الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

١

سورة الحج

٢٢

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الحج» (١)

سورة الحج سورة مدنية ، نزلت بعد سورة النور.

وقيل إن سورة الحج من السور المكية ، وقد استثنى من ذهب إلى هذا الرأي الآيات [١٩ ـ ٢٤].

وكان الأولى أن يستثني من قال إنها مكية آيات الإذن بالقتال من ٣٨ إلى ٤١ ، ومنها قوله تعالى :

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩).

* * *

وعند التأمل في سورة الحج ، نجد أن أسلوبها وموضوعاتها وطريقتها أقرب إلى السور المكية.

فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة ، وإثبات البعث وإنكار الشّرك ، ومشاهد القيامة ، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون ، بارزة في السورة.

ويمكن أن يقال إن هذه السورة مشتركة بين مكة والمدينة كما يبدو من دلالة آياتها ، وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال ، وآيات العقاب بالمثل في قوله تعالى :

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠) فهذه الآيات مدنيّة لأن المسلمين لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة ، وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك ، فقد قال رسول الله (ص) حين بايعه أهل يثرب ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم : «إني لم أومر بهذا». حتى إذا صارت المدينة دار إسلام ، شرّع الله القتال لردّ أذى المشركين عن المسلمين ، والدفاع عن حرية العقيدة ، وحرية العبادة للمؤمنين.

ومن الموضوعات المدنية في سورة الحج : حماية الشعائر ، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي ، وهو يردّ العدوان ، والأمر بالجهاد في سبيل الله.

وفي السورة موضوعات أخرى عولجت بطريقة القرآن المكّي ، وتغلب عليها السّمات المكية. وهذه السمات تجعل سورة الحج مما يشبه المكّيّ وهو مدني.

سمات القوة

تتضح في سورة الحج سمات القوة والعنف ، وأساليب الرهبة والتحذير ، واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والخوف من بأس الله.

وتبدو هذه المعاني في المشاهد والأمثال.

فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب ، تذهل فيه الأم عن وليدها وهو بين يديها ، وكذلك مشهد العذاب :

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٢٢).

ومشهد القرى المدمّرة بظلمها :

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥).

تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف ، وتبرير الدفع بالقوة ، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين ؛ إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين.

* * *

ووراء ذلك كلّه الدعوة إلى التقوى والوجل ، واستجاشة مشاهد الرهبة والامتثال لأمر الله ، تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١).

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢).

(فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ

٤

الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الآيات ٣٤ ـ ٣٥].

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) [الآية ٣٧].

ذلك إلى استعراض مشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، ومصارع الغابرين والأمثلة والعبر ، والصور والتأملات ، لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام. هذا هو الروح الساري في جو السورة كلها ، والذي يطبعها ويميزها.

أقسام السورة وأفكارها

تشتمل سورة الحج على أربع مجموعات ، أو أقسام رئيسية ، يجري السياق فيها كالآتي :

القسم الأول :

يبدأ القسم الأول بالنداء العام : نداء الناس جميعا إلى تقوى الله ، وتخويفهم من زلزلة الساعة ، ووصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب. في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم ، واتّباع كل شيطان محتوم على من يتّبعه الضلال ، ثم يعرض دلائل البعث من أطوار في حياة الإنسان وحياة النبات ، مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة ، ويربط بين تلك الأطوار المطّردة الثابتة ، وبين كون الله هو الحق ، وأنه يحيي الموتى ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور. وكلها سنن مطّردة ، وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود. ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ، ولا هدى ولا كتاب منير.

بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود ، إلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة ، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضّرّاء ، والالتجاء إلى غير حماه ، واليأس من نصرة الله وعقباه ... وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله ، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب. وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين ، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين.

ويمتد هذا القسم من أول السورة إلى الآية ٢٤.

٥

القسم الثاني :

يبدأ القسم الثاني بالحديث عن الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، ويستنكر هذا الصّدّ عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا ، يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت ، وتكليف إبراهيم (ع) أن يقيمه على التوحيد ، وأن يطهّره من رجس الشرك ، ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب ، وهو الهدف المقصود ، وينتهي هذا القسم بالإذن للمؤمنين في القتال ، لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا : ربّنا الله. ويستغرق هذا القسم الآيات : [٢٥ ـ ٤١].

القسم الثالث :

يبدأ القسم الثالث بعرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل ، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة الله في الدّعوات ، وتسلية الرسول (ص) عما يلقاه من صدّ وإعراض ، وتطمين المسلمين بالعاقبة التي لا بد من أن تكون ، كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم ، وتثبيت الله لدعوته ، وإحكامه لآياته ، حتى يستيقن بها المؤمنون ، ويفتن بها الضّعاف والمستكبرون ؛ ويستغرق هذا القسم الآيات : [٤٢ ـ ٥٩].

القسم الرابع :

يتضمن القسم الرابع وعد الله بنصرة من وقع عليه البغي فقام يدفع عن نفسه العدوان ، ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون ، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الالهة التي يركن إليها المشركون ، وينتهي هذا القسم وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم ، ويجاهدوا في الله حق جهاده ، ويعتصموا بالله وحده ، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل (ع) ، ويستغرق هذا القسم الآيات : [٦٠ ـ ٧٨].

ومن هذا العرض نجد تعاقب موضوعات السورة وتناسقها في حلقات متساوية ، تسلم كل حلقة للتي تليها ،

٦

ليكون في مجموعها سورة كاملة هي سورة الحج.

حكمة التسمية

سمّيت هذه السورة بسورة الحج لأنها اشتملت على الدعوة إلى الحج على لسان إبراهيم الخليل (ع) ، وفي الحج منافع دينية وعلمية وتجارية وسياحية.

قال تعالى :

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ).

في الحج يتجمع المسلمون من كل بلد ، للتعارف والتالف والتشاور والتعاون ، وبذلك يصبحون يدا واحدة وقوة متالفة كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.

في الحج يشاهد الإنسان الأماكن المقدسة ، التي شهدت ميلاد الإسلام ، وولادة الرسول (ص) ورسالته وجهاده وهديه.

في الحج يتعرف المسلمون ، من كل قطر ، على إخوانهم ، ويتدارسون شئونهم ويعرفون آلامهم وآمالهم. وربما تعاقدوا على شراء ما يلزمهم أو على عمل ما ينفعهم.

في الحج سياحة في أرض الله ، وأداء لمناسك مقدسة في موطن إبراهيم الخليل وهاجر وإسماعيل ، ورؤية الكعبة المقدسة وزمزم والصفا والمروة ومنى وعرفات. وبعد الحج زيارة للمسجد النبوي وصلاة بالروضة ووقوف أمام قبر النبي (ص) وزيارته ، وزيارة قبور الصحابة والشهداء ، ورؤية أمجاد الإسلام ومواقع المعارك. وبذلك يستقر الايمان في القلب والشعور ، ويصبح الحج عبادة ذات منافع متعددة ، إذا فهم المسلمون حكمته ورسالته.

مقصود السورة اجمالا

إذا أردنا التعرف على الأفكار المنثورة في سورة الحج وجدناها تدور حول الأمور الآتية :

الوصية بالتقوى والطاعة ، وبيان هول الساعة وزلزلة القيامة ، والدليل على إثبات الحشر والنشر ، وجدال أهل الباطل مع أهل الحق ، وذمّ أهل النفاق وعبادة الأوثان ، ومدح المؤمنين وبيان رعاية الله لرسوله ، ونصره رغم أنف

٧

الكافرين ، وسجود الكائنات لله ، وقيام إبراهيم بالدعوة إلى الحج وبيان تعظيم الحرمات والشعائر ، والمنّة على العباد بدفع فساد أهل الفساد ، وإهلاك القرى بسبب ظلم أهلها ، وذكر نسيان رسول الله (ص) ، وسهوه حال تلاوة القرآن ، وتثبيت المؤمنين ، وشقاق الكافرين حتى تفاجئهم الساعة ، وبيان قدرة الله سبحانه ، وعجز الأصنام وعبّادها ، واصطفاء الرسل من الملائكة كجبريل (ع) ، ومن الإنس كمحمد (ص) ، وتكليف المؤمنين أنواعا من العبادة كالصلاة والجهاد والإحسان ، وترغيبهم في الوحدة والجماعة والتمسك بحبل الله في قوله تعالى :

(وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الآية ٧٨].

٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الحج» (١)

تاريخ نزولها

ووجه تسميتها

نزلت سورة الحج بعد سورة النّور ، ونزلت سورة النور بعد سورة الحشر ، وكان نزول سورة الحشر فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك : فيكون نزول سورة الحج في ذلك التاريخ أيضا ، وعلى هذا تكون من السور المدنية ، وهو المشهور في تاريخ نزولها.

وقيل إن سورة الحج من السّور المكية ، وقد استثنى من ذهب إلى ذلك ، الآيات [١٩ ـ ٢٤] ، فذهب إلى أنها نزلت بالمدينة.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لما ورد فيها من الكلام على الحج ، وتبلغ آياتها ثماني وسبعين آية.

الغرض منها وترتيبها

غرض هذه السورة بيان أهوال يوم القيامة ، والإذن في قتال من يؤذي المسلمين من المشركين وغيرهم ، ولهذا ذكرت بعد سورة الأنبياء ، لأن في أواخر الأنبياء تهديدا للمشركين بالفزع الأكبر في القيامة ، وبتسليط المسلمين عليهم في الدنيا ، فجاءت هذه السورة بعدها ، وفي أولها بيان ذلك الفزع الأكبر ، وفي آخرها الإذن بقتال المشركين ، ليكون به تسليط المسلمين عليهم في الدنيا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩

بيان أهوال يوم القيامة

الآيات [١ ـ ٢٤]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) ، فأمر الناس بتقواه ، وحذّرهم من أهوال الساعة التي يبلغ من شدتها أن تذهل بها كل مرضعة عمّا أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، ويرى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنّ عذاب الله شديد.

ثم ذكر سبحانه ، أن من الناس من يجادل في دين الله تقليدا من غير علم ، فينكرون تلك الأهوال ، ويرتابون في بعثهم بعد موتهم ، وردّ عليهم بأنه خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ، إلى غير هذا مما ذكره في سلسلة خلقهم ، ومن يقدر على هذا ، يقدر على أن يبعثهم كما خلقهم ، ولا يصح لهم معه أن يرتابوا في الساعة وأهوالها.

ثم ذكر ، جلّ وعلا ، أن من الناس من يجادل في ذلك عنادا وكبرا ، وهم رؤساء الذين أنكروه فيما سبق تقليدا ، وأن منهم منافقين لا يجادلون في ذلك ، ولكنهم لا يعتقدون في الثواب والعقاب ، فيعبدون الله على حرف ، أي على قلق واضطراب. فإن أصابوا خيرا دنيويّا من الغنائم ونحوها اطمأنوا به ، وإن أصابهم شر أظهروا ما عندهم من النفاق ، فيخسرون دنياهم وآخرتهم ، ويدعون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنه يدخل الذين آمنوا بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأنه ينصرهم في الاخرة والدنيا. وإذا كان أعداؤهم يظنون أنه لا ينصرهم فليفعلوا ما في وسعهم لمنع ذلك النصر ، فإن كيدهم لا يذهب ما يغيظهم.

ثم انتقل السّياق إلى طريق آخر في إثبات ما ينكرونه من ذلك ، فذكر اختلاف الناس في الدنيا إلى مؤمنين ويهود وصابئين ونصارى ومشركين ، وأنه لا بد من أن يفصل الله سبحانه ، بينهم في ذلك الخلاف ، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ، فيفصل بواسع علمه فصلا عادلا بينهم ، ولأنه يسجد له من في السماوات ومن في الأرض ، وكثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب ، فلا بد من الفصل في هذا بينهم. ثم ذكر ما يحكم به على فريقي المؤمنين والكافرين من الذين اختلفوا

١٠

ذلك الاختلاف في دينهم ، فالذين كفروا تقطّع لهم ثياب من نار إلى غير هذا مما ذكره في عقابهم ، والذين آمنوا يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ... (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) (٢٤).

الإذن في القتال

الآيات [٢٥ ـ ٧٨]

ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥) ، فمهّد للإذن في القتال بذكر ما يفعله المشركون من صدّ المسلمين عن المسجد الحرام ، وقد جعله للناس سواء ، فليس لهم أن يمنعوا أحدا منه ، وهذا إلى أنهم يلحدون فيه بشركهم ، وقد أمر إبراهيم ببنائه ليعبد الله فيه وحده ، وليكون بيتا طاهرا للطائفين والقائمين والمصلّين ، ويحجّ الناس إليه من كل فجّ ليشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله ، ويطعموا البائس الفقير ، إلى غير هذا مما ذكره من أمور الحج.

ثم ذكر جلّت قدرته ، أنه لهذا يدافع عن المؤمنين ويأذن لهم أن يقاتلوا من ظلمهم وأخرجهم من ديارهم بغير حق ، وأنه لو لم يأذن لهم في القتال لتسلط المشركون عليهم ، وهدّموا بيوت عبادته من المساجد وغيرها ، ثم وعدهم بالنصر والتمكين في الأرض ، ليقوموا فيها بما أتى به الإسلام من صلاة وغيرها مما فيه صلاحها.

ثم ذكر سبحانه ، أنهم إن يكذّبوا الرسول (ص) فيما وعده من النصر عليهم ، فقد كذّب قبلهم قوم نوح وغيرهم ، فأمل لهم ثم أخذهم فأهلك قراهم ، وإنهم ليسيرون في الأرض فيرونها ولا يتّعظون بها ، ولكنهم عمي القلوب فلا تؤثر فيهم تلك العظة ؛ ثم ذكر أنهم يستعجلون الرسول (ص) بذلك العذاب على سبيل الاستهزاء ، وأنه تعالى لن يخلف وعده وإن أملى لهم ، لأن اليوم عنده كألف سنة عندنا ، وكثير من القرى قبلهم أملى لهم ثم أخذهم فأهلكهم ، ثم أمر الرسول (ص) أن ينذرهم بذلك العذاب فيعد الذين يؤمنون بأن لهم مغفرة ورزقا كريما ، ويوعد الذين يسعون في إبطال آيات الله بأنهم أصحاب الجحيم.

ثم انتقل السياق من ذلك إلى الكلام

١١

فيما لم يسلم منه نبي من الأنبياء من تمنّي التعجيل بالنصر على الأعداء ، فذكر تعالى أن مثل هذا مما يلقيه الشيطان في أمنيّته ، وأنه ينسخ ما يلقيه من هذا فلا يظهر أثره خارج القلب ، ثم يحكم آياته ، وينزل سبحانه نصره في الوقت الذي قدّره له ؛ ثم ذكر أنه لا يعجّل العذاب ليجعل ما يلقي الشيطان من طلب تعجيله أو تمنّيه فتنة لمرضى القلوب ، فيمشوا وراء ما يلقي الشيطان. أما الذين أوتوا العلم ، فيعلمون أنه الحق من ربهم ، ولا يخرج بهم تمنّيه إلى طلب تعجيله ، ثم ذكر أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في شك من ذلك حتى تأتيهم الساعة فجأة ، أو يأتيهم عذاب في يوم حرب. وهنالك يحكم الله بينهم ، فالذين آمنوا يدخلهم جناته ، والذين كفروا لهم عذاب مهين ؛ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقا حسنا ، وليدخلنّهم مدخلا يرضونه ، ولينصرنّهم على من بغوا عليهم وأخرجوهم من ديارهم ، وهو العفوّ الغفور ، الذي يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، إلى غير هذا مما ذكره في تأييد قدرته على تحقيق وعده لهم. ثم انتقل السّياق من ذلك إلى تحريض الله سبحانه ، لرسوله (ص) على الثبات في دعوته ليمضي في قتال المشركين ، ويقطع أطماعهم في عدوله عنها ، فذكر جلّ وعلا أن لكل أمة شريعة من الشرائع ، فللمسلمين شريعتهم التي بعث بها ، فليثبت عليها ولا يمكّن المشركين من أن يخدعوه عنها ، وليثابر على الدعوة إليها ، فإن جادلوه فيها بعد وضوح أدلتها فلينذرهم بأن الله يعلم ما لا يعلمون ، وسيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، وهو الذي يعلم ما في السماء والأرض فلا يخفى عليه شيء من أعمالهم.

ثم انتقل السّياق من ذلك إلى بيان فساد طريقة المشركين بعد بيان استقامة الدعوة إلى الله ، فذكر تعالى أنهم يعبدون من دونه ما لا دليل لهم عليه من نقل أو عقل ، وينكرون ما يتلى عليهم من الأدلة الواضحة على أنه سبحانه لا شريك له ، ثم ذكر من ذلك مثلا ضربه لهم ، وهو أن الذين يدعونهم من دونه لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ومن يكون أضعف من الذباب لا يمكن أن يكون إلها ، ثم

١٢

بيّن السياق أنّ المشركين لم يقدّروا الله حق قدره حين سوّوا به أولئك الذين يدعونهم آلهة ، وأنه جلّ وعلا يصطفي من الملائكة رسلا ، ومن الناس على أنهم عباد له ، فلا يمكن أن يصطفي أندادا له من تلك الالهة العاجزة ، وهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وهذه الالهة لا تعلم شيئا.

ثم ختمت السورة بأمر المسلمين بما يضمن لهم الفلاح في جهادهم ، وهو أن يحافظوا على ما كلّفوا من الصلاة وغيرها ، وأن يخلصوا في الجهاد الذي أذن الله لهم فيه ، وأن يذكروا أنه سبحانه اختارهم لتلك الشريعة السّمحة التي هي ملة أبيهم إبراهيم ؛ وأنه سماهم المسلمين في الكتاب المنزلة قبل القرآن وفي القرآن (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨).

١٣
١٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الحج» (١)

أقول : وجه اتصالها بسورة الأنبياء : أنه سبحانه ختم الأنبياء بوصف الساعة في قوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧].

وافتتح الحج بذلك ، فقال تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

١٥
١٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الحج» (١)

١ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) [الآيتان ٣ و ٨].

قال أبو مالك (٢) : نزلت في النّضر بن الحارث. أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) [الآية ١٥].

أي : محمّدا (ص). أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

٣ ـ (هذانِ خَصْمانِ) [الآية ١٩].

أخرج الشيخان (٣) عن أبي ذرّ قال :

نزلت هذه الآية في حمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وعلي بن أبي طالب ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

وأخرج الحاكم (٤) عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة.

٤ ـ (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) [الآية ٢٥].

قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن أنيس (٥). أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). أبو مالك الأشجعي : سعد بن طارق الكوفي ، ثقة عالم ، مات في حدود (١٤٠) ه.

(٣). البخاري (٤٧٤٣) في التفسير ، ومسلم (٣٣) في آخر صحيحه.

(٤). في «المستدرك» ٢ : ٣٨٦ ، وصححه الذهبي.

(٥). وذلك لما بعثه رسول الله (ص) مع رجلين أحدهما مهاجري ، والاخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ، ثم ارتدّ عن الإسلام. انظر الرواية في «الدر المنثور» ٤ : ٣٥١.

١٧

٥ ـ (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الآية ٢٨].

قال ابن عباس : أيام العشر.

وقال زيد بن أسلم : يوم عرفة ، ويوم النّحر ، وأيام التشريق.

وقال ابن عمر : يوم النّحر ، ويومان بعده. أخرجهما ابن أبي حاتم.

٦ ـ (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [الآية ٥٥].

قال أبيّ بن كعب ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : يوم بدر.

وقال الحسن ، ومجاهد ، والضّحّاك : يوم القيامة لا ليلة له. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

١٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحج» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (٣).

أي : كل شيطان عات.

ومرد على الأمر ، بالضم ، يمرد مرودا ومرادة : أقبل وعتا وكذلك مرد بالفتح ، ومنه قوله تعالى :

(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١] قال الفراء : يريد مرنوا عليه.

وشيطان مارد ومريد ، أي : خبيث عات.

ومنه قولهم : تمرّد علينا ، أي : عتا.

والتمرّد في لغة العصر : العصيان والعتوّ.

٢ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ) [الآية ٥].

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ) ، أي : من ماء قليل. والعلقة : قطعة الدم الجامد ، والمضغة : اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ.

والمخلّقة : المسوّاة الملساء من النقصان والعيب.

ويقال : «خلّق السواك» أو العود إذا سوّاه وملّسه ، وذلك من قولهم : «صخرة خلقاء».

وكأنّ الله سبحانه يخلّق المضغ متفاوتة : منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٩

في خلقهم ، وصورهم ، وطولهم ، وقصرهم ، وتمامهم ، ونقصانهم.

٣ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الآية ٥].

قوله : (طِفْلاً) ، أي : أطفالا ، وقالوا : الطفل واحد وجمع.

وهذا مما سجّلته لغة التنزيل ، فليس لنا أن نتأوّل فنقول كما قالوا : أي نخرج كل واحد منكم طفلا.

٤ ـ وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الآية ١١].

وقوله : (عَلى حَرْفٍ) ، أي : على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه. وهذا يدل على قلق واضطراب في دينهم.

أقول : والحرف طرف من كل شيء ، وهذا الطرف قد يكون قطعة صغيرة. وعلى هذا يكون قول العامة «حرف من خبز» مقبول وصحيح.

٥ ـ وقال تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الآية ١٩].

الخصم مفرد ويدل على جمع ، كالجمع ، والفريق ، والفوج ، ونحو ذلك ، فكأن المعنى هذان جمعان اختصموا ...

والفعل «اختصموا» ، روعي فيه المعنى ، كما روعي اللفظ في كلمة «خصمان» بدلالة تثنيتها.

٥ ـ وقال تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الآية ٢٥].

أي : «العاكف» المقيم فيه ، «والباد» الذي ينتابه من غير أهله ، مستويان في سكناه والنزول فيه ، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل يكون فيه من الاخر.

أقول : ورسم «الباد» في المصحف بالدال مع الكسرة ، ووجهها أن تكون بالياء لأنها اسم فاعل محلّى بالألف واللام ، وقد اجتزئ بالكسرة عن المد (أي الياء) لمكان الوقف الجائز ، بعد هذه الكلمة على أن وصلها أولى ، فإذا وصلت فالكسرة تؤذن بذلك الوصل أيضا كالياء.

٦ ـ وقال تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧).

٢٠