يغارون منهم حيث أثبتوا أن الله قد وقاهم من الشحّ وهيأ لهم بذلك سبيل الفلاح. وثالثا فقراء المسلمين الذين آمنوا بعد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واندمجوا فيهم وكانوا يدعون الله بأن يغفر لهم ولإخوانهم السابقين عليهم بالإيمان وبأن لا يجعل في قلوبهم غلا ولا حسدا نحوهم وهو الرؤوف بعباده الذي يشملهم بسابغ رحمته.

ولقد روى المفسرون (١) ما يفيد أن المهاجرين كانوا فقراء لا أرض ولا مورد لهم وكانوا عالة على الأنصار فلما فتح الله على النبي ويسّر له أموال بني النضير شاور الأنصار واسترضاهم في النزول عن حقهم فيها حتى يقسمها على المهاجرين فيكفوهم مؤونتهم وأن الأنصار رضوا بذلك عن طيب خاطر ولم يشعروا بحسد ولا غيرة مما اعتزمه النبيّ من توزيع الفيء على المهاجرين عدا الذين في قلوبهم مرض ونفاق. وأن النبي قسّم هذه الأموال على المهاجرين فقط ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة رجال فقراء منهم. وأن الآيات بسبيل تأييد ما فعله النبي إلهاما ، والثناء على الأنصار الذين تنازلوا عن حقهم.

ونحن في حيرة من هذه الروايات التي رواها معظم المفسرين عزوا إلى ابن عباس لأننا نراها متناقضة مع تقرير الآيات السابقة التي شرّعت جميع الفيء للمصالح العامة والمحتاجين لأنه تيسر بدون إيجاف خيل وركاب فلم يستحق فيه المسلمون استحقاقا ملزما كاستحقاقهم في الغنائم التي يحوزون عليها بعد قتال وإيجاف خيل وركاب ومنعت قسمته على المسلمين الميسورين. بل وتتناقض مع روح الآيات نفسها التي جاءت مطلقة وبعضها معطوف على بعض بحيث تبدو بأسلوب قوي أنها أرادت فقراء الفئات الثلاث معا أي السابقين من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا بعدهم واندمجوا فيهم.

وكل ما يمكن احتماله فيما نرى وفيه توفيق بين روح الآيات وخطوط الرواية أن تكون ما آلت إليه حالة المهاجرين الاقتصادية من ضيق وحرج قد ألهمت

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.

٣١٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصر الفيء الذي تيسّر بدون إيجاف وحرب على المصالح العامة والفقراء المساكين واليتامى وأبناء السبيل وذي القربى دون الأغنياء ولم يكن من المهاجرين أغنياء وإنما كان من الأنصار وأن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خاطب هؤلاء فأظهر المخلصون وهم الأكثرية العظمى منهم الرضاء دون اعتراض وحساسية مما كان جعلهم يستحقون التنويه العظيم الذي احتوته الآية. وظلّ الذين في قلوبهم مرض منهم يشغبون وينتقدون فاقتضت حكمة التنزيل تأييد النبي بهذه الآيات والتي قبلها لتكون حاسمة للأمر وتشريعية مطلقة لأمثال الفيء فيما بعد. ولعل ما ذكرته الروايات من إعطاء النبي فقراء من الأنصار نصيبا من هذا الفيء قرينة أو دليل على ذلك.

ولقد روى الإمام أبو يوسف والإمام أبو عبيد أن المسلمين الذين فتحوا العراق طلبوا من عمر بن الخطاب أن يقسم أرض السواد العراقي عليهم فأبى وقال لهم إنه لجميع فقراء المسلمين في جميع أجيالهم حقا في ذلك استنادا إلى هذه الآيات. وأبقاها كذلك. يؤخذ ريعها من مستأجريها ويوزع على فقراء المسلمين حيث يمكن القول على ضوء هذه الرواية الواردة في أقدم كتابين وصلا إلينا لإمامين مشهورين أن عمر رضي الله عنه اعتبر الآيات توضيحا للمستحقين للفيء من فقراء المسلمين على اختلافهم سواء أكانوا من المهاجرين أم من الأنصار الأولين أم من الذين آمنوا بعد الرعيل الأول من هؤلاء وأولئك. ثم اعتبرها مستمرة الحكم بالنسبة لجميع أجيال المسلمين في مستقبل الأيام. وصيغة الآيات وعطف بعضها على بعض ومجيئها بعد ذكر مصارف الفيء وخاصة الفئات المحتاجة من المسلمين مما يدعم هذا الاعتبار.

ونقف إزاء تصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنقول إنه صورة من ما كان يفهم كبار أصحاب رسول الله من التوجهات القرآنية. وإنه عمل فريد رائع في بابه فيه تدشين لما يمكن أن يسمى أملاك الدولة التي ترصد على فقراء المسلمين تطبيقا عمليا لتشريع مساعدة هؤلاء الفقراء التي جعلت من نظام الدولة الإسلامية على ما تلهمه الآيات. وعلى ما شرحناه في سياق شرحنا آيات خمس

٣١٦

الغنائم والزكاة في سورتي الأنفال والمزمل.

ويتبادر لنا أن عمر رضي الله عنه اعتبر فقراء المسلمين من الفئات الثلاث بمثابة (مساكين) في معنى الكلمة الذي جاء شرحها في حديث نبوي رواه الشيخان عن أبي هريرة «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكنه الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس». ويتبادر لنا كذلك أن عمر رضي الله عنه لا بدّ من أنه لحظ جمع مصارف الفيء وكان ينفق من إيراد السواد العراقي عليها حسب ما تقتضيه المصلحة وأن ما روي إنما كان لتطبيق مدى الآية وعدم توزيع الأرض على الفاتحين وإبقائها بمثابة الفيء والمصارفة والله تعالى أعلم. والمستفاد مما ذكره أبو عبيد أيضا أن عمر رضي الله عنه سلك في أرض الشام المفتوحة ما سلكه في أرض العراق.

هذا ، ووصف الفئات الثلاث المخلصة في حدّ ذاته وصف قوي محبب وجدير بالتأمل والإجلال ويدل على ما كان من قوة إخلاص السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لدين الله ورسوله وتحمّلهم معظم التضحيات في سبيلهما فاستحقوا ثناء الله العظيم في هذه الآيات وفي آية التوبة هذه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠) كما استحقوا ثناء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحاديث عديدة وردت في الكتب الخمسة منها حديث رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه : «أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون» (١). وحديث آخر رواه مسلم عن أبي موسى جاء فيه : «الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» (٢). وحديث رواه

__________________

(١) انظر التاج ، ج ٣ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

(٢) المصدر نفسه.

٣١٧

الأربعة عن أبي سعيد جاء فيه «لا تسبّوا أحدا من أصحابي فإنّ أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» (١) وحديث رواه الترمذي عن بريدة جاء فيه : «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» (٢) وحديث رواه الشيخان عن البراء جاء فيه : «الأنصار لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق فمن أحبّهم أحبّه الله ومن أبغضهم أبغضه الله» (٣). وحديث رواه الشيخان عن أنس جاء فيه : «آية الإيمان حبّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» (٤). وحديث رواه الشيخان عن أنس أيضا جاء فيه يخاطب امرأة من الأنصار : «والذي نفسي بيده إنّكم لأحبّ الناس إليّ ، ثلاث مرات» (٥). وحديث رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة جاء فيه : «لو أنّ الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار ، ولو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» (٦) وحديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم جاء فيه : «اللهمّ اغفر للأنصار ، ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ولنساء الأنصار» (٧).

وهذه الأحاديث خلاف أحاديث كثيرة في عدد كبير بأعيانهم من المهاجرين والأنصار.

ونقول استطرادا : أولا : إن كلمة (صحابي) مع أنها تطلق من قبل المسلمين على كل من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المؤمنين فإن كلمة (أصحابي) في هذه الأحاديث تدلّ في مقامها على أن المقصود منهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وصحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته رضي الله عنهم. وثانيا : إن

__________________

(١) انظر التاج ، ج ٣ ص ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) انظر التاج ج ٣ ص ٣٤١ ـ ٣٤٤.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

٣١٨

اسم (المهاجر) يطلق على من هاجر من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة فقط. لأن هناك حديثا نبويا جاء فيه : «لا هجرة بعد الفتح» وإن المهاجرين أنواع ، نوع هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي إلى المدينة ثم جاؤوا منها إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة في ظروف هجرة النبي إلى المدينة. ونوع هاجر إلى المدينة من مكة بعد مدة ما وقبل فتح مكة وظلّ أثناء هذه المدة مشركا. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للمهاجرين تطلق على النوعين الأولين فقط. وثالثا : إن الأنصار أيضا أنواع ، نوع آمن قبل هجرة النبي إلى المدينة وهم الذين ذكروا في الآية الثانية التي نحن في صددها. ونوع آمنوا بعد هجرته. وإن كلمة (السابقين الأولين) بالنسبة للأنصار تطلق على النوع الأول فقط.

هذا ، ولقد روى الشيخان والترمذي كسبب لنزول جملة (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) عن أبي هريرة قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال ألا رجل يضيّفه هذه الليلة يرحمه‌الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته ضيف رسول الله لا تدّخريه شيئا. قالت والله ما عندي إلّا قوت الصبية. قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله فقال لقد عجب الله أو ضحك الله عزوجل من فلان وفلانة فأنزل الله الجملة» (١). والجملة جزء من آية والآية جزء من سياق. وكل ما يمكن أن يكون أن النبي تلا الآية حينما فعل الأنصاري وامرأته ما فعلاه فالتبس الأمر على الرواة.

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أنس قال : «قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير. فقد كفونا المئونة وأشركونا في المهنأ. حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلّه». وروى البخاري عن أنس قال : «دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين

__________________

(١) انظر التاج ، ج ٣ ص ٣٤١ ـ ٣٤٤.

٣١٩

قالوا لا إلّا أن نقطع لإخواننا المهاجرين مثلها». وروى البخاري عن أبي هريرة قال : «قالت الأنصار أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال : لا. فقالوا أتكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا». وأورد ابن كثير حديثا جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا أموالنا قطائع بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غير ذلك قالوا وما ذاك يا رسول الله قال هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسموهم الثمر فقالوا نعم يا رسول الله». ولقد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين رجال المهاجرين وبين رجال من الأنصار فكان مما فعله الأنصار تجاه من آخاهم معهم النبي من المهاجرين أن قاسموهم بيوتهم وأشركوهم في أعمالهم وأموالهم حتى لقد طلّق بعضهم بعض زوجاته لييسر لأخيه المهاجر التزوّج بها على ما جاء في كتب السيرة والتفسير. وكل هذا بوادر مؤيدة لما وصف الله به الأنصار في قوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وفي صدد الجملة (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أورد ابن كثير حديثا عن أبي هريرة قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنّم في جوف عبد أبدا. ولا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب أبدا». وحديثا عن جابر بن عبد الله رواه مسلم أيضا قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياكم والظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة واتّقوا الشحّ فإنّه أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن يسفكوا دماءهم ويستحلّوا محارمهم». وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر كما هو في كل أمر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا

٣٢٠