الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «النّور» (١)

أقول : وجه اتصالها بسورة «قد أفلح» ، أي سورة «المؤمنون» : أنه لما قال تعالى في الآية الخامسة منها : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) (٥) ، ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه ، من الزانية والزاني ، وما اتّصل بذلك من شأن القذف ، وقصّة الإفك ، والأمر بغضّ البصر (٢) ، وأمر فيها بالنكاح حفظا للفروج ، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ، وحفظ فرجه ، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا (٣).

ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط ، ولا تناسق أبدع من هذا النسق.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). الزانية والزاني في قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [الآية ٢]. إلى (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وجاء القذف في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [الآية ٤] الى (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠). وهو شامل لأحكام اللّعان.

وقصة الإفك هي التي أرجف بها المنافقون في حقّ أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حتى برّأها الله تعالى ، بقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) [الآية ١١] الى (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٩).

وجاء غضّ البصر في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [الآية ٣٠] إلى (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١).

(٣). جاء الأمر بالنكاح ، والاستعفاف لغير القادر ، وعدم إكراه الفتيات على البغاء في الآيتين [٣٢ ـ ٣٣].

٨١
٨٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «النور» (١)

١ ـ (الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) [الآية ١١].

حسّان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، وعبد الله بن أبيّ ؛ وهو الذي تولى كبره. كما أخرجه الشيخان (٢) وغير هما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). البخاري (٤١٤١) في المغازي من «صحيحه» ، ومسلم في التوبة باب : في حديث الإفك وقبول توبة القاذف ، رقم (٢٧٧٠).

٨٣
٨٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «النور» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١).

«كبره» قرئ بضم الكاف وكسرها ، وكبر الشيء عظمه ، أي : والذي تحمّل معظم الشر في حديث الإفك هو عبد الله بن أبيّ ، رأس النفاق مع جماعته ؛ أقول : والكبر بالكسر على أنه العظم والمعظم من باب ما جاء على «فعل» بكسر الفاء من الأسماء الثلاثية ، كالذّبح والنّقض والمسخ وغير ذلك.

٢ ـ وقال تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦).

وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ) للتعجب من عظم الأمر.

أقول : إن «سبحان» ، مصدر أفاد التعجب في هذه الآية ، كما أفاد معاني أخرى في غيرها.

وقولنا : «سبحان الله» معناه : تنزيها لله من الصحابة والولد ، وقيل : تنزيه الله تعالى عن كل مالا ينبغي له أن يوصف به.

وقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء / الآية الأولى].

معناه : أسبّح الله تسبيحا.

أقول : فما معنى قول بعض النحويين إنه اسم فعل مضارع؟ لعلهم لم يذهبوا إلى هذا إلّا بسبب تفسير هم له ، أي : أنه بمعنى أسبّح. ولعل تفسير هم بالمصدر جرّأهم على ذلك.

٣ ـ وقال تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) [الآية ١٧].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٨٥

والمعنى : كراهة أن تعودوا لمثله. وحذف المصدر هذا المبيّن للسبب والعلة كثير في القرآن ، وقد مرّ بنا شيء منه.

٤ ـ وقال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [الآية ٢١].

أقول : قوله تعالى (أَبَداً) ، أي : إلى الأبد ، وهو الزمن الدائم المتصل ، ونصبه على الظرفية. وذكر الظرف هنا أفاد تأبيد النفي ب «ما». وقد ورثنا هذا الأسلوب في النفي في عربيتنا المعاصرة حتى كأن (أبدا) في استعمال المعاصرين شيء من حواشي النفي وضروراته.

وكما ترد «أبدا» في حشو النفي لإرادة التأبيد ، ترد أيضا في الإثبات فيقال مثلا : أشتاقه أبدا.

٥ ـ وقال تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [الآية ٣١].

الجيوب : جمع جيب ، والجيب جيب القميص والدرع.

وجيّبت القميص : قوّرت جيبه.

أقول : والجيب له دلالة جديدة في عصرنا ، واستعماله ، بهذا المعنى الجديد ، ربّما عرف قبل عصرنا هذا.

٦ ـ وقال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [الآية ٣١].

الطفل : اسم جمع ويكون للواحد. وانظر [الحج : ٥].

٧ ـ وقال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [الآية ٣٢].

أقول : الأيامى : جمع أيّم ، رجلا كان أو امرأة ، وقد آم الرجل وآمت المرأة : إذا لم يتزوّجا ، بكرين كانا أو ثيّبين.

والمراد أنكحوا من تأيّم منكم من الأحرار والحرائر ، والخطاب للمذكر على وجه التغليب.

٨ ـ وقال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) [الآية ٣٣].

وقوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي : وليجتهد في العفّة وظلف النفس ، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه.

وهذا من فوائد زيادة الهمزة والسين والتاء في الفعل.

٨٦

٩ ـ وقال تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [الآية ٣٥].

أقول : وينبغي أن ننظر إلى هذا الاستعمال البليغ في معناه الرشيق في خفة لفظه ، ألا ترى أننا نقول في مثل هذا في العربية المعاصرة : ... حتى ولو لم يكن له حاجة ، أو نقول : حتى وإن لم تكن له حاجة ...

١٠ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [الآية ٣٩].

والقيعة : بمعنى القاع ، ولعلها جمع القاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض وهي مثل جيرة في جار.

أقول : وهذا الجمع في «قاع» من الجموع العزيزة : ذلك أن المشهور المعروف في جمعها : «قيعان».

١١ ـ وقال تعالى : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الآية ٤٣].

وقوله تعالى : (مِنْ خِلالِهِ) الخلال : جمع خلل مثل جبال وجبل.

وقرئ : من خلله.

وقد جرّت «خلال» ب «من» لبيان الخروج وبدايته. ولتضمن «الخلل» ، و «الخلال» معنى المكانية ، قربت «خلال» من الظرفية التي تقوّى بالحرف «في» فيقال : ومرّ في خلال أو من خلال ذلك ، مثلا.

وقد شاع هذا الاستعمال الذي يومئ إلى الظرفية فاستغني عن الخافض ، فصار المعربون يقولون : «حدث خلال ذلك» ، أي : «في خلال». وقد جدّ في هذا الاستعمال المعاصر ، شيء آخر ، وهو أن الكلمة قد اتّسع فيها ، فدلّت على الظرفية الزمانية ، بعد أن كانت تفيد المكان ، على أن المعاصرين ربما استعملوها للمكان أيضا ، فقالوا مثلا : يجري الماء في خلال الشجر ، أو من خلاله.

ومثل «خلال» هذه ، كلمة «أثناء» ، وهي جمع «ثني» ، وهو اسم يعني ما يثنى من أشياء مختلفة. وليس في «ثني» ولا في «أثناء» ما يفيد الظرفية الزمانية ، ولكن هذه الظرفية استفيدت من استعمال الأداة «في» كقولنا : حدث في أثناء ذلك كيت وكيت.

وعلى عادة المعربين في كل العصور ، يميلون إلى الإيجاز والتخفيف ممّا هو قد عرف واشتهر ، فيقولون : حدث أثناء ذلك كيت وكيت ، فهم يسقطون الأداة «في» إيجازا لمعرفتها.

ومثل هاتين الكلمتين في إفادة

٨٧

الظرفية «خلال ، أثناء» قولهم : «غضون» والغضون : جمع «غضن» ، وهو ما تغضّن ، أي : تكسّر في الجلد والثوب ونحوهما.

وكما قلنا : في كلمة «أثناء» ، نقول : في هذه الكلمة ، أي : أنها لا تدل على الظرفية الزمانية ، إلا بعد استعمال الأداة «في» ، فنقول : وحدث في غضون ذلك ، والمراد : وحدث في أثناء ذلك أو في خلال ذلك.

وقد نبّه أهل التصحيح ، للخطأ اللغوي ، فقالوا بخطإ قولهم : حدث خلال أو أثناء ، والصحيح عندهم استعمال الأداة «في» قبلهما للدلالة على الظرفية.

والذي أراه : أن الكلمة أو التركيب «في خلال» ، «وفي أثناء» ، لما شاع فيها الدلالة على الظرف ، وعرف حتى غلب على الدلالة في الأصل ، جاز أن يستعمل ظرفين من غير أن يسبقا ب «في» ، التماسا للإيجاز.

وبعد ، ألم نقل : دخل فلان الدار ، والأصل : دخل فيها؟ (١).

١٢ ـ وقال تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨).

أقول : في قوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) (٤٨) ، جاءت «إذا» التي تفيد الفجاءة ، ويتلوها جملة اسمية ؛ وهذا هو الأسلوب ، الذي جرت عليه لغة التنزيل ، فأمّا قول المعربين في عصرنا وقبله ، بعدة قرون مثلا : خرجت فإذا بي أمام حادثة مروّعة ، فهو أسلوب آخر غير ما جاء في فصيح العربية ، وأولها لغة التنزيل ؛ فقد جرّ الاسم بعدها بالباء ، وقالوا في هذه الباء انها زائدة ، والتقدير : فإذا أنا أمام ...

ومثل هذه الآية قوله تعالى :

__________________

(١). والردّ على من يقول إن «أثناء» لا يمكن أن تكون ظرفا إلا مع الخافض «في» : قوله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٥].

وقوله سبحانه : (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) [النّمل : ٦١].

و «خلال» هذه مثل «أثناء» ، في كونها جمعا لاسم ، ولكنها رشّحت للظرفية بالخافض ، ثم حذف هذا الخافض لشيوع الظرفية فيها.

ومما تجب ملاحظته ، أن المعاصرين يستعملون «من خلال» بمعنى بوساطة كقولهم مثلا : نحن نتبيّن هذه المسألة من خلال دراستنا لنتائجها ، وهذا القول ترجمة لشيء من الانكليزية.

٨٨

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس].

١٣ ـ وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) [الآية ٥٣].

وقد مرّ بنا مثل هذه الآية في [المائدة ٥٣] ، وفي [الأنعام : ١٠٩].

وفي [النحل : ٣٨].

وهي مفيدة أنهم بالغوا في اليمين وبلغوا الغاية.

٨٩
٩٠

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «النور» (١)

قال تعالى : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) [الآية ١٧] فهذه ممّا يوصل باللام تقول : «إن عدت لمثله فإنّك ظالم».

وقال سبحانه : (مِنْ عِبادِكُمْ) [الآية ٣٢] أي «من عبيدكم» ، كما تقول : «هم عباد الله» و «عبيد الله».

وقال تعالى : (كَمِشْكاةٍ) [الآية ٣٥] أي : كمثل مشكاة. قال سبحانه : (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) [الآية ٣٥] ، بجعله من «الدّر» و (دريء) من «درأ» بالهمز وبجعلها «فعّيل» ، وذلك من تلألئه.

وأمّا (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [الآية ٣٥] ، فالمصباح ، في المعنى ، أن مثل ما أنار من الحق في بيانه ، كمثل المشكاة. ليس لله مثل تبارك وتعالى.

وقال تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) [الآية ٣١] بجعل (الطفل) جماعة ، كما قال سبحانه : (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٩١
٩٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «النور» (١)

فإن قيل : لم قدّمت المرأة في آية حد الزنا ، وقدّم الرجل في حدّ السرقة؟

قلنا : لأن الزنا ، إنما يتولّد من شهوة الوقاع ، وشهوة المرأة أقوى وأكثر ؛ والسّرقة إنما تتولد من الجسارة والجراءة والقوة ، وذلك في الرجل أكثر وأقوى.

فإن قيل : لم قدّم الرجل في قوله تعالى (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [الآية ٣]؟

قلنا : لأن الآية الأولى سبقت لعقوبتهما على ما جنيا ؛ والمرأة هي الأصل في تلك الجناية ، لما ذكرنا. والآية الثانية سبقت لذكر النكاح ، والرجل هو الأصل فيه عرفا ، لأنه هو الراغب والخاطب والبادئ بالطلب ؛ بخلاف الزنا ، فإن الأمر فيه بالعكس غالبا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [الآية ٣] أي لا يتزوج (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [الآية ٣] ونحن نرى الزاني ينكح العفيفة والمسلمة ، والزانية ينكحها العفيف والمسلم؟

قلنا : قال عكرمة نزلت هذه الآية في بغايا موسرات كنّ بمكة ، وكان لا يدخل عليهن إلا زان من أهل القبلة ، أو مشرك من أهل الأوثان ، فأراد جماعة من فقراء المهاجرين أن ينكحوهن ، فنزلت هذه الآية زجرا لهم عن ذلك.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩٣

فإن قيل : ما الحكمة في دخول «من» في غض البصر ، دون حفظ الفرج في قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [الآية ٣٠]؟

قلنا : الحكمة فيه الدلالة على أن أمر النظر أوسع من أمر الفرج ، ولهذا يحل النظر في ذوات المحارم ، والإماء المستعرضات ، إلى عدّة من أعضائهن ، ولا يحل شيء من فروجهن.

فإن قيل : ما حكمة ترك الله تعالى ذكر الأعمام والأخوال في قوله سبحانه (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [الآية ٣١] يعني الزينة الخفيّة (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) [الآية ٣١] ، وهم من المحارم ، وحكمهم حكم من استثني في الآية؟

قلنا : سئل الشعبي عن ذلك فقال : لئلا يصفها العمّ لابنه ، وهو ليس بمحرم لها ، وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة ؛ والمعنى فيه أنّ كلّ من استثني يشترك ، هو وابنه في المحرمية ، إلا العم والخال ، وهذا من الدّلالة البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن. ولقائل أن يقول : هذه المفسدة محتملة في آباء بعولتهن ، لاحتمال أن يذكرها أبو البعل عند ابنه الاخر ، وهو ليس بمحرم لها ؛ وأبو البعل أيضا نقض على قولهم : إن كل من استثني يشترك هو وابنه في المحرمية.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [الآية ٣٣] مع أن إكراههن على الزنا حرام في كل حال؟

قلنا : لأن سبب نزول الآية ، أنهم في الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنا ، مع إرادتهن التحصّن ، فورد النهي على السبب ، وإن لم يكن شرطا فيه. الثاني أنه تعالى إنما شرط إرادة التحصّن ، لأنّ الإكراه لا يتصوّر إلا عند إرادة التحصّن ، لأنّ الأمة ، إذا لم ترد التحصّن ، فإنها تزني بالطبع ، لأن رغبتها في الجماع مستمرة في جميع الأحوال طبعا ، ولا بدّ له من أحد الطريقين. الثالث أن «إن» ، بمعنى «إذ» ، كما في قوله تعالى : (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٧٨) [البقرة] وقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٤٩) [آل عمران]. الرابع : أن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره : وأنكحوا الأيامى منكم ، الصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن أردن تحصّنا ،

٩٤

ويبقى قوله تعالى (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) [الآية ٣٣] مطلقا غير معلق.

فإن قيل : لم مثّل الله تعالى نوره ، أي معرفته وهداه في قلب المؤمن ، بنور المصباح ، في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [الآية ٣٥] ولم يمثّله بنور الشمس ، مع أن نورها أتم وأكمل؟

قلنا : المراد تمثيل النور في القلب ، والقلب في الصدر ، والصدر في البدن بالمصباح : وهو الضوء أو الفتيلة في الزجاجة ، والزجاجة في الكوّة التي لا منفذ لها ، وهذا التمثيل لا يستقيم إلا في ما ذكر. الثاني : أن نور المعرفة له آلات ، يتوقّف على اجتماعها ، كالذهن والفهم والعقل واليقظة وانشراح القلب ، وغير ذلك من الخصال الحميدة ؛ كما أن نور القنديل يتوقف على اجتماع القنديل والزيت والفتيلة ، وغير ذلك. الثالث : أنّ نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي ، لا إلى العالم العلوي ؛ ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي ، كنور المصباح. الرابع : أن نور الشمس لا يشرق إلا بالنهار ، ونور المعرفة يشرق بالليل والنهار ، كنور المصباح. الخامس : أن نور الشمس يعمّ جميع الخلائق ، ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم ، كنور المصباح الموصوف.

فإن قيل : إنه تعالى لم يمثله بنور الشمس لما ذكرتم ، فكيف لم يمثله بنور الشمع ، مع أنّه أتم وأكمل وأشرق ، من نور المصباح؟

قلنا : إنما لم يمثله بنور الشمع ، لأن في الشمع غشا لا محالة ، بخلاف الزيت الموصوف ، ولو مثله تعالى بنور الشمع ، لتطاول المنافق المغشوش ، إلى استحقاق نصيب في المعرفة.

الثاني : أنه تعالى ، إنما لم يمثله بنور الشمع ، لأنه مخصوص بالأغنياء ، بخلاف نور المعرفة فإنه في الفقراء أغلب.

فإن قيل : التجارة تشمل الشراء والبيع ، فما الحكمة في عطف البيع عليها في قوله تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [الآية ٣٧]؟

قلنا : التجارة هي الشراء والبيع ، الذي يكون صناعة للإنسان مقصودا به الربح ، وهو حرفة الشخص الذي يسمّى تاجرا ، والبيع أعمّ من ذلك ؛ وقيل : المراد بالتجارة هنا ، مبادلة الاخرة بالدنيا ، كما في قوله تعالى :

٩٥

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] والمراد بالبيع مبادلة الدين بالدنيا ، كما في قوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة ٩]. وقيل إنما عطف سبحانه البيع على التجارة ، لأنه أراد بالتجارة الشراء ، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقيل : إنما عطف عليها للتخصيص والتمييز ، من حيث أنه أبلغ في الإلهاء ؛ لأن البيع الرابح يعقبه حصول الربح ، بخلاف الشراء الرابح ، فإن الربح فيه مظنون ، مع كونه مترقّبا منتظرا. وقيل : التجارة مخصوصة بأهل الجلب ، بخلاف البيع.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [الآية ٤٥] ، وبعض الدواب ليس مخلوقا من الماء ، كآدم عليه‌السلام ، وناقة صالح وغير هما؟

قلنا : المراد بهذا الماء : الماء الذي هو أصل جميع المخلوقات ، وذلك أن الله تعالى ـ على حدّ قول بعضهم ـ خلق قبل خلق الإنسان جوهرة ، ونظر إليها نظر هيبة ، فاستحالت ماء ، فخلق من ذلك الماء جميع الموجودات ؛ وقد سبق مثل هذا السؤال في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠].

فإن قيل : إذا كان الجواب هذا ، فما الحكمة في تخصيص الدّابة بالذكر ، أو تخصيص الشيء الحيّ؟

قلنا : إنّما خصّت الدّابة بالذكر ، لأنّ القدرة فيها أظهر وأعجب منها في الجماد وغيره.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [الآية ٤٥] وقال أيضا : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [الآية ٤٥] وهي مما لا يعقل؟

قلنا : لمّا كان اسم الدابة ، يتناول المميّز وغيره ، غلب المميّز على غيره ، وأجري عليه لفظه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) [الآية ٤٥] وذلك إنّما يسمى زحفا لا مشيا ، فلا يسمّى مشيا إلّا ما كان بالقوائم؟

قلنا : هو مجاز بطريق المشابهة ، كما يقال : مشى هذا الأمر ، وفلان لا يتمشّى له أمر ، وفلان ما مشي له الحال.

فإن قيل : لم أمر الله تعالى

٩٦

بالاستئذان ، للأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ، بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [الآية ٥٨] أي من الأحرار؟

قلنا : هو في المعنى ، أمر للآباء والأمهات ، بتأديب الأطفال وتهذيبهم ، وليس أمر للأطفال.

فإن قيل : لم أباح تعالى ، للقواعد من النساء ، وهن العجائز ، التجرّد من الثياب ، بحضرة الرجال ، بقوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) [الآية ٦٠].

قلنا : المراد بالثياب هنا ، الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار ، لا جميع الثياب ، وقوله تعالى (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) [الآية ٦٠] أي غير قاصدات بوضع الثياب ، الثياب الظاهرة ، إظهار زينتهن ومحاسنهن ، بل التخفيف ؛ ثم أعقبه بأن التعفّف بترك الوضع خير لهن.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [الآية ٦١] مع أن انتفاء الحرج عن أكل الإنسان من بيته معلوم ، لا شك فيه ولا شبهة؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي من بيوت أولادكم ، لأنّ ولد الرجل بعضه ، وحكمه حكم نفسه ، فلهذا عبّر عنه به ، وفي الحديث : «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه» ؛ ويؤيد ذلك أنه تعالى قد ذكر بيوت جميع الأقارب ، ولم يذكر بيوت الأولاد.

وقيل المراد بقوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي من مال أولادكم ، وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ، ومن جملة عيالكم. وقيل المراد بقوله تعالى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) البيوت التي يسكنونها ، وهم فيها عيال لغيرهم ، كبيت ولد الرجل وزوجته وخادمه ، ونحو ذلك.

فإن قيل : معنى السلام هو السلامة والأمن ، فإذا قال الرجل لغيره : السلام عليك ، كان معناه سلمت مني وأمنت ، فما معنى قوله تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [الآية ٦١]؟

قلنا : المراد به فإذا دخلتم بيوتكم ، فسلّموا على أهلكم وعيالكم. وقيل معناه إذا دخلتم المساجد ، أو بيوتا ليس فيها أحد ، فقولوا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، يعني من ربّنا.

فإن قيل : لم قال الله تعالى

٩٧

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [الآية ٦٣] ، وإنّما يقال خالف أمره؟

قلنا : «عن» زائدة ؛ كذا قاله الأخفش. الثاني : أن فيه إضمار تقديره : فليحذر الذين يخالفون الله تعالى ، ويعرضون عن أمره ؛ أو ضمن المخالفة ، معنى الأعراض ، فعدّي تعديته.

٩٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «النور» (١)

... وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤). وهذه استعارة على أحد التأويلات الثلاثة ، وهو أنه سبحانه يجعل في الأيدي التي بسطت إلى المحظورات ، والأرجل التي سعت إلى المحرمات ، علامة تقوم مقام النطق المصرّح ، واللسان المفصح ، في الشهادة على أصحابها ، والاعتراف بذنوبها.

فأما شهادة الألسنة ، فقد قيل إن المراد بها إقرارهم على نفوسهم بما واقعوه من المعاصي ، إذ علموا أن الكذب لا ينفعهم ، والجحود لا يغني عنهم. وليس ذلك بمناقض لقوله سبحانه : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) [يس] ، لأنّه قد قيل في ذلك : إنه جائز أن تخرج ألسنتهم من أفواههم ، فتنطق بمجرّدها ، من غير اتصال بجوزاتها ولهواتها. فيكون ذلك أعجب لها ، وأبلغ في معنى شهادتها. ويختم في تلك الحال على أفواههم.

وقيل : يجوز أن يكون الختم على الأفواه ، إنما هو في حال شهادة الأيدي والأرجل ، بعد ما تقدّم من شهادة الألسن.

وأمّا التأويلان الآخران ، في معنى شهادة الأيدي والأرجل ، فالكلام

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٩٩

يخرج بهما عن حدّ الاستعارة إلى الحقيقة. وذلك أنهم قالوا : إن الله سبحانه يبني الأيدي والأرجل ، بنية تكون هي الناطقة بما تشهد به عليهم ، من غير أن يكون النطق منسوبا إليهم.

وقوله سبحانه : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [الآية ٣١] وهذه استعارة. والمراد بها : إسبال الخمر ، التي هي المقانع على فرجات الجيوب ، لأنها خصاصات (١) إلى الترائب والصدور ، والثدي والشعور. وأصل الضرب من قولهم : ضربت الفسطاط إذا أقمته بإقامة أعماده ، وضرب أوتاده. فاستعير هاهنا كناية عن التناهي في إسبال الخمر ، وإضفاء الأزر.

وقوله سبحانه : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٣٥] وهذه استعارة. والمراد بذلك ، عند بعض العلماء ، أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه ، ونواصع بيانه ، كما يهتدى بالأنوار الثاقبة ، والشّهب اللامعة.

وقال بعضهم : المراد بذلك ، والله أعلم ، الله منوّر السماوات والأرض بمطالع نجومها ، ومشارق أقمارها وشموسها.

وقوله سبحانه : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [الآية ٣٥] وهذه مبالغة في وصف الزيت بالصفاء والخلاصة ، على طريق المجاز والاستعارة ، حتى يقارب أن يضيء ، من غير أن يتصل بنار ، ويناط بذلك.

وقوله سبحانه : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) [الآية ٣٧] وهذه استعارة.

والمراد بتقلّب القلوب هاهنا : تغيّر الأحوال عليها ، من الخوف والرجاء ، والسرور والغمّ ، إشفاقا من العقاب ، ورجاء للثواب. والأولى صفة أعداء الله ، والأخرى صفة أولياء الله.

وأمّا تقلّب الأبصار ، فالمراد به تكرير لحظ المؤمنين إلى مطالع الثواب ، وتكرير لحظ الكافرين إلى مطالع العقاب.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩).

__________________

(١). الخصاصات : جمع خصاصة وخصاص بفتح الخاء ، وهو الخرق في الباب أو البرقع وغير هما.

١٠٠