التّفسير الحديث - ج ٧

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٧

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤

وأسلوب الفقرة الأولى من الآية الأولى قد يلهم أن العهد الذي أخذه الله على الأنبياء هو عهد مستمد من طبيعة رسالتهم التي هي مستمرة لجميع الأجيال في كل مكان حيث اقتضت حكمة الله أن يتوالى أنبياؤه برسالاته وتعليماته وتشريعاته للناس إلى أن وصل العهد إلى محمد الذي اصطفاه ليكون خاتم النبيين ورشح رسالته لتكون دين الإنسانية جمعاء في كل زمن ومكان وضمنها من الأسس والمبادئ والتلقينات والمرونة والحلول ما يتسق مع هذا وذاك.

وقد يتمحل اليهود والنصارى فيقولون إن التوراة والإنجيل لا يحتويان إشارة إلى هذا العهد. وردا عليهم نقول إن ما في أيديهم ليس توراة موسى ولا إنجيل عيسى كتابي الله المنزلين عليهما. وإنما هي أسفار وأناجيل كتبوها بعد موسى وعيسى عليهما‌السلام على ما شرحناه في سياق كلمتي (التوراة والإنجيل) في سورة الأعراف. وفي آية الأعراف [١٥٧] صراحة أنهم يجدون صفة النبي فيهما على ما مرّ شرحه في تفسير هذه الآية. وفي سورة الصف هذه الآية : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [٦] وآيات القرآن كانت تتلى على ملأ من اليهود والنصارى ولا يمكن أن يكون ذلك جزافا. ولقد آمن فريق من النصارى واليهود الذين استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأهوائهم برسالة النبي والقرآن وقرروا أنه متطابق لما عرفوه من الحق ولما وعدهم الله به على ما ذكرته آيات عديدة أوردناها في سياق آية الأعراف. ولا بد من أنهم رأوا التطابق بين ما جاء في القرآن والرسالة المحمدية وبين ما كان في أيديهم من توراة وإنجيل صحيحين لم يصلا إلينا. ويكون كل من لم يؤمن برسالة النبي قد تحققت فيه صفة الفاسقين التي قررتها الآية الثانية. ومن الجدير بالتنبه أن الأحاديث النبوية التي تذكر مجيء عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان والتي أوردناها في تفسير سورة غافر وعلقنا عليها قد ذكرت أن عيسى سيكون آنئذ على دين الإسلام فلم يعد للنصارى ما يحتجون به فيها. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا أخرجه الحافظ أبو يعلى عن جابر قال : «قال

١٨١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلّوا. وإنكم إمّا أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذّبوا بحق. وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حلّ له إلّا أن يتبعني وفي رواية لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلّا اتباعي». والحديث وإن لم يرد في كتب الصحاح فإنه متطابق مع تلقين الآيات مما يجعله محتمل الصحة.

ومع كل ذلك ففي الأسفار والأناجيل المتداولة اليوم دلائل عديدة تشير إلى رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ألمحنا إليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف. ووجهة نظر الإسلام في صدد اليهود والنصارى بعد البعثة المحمدية وعدم نجاة أحد منهم عند الله إذا لم يؤمن برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشروحة شرحا وافيا أيضا في سياق تفسيرنا للآية [٦٢] من سورة البقرة والآية [٥٥] من سورة آل عمران فليرجع إليه.

هذا ، ويتبادر لنا أن في الآيات تلقينا مستمر المدى بحيث يكون كل من أمر بما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله الثابتة من أعمال وعقائد ومواقف داخلا في ما تضمنته من وصف وذمّ وإنذار. ويصدق هذا في الدرجة الأولى على من ينتسب إلى العلم الديني ولقد ذكر ابن كثير شيئا من هذا تعقيبا على الآيات. والله تعالى أعلم.

ولا يترك مفسرو الشيعة هذه الآيات حيث يقولون إن الله يؤذن فيها بأنه أخذ على النبيين العهد بالإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصرة علي عليه‌السلام رغم ما في هذا القول من مفارقة عجيبة (١).

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ

__________________

(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧٠.

١٨٢

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)) [٨٣ ـ ٨٥]

عبارة الآيات واضحة وفيها استنكار لمن يبتغي غير دين الله وكل من في السموات والأرض مسلم له. وأمر للنبي بإعلان إيمانه بالله وأنبيائه وجميع ما أنزل عليهم دون تفريق. وإسلامه مع اتباعه لله. وتقرير الخسران لكل من يبتغي دينا غير الإسلام في الآخرة وعدم قبول الله دينا غيره.

تعليق على الآية

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها

وقد روى المفسرون (١) أن الآيات نزلت في مناسبة اختصام أهل الكتاب إلى رسول الله بشأن دين إبراهيم وزعم كل فريق منهم أنه عليه فقال النبي إن كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. والرواية عجيبة بعد ما ورد في آيات سابقة من هذه السورة ما ورد من مواقف الحجاج والجحود بين أهل الكتاب والنبي وبخاصة في صدد ملّة إبراهيم. وليست واردة في الصحاح بل ولم يروها الطبري شيخ المفسرين وأقدمهم.

والذي يتبادر لنا أن الآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومنسجمة معها ومعقبة عليها تأييدا وتوكيدا. فبعد أن ذكرت الآيات السابقة صفات أهل الكتاب وتحريفاتهم لكتاب الله وتأويلاتهم السيئة وعدم وفائهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم جاءت هذه الآيات تندد بهم وتأمر النبي بإعلان عقيدته في جميع أنبياء الله وكتبه وإسلامه له وتقرر بأن هذا هو دين الله الحق الذي لا يقبل الله غيره ويكون متبع غيره خاسرا.

__________________

(١) انظر تفسيرها في الخازن والطبرسي.

١٨٣

والإعلان والتقرير اللذان احتوتهما الآيات قويان رائعان ونافذان إلى الأعماق بحيث لا يمكن إلا أن يتأثر بهما من كان ذا عقل سليم وقلب طاهر ونية حسنة ورغبة صادقة في الحق والهدى لا يجمد أمامهما ويكابر إلّا مريض القلب خبيث الطوية. والآيات تلهم أن موقف النبي هو موقف المستعلي الفائز الذي هزم خصمه بعد أن ألزمه الحجة.

والآية الثانية قد ورد مثلها في سورة البقرة في سياق الحجاج مع اليهود. وذلك في الآية [١٣٦] بفروق يسيرة. قد لا يتبين للمرء حكمتها فيجب إيكالها إلى علم الله. ويلحظ أن آية البقرة بدأت بكلمة (قُولُوا) خطابا للمسلمين وآية آل عمران بدأت بكلمة (قُلْ) خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو المتبادر. ولعل في هذا شيئا من تلك الحكمة والله تعالى أعلم. وقد شرحنا مداها في سورة البقرة فلا نرى ضرورة للإعادة والزيادة.

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) منها أن المسلمين يكونون قد أسلموا طوعا وأن الكافرين سيعرفون الحقيقة حينما يرون مصداق نذر الله فيسلمون كرها ولا يكون إسلامهم نافعا لهم. ومنها أنها بمعنى أن جميع من في السموات والأرض خاضع له مسخر لأمره داخل في نطاق قدرته وحكمه النافذ دون أن يتوقف ذلك على رضائهم وكرههم. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد يكون القول الثاني هو الأكثر وجاهة. وشيء من نوعها ورد في بعض آيات مكية (١) ، والله تعالى أعلم.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ

__________________

(١) آيات سورة الرعد [١٥] والإسراء [٤٤] وفصلت [١١].

١٨٤

وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)) [٨٦ ـ ٩١]

(١) ولو : قيل إن الواو زائدة أو مقحمة ونحن نجلّ كتاب الله عن ذلك. وقيل إنها واو عطف. وإن المعطوف محذوف وتقديره (ومثله) وهذا هو الأوجه. وفي الآية [٤٧] من سورة غافر آية مثلها وفيها هذا المقدار بلفظه.

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به. وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلّا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح. وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا. فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم. ولن يكون لهم ناصر من الله.

تعليق على الآية

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ...) إلخ

والآيات التالية لها إلى آخر الآية [٩١]

لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات. منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة. ومنها أن

١٨٥

الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصّر ولحق بالشام. وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة. ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به. ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة. وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [٨٩] من سورة البقرة ، ومنها أن جملة (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما‌السلام. وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلّا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس.

وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية. لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره. غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حقّ اليهود ثانيا حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزاءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [٧٢] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم. فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة. ومثل هذا تكرر في القرآن. ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه. وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم. ولا نستبعد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامراتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده.

١٨٦

وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين ذلك كله.

والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب. ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [٢١٩] من سورة البقرة.

ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [٩٠] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا. فقال بعضهم إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم. وقال بعضهم لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم وهذا وذاك من تحصيل الحاصل. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم لأن توبتهم تكون غير صادقة. وقال بعضهم لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت (١). وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب. وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨).

ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل.

والمتبادر أن تعبير (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن

__________________

(١) انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.

١٨٧

استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار. وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية (١).

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)) [٩٢]

(١) البرّ : هنا بمعنى رضاء الله ورحمته على ما هو المتبادر. وقد جاءت في هذا المعنى في آية سورة البقرة [١٧٧] ولقد أوّلها بعضهم بالجنة ولكن المعنى الأول هو الأوجه.

تعليق على الآية

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ (١) حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ...) إلخ

عبارة الآية واضحة ، والخطاب فيها موجه على ما يتبادر إلى المسلمين ، ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة نزولها. وتبدو الصلة منقطعة بينها وبين ما سبقها وما لحقها.

ولقد رويت رواية في صدد الآية التالية لها تفيد أن إسرائيل نذر تحريم أحبّ المطعومات إليه تقرّبا إلى الله. وبين مفهوم هذا النذر ومفهوم الآية شيء من الاتصال كما هو المتبادر ولا ندري إذا كان هذا يسوغ القول ـ إذا صحت الرواية ـ أن هذه الآية تمهيد للمشهد الذي احتوته الآيات التالية لها وأنها متصلة بها. ومثل هذه التمهيدات من أساليب النظم القرآني مما مرّت منه أمثلة عديدة. بل نحن نرجح ذلك لأن الآية بدون هذا الغرض تبدو كما قلنا منقطعة عن السياق السابق واللاحق الذي هو في حق اليهود بدون حكمة مفهومة. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر آية سورة يونس [٥٤] والزمر [٤٧].

١٨٨

والآية في حد ذاتها جملة تامة محكمة. ولذلك أفردناها لحدتها. وقد احتوت تعليما في آداب الصدقات موجها إلى السامعين الذين هم المسلمون أو الذين منهم المسلمون. وقد جاء هذا الأدب بأسلوب آخر في آية سورة البقرة [٢٦٧] وهو وجوب التصدق من طيب ما في حيازة المتصدق وطيب كسبه وكراهيته التصدق بالرديء غير المحبب إلى صاحبه. وأسلوب الآية هنا قوي يجعل هذا الشرط واجبا. وهو أقوى من أسلوب آية البقرة وفيه توكيد للتلقين الجليل الذي نبهنا عليه في سياق تفسير سورة البقرة.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذا الشرط يتناول الزكاة ونوافل الصدقات معا. وإطلاق الآية يلهم ذلك. وهذا متسق مع المبادئ القرآنية العامة التي تأمر بالإحسان في جميع الأعمال أيضا.

وهناك أحاديث تذكر ما كان من تأثر بعض أصحاب رسول الله بهذه الآية. من ذلك حديث رواه البخاري والترمذي عن أنس قال : «كان أبو طلحة أكثر أنصاري المدينة نخلا. وكان أحبّ أمواله إليه (بيرحا) وكانت مستقبلة المسجد. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. فلما نزلت الآية قال يا رسول الله إنّ الله يقول لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون. وإنّ أحبّ أموالي إليّ (بيرحا) وإنها لصدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال : بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه وبني عمّه» (١).

ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قطّ هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال : إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها فتصدّق بها على أن لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا تورث ولا توهب. وتصدّق بها عمر في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. وعلى أن لا

__________________

(١) التاج ، ج ٤ ص ٧١ ، والمتبادر أن أقاربه كانوا فقراء.

١٨٩

جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متموّل» (١). ومنها حديث رواه ابن كثير في سياق الآية عن ابن عمر قال : «حضرتني هذه الآية فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحبّ إليّ من جارية لي رومية. فقلت هي حرّة لوجه الله. فلو أنّي أعود في شيء جعلته لله لتزوجتها».

والفقهاء يعتبرون حديث ابن عمر عن أرض خيبر لعمر مستندا لإجازة الوقف في الإسلام. وظاهر أن ما يعنيه هو الوقف الخيري البحت. والاستناد في محله على هذا الوجه وفي العمل أسوة حسنة للقادرين من المسلمين.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)) [٩٣ ـ ٩٥]

(١) حلّا : مصدر بمعنى مباح أو حلال.

(٢) إسرائيل : جمهور المفسرين على أنه اسم ثان ليعقوب ، وقد ورد في الإصحاح (٣٢) من سفر التكوين أن الله سمّى يعقوب بإسرائيل وقال له لا يكون اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل.

في هذه الآيات :

١ ـ تقرير بأن كل المطعومات كانت مباحة لبني إسرائيل قبل نزول التوراة باستثناء ما حرّمه يعقوب على نفسه من نفسه.

٢ ـ وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحدّي اليهود بتلاوة نصوص التوراة إن كانوا صادقين في دعوى عكس ذلك.

__________________

(١) التاج ، ج ٢ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

١٩٠

٣ ـ وتنديد بمن يفتري على الله الكذب بعد ظهور الحق ووصفه بالباغي الظالم.

٤ ـ وأمر آخر للنبي بإعلان صدق الله فيما يوحي به والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم الذي كان حنيفا مسلما ولم يكن مشركا.

تعليق على الآية

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها

ولقد روى المفسرون روايات عديدة (١) في مناسبة نزول هذه الآيات. منها أن اليهود سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسئلة عديدة تختلف الروايات فيها ووعدوه باتباعه إذا أجابهم عليها بما يعرفون أنه الحق ومن ذلك أحبّ الطعام إلى جدهم إسرائيل فأجابهم على أسئلتهم أجوبة شهدوا أنها الحق إلّا جوابه على أحبّ الطعام لإسرائيل حيث قال لهم إنه لحوم الإبل أو لحومها وألبانها. أو عرق النسا منها وأنه حرمها على نفسه بنفسه وتقربا لله ووفاء بنذر نذره بأن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه إذا شفاه من مرض ألمّ به ، فشفاه فأنكروا ذلك وادعوا أن لحوم الإبل أو عرق النسا كانت محرمة في ملة إبراهيم فسار يعقوب على ذلك وحرمت على ذريته بالتبعية فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم. ومنها أنهم احتجوا على تحليل النبي لحوم الإبل وهي محرمة في التوراة وادعوا أن ذلك التحريم سابقا للتوراة وأنه من ملة إبراهيم في حين أنه يزعم أنه على هذه الملة فنزلت الآيات تكذبهم وتتحداهم وتقرر أنه لم يكن شيء من الطعام محرما دينيا على بني إسرائيل قبل التوراة. وأن ما حرمه إسرائيل إنما حرمه بنفسه ودون أمر رباني سابق ولم ترد أيّة من الروايتين في الصحاح غير أن كلا منهما متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر (٢).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.

(٢) هناك حديث رواه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس وأورده مؤلف التاج في فصل التفسير

١٩١

والآيات تلهم والروايات تفيد أن هذا كان مشهدا جدليا بين النبي واليهود. وقد تحدّتهم الآيات بإثبات دعواهم من نصوص التوراة بأسلوب يلهم أنهم عجزوا أو راوغوا ، وأن موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المشهد كان موقف الملزم المستعلي حيث نسبت الآيات إليهم افتراء الكذب على الله في ما ادعوا ثم عقبت الآية الثالثة وبأسلوب المنتصر في الحجة مقررة صدق الله وداعية إلى اتباع ملة إبراهيم الحقيقية التي عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد ورد في الإصحاح (٣٢) من سفر التكوين أن بني إسرائيل لا يأكلون عرق النسا الذي مع (حقّ الورك) في سياق خيالي مفاده أن الله تعالى وتنزّه تمثل ليعقوب رجلا فتصارع معه فلم يقدر الرجل على يعقوب حتى طلع الفجر فقال له أطلقني فقال يعقوب لا أطلقك حتى تباركني فباركه وقال له لا يكن اسمك يعقوب فيما بعد بل إسرائيل. ولمس الرجل حقّ ورك يعقوب فصار يظلع فصار بنو إسرائيل لا يأكلون عرق النسا لأن الله لمس حق ورك يعقوب على عرق النسا.

وسفر التكوين كان مما يتداوله اليهود على ما شرحناه في تعليقنا على التوراة. في سورة الأعراف. ويمكن أن يكون اليهود استندوا إلى ما جاء في السفر وزعموا أن عرق النسا محرم عليهم في التوراة التي هي غير سفر التكوين فتحداهم بتلاوتها. ومع ذلك فعبارة سفر التكوين ليس فيها تحريم رباني حتى ولا تحريم يعقوب لعرق النسا فيكون احتجاجهم في غير محله أيضا وتكون الحجة القرآنية مستحكمة عليهم على كل حال.

هذا ، وهناك حديث في فصل التفسير من كتاب التاج وفي سياق الآيات رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال : «جاء اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة

__________________

وفي سياق تفسير الآية الأولى جاء فيه : (أقبلت يهود إلى النبي فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها). التاج ج ٤ ص ٧٢. وليس في الحديث ما يؤيد الروايتين. وهو حديث يبدو حدثا مستقلا دون موقف جدلي.

١٩٢

قد زينا فقال لهم كيف تفعلون في من زنى منكم؟ قال : نحممهما ونضربهما فقال لا تجدون في التوراة الرجم فقالوا لا. فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فلما أتوا بها وضع مدراسها الذي يقرأ لهم كفّه على آية الرجم فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها ولا يقرأ آية الرجم فنزع يده عن مكانها وقال ما هذه قالوا هي آية الرجم فأمر النبيّ بهما فرجما قريبا من المسجد فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها من الحجارة».

وظاهر من النص أن الجملة القرآنية (فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها) تليت في هذه المناسبة تلاوة. ولا يذكر الحديث أنها نزلت في الحادثة. وتظل الروايات السابقة هي الواردة على نحو ما شرحناه.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)) [٩٦ ـ ٩٧].

عبارة الآيتين واضحة. وفيها تنويه بفضل الكعبة وتقرير بأنها أول بيت قام لعبادة الله وهو مبارك وهدى للعالمين وفيه علامات واضحة تدل على مقام إبراهيم. ومن دخله كان آمنا. وقد فرض الله زيارته وحجّه على كل فرد من الناس استطاع إلى ذلك سبيلا تقرّبا لله وعبادة له. ومن يكفر بذلك فليس بضار الله الذي هو غني عن العالمين وعبادتهم.

تعليق على الآية

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ...) إلخ

والآية التالية لها

وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في مناسبة محاجّة قامت بين النبي واليهود أو بين المسلمين واليهود ، ادّعى اليهود فيها فضل معبدهم في بيت

١٩٣

المقدس وفضل استقباله دون الكعبة. وقالوا إن إبراهيم كان يعظم بيت المقدس ويتجه إليه في عبادته فتابعه أبناؤه وذريته وأن النبي لو كان حقا على ملته كما يقول لتابعه ولم يخالفه. ورووا في سبب نزول جملة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) أن النبي لما نزلت آية الحج جمع أهل الأديان كلّها وقال يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمن بذلك ملّة وهم المسلمون وكفرت الملل الأخرى والروايات لم ترد في الصحاح. والرواية الأخيرة تقتضي أن تكون الآية الثانية نزلت مجزّأة مع أن سبكها لا يفيد ذلك وهي منسجمة كل الانسجام. وباستثناء ذلك يتبادر لنا أن الرواية الأولى واردة. وقد احتوت الآيتان تكذيبا لليهود وتقريرا بنقل الكعبة وسبق قيامها لعبادة الله وصلتها بإبراهيم عليه‌السلام بدليل العلامات الظاهرة المعروفة بمقام إبراهيم عندها. وكون الله قد فرض حجها على من استطاع من الناس بناء على ذلك. أما جملة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضتها كإعلان مسبق لكفر مفروض بذلك من اليهود. ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن الآيتين متصلتان بالمشهد الذي تضمنته الآيات السابقة وأن مسألة المفاضلة بين الكعبة وبيت المقدس قد أثيرت فيه. ولقد انتهت الآيات السابقة بإعلان صدق ما حرّره الله والدعوة إلى اتباع ملة إبراهيم فاحتوت الآيتان ما احتوتاه لتوكيد سير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ملة إبراهيم دون اليهود. ولعل اليهود قالوا فيما قالوه إن الكعبة لم تذكر في التوراة ولو كان لإبراهيم صلة بها وكانت هي الأفضل لذكرت فأريد أن يقال لهم إن التوراة لا تذكر أشياء كثيرة مما كان قبل نزولها ، وضرب لهم مثل بمحرمات الأطعمة التي ذكرتها التوراة مع أن كل طعام كان حلا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه قبل نزولها. وإن ذلك لم يذكر في التوراة. فراوغوا فتحدتهم الآيات بتلاوة التوراة وإثبات عكس ذلك. والله تعالى أعلم.

ولقد قال بعضهم إن فرض الحج في الآية الثانية كان في السنة التاسعة (١)

__________________

(١) جاء هذا في مقال للشيخ محمد الشرقاوي المدرّس بمعهد الإسكندرية الأزهري في مجلة

١٩٤

وسياق الآيات وما روي في نزولها يؤيد أن ما ذكرناه في سياق تفسير فصل الحج في سورة البقرة من أن الحج قد فرض على المسلمين في وقت مبكر من العهد المدني. فالسياق يدل بصراحة على أن اليهود كانوا ذا وجود قوي في المدينة حينما نزلت الآيات. في حين أنهم لم يعد لهم وجود في السنة التاسعة. هذا فضلا عن الدليل الآخر المنطوي في جملة (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) في الآية [١٩٦] من سورة البقرة على ما شرحنا الأمر في سياقها. والله أعلم.

ولقد ذكر مقام إبراهيم في آية البقرة [١٢٥] والتي احتوت أمرا باتخاذه مصلى والتي ذكر فيها أن الله قد جعل البيت مثابة وأمنا. وبين هذا وما جاء في الآيتين تشابه. ولقد خمّنا أن سلسلة آيات البقرة [١٠٤ ـ ١٥٢] قد تضمنت فيما تضمنته مواقف حجاج وجدل في صدد الكعبة وبيت المقدس حينما تحول النبي في صلاته نحو الكعبة بدلا من سمت بيت المقدس. وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار إلا أن نقول إن الآيات التي نحن في صددها قد تدل على أن هذا الجدل قد ثار ثانية بين النبي واليهود فاقتضت حكمة التنزيل الوحي بها لوضع الأمر في نصابه الحق للمرة الثانية. ولقد قررت الآية [١٤٤] من سلسلة البقرة المذكورة أن اليهود يعرفون حقيقة أفضلية الكعبة والاتجاه إليها فجاءت الآيات لتؤكد ذلك بأسلوب مفحم وحاسم آخر. والله تعالى أعلم.

ولقد تعددت الروايات والتأويلات التي يرويها المفسرون في صدد أولية البيت المذكور في الآية الأولى. وقد أوردنا هذه الروايات وأوردنا معها حديثا رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذرّ في سياق تفسير سورة قريش التي ورد فيها كلمة (الْبَيْتِ) لأول مرة ، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه فليرجع القارئ إلى ذلك التعليق.

ولقد تعددت تخريجات المفسرين والمؤولين لكلمة (بكة) منها أنها اسم آخر

__________________

الوعي الإسلامي عدد ذو القعدة (١٣٨٥) دون أن يذكر سندا.

١٩٥

لمكة وأن العرب يعاقبون بين الباء والميم ومن ذلك ضربة لازم وضربة لازب. ومنها البك يعني الازدحام وأن مكة سميت بكة وصفا لأنها تزدحم بالناس بالطواف والحج. ومنها أن بكة اسم للموضع الذي فيه البيت ومكة اسم لما عداه. ومنها أنها من التباكي لكثرة ما يكون فيها من ابتهال وبكاء. وليس شيء من ذلك في الصحاح. والمتبادر من روح الجملة أنها اسم آخر لمكة والله أعلم.

ومع ما للآيات من خصوصية جدلية وزمنية فإن جملة (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) اتخذت سندا تشريعيا قرآنيا لفريضة الحج في الإسلام لأنها أقوى في هذا المعنى مما جاء في آيات الحج في سورتي البقرة والحج. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات الحج في سورة البقرة ما روي في مدى الاستطاعة الواردة في الجملة من أحاديث نبوية وصحابية وتابعية في جملة ما أوردناه من ذلك في سائر تقاليد الحج ومناسكه وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي هنا بالتنبيه على ذلك.

ومع أن جملة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧) هي على ما ذكرناه كإعلان مسبق باستغناء الله عن الذين يكفرون أو يمارون بما تقرره الآيات فإن بعض المؤولين قالوا إنها في صدد تقرير كفر المسلم الذي ينكر فرض الحج. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي داود قال : «تلا رسول الله الآية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال : من تركه لا يخاف عقوبة ومن حجّ ولا يرجو ثوابه فهو كذلك». والحديث لم يرد في الصحاح. ولكن هذا لا يمنع صحته. والمتبادر أن من يكون هذا موقفه من الحج فإنه يكون منكرا أو كالمنكر لفرضه. وعلى كل حال فكفر من ينكر فرض الحج ولا يعتقد أن في تركه عقوبة وفي القيام به أجرا بديهي بقطع النظر عن قصور الآية تقرير ذلك أو عدمه والله أعلم.

استطراد إلى شمول أمن البيت

مع أن جملة (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) في الآية الثانية تنطوي على تقرير ما كان

١٩٦

يمنحه البيت من أمن لمن دخله أو كان فيه بصورة عامة وكون ذلك متصلا بتقاليد ما قبل الإسلام فامتد إلى الإسلام على ما ذكرناه في تعليقنا في سورة قريش فإن هناك اختلافا بين المؤولين والفقهاء في صدد تطبيقه على من يرتكب جريمة في الإسلام تستوجب إقامة الحدّ الشرعي حيث قال بعضهم إن من لجأ إلى بيت الله وقد ارتكب مثل تلك الجريمة يكون آمنا. وروي عن ابن عباس وغيره رواية تفيد عدم تنفيذ القصاص عليه فيه وانتظاره إلى أن يخرج منه. وقد أخذ بهذا الإمامان أبو حنيفة وابن حنبل على ما ذكره المفسر القاسمي الذي ذكر أيضا أن الإمامين الشافعي ومالك يذهبان إلى جواز تنفيذ القصاص وقال إن أصحاب هذا الرأي يستدلون على ذلك بحديث رواه البخاري عن أنس بن مالك جاء فيه : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن الأخطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه». وكان من أشدّ أعداء رسول الله ومؤذيه. ثم بحديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم الحيّة والعقرب والغراب الأبقع والطارد والكلب العقور». وقالوا إن علة تحليل قتل هذه الفواسق هو ضررها وإن هذا يقاس عليه الفاسق من الناس. وقد أورد القاسمي حديثا عن النبي لم يذكر راويه جاء فيه : «إنّ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارّا بدم ولا فارّا بخربة» (١) كدليل نبوي آخر. ويظهر أن الحديث لم يصح عند أصحاب القول الأول لأنه لو صحّ لكان فيه القول الفصل.

ومع ذلك ، فالذي يتبادر لنا أن حكمة الله في منح الأمان لمن دخل الحرم وحكمة رسوله في الأحاديث المتساوقة مع القرآن والتي أوردناها في تعليقنا في سورة قريش تبدو واضحة أكثر إذا أوّلت بأنها منع عدوان أحد على دم أحد وماله في الحرم بحيث يكون من دخله آمنا عليهما. وأن مذهب الإمامين الشافعي ومالك هو الأوجه لأن فيه منعا لإساءة استعمال هذه المنحة الربانية من قبل المجرمين. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) فسّر المفسر كلمة (بخربة) بسرقة يستحق عليها الحدّ الشرعي وهو قطع اليد.

١٩٧

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)) [٩٨ ـ ١٠٣]

(١) شهداء : قيل إنها بمعنى وأنتم شهداء على أنها حق ، وقيل إنها بمعنى وأنتم عقلاء غير غافلين.

(٢) يعتصم : العصم بمعنى المنع لغة. ومنه (لا عاصم من أمر الله) والاعتصام بمعنى الامتناع والكلمة هنا بمعنى الامتناع بالله.

(٣) شفا : بمعنى حافة وطرف.

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه السؤال على سبيل الاستنكار إلى أهل الكتاب عن كفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله الذين آمنوا وساروا فيها بقصد تعطيلها وتعويجها.

٢ ـ وتنديد بهم لأنهم يفعلون ذلك وهم يعلمون في قرارة نفوسهم صحة رسالة النبي وصدق دعوته.

٣ ـ وإنذار لهم بأن الله شهيد عليهم وغير غافل عمّا يفعلون.

٤ ـ وخطاب موجّه إلى المسلمين يحذرون به من الإصغاء لأقوالهم وإطاعتهم فيها ويبين لهم به إنما يريدون بها ردّهم إلى الكفر بعد الإيمان فإذا

١٩٨

سمعوا لهم وأطاعوا حققوا ما يريدونه لهم.

٥ ـ وتساؤل ينطوي على التحذير أيضا عما إذا كان يصح أن يكفروا بعد إيمانهم ولا يزال رسول الله هاديهم بين أظهرهم وما زالت آيات الله تتلى عليهم.

٦ ـ وتنبيه على أن الذي يتمسك بالله وآياته ويقف عند حدوده فهو الناجي المهدي إلى طريق الحق القويم.

٧ ـ وخطاب آخر موجّه إليهم أيضا يؤمرون فيه بالحرص أشدّ الحرص على تقوى الله كما يجب وعلى البقاء على الإسلام والموت عليه. والتمسك بحبل الله المتين متحدين يدا واحدة وقلبا واحدا وعدم التفرق. ويذكّرون فيه بما كان من نعمة الله عليهم وعنايته بهم حيث ألّف بين قلوبهم فأصبحوا إخوانا بعد أن كانوا أعداء وحيث نجاهم وأنقذهم من حفرة النار التي كانوا على حافتها. ففي كل هذا ما يزعهم عن الخلاف والجحود ويقوي اتحادهم وتمسكهم بحبل الله وما يضمن لهم الهدى.

تعليق على الآية

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨)

والآيات الأربع التالية لها

جمهور المفسرين (١) على أن أهل الكتاب هنا هم اليهود أيضا. وقد رووا رواية ملخصها أن بعض يهود المدينة كبر عليهم أن يروا مركز النبي يقوى ودعوته تتسع ، ورأوا أن هذا إنما كان بخاصة بتآخي قبيلتي الأوس والخزرج المدنيتين في ظلّ الإسلام وتوطد الوحدة الدينية بينهما وتناسيهما نتيجة لذلك ما كان بينهما من عداء وحروب في الجاهلية فتآمروا على إثارة الفتنة بينهما وأخذ بعضهم يذكّرون بعض الأوس والخزرج بما كان من مفاخر الجاهلية وحروبها فلم تلبث نخوة

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي والطبرسي وابن كثير.

١٩٩

الجاهلية أن تحركت فيهم ودفعتهم إلى التراد في التفاخر ثم اشتد الأمر بينهم إلى التصايح فإلى التداعي إلى السلاح ليعيدوا الحرب بينهما ويحكموا السيف فيمن هو الأولى بالفخر منهما. وأتى الخبر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسارع هو وكبار المهاجرين إليهم يذكّرونهم بالإسلام والأخوة الإسلامية ويهدئون من روعهم حتى سكنوا وأدركوا أنها نزغة من نزغات الشيطان ودسيسة من دسائس اليهود ثم تعانقوا وتباكوا وكرروا الحمد لله ولرسوله على ما كان لهما من فضل ونعمة سابقة ولا حقة فأنزل الله الآيات منددة باليهود وفاضحة لمكرهم ومحذرة للمسلمين ومذكرة لهم بما كان من نعمة الله عليهم وتوطّد الأخوة بينهم في ظل الإسلام.

والروايات لم ترد في الصحاح. ولكنها قوية الاحتمال لأنها متسقة مع فحوى الآيات. وقد تضمنت خبر جريمة مروعة أقدم على ارتكابها اليهود وكادوا يهدمون بها بنيان الإسلام الذي وطّده الله ورسوله على الأخوة الإسلامية وأسلوب الآيات متناسب مع تنبيهه وتحذيره وتذكيره مع ذلك الخبر.

ويتبادر لنا إلى ذلك أن الآيات غير منقطعة سياقا وموضوعا عن الآيات السابقة لها وأن وضعها بعدها قد كان بسبب ذلك حيث تضمنت صورة أخرى من صور مكائد اليهود ودسائسهم بين المسلمين.

والروايات متفقة على أن الآية [١٠٣] منطوية على التذكير بما كان بين الخزرج والأوس من عداء وحروب قبل الإسلام. وقد أورد المفسرون في سياقها بعض الروايات التي فيها تفصيل لذلك. ولقد أشرنا إلى هذا وأوردنا بعض التفصيل عنه في تعليقنا على الآيات [٨٤ و ٨٥] من سلسلة آيات البقرة ثم في تعليقنا على الهجرة النبوية في سورة الأنفال فنكتفي بهذا التنبيه.

ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها انطوت على تلقينات جليلة مستمرة المدى. سواء أفي التنديد بمن يغلبه هواه وغيظه فيتآمر على دعوة الله ورسوله وهو يعرف أنها حق ويحاول أن يصد المؤمنين بها ويعرقل سيرها. أم في وجوب تمسك المسلمين بأهداف دينهم وهدى قرآنهم وسنّة نبيهم. أم في وجوب الحرص على

٢٠٠